بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67 ].
يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول ونصه على من قتله منهم.
روى ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهي: علامَ يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى فذكروا ذلك له فقال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67]
قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشُدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها فضربوه ببعضها فقام: فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا -لابن أخيه- ثم مال ميتاً فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد، ورواه ابن جرير بنحو من ذلك والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة: 67]، وهذه ذكر الله سببها بعد ذكر هذه القصةحيث قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى [سورة البقرة:72-73 ].
فهنا في قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ أي لما وقع فيهم ما وقع من التدارؤ -وهو التدافع- في شأن القتيل، كل يدفعه عن نفسه ويرمي به الآخر، فأمرهم لما لجؤوا إليه بوحي الله أن يذبحوا بقرة، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً والبقرة هنا نكرة في سياق الإثبات، فهي بمعنى المطلق، والمطلق شائع في جنسه، وإنما الشمول فيه على سبيل البدل، بمعنى أنهم إذا ذبحوا بقرة من الأبقار فإن ذلك يجزئهم أياً كانت هذه البقرة، فليس ذلك من العموم في شيء، وليس فيه قيد البتة.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً، والبقرة جنس، بعضهم يقول: التاء فيها للوحدة وبعضهم يقول التاء للتأنيث، فالبقر جنس يجمع على أبقار ويجمع على بيقور، ولربما قيل له ذلك؛ لأنه يبقر الأرض بالحفر للحرث.
وقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً لا شك أن هذه الآية من أعجب الآيات حيث إن الله أمرهم بذبحها ثم بعد ذلك يضربوا الميت بجزء منها بعد أن فارقت الحياة؛ لأنه لو ضرب بشيء حي لربما قال قائل: إنه اكتسب الحياة من حياته، أي انتقلت إليه الحياة من حياة هذا، لكن أن تذبح حتى تفارق الحياة ثم يضرب بجزء منها فهذا لا شك أنه من أعجب الآيات، كما أن الله من آياته على إحياء الموتى وقدرته على البعث أن يخرج من الشجر الأخضر ناراً.
وهذه الآيات من المواضع الخمسة في تقرير البعث وقدرة الله على إحياء الموتى، ويوجد في القرآن زيادة على هذه المواضع الخمسة تأتي إن شاء الله تعالى في مواضعها.
قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [سورة البقرة:67] وهكذا عادتهم، أي أتستهزئ بنا وتتخذنا مسخرة حيث نتحاكم إليك في مثل هذه القضية ثم تأمرنا أن نذبح بقرة؟
فقال لهم: أَعُوذُ بِاللّهِ أي ألجأ إلى الله، يعني استعاذ أن يكون من الجاهلين، فدل ذلك على أن الذي يستهزئ بالناس فهو سفيه جاهل، وأن الاستهزاء بعباد الله والسخرية منهم ليس من شأن العقلاء إلا إن كان ذلك في مقام يقتضي هذا فإن ذلك يكون أمراً لا إشكال فيه، فالله أخبر أنه يستهزئ بالمنافقين كمافي قوله تعالى: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [سورة البقرة:15]، والله يستهزئ بمن يستحق ذلك، فالذين يستهزئون بأهل الإيمان يستحقون مثل هذا، وعلى كل حال هذا أدب نتعلمه من هذه الآية.
وهذا الأثر الذي ذكره ابن كثير هو من الآثار المأخوذة عن بني إسرائيل، وبعضهم يقول: لم يجدوها إلا عند امرأة في حجرها أيتام، فهي لهؤلاء الأيتام.
وبعضهم يقول غير هذا، وفي سبب القتل الذي وقع بعضهم يذكر يقولون:إنه أراد أن يرث ابن عمه، وبعضهم يذكر سبباً آخر في قضايا تتعلق بالنكاح وما أشبه هذا.
وكل ذلك لا يثبت فيه شيء يمكن أن يعتمد عليه فهي أشياء مأخوذة من بني إسرائيل، وعلى كل حال أياً كان السبب لماذا قتل فهذا لا يعنينا ولا يفيدنا شيئاً، وكذلك الجزء الذي ضربوا به القتيل من البقرة، بعضهم يقول: الفخذ، وبعضهم يقول: الكتف، وبعضهم يقول: هي بضعة من لحم بين الكتفين، وبعضهم يقول غير هذا، فهذا الكلام كله لا فائدة فيه، ولا دليل عليه يمكن أن يوقف عنده، فالله أبهم هذه الأمور فالتشاغل بها مضيعة للجهد والوقت، واشتغال بما لا يعني وترك لمواضع العبر، فيترك الإنسان مثل هذه الأشياء، إذ لن نستفيد شيئاً إذا عرفنا هل ضربوه برجلها أم بيدها.
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:68-71].
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم، لهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم كما قال ابن عباس -ا- وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا:ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:68] أي ما هذه البقرة وأي شيء صفتها قال:قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ [سورة البقرة:68].
هذا السؤال مكرر بلفظه مع ما بعده، مَا هِيَ [سورة البقرة:68] قال: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ [سورة البقرة:68]، مَا هِيَ [سورة البقرة:70] قال: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا [سورة البقرة:71].
والجواب يوضح السؤال، حيث دل ذلك -قطعاً والله أعلم- على أن السؤال الأول إنما كان عن سنها، لا فارض ولا بكر، والسؤال الثالث عن صفتها هل هي مروضة مذللة عاملة أو أنها لا تعمل، ولا حاجة لأن يقال غير هذا، وموسى ﷺ هو نبي الله -عليه الصلاة والسلام- وهو يفهم السؤال والمراد والملابسة التي وقعت.
وهذه الأشياء إنما تنقل إلينا بالمعنى؛ لأنها من كلام الأعاجم، والترجمة لا يمكن أن تكون حرفية، ولذلك تجدون القصص المذكورة في القرآن تأتي متفاوتة يختصر المقام في موضع، ويبسط في موضع، وكل ذلك حق، ولكنه نقل له بمعناه، مثل: وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [سورة الذاريات:29]، قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72]، فالواقعة هي نفس الواقعة، أي أنها تكلمت مرة واحدة.
وكذلك في كلام إبليس مع الله في قصة آدم، وكذلك أخبار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما قالوا لقومهم وما أجابهم قومهم به إلى غير ذلك، فالمقصود أن هذا السؤال إنما هو عن السن.
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ [سورة البقرة:68] أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل.
لا يصح أن يقال: لم يلحقها وإنما الصواب أن يقال: لم يلقحها الفحل.
قوله: لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ الفارض الكبيرة الطاعنة في السن، يقال: بقرة فارض، وأصل ذلك الفرض يعود إلى معنى السعة، فكأنه قيل لها ذلك لأنها قطعت سنها أي عمرها فهي في آخره، أي عاشت فترة الصغر والشباب فحتى وصلت إلى آخر العمر وهو الشيخوخة، يعني هذه بقرة كبيرة في السن، ولربما كان لكثرة ولادتها اتسع بطنها لكثرة ما حملت ووضعت،والخلاصة أن الكبيرة يقال لها فارض، ويقال للقديم أيضاً: فارض، وهذا معروف في كلام العرب، وهنا لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ.
ويقال أيضاً: ناقة فاطر يعني كبيرة، مثل فارض، وبعض الناس إذا قيل له: أفطر، قال: أنا فاطر، ولا يعلم أن فاطر معناه هرم، أو منشئ أو مبتكر، وإن كان هو يريد أن يقول: أنا أفطرت.
لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ البكر يقال للتي لم يفترعها الفحل، كما أن المولود الأول يقال له: بكر، فيقال: فلان بكر فلانة يعني أنه الولد رقم واحد.
وليس هذا المقصود هنا وإنما المقصود بالبقرة أنها متوسطة فليست الصغيرة التي لم يفترعها الفحل، ولا التي قطعت عمرها، أو ولدت كثيراً وحملت بطوناً كثيرة وإنما هي متوسطة في السن، ولربما كان ذلك هو الأكمل في خلقها واستوائها.
أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلقحها الفحل كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة، وقاله ابن عباس -ا- أيضاً.
وقال الضحاك عن ابن عباس -ا: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [سورة البقرة:68] يقول: نَصَفٌ بين الكبيرة والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر، وأحسن ما تكون.
نَصَفٌ فإن أتوك فقالوا إنها نصف | فإنا أفضل نصفيها للذي ذهبا |
نصَفٌ يعني: متوسطة في العمر.
قوله: فَاقِعٌ لَّوْنُهَاَ أي شديدة الصفرة، فالأصفر يقال فيه: أصفر فاقع، والأسود يقال فيه: أسود حالك، وأسود غربيب وأشباه ذلك من الألفاظ التي تؤكد قوة السواد، والأخضر والأزرق يمكن أن يقال فيه: غامق مثلاً.
وقوله: فَاقِعٌ يمنع قطعاً قول من قال: إن قوله: صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا [سورة البقرة:69] المراد به السواد؛ فهذا لا يمكن أن يراد بكلام العرب مع تأكيده بالفقوع، فالأسود لا يمكن أن يقال عنه فاقع، وإنما يقال: أسود حالك وغربيب، وإنما يقال ذلك في الصفرة، فالبقرة في لونها صفرة في فقوع، وهو أحسن ما يكون في لون الصفرة، فالألوان على درجات، وهذا أفضل ما يكون فيها ولذلك فقوله: صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا أي صفراء وليست سوداء، كما أن البقر لا توصف بالصفرة مراداً بها السواد أبداً، وإنما يختص ذلك في الإبل، فالذي وصف الإبل قال:
تلك خيلي منه وتلك ركابي | هن صفر أولادها كالزبيب |
صفر أي تضرب إلى السواد –سوداء- أولادها كالزبيب، ولون الزبيب معروف، فذلك يقال في الإبل، وأما البقر فلا توصف بالصفرة مراداً بها السواد، كما أن الصفرة لا يمكن أن توصف بالفقوع ويراد بذلك السواد، أبداً، وإنما اللون الأصفر، بقرة صفراء تسر الناظرين، والأسود لا يسر الناظرين.
قوله: فلعل هذا خطأ في التعريب: يعني أن المترجم ما نقل العبارة صحيحة؛ لأنه ينقل بفهمه، حيث أراد أن يعبر عن صفراء فاقع لونها فعبر بحمراء، أو أنه مما حرف في التوراة، ونحن ما نقل إلينا من كتب بني إسرائيل مما يخالف ما عندنا يرد بلا شك، فهي ليست حمراء.
وقوله تعالى: إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [سورة البقرة:70] أي لكثرتها فميز لنا هذه البقرة وصفها وجلها لنا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ إذا بينتها لنا لَمُهْتَدُونَ إليها.
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ [سورة البقرة:71] أي إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية بل هي مكرمة حسنة،
الذي عليه جماهير المفسرين أن هذا كله يراد بالنفي، أنها بقرة، لا ذلول أي ليست مذللة، وإنما هي بقرة كما يقال وحشية -لا أقصد أنها من بقر الوحش، أقصد أنها لم تروض- والبقرة أو الناقة إذا كانت لم تروض فإنها تكون وحشية، وليست معنى وحشية أنها في الصحراء، وإنما المقصود أنها لا يمكن ركوبها أو استعمالها في شيء من الحمل أو الحرث أو السقي أو غير ذلك في البقرة.
فالمقصود أن هذه البقرة غير مروضة وغير مذللة، إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ [سورة البقرة:71]، لم تذلل، ثم قال: تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ المعنى الذي عليه الجماهير هو أنها غير مذللة بالحرث، أي لا تثير الأرض بالمحراث، وغير مذللة بالسقي.
والذي مشى عليه الحافظ بن كثير -رحمه الله- أنها غير مذللة بالحرث ولا بالسقي، فالكل منفي، لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ [سورة البقرة:71]، مع أن الآية تحتمل غير هذا، وقد قيل به، وهو أن المعنى قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ، ثم بدأ بجملة مستأنفة لا تعلق لها بالنفي تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ، أي من صفتها أنها تثير الأرض ولا تسقي الحرث.
وهذا فيما أظن يفسد المعنى، إذ كيف تكون غير مذللة وتكون في نفس الوقت تثير الأرض؟ لأنها إذا كانت تثير الأرض فمعنى ذلك أنها مذللة بالعمل الذي هو الحرث، لا يمكن اجتماع مثل هذه الأوصاف المتناقضة، فالبقرة لا تفرق بين هذه الأمور فهي إذا ذللت لإغنها تستعمل في السقي وفي الحرث، ففي الحرث يربط خلفها المحراث، والسقي توضع عند البئر ويربط بها الدلاء ثم ليس لها شأن إلا أن تذهب إلى الأمام وترجع إلى الوراء، وهكذا في عمل متكرر بحيث يستخرج هذا الدلو العظيم ويسقى في هذه الشواني ثم يجري في السواقي، وعلى كل حال فليس قوله: تُثِيرُ الأَرْضَ جملة جديدة استئنافية وإنما هو داخل في النفي، فهي لا ذلول مثيرة للأرض.
وبعضهم يقول: مسلمة يعني من العمل لا تعمل، لكنه قول بعيد، وإنما المقصود أنها مسلمة من العيوب لا عيب فيها بل هي كاملة.
قال الله : لاَّ شِيَةَ فِيهَا [سورة البقرة:71]، أي هي مسلمة من كل عيب من العيوب لا هزال فيها ولا مرض ولا كسر ولا عرج وما أشبه ذلك فهي لا شية فيها.
وعلى قول مجاهد -الشية- تقول: الوشي موشي أكارعه، وهذا وصف لحمار الوحش بمعنى أن القوائم فيها سواد يخالف لونه الذي هو عليه، فالوشي في الثوب أو الثوب الموشى هو الذي داخلََه لون مغاير، فهي صفراء فاقع لونها مسلمة من العيوب لاَّ شِيَةَ فِيهَا بمعنى أن لونها هو الصفرة الموصوفة بالفقوع، دون أن يداخله لون آخر، فهي فعلة من الوشي، أي لون آخر يغاير لون الشيء.
لاَّ شِيَةَ فِيهَا: بعض السلف فسرها بأنها صفراء القرن والظلف، وهذا التفسير يمكن أن يوجه، فنقول: إنه قصد أن ظلفها وقرنها لا يخالف لونها، بمعنى أن لونها متَّحد حتى في القرن والظلف فهو أصفر، فهكذا يوجه مثل هذا القول؛ لأنه نفى الشية، إذ شية نكرة في سياق النفي، وهذا للعموم فلا يوجد فيها لون آخر، ما فيها بقة سوداء في رأسها أو في قوائمها أو نحو ذلك كما تقول: ثور موشى أي أن قوائمه ورأسه –مثلاً- بلون السواد، وهذا أيضاً لا يوجد في هذه البقرة فهي لا شية فيها.
قوله تعالى: وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ مثل هذا التركيب وهذا الاستعمال يدل على وقوع الشيء لكن بصعوبة ومشقة فلم يقع ذلك لأول وهلة أو بيسر أو نحو هذا، ما كاد يحصل كذا وكذا، ما كاد فلان يفعل كذا يعني أنه فعل، ولكن بعد التي واللتيا.
وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ يعني أنهم فعلوا ذلك بعد طول سؤال وتعنت، وهذا إنما كان لتعنتهم فهم كادوا يفعلون؛ لتعنتهم في الأسئلة، وبعض أهل العلم يقول: وما كادوا يفعلون؛ لارتفاع الثمن؛ لأن بقرة بهذا الثمن كيف يشترونها بقيمة مرتفعة جداً، وبعضهم يقول: ما كادوا يفعلون من أجل ألا تقع الفضيحة ويكتشف القتلة، فهم لا يريدون انكشاف الحقيقة ولذلك تأبَّوا وتمنعوا وماطلوا وما كادوا يفعلون.
وعلى كل حال بعضهم يقول: إنهم اشتروها بمساهمات حيث دفع مجموعة من الناس هذا الثمن وحصلوه من الذهب ولم يكن بينهم توافق، بل بينهم اختلاف وشجار ولم يحصل بينهم توافق في مثل هذه القضية وبالتالي فإن ذبح البقرة احتاج إلى عقد مجلس للاتفاق وغير ذلك، وبعضهم يقول: وما كادوا يفعلون؛ لأنهم أصلاً ما حصلوا بقرة بهذه الصفة إلا بصعوبة، والذي يظهر أنهم ما كادوا يفعلون لكثرة تعنتهم وأسئلتهم الفارغة، والله أعلم.