الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
[33] من قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} الآية 88 إلى قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} الآية 90
تاريخ النشر: ٠٨ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3948
مرات الإستماع: 2846

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88].

روى محمد بن إسحاق: عن ابن عباس -ا: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي: في أكنة، وقال مجاهد: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ عليها غشاوة، وقال عكرمة: عليها طابع. وقال أبو العالية: أي: لا تفقه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ القراءة المتواترة في هذه الآية هي بإسكان اللام، وهذه الأقوال التي نقلها عن جماعة من السلف  هي أقوال متقاربة، بمعنى أن هذا ليس من الخلاف الذي يحتاج معه إلى الترجيح، وإنما ذلك من قبيل اختلاف التنوع، فقول بعضهم أي: في أكنة، وقول الآخرين: عليه غشاوة بمعنىً واحد، فهذه الأكنة هي الغشاوة التي على هذا القلب، فكل شيء أكَنَّه بمعنى غطاه.

وكذا قول من قال: عليها طابع، فإذا كانت القلوب عليها طابع بمعنى أنه غشاها ما غشاها من الكفر والذنوب فطبع عليها فما عادت تقبل الحق ولا تنتفع به، ولا تسمع سماع استجابة، وكذا قول من قال: لا تفقه.

وتفسيره بأنه لا تفقه من قبيل التفسير باللازم، وذلك أن القلوب إذا كان عليها أكنة أو كان عليها الطابع أو الغشاوة فيلزم من ذلك أنها لا تفقه، فهذا مثال على تفسير السلف باللازم، وبهذه الطريقة نستطيع أن نوجه هذه الأقوال.

وأما قول من قال بأن المراد بها أنها أوعية للعلم فإن ذلك يتنزل على القراءة الأخرى -وهي من القراءات الشاذة، وليست متواترة- وهو (قلوبنا غُلُف) بضم اللام، ومعنى غلْف –بتسكين اللام- أي مغلفة، وغلُف –بضم اللام- أي أنها بمنزلة الوعاء الذي يوضع بداخله الشيء.

فإذا كان المراد بقوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي مغطاة عليها غشاوة تغشيها فلا يصل إليها الحق، فمراده بقوله: قلوبنا غلُف –بالضم- على هذه القراءة غير المتواترة أنها أوعية للعلم. 
والمراد بأنها أوعية للعلم يحتمل أمرين -وبكل واحد منهما قال بعض السلف: 
إذا كان المراد أوعية للعلم أي: أنها مستغنية عن العلم الذي يقرره ويدعو إليه هذا النبي وما يذكره من ألوان الهدايات.

المعنى الثاني: أنهم يقولون: قلوبنا غلُف، أي أنها أوعية للعلم فما بالها لا تفهم ولا تفقه عنك أيها النبي؟! أي مع أننا لسنا بمنزلة العامة والجهال الذين لا يفهمون ولا يفقهون، ولم يعرفوا العلم بحيث تحدثهم بحديث لا يفهمونه ولا يدركونه ولا تصل عقولهم إليه، بل نحن قلوبنا أوعية للعلم فلماذا لا نفهم عنك، هذا هو المعنى الثاني.

لكن ما دام أن القراءة الثانية شاذة فبالتالي هذه الآية لا تفسر إلا بالأول، أي: أنها مغطاة عليها غشاوة، ويدل عليه قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [سورة فصلت:5]، فهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وهذا من أحسن ما تفسر به هذه الآية، والله تعالى أعلم.

وإنما ذكرت ذلك لأن بعض المفسرين يذكر القولين في تفسير قوله تعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ فيقول: أوعية للعلم أو أنها مغلفة مغطاة، وهذا فيه نظر؛ إذ إن القول بأنها أوعية للعلم منزل على القراءة الشاذة، ولذلك تجد في تنزيل أقوال المفسرين أو في ذكر أسباب الاختلاف في التفسير أن من الخلاف ما ليس بخلاف حقيقي، ويسمونه خلاف التنوع، الاختلاف الصوري وهو أنواع كثيرة، والشاطبي -رحمه الله- من أكثر من فصل فيه وتجدونه في مقدمة ابن جزي في تفسيره التسهيل، لكن من أكثر من فصل فيه الشاطبي في الموافقات، حيث ذكر نحواً من ثلاثة عشر وجهاً أو صورةً له، ومنها:

أن يتنزل كل قول من هذه الأقوال على قراءة، وبالتالي لا نحتاج إلى أن نقول: القول الأول كذا، والقول الثاني كذا.

وعلى كل حال هذا القول بأنها لا تفقه هو من قبيل التفسير باللازم، وهذا المعنى لا ينبغي العدول عنه، يعني تفسيرها على أنها مغطاة مغلفة فهو اختيار الأئمة الأكابر، ككبير المفسرين ابن جرير الطبري، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وأمثال هؤلاء.

قال مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس -ا- غلُف -بضم اللام- وهو جمع غلاف، أي: قلوبنا أوعية كل علم، فلا نحتاج إلى علمك، قاله ابن عباس -ا- وعطاء

هذا توجيه، والتوجيه الآخر على هذه القراءة، فما بالها لا تفقه عنك.

بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ أي: طردهم الله وأبعدهم من كل خير.

فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل.

قول قتادة هو أحد المعاني التي يحتملها قوله: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ، وهو كقوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] يحتمل أن يكون المراد أن الداخل منهم في الإيمان بالله عددهم قليل، وهو شيء مشاهد، فاليهود أقل الناس دخولاً في الإسلام لما في قلوبهم من القسوة وما تنطوي أنفسهم عليه من الشر، فيكون المعنى على هذا: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ أي: قل من يؤمن منهم، أي يدخل في الإيمان.

وتحتمل معنىً آخر: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ أي: أنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض، كفروا بعيسى ﷺ وكفروا بمحمد -عليه الصلاة والسلام- وكفروا بالإنجيل والقرآن، وقتلوا كثيراً من أنبيائهم، فإيمانهم الواقع هو قليل بالنسبة إلى التكذيب والكفر الذي صاحبه.

وهذا المعنى لا إشكال فيه، فالله قال عن المشركين: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:106] فيجتمع الإيمان والكفر وقد يكون الإيمان منخرماً بسبب ما خالطه من هذا الكفر، فهو عنده إيمان لا ينفع ولا ينجي، وقد يوجد إيمان مع كفر لكنه لا يفضي به إلى الهلاك، أي أن معه إيمان وجاهلية، إيمان وفسق، إيمان وبدعة، أي يوجد هذا وهذا، وعلى هذا فقوله: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ، يحتمل هذا وهذا، والله أعلم.

وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة البقرة:88] هو كقوله: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا [سورة فصلت:5]، ولهذا قال تعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88]، أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155].

قول عكرمة: عليها طابع، مع قوله تعالى هنا: غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا، وقوله أيضاً: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ، مع قول ابن عباس: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي: في أكنة، فهذا الكلام كله صحيح.

وقد اختلفوا في معنى قوله: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ وقوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وقيل: فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم.

على هذين الاحتمالين يكون أثبت لهم الإيمان، فإما أن يكون ذلك المثبت لبعضهم بمعنى أن الذي يدخل منهم في الإيمان قلة، مثل عبد الله بن سلام .

وإما أن يكون المقصود أن الإيمان الواقع في قلوبهم قليل بالنسبة لما صاحبه من التكذيب الكثير، فيكون على الاحتمالين، أثبت لهم الإيمان أو أثبته لبعضهم، ولا مانع أن ينسب الشيء للطائفة مع أنه إنما وقع ذلك لبعض منها، فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ: أي قل من يؤمن منهم. 

والاحتمال الذي يقابل هذا أن المقصود به النفي المطلق للإيمان، بمعنى أنهم لا يؤمنون أصلاً، فالعرب تذكر القلة أحياناً وتقصد بها النفي، فيقولون مثلاً: مررت بأرض قل ما تنبت إلا البصل والكراث، أو يقولون: مررت بأرض قليلاً ما تنبت ما تنبت، والمعنى أنها لا تنبت أصلاً. 
وهذا أحد الاحتمالات في تفسير قوله -تبارك وتعالى: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:16]، فالمعنى إذا جاءتهم آجالهم ماتوا فلا يمتعون شيئاً؛ لأنهم وإن فروا من الموت فإنهم سيلاقون آجالهم حتماً، فلا وجه لبقائهم يتمتعون قليلاً ولا كثيراً.

وكذلك في قوله تعالى: وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18] يمكن أن يكون المراد أنهم لا يأتون البأس أصلاً، أي أن المنافقين لا يأتون للحرب، ويمكن أن يكون المعنى أنهم يأتونه قليلاً فقط دون مشاركة فاعلة. 

فالمقصود أن الاحتمال الثاني في الآية هو النفي المطلق فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ، أي: أنهم لا يؤمنون.

ولكنه إيمان لا ينفعهم؛ لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد ﷺ وقال بعضهم: إنما كانوا غير مؤمنين بشيء.

هذا يقابل القول الأول، فالقول الأول يتنزل على احتمالين، والقول الثاني: المقصود به النفي المطلق، والقول الثاني لسنا مضطرين إليه، وإنما يحتاج إليه في بعض المقامات التي يكون فيها الحال مقتضية للنفي، أما هنا فيمكن أن يقال: عندهم إيمان قليل مع تكذيب كثير، ويمكن أن يقال: لا يدخل في الإيمان منهم إلا قلة، وهذا أظهر في المعنى من أن يكون المقصود به النفي المطلق؛ لأنه يوجد عندهم إيمان.

ومن قال بأن المقصود النفي المطلق يمكن أن قوله هذا على أن تكذيبهم لنبي من الأنبياء كالنبي ﷺ وعيسى، والتكذيب بكتاب كالقرآن، يرجع وينعكس أثره على سائر الكتب، وسائر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فمن كذب نبياً فقد كذب بكل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ومن كذب بكتاب فقد كذب بجميع الكتب، قال تعالى: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285]، ولذلك فإن موسى ﷺ أخبرهم بمبعث النبي -عليه الصلاة والسلام- وجاء خبره في التوراة، فهؤلاء الذين كذبوا بمحمد ﷺ أو بعيسى، هم مكذبون بالتوراة ومكذبون بموسى، فإيمانهم منتف بهؤلاء جميعاً.

وإنما قال: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط تريد ما رأيت مثل هذا قط.

وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89].

يقول تعالى: وَلَمَّا جَاءهُمْ يعني اليهود كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ وهو القرآن الذي أنزل على محمد ﷺ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ يعني: من التوراة.

وقوله: وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا- أن يَهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة -ا: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ﷺ ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه بصفته، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكر لكم؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم: وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ  الآية.

وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد ﷺ على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم؛ فلما بعث الله محمدًا ﷺ ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدًا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله ﷺ فقال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89].

سبق معنا قول الله -تبارك وتعالى- قبل: أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76] وقلنا هناك: أحسن ما تفسر به -والله أعلم- بما فتح الله عليكم يعني بما حكم عليكم، وذكرنا أن الفتح يأتي بمعنى القضاء والحكم، ويأتي بمعنى النصر، وقلنا: الفتاح والفاتح هو القاضي والحاكم، والفتاحة هي الحكم. 

فالمقصود أن قوله هناك: بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ يفسر بما حكم عليكم من اللعن والإبعاد، وجعل منهم قردة وخنازير، إلى غير ذلك مما حصل من حكم الله  فيهم أياً كان، ولا يخص ذلك بشيء دون شيء كما سبق.

وقوله هنا: وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ هنا نفسر الفتح بالنصر، أي يستنصرون عليهم برسول الله ﷺ حيث كانوا يهددونهم دائماً بأنه سيبعث -عليه الصلاة والسلام- وأنهم سيقاتلونهم معه فيقتلونهم قتلاً ذريعاً، والله تعالى أعلم.

بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة البقرة:90].

قال مجاهد: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ يهودُ شَرَوُا الحقَّ بالباطل وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد ﷺ بأن يبينوه.

وقال السدي: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد ﷺ عن تصديقه ومؤازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ولا حسد أعظم من هذا.

سبق الكلام عن معنى الاشتراء في قوله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16]، فالاشتراء أصله يكون بالبيع والشراء تقول: شرى واشترى، وبعضهم يفرق بين شرى واشترى فيقولون: اشترى من الاشتراء وهو أخذ السلعة بعوض عنها من المال ونحوه، وشرى بمعنى باع، لكن هنا بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْفسره بعضهم بأنهم باعوا أنفسهم.

وعلى كل حال نحن إذا بقينا مع أصل المعنى اللغوي لـ[اشترى] سنقول: باع، لكن ذلك يورث في تفسير الآية إشكالاً.

فالمهم أن اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى و بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ معناه أنهم باعوا أنفسهم بثمن بخس، وهو أنهم استبدلوا الكفر ورضوه واعتاضوه عن الإيمان واتباع الحق، وبالرشى والكذب على الله  وتحريف كتبه.

وإذا أردنا أن نفسر الآية بمعنى أقرب إلى الأذهان، نقول: إن الشراء والبيع يستخدم في المعاوضات بالمال، ولكنه صار يقال ذلك في كل معاوضة، فهؤلاء بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْأي أنهم استبدلوا الإيمان بالكفر، والتصديق واتباع محمد ﷺ اعتاضوا عنه بالتكذيب، والكفر وردِّ ما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- فهذه هي حالهم وصفتهم.

و[بِئْس] تستعمل للذم، وأصلها [بَئِس] وصار يستعمل مخففاً [بِئْس] ودخلت عليها [ما]، وبعضهم يقول: هي كلمة واحدة، وعلى كل حال هي كلمة تستعمل للذم، والمعنى بئس الشيء ما اعتاضوا به من الكفر والتكذيب بدلاً من الإيمان واتباع محمد ﷺ وهذا كما قال القائل:

بدلت بالجمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمراً جيدرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا

فقوله: كما اشترى المسلم إذ تنصرا يعني كما استعاض الإسلام بالنصرانية، فالمقصود المعاوضة، ومثل هذا قول الشاعر:

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن

 يعني: بماذا اعتضت بترك الحج من الثمن.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة