الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[8] قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2)
تاريخ النشر: ٠٢ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 3581
مرات الإستماع: 2250

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة أختم الحديث بما يُستخرج من الهدايات في قوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] فهذا الدعاء الذي علمنا الله -تبارك وتعالى- إياه في هذه السورة الكريمة، وشرع لنا أن نُردده في كل ركعة، يدل على أهميته، وشدة الحاجة إليه، ومن عرف حقيقة الهداية، فإنه لا يعجب من مثل هذا الأمر، وكثرة طلبه، فإن العبد يحتاج في كل لحظة إلى هداية من الله -تبارك وتعالى- يهدي بها قلبه ولسانه وجوارحه، وما حصل له من الهدايات، فإن ذلك لا يعني أنه قد استوفى الهداية بجميع صورها وأنواعها وأحوالها، فهو في كل وقت وحين بحاجة إلى هداية جديدة.

وتأملوا معي -أيها الأحبة- إذا كان السؤال الذي قد يقوله بعضنا: قد هدانا الله إلى الإسلام، فلماذا ندعو ونُردد اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]؟ والصراط المستقيم هو الإسلام، فقد هُدينا إلى الإسلام، فما الحاجة إلى هذا الدعاء؟

فالجواب: أن العبد بحاجة إلى الهداية في كل حالاته، هو بحاجة إلى هداية إلى الإسلام أن يعرفه، وهداية إلى الإسلام أن يدخل فيه، وهذا لمن لم يدخل فيه، ولكن حينما يدخل في الإسلام فهو بحاجة إلى هدايات كثيرة، مع كل نفس من أنفاسه؛ وذلك أن هذه الشريعة -كما قال شيخ الإسلام: "شريعة واسعة، بمنزلة الشرائع المُتعددة".

فمعرفة تفاصيل الصراط المستقيم الذي جاءت هذه الشريعة شارحة له، ومُبينة لمعالمه، فهذا يحتاج إلى علم، ويحتاج إلى معرفة بهذه التفاصيل، فكثير من الناس لا يُهدى أصلاً إلى طريق العلم، فهو لا يحضر مجالسه، ولا يتعاطى أسبابه، ثم أيضًا إذا هُدي إلى تطلبه فإنه قد لا يُهدى إلى الصواب والحق، فإن الإنسان قد يقرأ ويُراجع ويبحث ولكنه يخرج بنتيجة غير موفقة، فيحتاج إلى هداية إلى الحق، واختلاف الناس في هذا مُشاهد، وكلما بعُد العهد بشمس النبوة قلّ العلم وكثُر الاختلاف، وكثُرت الفتن والافتراق، وكل يدعي أنه على الحق، فيحتاج العبد إلى معرفة الحق من بين ذلك كله، فيقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6].

ولهذا كان رسول الله ﷺ يقول: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[1] فذكر هؤلاء الملائكة الثلاثة: الموكل بالوحي الذي به قِوام الأرواح وهو جبرائيل ، وميكائيل هو الملك الموكل بالأرزاق التي بها قِوام الأبدان، وإسرافيل وهو الملك الموكل بالنفخ في الصور، فيرجع الناس أحياء بعد موتهم وفنائهم، فالله -تبارك وتعالى- رب هؤلاء، الذين وكِلوا بهذه الأمور العِظام، وهو القادر على هداية العبد للحق، فيدعو بهذا الدعاء.

وكما كان يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: "اللهم يا مُعلم إبراهيم علمني، ويا مُفهم سُليمان فهمني"[2] وكان يقرأ في الآية الواحدة ربما مائة تفسير، ويذهب إلى بعض المساجد الخرِبة المهجورة في دمشق، ويُمرغ وجهه في التُراب والغُبار، ويدعو بهذا الدعاء "اللهم يا مُعلم إبراهيم علمني، ويا مُفهم سُليمان فهمني" وهو جبل في العلم، وإمام له قدم راسخة، فماذا يقول غيره ممن لا يقرأ إلا تغريدات قليلة، ثم بعد ذلك يظن أنه قد حصَّل علوم الأوليين والآخرين، بل جِماع العلم يرجع إلى عقله ونظره وفكره ورأيه، وهو يريد أن تُعرض نصوص الكتاب والسنة (الوحي) على عقله حتى يقبلها أو يردها.

فهذا كيف يُهدى من كان ينظر إلى نفسه بهذه النظرة، وهو أبعد ما يكون عن الاستعانة بالله -تبارك وتعالى- مع ضعف في تحقيق العبادة، ويرى أنه ليس بحاجة؛ ولذلك بعض من قلَّ بصره، وضعُف عقله إذا دُعي له بالهداية غضب؛ لأنه يرى أنه قد حقق الهداية وكمّلها، فالعبد بحاجة إلى هذه الهدايات أن يُهدى لما اُختلف فيه من الحق، فهذه الاختلافات الكثيرة: الحق مع من؟ جدل كثير، وآراء وتفرق تناحر، وكل طائفة تقول الحق معي.

ثم أيضًا إذا هُدي إلى معرفة الصواب، فإن هذه الشريعة على سعتها -كما سبق- فيها من غير الفرائض أعمال وأبواب واسعة، تفنى الأعمار، وتنقضي في بابٍ منها، والعمر قصير، وهذه تجارة مع الله -تبارك وتعالى- فقد يشتغل بأعمال مفضولة عن الأعمال الفاضلة، فتكون تجارته ليست بذات ربح كبير، وغيره قد يكون مُحصلاً للأرباح العظيمة، فيقدم على الله -تبارك وتعالى- ويُحصل أعلى الدرجات.

الناس في الدنيا يتنافسون على الأرباح والتجارات والسِلع التي يجنون من ورائها الأرباح الكبيرة من المُساهمات، وما إلى ذلك التي يعتقدون أنها أوفر ربحًا، وهكذا التجارة مع الله من باب أولى، فيحتاج العبد إلى أن يُهدى، إلى ما هو الأفضل في حقه، ويُهدى في أحواله كلها، ابتداء من تعلمه ودراسته واشتغاله بعد ذلك في الأعمال، في أي مجال أدرس؟ في أي مجال أتخصص؟ الحياة قصيرة، والإمكانيات محدودة، والوقت محدود، وماذا يعمل في أي مجال يمكن أن يقضي هذه الأوقات؟ هل حضور مجالس الذكر تضييع للأوقات يُقدَّم عليه غيره؟! هل يكون بذل الأوقات والجهود في الأعمال الإغاثية؟ هل يكون بذل الأوقات والجهود في تعليم الناس؟ هل يكون بذل الوقت والجهد في الإصلاح بين الناس في أمورهم وخصوماتهم، وما إلى ذلك؟ هذه أعمال.

وهل يكون ذلك في الاشتغال بالعلم والتعلم، وطلب العلم، أو يكون هذا في الاشتغال بنوافل العبادات من صلاة وتلاوة وذكر وقراءة للقرآن، يستغرق بها الأوقات، فيختم كل ثلاثة أيام، يصوم يومًا، ويفطر يومًا، إذا كان ذلك يُضعفه عن القيام بأعمال أخرى، أو يصرف هذه الأوقات في عيادة المرضى، وزيارة المقابر، وتفقد المحتاجين، فهذه أعمال كثيرة جدًا ولا يستطيع الإنسان أن يُدرك ذلك كله، فيحتاج إلى هداية، ويحتاج إلى حُسن قصد، ونية صحيحة، ويحتاج إلى ضراعة إلى الله -تبارك وتعالى- أن يهديه، لا يكون حاله مع ربه -تبارك وتعالى- حال المُستغني عن هدايته، لا يكاد يسأل الهداية، من منا يُكثر ويُلح على ربه في الأسحار، وفي أوقات الإجابة: اهدني لما اختلف فيه من الحق، اهدني لأفضل الأعمال، اهدني لأحب الأعمال إليك، فيوفق.

كثير منا يسير سادرًا، ولو كان على صلاح وخير، فتمضي الأوقات والأحوال والأعمال بحسب ما يسبق إليه منها، فأوقاته تُختطف، وأعماله مُشتتة، فيمضي هذا العمر القصير ولم يُحقق شيئًا يُذكر، لم يتميز في جانب من الجوانب، فتارة هنا، وتارة هناك، من غير أن يكون له هدف واضح مُحدد، فلا بد من ضراعة إلى الله -تبارك وتعالى- في طلب الهداية لأفضل الأعمال، فهذه هداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أي: اهدني لأفضل الأعمال.

نحن نستخسر الوقت أحيانًا على ذكر الله، وعلى قراءة القرآن، وعلى التبكير للصلاة، وعلى طلب العلم، وحضور مجالس الذكر، وما أشبه ذلك، نرى أن هذا ممكن يُستغل بشيء آخر، بل ربما بعض الناس إذا رأى الشاب يحمل كتابًا ويذهب إلى درس في المسجد قال: خسارة، وإذا رأى المتفوق في ذكائه وعقله وفهمه ومداركه من الناشئة والتلاميذ ونحو ذلك وجهه إلى مجالات أخرى في علوم مادية دنيوية يقتات منها، وصرفه عن العلم الشريف، وهو العلم الشرعي، فإن انفلت من يديه، وذهب يطلب العلوم الشرعية، قال: خسارة، فهذا لم يعرف العلم، ولا حقائق ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- ولم يعرف هذه الشمس التي شعت على العالم، فأنرته من أنوار النبوة، يقتبس منها العلماء، فيستنير الناس بهم، بحسب ما يقتبسون من هذه الشمس، التي أضاءت هذا الكون، أنار الله بها القلوب.

فلذلك أقول -أيها الأحبة: هذه الهدايات لا تحصل لمن كان مُستغنيًا بلسان الحال، أو بلسان المقال عنها، ويرى أنه ليس بحاجة إلى شيء من هذا، وأن عقله وفهمه يُرشده، فهذا لا يرى أنه بحاجة لا للاستخارة، ولا يحتاج إلى استشارة، فهو يركب رأسه، حتى يُشدخ هذا الرأس مرة بعد مرة، وتُعلمه الأيام، ثم بعد ذلك يُدرك أنه خسر كثيرًا، لكن بعد فوات الأوان، وبعضهم لا يُدرك خسارته حتى يُدركه الموت، ولا يعرف كم ضيع مع تطاول الأيام عليه، وكثرة العِبر والعظات، التي تمر به في حياته؛ ولذلك انظروا في الاستخارة في الأعمال، يستخير الإنسان حتى في الأعمال الصالحة، بعض الناس يقول: العمل الصالح لا يُستخار فيه، يُستخار فيه؛ لأنه قد تتزاحم عنده مصالح: يحج أو يقوم على أبويه، يحج أو يقوم على أرامل وأيتام ومحاويج، أو نحو ذلك، يحج أو يقوم على مشاريع أخرى من الأضاحي أو التعليم، أو غير ذلك، فيحتاج إلى استخارة حتى في الطاعات، في غير الفرائض.

وكذلك أيضًا إذا هُدي العبد إلى الحق والأكمل من الأعمال فهو بحاجة إلى هداية أخرى، وهو أن يُهدى إلى النهوض بهذا العمل، وأن يوفق للقيام به، ونحن نعرف أشياء كثيرة جدًا، تعلمنا أشياء كثيرة جدًا، ولكن أين العمل؟ وأين التطبيق؟ ونعلم أن الغيبة حرام ونغتاب، ونعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ونجبُن عنه، وأقل ذلك في نظرنا وليس بقليل أن يُغتاب في مجالسنا، ولا ننهى هذا المُغتاب، أين العلم؟

نعلم أن التبكير للصلاة والصلاة أهم المُهمات، وأنها أفضل الأعمال، فإذا أذن المؤذن نتأخر ولا نأتي إلا على وقت الإقامة، وبعضنا لا يكاد يأتي إلا في الركعة الأخيرة، وبعضنا قد لا يُصلي إلا بعد خروج الوقت، لا سيما صلاة الصُبح، وهو يعلم، لكن لم يوفق للعمل والامتثال والتطبيق، ففي هداية وراء العلم، فبعض الناس لا يُهدى للعلم الصحيح أصلاً، وبعضهم هُدي إلى كثير من ذلك، وقد يكون عالمًا، ولكنه في العمل أبعد ما يكون عن مُقتضى هذا العلم، لا في أخلاقه، ولا تعاملاته، ولا ذمته المالية، ولا غير ذلك، هو بعيد، كأنه لم يتعلم، حال بعض العامة أفضل منه، وإنما زاده هذا العلم للأسف قسوة في القلب، ولجاجة وكِبرًا وصلفًا وترفعًا.

ثم أيضًا إذا هُدي العبد للعمل والامتثال والتطبيق، فهو يحتاج إلى هداية أخرى، وهو أن يُثبت.

فلو عددنا هذه الهدايات ربما تكون خمس أو ست، ومنها: التثبيت، فالعبد بحاجة إلى التثبيت على العمل المُعين، والتثبيت على الصراط أصلاً بالنظر الكُلي في سلوك الصراط المستقيم، وفي العمل المعين، فكثير من الناس يكون العمل عنده طفرة، كان يقوم الليل فترك قيام الليل، وكان يصوم الاثنين والخميس فترك صيام الاثنين والخميس، وكان له ورد من القرآن يختم في كل شهر، أو في عشرة أيام أو أسبوع، فترك ذلك، وكانت له عادة من صدقة، أو نحو هذا فقطعها، فهنا يحتاج العبد إلى تثبيت.

ثم إذا كان الإنسان عند الموت والاحتضار وحضره الشيطان، فإنه بحاجة إلى تثبيت من أجل أن يُختم له بخاتمة حسنة، أن يموت على لا إله إلا الله، والعبد كما أخبر النبي ﷺ: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وإنه لمن أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة[3] فالعبد يحتاج إلى هداية عند الممات، فالإنسان لا يدري يموت على ماذا؟ وفي هذه الأوقات التي كثُرت فيها الشرور والفتن أصبح الإنسان يغبط من يموت، وهو في حال من السلامة من هذه الشرور.

أنا إذا ذهبت لتعزية أحد من الناس أعرف أنه مات على الفطرة، ومات على سلامة، أقول: يُرجى له خير، فلا تبكوا على ميتكم، مات سالمًا من هذه الشرور، فالفِتن تتخطف الناس اليوم، من إلحاد - نسأل الله العافية - وشكوك، أصبح الناس يصلون عن طريق هذه الوسائل إلى شرور وعقائد وزندقة، امرأة تقول: بأن ولدها المُراهق لا يصوم رمضان، ويسب الأنبياء، ولا يعترف بالدين وغير ذلك من العظائم، من أين تلقى هذا؟ قالت: من الشبكة، يدخل في مواقع، فلم تعد القضية أن الولد ربما يتعاطى بعض المنكرات، بل إلحاد وكفر وزندقة، نسأل الله العافية.

فهذا باب من أبواب جهنم، وأبواب أخرى قد يدخل فيها الإنسان، ويلج من جهة طلب ما عند الله -تبارك وتعالى- بزعمه، فيدخل في ضلالات من الأهواء والبدع بأنواعها، ويتقرب إلى الله، وينقضي العُمر وربما ضحى بنفسه على ضلالة، وعلى غي، نسأل الله العافية، فيموت دونه، ويبذل كل الأنفاس في نُصرته، وهو على باطل، فيرى هذا الباطل كل من له بصيرة، ولكن هذا الإنسان يعمى عنه، ومهما يورد عليه من الحقائق، ومهما يرى من الشواهد، فإنه - نسأل الله العافية - لا يُبصر ذلك، ولا يرعوي، ولا يرجع عن هذا الغي، ففي ظل هذه الشرور الكثيرة يحتاج العبد إلى تثبيت أن يموت على الحق.

قد يُحرم العبد بعض هذه الهدايات لسبب أو لآخر إما لكِبر، أو لغير ذلك من الأمور، فإذا أخبت العبد إلى ربه، وتواضع وتعاطى الأسباب، وتضرع إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله لا يُخيب ظنه ورجاءه، بل يُسدده ويهديه ويوفقه.

وهناك هدايات بعد ذلك، لكن هي لا تدخل في مثل هذا الدعاء؛ لأنه قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] يدل على أنه الصراط الذي شرعه الله ورسمه لعباده، وإلا فهناك هدايات أخرى حتى بعد الموت، فإذا جاءه الملكان يسألانه: من ربك؟ فيحتاج إلى هداية، فهذا السؤال لا يمكن أن يُجاب عنه بالحفظ والمعلومات.

وكذلك أيضًا حينما يُحاسب الرب -تبارك وتعالى- عبده يحتاج إلى هداية في الجواب عند الحساب، فهو حساب من لا يخفى عليه خافية، والحساب هناك والوزن بمثاقيل الذر، في لحظة كذا عملت كذا، وقدمت كذا ونظرت إلى كذا، ومست يدك كذا، ومشت رجلك إلى كذا، فكل ذلك مسطور، والشواهد موجودة، والأرض تنطق والجوارح تنطق، ولا مجال للإنكار، ولا ينفعه لا حلف ولا غيره، فيحتاج العبد إلى هداية عند الحساب.

ويحتاج إلى هداية إلى الصراط الذي يُنصب على جسر جهنم، ويحتاج إلى هداية على الصراط؛ لأن الزلة هناك ليست كزلة الرجل هنا، هناك تحته نار تلظى، فالإنسان لو يمشي على جدار سطح، أو نحو ذلك، أو يمشي على جُرف جبل وليس تحته نار يشعر أن الدنيا تدور في رأسه، فيوشك أن يسقط، وإذا نظر إلى بئر عميقة ربما يشعر أنه سيتردى فيها بمجرد النظر، فكيف إذا كانت نار جهنم تحته تضطرم، وهو يمشي على هذا الصراط.

لو قيل للإنسان: تمشي على جُرف جبل أو طريق في جبل رُبع متر على قدر القدمين، وتقطع هذه المسافة التي هي مائة متر، وتحته هوة سحيقة، فلا يستطيع أكثر الناس أن يمشي على هذا، ولو قيل له: امش على الأرض لمشى، لكن لو خُيل إليه أن هذا الخط الذي يمشي عليه على الأرض أنه في الدور العاشر، أو الدور رقم ثلاثين، فهو لا يستطيع أن يمشي عليه مثل ما يمشي عليه من الأرض، فكيف إذا كان تحته نار جهنم؟! فيحتاج أن يُهدى على الصراط.

ثم يُهدى إلى باب الجنة، ثم يُهدى إلى منزله في الجنة، فالجنة ضخمة هائلة كبيرة عرضها السماوات، فلا تسأل عن الطول، فيحتاج أن يُهدى إلى منزله في الجنة، هذه هدايات آخرها أن يدخل منزله في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهل الجنة، ومن أهل الفردوس الأعلى، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته.

وبهذا نعرف أهمية هذا الدعاء، وما يدخل تحته، فحينما نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] نستشعر هذه الهدايات، وأننا بحاجة في كل لحظة إلى ألطاف الله -تبارك وتعالى.

ويمكن أن يكون من الهدايات أيضًا: أن يُهدى إلى الدعوة إلى ذلك، والصبر على ذلك، لكنه مُضمن فيما سبق فيما يتعلق بالتفاضل بين الأعمال، هل يشتغل بالدعوة إلى الله، أو يشتغل بعبادات قاصرة؟ مُضمن فيها، والصبر مُضمن في ذلك في التثبيت.

وهل يلزم أن يستحضر العبد هذه الهدايات جميعًا عند قراءتها؟

لا يجب، ولكنه حينما يستحضر هذه المعاني جميعًا، وهذه الهدايات يكون طلبه أوقع وأثر ذلك على نفسه، ولا شك أبلغ من إنسان يقول: لماذا نُردد هذا، وقد هدانا الله إلى الإسلام؟ شتان بين شخص يشعر أنه مع كل نفس بحاجة إلى هداية، فشرائع الدين كثيرة، والأعمال المُستجدة كثيرة، فهو في كل لحظة يحتاج إلى أن يُهدى ماذا يفعل فيما يواجهه؟

وفي إجابات أهل العلم كما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين، أن العلماء كانوا إذا أراد أحدهم أن يُجيب ماذا كانوا يقولون؟ بعضهم يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبعضهم يقول غير ذلك، وينتظرون، ويتمهلون، وبعضهم يظهر ذلك على وجهه، فيحتاج إلى هداية من أجل أن يُجيب صوابًا، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "تعرض لي المسألة فأُكثر من الاستغفار، وأنا في السوق، أو في الطريق، أو في المدرسة، أو في أي مكان حتى يُفتح لي فيها"، فيُكثر من ذكر الله والاستغفار، ونحن على جفاف، وقلة صبر، وقلة علم، وأحيانًا قلة قصد، وضعف في النيات.

فاللهم ارحمنا، وارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.

والله أعلم

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم: (770). 
  2.  إعلام الموقعين (4/ 257)، (2/ 410). 
  3. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر برقم: (4207). 

مواد ذات صلة