بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لم يزل الحديث -أيها الأحبة- متصلاً بقوله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
فهذان الأصلان: العبادة والاستعانة يرددهما العبد في كل ركعة، ولكن أحوالنا في ذلك تتفاوت غاية التفاوت من الناحية العملية الواقعية، فهذه الأحوال يمكن أن تُجعل على أربعة أقسام أو أربع مراتب، كما يذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله[1] أكمل هذه المراتب هم الذين جمعوا بين العبادة والاستعانة، أهل العبادة والاستعانة الذين يُحققون العبادة، وعبادة الله -تبارك وتعالى- هي غاية مرادهم ومطلوبهم، وكذلك أيضًا يطلبون من ربهم -تبارك وتعالى- أن يُعينهم عليها، وأن يوفقهم للقيام بها؛ ولهذا كان من أكمل الدعاء وأحسنه وأجمعه: أن يسأل العبد ربه -تبارك وتعالى- الإعانة على مرضاته، كما علم النبي ﷺ حِبه مُعاذ بن جبل أن يقول حينما قدم له بهذه المقدمة: يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك[2].
فذكر له هذه الأمور أن يسأل ربه أن يُعينه عليها، ومن هنا كان أنفع الدعاء، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: هو طلب العون من الله تعالى على مرضاته، وأن أفضل المواهب والعطايا والمِنح: أن يُسعف الرب -تبارك وتعالى- عبده بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة تدور على هذا، أو دفع ما يُضاد هذا المطلوب، أو على تكميله، وتيسير أسبابه[3].
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "تأملتُ أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]"[4] فصاحب التعبد المُطلق ليس له غرض في تعبدٍ بعينه، يُؤثره على غيره، بل هو يتتبع مرضاة الرب -تبارك وتعالى- أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رُفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا ديدنه في سيره إلى الله -تبارك وتعالى- حتى ينقضي العُمر، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العُباد رأيته معهم، وإن رأيت المُجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين رأيته معهم، وهكذا، فهذا العبد هو صاحب العبودية المُطلقة الذي لم يتقيد بنوع منها، وليس له لذة وراحة إلا في مرضاة الله -تبارك وتعالى- وهذا بخلاف من يأخذ بشيء من الدين، أو من العبادات، فيجعل ذلك رسمًا له، ثم بعد ذلك يجفو من اشتغل بغيره.
والمقصود: أن من كان بتلك المثابة من أصحاب العبودية المُطلقة، فذاك هو المُتحقق بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فهذا ليس يعنيه كثيرًا ما يأكل أو ما يلبس أو ما يُعافس من لذات الدنيا، فهو يأكل ويلبس ما تهيأ وتيسر، وإنما اشتغاله وهمه بتحقيق أمر الله -تبارك وتعالى- في كل وقت بوقته، وهكذا يدور العبد مع مرضاة الله -تبارك وتعالى- حيث دارت، ويستوحش من كل ما يُسخطه، فهو كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منافع، حتى شوكها، وهو موضع الغِلظة -كما يقول الحافظ ابن القيم- منه على المخالفين، يعني: هذا بمنزلة شوك النخلة، الغِلظة على أعداء الله -تبارك وتعالى- والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو يغضب لله، وبالله، ومع الله، ويكون مثل هذا بأعلى المراتب.
يقول ابن القيم: "فواهًا له ما أغربه بين الناس، وما أشد وحشته منهم، وما أعظم أُنسه بالله، وفرحه به، وطمأنينته به، وإليه حينما يُناجيه، ويتقرب إليه بألوان القُربات"[5] فهذا المُحقق فعلاً.
ويبقى هناك من الناس من يكون دون ذلك - كما هو معلوم - فمنهم من يكون صاحب عبادة، ولكن ليس له استعانة، فمثل هذا ينقطع ويضعف ويتلاشى، وربما يكون في قلبه من الخوف من المخلوقين، ونحو ذلك ما يُخل بعبوديته وتوحيده، ومن الناس من يكون عنده استعانة، ولكن ليس له كبير تعبد، فهو يلجأ إلى الله في حاجاته ومطالبه، ولكنه ضعيف في العبادة.
وأسوء هذه المراتب من ليس له لا عبادة، ولا استعانة، فقلبه معلق بالمخلوقين: يرجوهم ويخافهم ويأملهم، وهو بطال، لا يرفع رأسًا لشيء من الطاعات والقُربات والعبادات.
ثم أيضًا في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] عرفنا أن العبد بحاجة إلى الاستعانة في فعل المأمورات، وترك المحظورات، كذلك هو بحاجة إلى استعانة في الصبر على المقدورات وما يُصيبه من الأقدار في الدنيا، فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] فلا بد أن يلقى ما يكره، سواء من أذى الناس، أو من غير ذلك، فيحتاج إلى استعانة بالله -تبارك وتعالى- وهكذا هو دائمًا إلى أن يكون في حال النزع والاحتضار، ثم بعد ذلك هو بحاجة إلى عون الله وألطافه، عند سؤال الملكين، وفي البرزخ، وأهوال القيامة، ولا يقدر على إعانته إلا الله فمن حق الاستعانة بالله -تبارك وتعالى- فإن الله يُعينه، فهذه الاستعانة لا تقف عند حد، فيستعين على مطالبه الأخروية، ومطالبه الدنيوية، يستعين على العبادات والطاعات، ويستعين على حاجاته وأموره المعاشية، وما إلى ذلك، ويحتاج إلى استعانة حتى بعد الموافاة، فإنه إن لم يُعنه الله -تبارك وتعالى- فإنه يكون بعد ذلك خاسرًا، وهذا المعنى ذكره الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى[6].
وأيضًا فالعبادة - كما هو معلوم: اسم جامع لما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وعرفنا أن الاستعانة نوع من ذلك، لكن لأهمية الاستعانة أُفردت، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وبذلك نفهم قدر الاستعانة بين أنواع العبادات، ونعرف منزلتها، فإنه لا استقامة على العبادة ابتداء إلا بالاستعانة، وكذلك أيضًا لا ثبات على العبادة إلا بالاستعانة، فأُفردت من بين أفراد العبادة.
ومن هنا فإن السؤال الذي قد يرد عن وجه تقديم العبادة على الاستعانة قد مضى الكلام عليه، وأن ذلك لأمور قد لا تخفى على الناظر المتأمل في هذه الآية، وقد ذكرت جملة منها فيما يتصل بحق الرب، وحق العبد، والصورة منقسمة إلى هذا وهذا، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكرناها.
كذلك أيضًا معلوم أنه لا أنفع للقلب من التوحيد، وإخلاص الدين لله -تبارك وتعالى- ولا أضر عليه من الإشراك، فالتوحيد هو أجل الأعمال، والإشراك هو أسوء الأعمال، فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي مُضمنة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] لأنه كما عرفنا هذا توحيد الوِجهة، يعني: لا نعبد سواك، مع حقيقة التوكل التي هي مُضمنة بقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فإن هذا يكون فوق ما يجده كل من لم يكن مُحققًا لهذه المراتب.
وأيضًا في قوله - تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] تبرأ من الإشراك، وفي قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] تبرأ من الحول والقوة، وتفويض إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا كثير في القرآن فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة هود:123] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [سورة الملك:29] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [سورة المزمل:9] ولهذا قال بعض السلف: بأن الفاتحة هي سر القرآن، وأن سرها هو هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5][7].
كذلك في هذا تربية لأهل الإيمان على اللجوء إلى الله -تبارك وتعالى- بالاستعانة به، وأن يدعوه دائمًا أن يُحقق لهم مطالبهم، وأن يقيهم ما يحذرون، ويتخوفون.
كما نُلاحظ في قوله - تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] التقديم والتأخير، وسياق الكلام في الأصل: نعبدك ونستعينك، أو ونستعين بك، فقدّم المعمول على عامله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فقدّم المفعول به في قوله: (إياك) وهو يفيد القصر والاختصاص -كما هو معلوم- يعني: لا نعبد غيرك، ولا نستعين بسواك، وهذا التقديم يدل أيضًا على الاهتمام والتعظيم؛ لأن العرب تُقدم الأهم، فالمُخاطب هو الله -تبارك وتعالى- فقدمه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
وكذلك تقديم العبادة على الاستعانة إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فقدم الأهم أيضًا كما ذكرنا سابقًا.
وفيه أيضًا: التفات، والالتفات يكون بأنواع كثيرة من ذلك: أن يوجه الكلام من الغائب إلى المُخاطب، أو العكس، أو من ضمير المُفرد إلى الجمع، أو غير ذلك، فهنا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب، ولو جرى الكلام على الأصل لقال: إياه نعبد؛ لأنه الكلام كان بضمير الغيبة، الحمد لله، رب، يعني: هو رب العالمين، الرحمن، يعني: هو الرحمن الرحيم، ثم بعد ذلك خاطبه مُباشرة فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فهذا التوجيه للخطاب من باب التفنن في الكلام، كما هو معروف.
ومن فوائد الالتفات: أن ذلك يكون أيضًا لتنشيط السامع، كما هي عادة العرب، فهو من مُحسنات الكلام، وكذلك أيضًا له فوائد أخرى، كأنه حينما أثنى على الله -تبارك وتعالى- بهذا الثناء الكثير، الذي بلغ التمجيد، وذكر الحمد مرتين، اقترب منه، فكأنه صار حاضرًا بين يديه، فخاطبه مُباشرة، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ بعد ما كان يقول بضمير الغائب: الحمد لله رب العالمين، هو رب العالمين، الرحمن، قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
وكرر في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ولم يقل: إياك نعبد ونستعين، فالاستعانة غير العبادة، فالفعلان مختلفان، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام، فكل واحد يحتاج إلى إخلاص، وأن توجه العبادة لله وحده، وكذلك في قوله ﷺ: وإذا استعنت فاستعن بالله[8] فأكده بهذه الطريقة، هذا بالإضافة إلى أن ذكر (إياك) ثانيًا هذا في حال مناجاة لربه -تبارك وتعالى- فكأنه يستلذ بذلك، فإعادة الكلمة في حال التذاذه بالمُناجاة لا شك أن هذا هو الأليق والأوفق في هذا المقام، والله أعلم.
وأتى بنون الجمع إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وقد يقول قائل: هذا موضع افتقار إلى الله -تبارك وتعالى- وإنما تأتي النون بصيغة الجمع للمُعظم نفسه، فهل هذا مقام تعظيم للنفس؟ ليس كذلك، وإنما هو مقام تذلل وخضوع، فكيف قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]؟ لماذا لم يقل: إياك أعبد، وإياك أستعين؟ هذا يحتمل الجواب عنه جملة من الأوجه:
فمن ذلك يمكن أن يُقال -والله أعلم: أن هذا المقام لما كان عظيمًا لم يستقل به الواحد استصغارًا لنفسه في تحقيق العبودية، وتحقيق الاستعانة، فالمجيء بالنون لقصد التواضع، لا التعظيم، يعني: هذا مقام كبير عُبر معه بما يُناسبه، مما يدل على التعظيم، كأن الواحد لا ينهض به، فيحتاج إلى جمع للنهوض به.
ومما قيل أيضًا: إنه يمكن أن تكون هذه النون للتعظيم، والمعنى: أن العبد حينما يكون في حال تحقيق العبادة والاستعانة، أو طلب هذا المقام، فإنه يكون بذلك شريفًا عظيمًا؛ لأن هذا هو الشرف الحقيقي للعبد، فعند ذلك قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] لأنه قد تشرف بهذه الأحوال والمقامات، بخلاف من كان بغير هذا من الأحوال.
ويمكن أن يُقال: بأنه لما كان المقام مقام عبودية وافتقار إلى الله -تبارك وتعالى- وإقرار بالفاقة والفقر والحاجة والضعف، وهو يستعين بالله -تبارك وتعالى- فكأنه يقول: نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية، بمعنى أن ذلك يكون لتعظيم الله -تبارك وتعالى- يعني: بدلا ًمن أن يقول: أنا عبدك وحدي، وأنا الذي أستعين بك وحدي، جمع ذلك ليكون أبلغ، فلو أن أحدًا قال لملك من الملوك: أنا الذي أُطيعك وحدي، وأنا الذي انقاد لك وحدي، فإنه يكون ممقوتًا، لكن لما يقول: نحن جميعًا طوع إشارتك، ونحن جميعًا طوع بنانك، ونحن جميعًا رعيتك، ونحن جميعًا منقادون لك، فإن هذا أدعى للتعظيم من قوله: أنا وحدي الذي أُعظمك، وأنا وحدي الذي أُجلك، ونحو ذلك، فهذا بحق الله -تبارك وتعالى- يكون أعظم وأفخم، فعند ما يقول العبد: نحن جميعًا عبيدك، ونحن مماليكك، ونحن فقراء إليك، وأنا واحد من هؤلاء العبيد الكُثر الذين قد ذلوا لك، وأظهروا الافتقار.
وأيضًا في قوله - تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] بصيغة الجمع، فحينما نقولها في كل صلاة، فهذا يُشعر بأن الصلاة قد بُنيت على الاجتماع.
ويمكن أن يُضاف إلى الأوجه السابقة، فيُقال: إن قوله: إِيَّاك أعبدُ وإياك أستعينُ، كأنه قد جعل نفسه هو القائم بذلك، وأضافه إليها، ولكن حينما يقول: أنا من جُملة هؤلاء، فذلك أدعى في هذا المقام إلى المتواضع لربه -تبارك وتعالى- وعدم الالتفات إلى النفس، فهذا وجه جيد.
وهذا أيضًا مُناسب بصلاة الجماعة، فحينما يقرأ الإمام إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فهو لا يُمثل نفسه وحده، وإنما يُمثل هؤلاء.
وكذلك يمكن أن يُقال: لما كانت هذه السورة يُقال لها أيضًا: الصلاة، كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم في أسمائها أخذًا من قوله ﷺ: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين[9] فهؤلاء الذين يصلون في مشارق الأرض ومغاربها كُثر، وفي كل لحظة يُصلي قوم؛ لأن الأوقات تتداخل -كما هو معلوم- بجري الشمس، ومن ثَم فإنهم يقولون: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
وكذلك أيضًا أن هذه العبادة هي أعلى مراتب الخضوع، ولا يجوز بحال من الأحوال أن توجه إلى غير الله -تبارك وتعالى؛ لأن المُستحق لذلك هو الله وحده، فهو المُنعم المُتفضل، ومن ثَم فإننا نُفرده بذلك في كل ركعة.
وحينما يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ينبغي أن يستشعر أن تكون هذه الكلمة شاملة جامعة لشؤونه وأمور حياته، من أولها إلى آخرها قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:162] فينوي العبد حتى في حاجته الدنيوية، ومطالبه العادية، حينما ينام ويأكل، ونحو ذلك أن يتقرب بذلك إلى الله -تبارك وتعالى- ويكون له فيها نية.
وإذا كان العبد في حال من الترك والقعود عن الأعمال والمزاولات، فإنه ينوي الخير دائمًا، ويُرجيه ويؤمله، فإذا تيسر له وإلا فهو في عبادة بذلك كله، فحينما يستريح الإنسان أو ينام إنما يفعل ذلك ليستجم لعبادة أخرى، والله يقول: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [سورة الشرح:7، 8] على أقوال في المراد بذلك، ومن أحسنها وأرجحها: إذا فرغت من عبادة فاشتغل وانصب بعبادة أخرى، فلا يوجد إجازة.
وشيخ الإسلام - كما ذكر الحافظ ابن القيم رحمه الله - كان يجلس من بعد الفجر إلى قريب من الظهر يذكر ربه -تبارك وتعالى- وكان يقول: "هذه غدوتي، ولو لم أتغد لم تحملني قواي"[10] وكان يقول: "لا أستجم إلا لأعاود" يعني إلى الذكر والعبادة، فهو ينوي ذلك باستجمامه وراحته، فالمؤمن لا بد أن يكون له نظر في هذا الباب في شؤونه كلها، فإذا أراد أن يتزوج يكون له نية، وهذه النية ما هي؟ كيف تكون النية صالحة؟ هل النية فقط قضاء الوطر والشهوة؟ فهذا يحصل من البهائم، ولكن ما هي نية المؤمن في مثل هذه الأمور؟ نيته:
أولاً: أن هذا أمر شرعه الله، فهو مُستجيب له.
الأمر الثاني: أن هذا من سنة المُرسلين -عليهم الصلاة والسلام- فهو يقتدي بهم.
الأمر الثالث: أن النبي ﷺ حث عليه: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج[11] فهو يفعل ذلك امتثالاً لأمر رسول الله -عليه الصلاة والسلام.
الأمر الرابع: وهو أنه حينما يتزوج يقصد بذلك أيضًا امتثال أمر النبي ﷺ الآخر حينما قال: تزوجوا الودود الولود، فإني مُكاثر بكم الأُمم[12] فهو يقصد تكثير نسل هذه الأمة.
الأمر الخامس: أنه حينما يتزوج يقصد بذلك أن يُعف نفسه عن الحرام، فيؤجر.
الأمر السادس: حينما يُريد الزواج يقصد بذلك أن يُعف زوجته، هذه المرأة المسلمة التي يتزوجها.
الأمر السابع: أن يُكِّون لبِنة في هذا المجتمع، تقوم على أساس من التقوى والإيمان، ويكون ذلك سببًا لوجود مجتمع مسلم، يعبد الله -تبارك وتعالى- ويُطيعه.
إلى غير ذلك من أنواع المقاصد الصحيحة التي يجمعها النية والقصد الطيب في أمر النِكاح الذي يتعلق بشهوة هي من قبيل الغرائز في الإنسان، وهكذا في حاجاته كلها.
وعند ما يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يستحضر أنه في جملة هذه المخلوقات الخاضعة لله -تبارك وتعالى- من الأشجار والأحجار والكائنات بجميع أنواعها، فهي تخضع لله وهي تسجد له وتُسبحه، كل ما في السماوات والأرض مُسبح لله وعابد له، ولكن كما قال الله - تبارك وتعالى: لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44] فيكون هو من جملة هذه المخلوقات، فلا يكون مُتمردًا على الله، شاذًا عن هذه المخلوقات التي عرفت ربها، وانقادت له.
إلى غير ذلك من الهدايات في هذه الجملة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ومن ثَم فانظروا إلى حال السلف "سفيان الثوري صلى المغرب بأصحابه، فقرأ حتى بلغ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فبكى حتى انقطعت قراءته، ثم عاد، فقرأ: الحمد لله رب العالمين"[13] فهذا لو فعله أحد اليوم لقالوا: ماذا أصابه؟ وبدأوا يُحللون تحليلات، ويوجهون ذلك بتوجيهات بعيدة.
وأحد العلماء المعاصرين يقول بعض من عرفه، وصلى خلفه مِرارًا: ما أذكر أنه استقامت له قراءة الفاتحة بدون بُكاء، خصوصًا عند قوله -تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
فهذا ما يتصل بهذا الموضع، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 99).
- أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار برقم: (1522).
- مدارج السالكين (1/ 73).
- المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 175).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 111).
- تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 73).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (11/ 12).
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2516) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها برقم: (395).
- المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 158).
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي ﷺ: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح؟ برقم: (5065) ومسلم في النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه برقم: (1400).
- أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء برقم: (2050) وقال الألباني: "حسن صحيح".
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 17).