بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
"تنبيه:
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: "أو" هاهنا بمعنى الواو.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله هنا: بعد الإجماع على استحالة كونها للشك بمعنى أن لا يكون ذلك بالنسبة لله المتكلم بذلك، وهذا معلوم؛ لأن الله يعلم خفايا الأمور وبواطنها وعلمه محيط بكل شيء، فلا يمكن الشك من الله لكن يمكن أن يكون ذلك على سبيل الشك بالنسبة إلى نظر المخاطب بناءً على القاعدة المعروفة، ولذلك نجد بعض أقوال السلف تحمل على هذا، ولا شك أن هذا الإجماع أمر لا تردد فيه؛ إذ لا يمكن أن يكون ذلك من قبيل الشك بالنسبة لله فهو يعلم كل شيء، لكن قد يكون كذلك باعتبار نظر المكلف، بمعنى أن الناظر إلى أصحاب هذه القلوب وفي أحوالهم لربما يحصل له التردد بين أن تكون قلوبهم كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة، فهذا لا يكون شك بالنسبة لله .
ومثل ذلك قوله تعالى عن فرعون: لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه: 44] فالله يعلم أنه لن يتذكر ولن يخشى، لكن إما أن يقال بأن "لعلَّ" هنا بمعنى التعليل أي لأجل أن يتذكر أو يخشى، أي إنها ليست للترجي، أو يقال: لعله يتذكر أو يخشى على رجائكما يا موسى وهارون، فاعتُبر هنا نظر المخاطب، والله أعلم.
قول من قال: "عندكم": يعني من جهة الشك عند المخاطبين، أي: هي عندكم كالحجارة أو أشد قسوة.
يعني أن قلوبهم تتنوع هذا التنوع، منها ما يكون قاسياً قسوة الحجر، ومنها ما يكون أشد قسوة من الحجر، وظاهر كلام ابن القيم -رحمه الله- يشبه هذا، حيث يقول: إن هذه القلوب لا تقل قساوة عن الحجارة فإن لم تزد عليها فإنها لا تنقص منها، فهي كالحجارة أو أشد قسوة لكنها ليست أقل قسوة من الحجر، يعني أن هذه القلوب عظيمة شديدة القسوة، والله تعالى أعلم.
في هذين المثلين ابن كثير يرى أن المثل الأول كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراًَ في قوم من المنافقين غير من ضرب لهم المثل الثاني أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء، فأصحاب المثل الأول وصفهم الله بأنهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18]، فهؤلاء أشد؛ حيث إنهم مطموسون في النفاق، بينما المثل الثاني يرى الحافظ أنه في طائفة من المنافقين أخف من الأولين بحيث إنهم كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20]، أي: تارة وتارة، فهم في حال الرخاء تستقيم أحوالهم وفي حال الشدائد يظهر نفاقهم ويتراجعون، فهو يرى أن هذا في طائفة وهذا في طائفة أخرى، وكذلك يرى أن قوله: كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة: 74]، يعني أن منهم من يكون قلبه كالحجر ومنهم من يكون دون ذلك.
وكقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [سورة النــور:39] مع قوله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ الآية [سورة النــور:40]، أي: إن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله أعلم.
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة البقرة:75-77] يقول تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أيها المؤمنون أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ أي: ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك؟
الطمع تقول: أطمعته فطمع، والطمع إنما يكون بقوة الرجاء في ذلك الذي طُمع فيه، إذا كان الإنسان يرى الشيء أنه قريب المنال فإن تعلق النفس به يقال له: طمع، يعني إذا كان قريباً يمكن أن يحصل الإنسان عليه ويتأتى له فهذا طمع، كما قال الله : فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] أي يرى أنها قريبة المأخذ ويمكن أن تنقاد له.
أما الشيء الذي يكون بعيد المنال فإنه يكون من قبيل التمني لا يقال له طمع، فالطمع بهذا الاعتبار يشبه الرجاء.
فقوله: أَفَتَطْمَعُونَ يعني أنكم ترجُّون إيمانهم ودخولهم في الإسلام وترون أن ذلك أمراً قريباً وهم في تلك الحال التي وصفت يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي: التوراة، ويقول بعضهم: هؤلاء هم السبعون الذين كانوا مع موسى ﷺ الذين اختارهم واصطفاهم من بني إسرائيل كانوا يسمعون الله يكلم موسى ثم بعد ذلك يحرفون كلام الله.
فإن قلنا: هؤلاء هم السبعون فمعنى يحرفونه أنهم يقولون: سمعناه يخاطبه ويأمره وينهاه، ثم بعد ذلك قال له: إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل، وهذا القول من الإسرائيليات.
وإذا قيل: إنهم عموم بني إسرائيل، أو العلماء منهم لأنهم هم الذين استحفظوا على كتاب الله وكانوا عليه شهداء فالعوام تبع، والعلماء هم الذين كانوا يحرفون الكتاب حيث يخرجونه قراطيس يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، فيكون ذلك ليس في السبعين فقط، بل في عموم بني إسرائيل حيث كانوا يسمعون كلام الله الذي هو التوراة.
قوله: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [سورة البقرة:75] هذا كقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة النساء:46].
يتأولونه على غير تأويله: هذا نوع من التحريف وهو ما يسمى بالتحريف المعنوي، وهذا النوع من التحريف وقعت فيه هذه الأمة وهو كثير عند طوائف أهل البدع، ولربما وقع فيه بعض متعصبة الفقهاء، حيث يلوي أعناق النصوص ويتكلف جداً في حملها على المحامل البعيدة من أجل أن توافق اعتقاده أو مذهبه، وأما أهل البدع من المعتزلة وغيرهم فلا تسأل عن تحريفهم، وأعظم من هؤلاء جميعاً طوائف الباطنية.
وحينما يقول الرافضة: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67] يعني عائشة، فهذا من التحريف المعنوي، وحينما يحرف الباطنية الصلاة والصوم والحج، فيقولون مثلاً: الحج قصد الولي، والصوم كتم أسرار المذهب، وأشباه ذلك هذا من أعظم التحريف.
وأما التحريف اللفظي فقد وقع لبعض طوائف هذه الأمة مثل الرافضة الذين يزيدون في سورة الشرح: وجعلنا علياً صهرك.
إلا أن التحريف قليل في هذه الأمة؛ لأن هذا القرآن حفظه الله، فلا يقع في تحريفه إلا أكذب الناس وأفجر الناس، فلذلك حاول بعض المعتزلة ببعض أئمة القراءة كأبي عمرو بن العلاء في قوله -تبارك وتعالى: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164]، أن يقرأها بفتح لفظ الجلالة -وكلم اللهَ- حيث رأى أن معنى جرحه بمخالب الحكمة معنىً بعيداً، فقال له: فما تفعل بقوله: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف:143]، فألقمه حجراً، ومنهم من قال: وددت لو أحكها من المصحف، فالله المستعان.
التحريف الذي وقع فيه بنو إسرائيل هو تحريف معنوي وتحريف لفظي كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] فتارة يكتمون الحكم المنزل فلا يظهرونه كأوصاف النبي ﷺ وتارة يبدلونه، يعني يجدون عندهم في وصف النبي ﷺ أنه ربعة من الرجال، فيصفونه بأنه طويل، ويجدون في صفته ﷺ مثلاً أنه جعد الشعر، وشعور العرب المعروفة يقال لها جعدة، وشعور الروم -أو الغربيين اليوم- توصف شعورهم بغير ذلك، فيصفون النبي ﷺ بأنه سبط الشعر، ويصفونه بأنه أزرق العينين، وهذه في الحقيقة مواصفات الأوربيين، فهم يحرفون أوصاف النبي -عليه الصلاة والسلام- فقريش لما سألتهم قالوا: ليس ذلك منا، يعني هذا الأزرق الطويل سبط الشعر ليس منا.
فالحاصل أنهم يحرفون تارة بتبديل الكلام، وتارة بالمعنى، وتارة بالكتمان، وكل ذلك من تحريفهم، والعلماء تكلموا كثيراً على ما وقع في التوراة هل حرفت هي فعلاً أم أن الذي حرف هو ما يبدونه في القراطيس فقط؟ فهذا قول لبعض أهل العلم.
ولكن الواقع يشهد أنها قد حرفت أعظم التحريف، وإذا نظرت إلى كتبهم وجدتها مختلفة متخالفة متباينة غاية التباين والاختلاف حتى في أبسط الأمور، فقد عبثوا بها كثيراً، فالله يقول: بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ [سورة المائدة:44]، فأضاعوا ما استحفظوه.
وهم يعلمون أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة المائدة:13].
قال قتادة في قوله: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:75] قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه، وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم.
لا إشكال في هذا، فهذا لا يخالف ما سبق، فالفعل قد ينسب إلى الأمة وإن كان ذلك قد وقع من طائفة منها، وهو أسلوب معروف في القرآن وفي كلام العرب لا إشكال فيه، فهذا من هذا القبيل، العلماء هم الذين كانوا يقومون بالتحريف ويتبعهم على ذلك العامة، والله قال عن عوامهم: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ [سورة التوبة:31] فهم يحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال فاتبعوهم في ذلك.
أي أنهم إنما يبدون بحسب أهوائهم، إن كان طلب الحكم فيه رشوة أخرجوا ما يتناسب مع مطلوب هذا الراشي، فإن كان الذي في الكتاب يخالف هواه حرفوه وبدلوه، وإن كان الراشي هو صاحب الحق أخرجوا له حقيقة ما في الكتاب، فإن لم يكن ثمة رشوة ولا هوى فإنهم يخرجون ما في الكتاب.
وخبرهم معروف في قصة الزاني الذي حمموه وداروا به على حمار وقد نكس، وقالوا: إن هذا هو الحكم الذي عندهم في التوراة، ثمَّ جاؤوا إلى النبي ﷺ وسألهم عن ذلك، وطلب منهم التوراة فجاؤوا بها، فكان الحبر قد وضع أصبعه على آية الرجم في التوراة، فقال عبد الله بن سلام : "مره يا رسول الله فليرفع أصبعه، فرفع أصبعه فإذا آية الرجم تلوح، فغضب الحبر، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، كابر من شدة الغضب، فألقمه الله حجراً: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91]، أي: أنت تقول: ما أنزل الله على بشر من شيء، و"شيء" نكرة مسبوقة بنفي فهي للعموم وقد سبقت بـ"من" فجعلها ذلك منقولة من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، فألقمه الله حجراً بهذا الرد، ومعناه: ينتقض عليك قولك هذا بما نزل على موسى، هل تكفر به؟ وهذا ما يسمونه في علم الجدل بالنقض.
على كل حال التحريف أحياناً هو أن يبدوا غير الموجود في الكتاب وإن لم يغيروا ما في أصل الكتاب، فكل ذلك من التحريف.
لما سئلوا بعد ذلك عن هذا التحريف الذي وقع في قضية الزنا قالوا: وجدناه قد فشا في كبرائنا، فأردنا على الأقل أن يكون الحكم مستوياً في الناس، يعني ما أرادوا أن يقيموا الحدود على الضعفاء والفقراء والعامة والمساكين ويتركون الكبراء والعظماء فقالوا: نحن نريد حكم يستوي فيه الجميع، فوضعوا هذا التحميم أي يسود وجه الزاني بالسواد، ويوضع على حمار معكوساً ويطاف به.
وقوله تعالى: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ الآية [سورة البقرة:76].
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا أي أن صاحبكم محمد رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم.
طائفة منهم تقول: آمنا أنه نبي ولكنه إلى العرب خاصة، وطائفة أظهروا الإيمان ونافقوا فكانوا يقولون نفاقاً: إن هذا هو النبي حقاً ونحن نؤمن به، فعلى كل حال مشاربهم في ذلك مختلفة، لكن منهم من كان يقول للمؤمنين ذلك.
قوله: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ: يقول ابن كثير: لا تحدثوا العرب بهذا يعني أنه نبي، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم: معنى تستفتحون هنا يعني تستنصرون؛ لأنهم كانوا يقولون: سيبعث نبي قد أظل زمانه وسنقتلكم معه قتل عاد وإرم ولن نبقي منكم أحداً.
وقوله: بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ يعني من العلم بأوصاف النبي فيكون ذلك حجة عليكم لهم فيلزمكم الإيمان به، وإلا حاجوكم به عند ربكم بما فتح الله عليكم من العلم به.
ويمكن أن يفسر قوله: بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ بمعنى بما حكم عليكم، وهنا يكون المعنى آخر؛ لأن الفتاحة هي الحكم، والفاتح والفتاح هو الحاكم، كما في قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [سورة الأعراف:89] يعني احكم، وكقوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [سورة الأنفال:19] يعني إن تطلبوا الفصل والحكم بينكم فقد جاءكم الحكم والفصل بنصر رسول الله ﷺ ومن معه فيما وقع في غزوة بدر، حيث إن المشركين ومنهم أبي جهل دعوا على الطائفة المبطلة بأن يهلكها الله ، فقال الله : إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ أي: إن تطلبوا الحكم فقد جاءكم الحكم بالانتصار الكبير للمسلمين عليكم في غزوة بدر.
فيكون على هذا التفسير بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ أي بما حكم عليكم من مسخ بعضكم قردة وخنازير، وأمور وقعت لهم معروفة عاقبهم الله بها.
ولهذا فإن بعض أهل العلم يوردون هنا مثل هذا المعنى، ويقولون: النبي ﷺ لما جاء بعد الأحزاب إلى قريظة وقف عند بعض حصونهم وقال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله[1] فقال بعضهم لبعض: إنما عرفوا ذلك منكم.
فالفتح هنا يكون بمعنى الحكم والفُتاحة هي الحكم، والفاتح هو الحاكم، والفتاح هو الحاكم، استفتح فلان أي طلب الفتح، وهو الحكم، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- تاريخ الطبري (ج2 /ص 98) وسيرة ابن هشام (ج 4 / ص 193).