الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[8] قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى {وَلَا الضَّالِّينَ}
تاريخ النشر: ١٨ / شعبان / ١٤٢٥
التحميل: 10846
مرات الإستماع: 6191

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر: "قال الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5]، يعني إياك نوحد ونخاف ونرجوك يا ربنا لا غيرك، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] على طاعتك وعلى أمورنا كلها.

وقال قتادة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم، وإنما قدم إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] على وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] لأن العبادة له هي المقصودة".

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فأقول: العبادة مصدر، فتارةً تطلق على المتعبد به فتكون اسماً جامعاً لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، مثل ما تقول: القراءة والكتابة والرقية والكلام، وما أشبه ذلك من المصادر، فنحن حينما نريد أن نأتي إلى مصدر من هذه المصادر نقول مثلاً: الكلام، القراءة، العبادة، الأكل، وما أشبه ذلك.

فالأكل يطلق على معنيين، حيث يطلق على نفس العملية ويطلق على المأكول، فتقول: خذ هذا الأكل، أو ارفع هذا الأكل.

والكلام يطلق على العملية نفسها ويطلق على المتكلَّم به، فتقول هذا كلام فلان، وهذا كلامك، وكذلك الكتابة تطلق على عملية الكتابة من قِبَلي ومن قِبَلك، وتطلق على المكتوب فتقول هذه كتابة خالد.

وكذلك القراءة تطلق على عملية القراءة من قِبَلي ومن قِبَلك ومن قِبَل فلان، وتطلق على المقروء.

والعبادة تطلق على معنيين:

أولهما حركة العبد ونشاطه وفعله الذي يقوم به والذي هو التعبد، وهو صفة من صفاته. 

وتطلق على عملية التعبد من الأقوال والأفعال وما يتعبد به، فالصلاة عبادة، والصيام عبادة، والحج عبادة، والزكاة عبادة، والذكر عبادة. 

فهي تطلق على المعنيين، تطلق على نفس فعل العبد وعلى ما يتعبد به، وهي اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

والعبادة تكون بطاعة الله فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.

فهذه التعريفات للعبادة لا تختلف لكنها تارةً تطلق على نفس فعل العبد، وتارةً تطلق على ما يتعبد به.

قال المؤلف: "قال الضحاك عن ابن عباس -ا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] يعني إياك نوحد ونخاف ونرجوك يا ربنا"إِيَّاكَ نَعْبُدُ هذا هو الشق الأول من كلمة الإخلاص المتضمنة للنفي والإثبات، فهذا حظ الإثبات، ومثل هذا قوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [سورة هود:123]، ومفهوم المخالفة يؤخذ منه الشق الآخر الذي هو النفي، فحينما تقول: إياك نعبد يدل على الحصر، ومفهوم مخالفته أننا لا نعبد غيرك.

فالشارع تارةً ينهى عن الشرك كما في قوله تعالى: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [سورة لقمان:13]، وتارةً يأمر بالتوحيد، كقوله تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ [سورة الزمر:14]، وتارةً يذكر الأمرين معاً، وتجمعهما كلمة التوحيد لا إله إلا الله.

والمراد بذلك من حيث منطوق الكلام أما من حيث المفهوم فإن إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] يشتمل بمنطوقه على التوحيد وإفراد الله بالعبادة وبمفهومه على الشق الآخر.

قال: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] أي على طاعتك وعلى أمورنا كلها، نستعين على كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، ومعنى نستعين: السين والتاء للطلب، أي نطلب العون منك لا من غيرك.

"وقال قتادة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم"يعني أن ذلك يتضمن تعليماً من الله وأمراً وإن كانت الصيغة صيغة خبر، لكنه تعليمٌ من الله لعباده أن يوحدوه وأن يفردوه في العبادة وفي الاستعانة.

"وإنما قدم إِيَّاكَ نَعْبُدُ على وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم".

هناك وجوه أخرى كثيرة جداً ذكرها الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في وجه تقديم العبادة على الاستعانة في المدارج، والحاصل أن مما ذكر هذا الوجه.

ومن الأوجه التي ذكرها في ذلك قوله: الاستعانة حظ العبد والعبادة حظ الرب، وما كان للرب فهو أولى وهو مقدم، ومن ذلك أن العبادة أشرف وأعظم وأشمل وأكمل من الاستعانة؛ لأن العبادة لا تكون إلا من مخلص والاستعانة تكون من المخلص ومن غيره، ثم إن العبادة تتضمن الاستعانة؛ لأن الاستعانة لونٌ من العبادة، فهي أعم منها والاستعانة أخص، وعلى كل حال فليس المقصود هنا ذكر كل ما قيل في ذلك.

"وقد سمى الله رسوله ﷺ بعبده في أشرف مقاماته فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [سورة الكهف:1]، وقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [سورة الجن:19]، وقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [سورة الإسراء:1]، فسماه عبداً عند إنزاله عليه، وعند قيامه في الدعوة وإسرائه به".

مما يدل على شرف العبادة ومنزلتها أن الله سمى بها نبيه ﷺ في أشرف المقامات، فلم يذكره باسمه، ولم يذكره بوصفٍ آخر، وإنما ذكره بوصف العبودية، ففي مقام الإسراء قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى [سورة الإسراء:1]، وفي مقام الدعوة قال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [سورة الجن:19]، وفي مقام الإيحاء وإنزال الكتاب قال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [سورة الكهف:1] وهكذا.

"وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ  [سورة الحجر:97-98]".

هذا كله تابعٌ لما سبق من بيان منزلة العبادة وعظيم شرفها ومكانتها، ومن ذلك أنه يؤمر بها لرفع الضيق؛ حيث إن الله تعالى أرشد نبيه ﷺ إليها؛ ليكون ذلك سبباً لرفع الضيق عنه والحزن.

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ۝ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [سورة الحجر:97-99]".

يعلم من هذا أنه ليس هناك طريق لأولئك الذين يعانون من أمراض الاكتئاب والحزن كطريق التعبد لله والتقرب إليه بألوان القربات.

والعجيب أن بعض الناس يفهم عكس هذا، فتجدهم يظنون أن سماعهم للقرآن يؤثر فيهم تأثيراً سلبياً لقوته على نفوسهم، وبالتالي يحصل عندهم انتكاسة في المرض، بل إن بعض الأطباء يطلبون من هؤلاء المرضى أن يناموا الساعات الطوال جداً، فيتركون الصلوات، بل ربما قالوا: لا توقظوه لصلاة الفجر، فكيف يصح ويبرأ من هذا حاله إلا بالتعبد لله !!.

"اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] لما تقدم الثناء على المسئول -تبارك وتعالى- ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال: فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل[1]، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسئوله، ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ؛ لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد الله إليه؛ لأنه الأكمل، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه، كما قال موسى : رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24]، وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسئول، كقول ذي النون : لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87]".

في قول موسى ﷺ: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24] هذا فيه تعريض بالمسألة، هو يخبر عن فقره وحاجته، فهو تعريض بالمسألة، أما ترك السؤال أصلاً فهذا ليس بمشروع، وما ورد فيه لا يصح، ولذلك فالله يحب من عبده أن يسأله، وأن يتقرب إليه، وأن ينطرح بين يديه وأن ينكسر، فهذه من العبادات التي يحبها الله .

وجه الإتيان بصيغة الجمع في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهدِنَا:

 هذا المقام هو مقام إعلان العجز والضعف والافتقار والعبودية لله وهذه النون في نعبد ونستعين واهدنا هي للجمع وليست لتعظيم المرء نفسه إذ لا يصح في هذا المقام أن يعظم الإنسان نفسه، لذلك يقال: إن الإتيان بصيغة الجمع هنا كان لأمرين هما: أولاً: لدفع العجب عن النفس وذلك من جهة أنه لا يجعل من نفسه أنه الذي يحقق العبودية وحده في قوله إياك أعبد وإياك أستعين، وإنما هو واحد من هؤلاء العباد.

الثاني: أن ذلك أبلغ في التعظيم لله حيث إن العابدين لله كثير، فإذا قال: إياك نعبد فهذا أبلغ من إياك عبدت؛ لأنك لو أردت أن تمدح ملكاً وقلت: أنا وحدي الذي أطيعك، وأنا وحدي الذي أحترمك، وأنا وحدي الذي أقوم على خدمتك وطاعتك والانقياد لما تأمر به يكون هذا ذماً وليس مدحاً.

وبعض العلماء فهم أن هذا تعبير عن حاله وعن حال غيره، وعلى كل حال سواء قلنا هذا الجواب أو غير هذا الجواب فهذا أسلوب عربي معروف، يعبر به الصغار والكبار، الفقير والغني والكبير، والمعظم لنفسه، والبائس المعترف بفقره وحاجته، كلهم يعبرون بهذه الطريقة، ولا يقصدون التعظيم إطلاقاً.

"وقد يكون بمجرد الثناء على المسئول، كقول الشاعر:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء

الهداية هاهنا الإرشاد والتوفيق، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا.."

قوله: "الهداية هاهنا الإرشاد والتوفيق" الهداية تطلق على المعنيين، لكن قوله في هذه الآية: اهدِنَا الصِّرَاطَ [سورة الفاتحة:6] يشمل المعنيين جميعاً، هداية الإرشاد وهداية التوفيق، فهداية الإرشاد يدخل فيها الهداية إلى سلوك طريق العلم، فالله لا يعبد إلا بما شرع، ويدخل فيه أيضاً أن يهديه الله للعلم الصحيح إذ إن الكثيرين لا يوفقون لطلب العلم أصلاً، فهم بمنأى عنه، ومن يسلك طريق العلم منهم من يقال له: ليتك ثم ليتك ما عرفت؛ لأنه يدرس ويقرأ ويبحث، ويخرج بنتائج معكوسة، فما كل الناس يوفق إلى معرفة الحق، ولذلك العبد مطالب أن يدعو ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وإذا وفق إلى معرفة الحق فهو مطالب أن يدعو ربه أن يوفقه للعمل به، فكثير من الناس يعلمون لكنهم لا يعملون، ثم إذا عمل به هو بحاجة إلى تثبيت على هذا العمل؛ لأن الكثيرين يعملون فترةً ثم بعد ذلك يتركون العمل.

فعندنا هداية إلى العلم، والعلم لا شك أنه مخالف لداعية الهوى في نفس الإنسان؛ لأن العلم يحتاج إلى مشقة، تترك النوم، تتعنى، تتعب في الجلوس، وطلب العلم أيضاً فيه تواضع وكثير من الناس لا يوفقون؛ لأنهم لا يريدون أن يراهم الناس وهم جالسون في مجلس العلم؛ لأن الواحد منهم يربأ بنفسه عن التعلم، والواقع أنه لا أحد كبير على العلم، وليس هناك درس تربوي عملي، وإنما الأفضل لتربية النفس أن يجلس الإنسان ليتعلم، فلا يوجد شيء أنفع للإنسان من العلم؛ فالمتعلم يعرف قدره ويتعلم ولن يخلو من فائدة، وتحفُّه الملائكة، ويعلم نفسه الأدب والتواضع، والعلم إنما يكون في الأرض كالمطر للأرض المطمئنة.

وإلا فالعلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي

فالعبد بحاجة إلى هذا؛ لأن الهوى يدفعه إلى خلاف ذلك من الإخلاد إلى الراحة والكسل فيبقى جاهلاً، وتجد أن تلاميذ تلاميذه يخرجون أحسن منه أضعاف المرات، حيث تجد شاباً صغيراً عمره 15 سنة ما شاء الله قد أتقن القرآن، وحفظ بعض المتون، ويعرف من المسائل والعلم ما لا يعرفها أستاذه الذي هو أكبر منه بكثير.

فالناس يحتاجون إلى هذه الهداية، ويحتاجون إلى هداية من ناحية العمل بالعلم، فكثير من الناس ليست مشكلتهم الجهل في تركهم الصلوات وإنما المشكلة أنهم لا يعملون، ثم إنهم بحاجة إلى التثبيت على العمل أيضاً حتى يختم لهم بهذا، وهكذا يحتاجون إلى ألوان هدايات أخرى، وهناك أشياء أخرى ليست داخلة في هذا وإنما تدخل في عموم سؤال العبد ربه الهداية لغير هذا المقام، وهي الهدايات الأخروية عند سؤال الملكين وعند الحساب بحيث يُلهَم حجته، وكذلك حينما يكون على الصراط بحيث يهدى إلى الجنة، ويهدى إلى منزله في الجنة، نسأل الله الهداية والتوفيق..

"وقد تعدَّى الهداية بنفسها كما هنا:  اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] فتضمّن معنى ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا".

التضمين كما سبق هو على نوعين: تضمين الحرف معنى الحرف -أعني حروف الجر- وتضمين الفعل أو ما يقوم مقامه فعلاً آخر أو معنى فعلٍ آخر، مثل هنا: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] فمعناها إذا عديت بنفسها ألهمنا ووفقنا وما أشبه ذلك، وهذا أبلغ، وهو داخلٌ تحت عموم قولنا: إن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

"وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد: 10]، أي بينا له الخير والشر".

هداية الإرشاد تكون بـ"إلى" أي هديناه إلى الصراط المستقيم، وهنا لما قال: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] معناه ألهمنا أي وفقنا وارزقنا سلوكه واتباعه.

وقد تعدى بـ"إلى" كقوله تعالى: اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة النحل:121] وقال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:23] وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة، وكذلك قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52]، وقد تُعدَّى باللام كقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [سورة الأعراف:43]، أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلاً".

هذه ثلاثة ألوان في تعدية فعل الهداية، إما بنفسه فهو مضمنٌ معنى وفقنا، وإما بـ"إلى" فهو بمعنى الدلالة، وإما باللام فهو بمعنى التوفيق.

وبعض العلماء يذكر معاني أخرى مع هذه التعديات المختلفة، والقاعدة في هذا الباب هي أن الفعل الذي تتعدد تعديته يكون له مع كل حرفٍ معنى يناسب ذلك الحرف، فمثلاً في قوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [سورة الإنسان:6] نجد أن الباء في بِهَا ضمن معنى "من" أي عيناً يشرب منها، والأبلغ في ذلك أن يكون الفعل يشرب بمعنى يرتوي ويلتذّ وما أشبه ذلك وتبقى الباء على حالها.

وليعلم أنه حتى على القول بأن الحرف ضمِّن معنى حرف آخر فإنه يبقى من الحرف الأول شيئاً من معناه، أي أن معناه الأصلي لا يزول بالكلية، وهذا ستأتي له أمثلة إن شاء الله.

"وأما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوجَّ الموارد مستقيم

قال: والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر، قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل".

يعني أن الأصل في استعمال الصراط أن يكون للطريق المستقيم الواضح، والمستقيم هو أقرب خط يربط بين نقطتين كما يقولون، فالقوس أبعد؛ لأنه متعرج، وأما المستقيم فهو أقرب هذه الخطوط للربط بين هاتين النقطتين.

وعلى كل حال إذا قلنا: إن الصراط بمعنى الطريق الواضح المستقيم، بمعنى إذا راعينا فيه أصل الإطلاق في المعنى فتكون المستقيم صفة كاشفة فقط لا تقيده؛ لأن الصفات منها ما تكون مقيدةٍ مثل قولك: رجلٌ طويل، فإنه قد خرج الرجل المتوسط والقصير، وكقولك: رجلٌ مسلم، يخرج جميع أصناف الكفار، فهذه صفات مقيدة، وأما الصفة الكاشفة فهي التي تبين حقيقة الأمر من حيث هو لا أن تضيف إليه قيداً جديداً كقوله تعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، فلا يوجد طائر يطير بغير جناحيه، وهذا بغض النظر عن المعاني البلاغية التي تذكر هنا.

ومن ذلك قوله تعالى: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]، وقوله تعالى:  يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167].

لكن إذا قلنا: إن الصراط هنا يشمل في استعمال العرب المعوج والمستقيم فهنا تكون المستقيم صفة، يخرج بها الصراط المعوج.

وعلى كل حال فإن بعض أهل العلم يذكر أموراً لا بد أن تتوفر حتى يطلق على الشيء أنه صراط، وفي بعض هذه الأمور التي يذكرها نظر، فابن القيم -رحمه الله- مثلاً يقول: الصراط لا بد فيه من السعة، ولكن هذا ليس بلازم؛ لأن الصراط المنصوب على متن جهنم دقيق جداً.

"قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل ووصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه، والمراد به الإسلام".

الصراط المستقيم هو الإسلام وهو القرآن، وكل ما ذكره السلف فيه فهو صادقٌ عليه؛ فهذا من اختلاف التنوع، والحاصل أن هذا الذي ذكره ابن جرير -رحمه الله- من استعمال العرب له في المعوج وغير المعوج يكون ذلك على سبيل التوسع، فالعرب يتوسعون، فالجَلْد قيل في أصله: إنه الضرب بالجلود، ثم توسعوا فيه وصار يطلق على الضرب بكل شيء، سواء كان بالعصا أو بالسوط أو غير ذلك.

وكذلك اليمين، فهو يطلق على الحلف حيث كان الواحد -من العرب- يأخذ بيمين صاحبه توثيقاً لهذا الحلف، ثم توسعوا فيه فصار يطلق على كل حلف ولو لم يكن فيه هذا الوصف.

"روى الإمام أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان عن رسول الله ﷺ قال:  ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم[2].

فإن قيل: فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها وهو متصف بذلك، فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟".

هذا هو السؤال الذي أجبت عليه قبل قليل، وكثير من العلماء يقولون: إن المقصود بذلك التثبيت، يعني اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أيثبتنا على الصراط المستقيم، وقد سبق بيان أن الهداية أوسع من هذا، فإذا عرف العبد الحق وهُدي إلى العلم الصحيح وعرف الصواب فإنه بحاجة أيضاً إلى معرفة الأفضل في العمل في غير الفروض، وللأسف فإن كثيراً من الناس يقضي عمره القصير في أمورٍ مفضولة، فقد يجلس الإنسان في مثل هذه الساعة مثلاً وهو يقول: أنا أريد أن أذكر الله فأيهما أفضل أن يذكر ربه أم يشتغل بالعلم؟ قطعاً بلا تردد أن الأفضل له أن يشتغل بالعلم.

ومن الأمور المتفاضلة على سبيل المثال أن يتردد الإنسان بين أن يعتكف في المسجد يوماً أم يذهب في ذلك اليوم لإعانة فلان المسكين أو فلانة الأرملة، فالأفضل بلا شك هو أن يذهب لإعانة المحتاجين، ومثال ذلك أيضاً أن يتردد بين أن يقرأ القرآن أو يعود مريضاً، فعيادة المريض أيضاً أفضل، وأفضل الأعمال إذا أذّن المؤذن هو الذهاب إلى الصلاة.

فهكذا فالعبد بحاجة إلى هذه الهداية المتمثلة في معرفة الأفضل، فالعمر قصير والأعمال كثيرة، وشرائع الإسلام متنوعة، فإذا دخل في بابٍ فربما استغرق وقته وجهده، ولذلك يحتاج أن يوفق للعمل الفاضل، والمقصود أن كل هذه هداياتٌ العبدُ بحاجة إليها.

"فالجواب: أن لا، ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها".

الهداية ليست محصورة في الثبات عليها؛ فالإنسان تعرض عليه في كل ساعة أشياء وأشياء، وتحدث أمور كثيرة قد يضطرب فيها كثير من الناس، ويتقلبون ويتلونون وتتغير أحوالهم، فالعبد بحاجة إلى هداية في كل هذه الأمور، وأن يعرف الحق ويتبصر به إضافةً إلى ثباته على هذا الحق.

"فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله، فإنه قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه، ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار، وقد قال تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ... الآية [سورة النساء:136]، فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان، وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل؛ لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك، والله أعلم".

في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ ليس المقصود بذلك الثبات فقط، فالثبات أحد المعاني الداخلة تحته، ولكن شرائع الإيمان كثيرة والأعمال الصالحة كثيرة، فالصلاة إيمان قال تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، ولهذا لما ذكر الله كفارة الظهار قال بعدها: ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة المجادلة:4]، فلزوم حدود الله  ومنعه من مس هذه الزوجة -مع أن نفسه تطلبها-حتى يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً -على الخلاف في الإطعام- كل هذا من الإيمان، وإخراج الكفارة من الإيمان وإلا فكيف يعرف الناس عنه أنه أخرج كفارة أو لم يخرج كفارة، فقد لا يعلم به أحد أصلاً أنه ظاهر من امرأته، فالمقصود أن ذلك كله من الإيمان، من تصديق الحكم والإقرار به والانقياد بالتوقف عن الاستمتاع بهذه المرأة أو مجامعتها -على الخلاف في هذا- كل هذا من الإيمان، ولذلك قال بعده: ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة المجادلة:4] أيبعد الكفارة.

فشرائع الإيمان كثيرة، إذ إن الله أول ما فرض عليهم من الإيمان التوحيد، ثم فرض عليهم الصلاة، ثم فرض عليهم الزكاة -كما في حديث ابن عباس- فلما أقروا بذلك زادهم إيماناً وهكذا إلى آخره، فكل هذه الأشياء داخلة في الإيمان، وكل شيء مما شرعه الله يجب على الإنسان أن ينقاد له، ويسلم به، وأن يعمل به إن كان واجباً، وهذا من الإيمان، فانقياده وتسليمه إيمان والعمل بالحكم إيمان.

"وقال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران، فمعنى قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7]".

قول ابن كثير: "استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره"هذا معنى ثبِّتنا وهو نوعٌ منها يقوله من استكمل جميع أنواع الهدايات السابقة، ولا يمكن للعبد أن يستكملها؛ لأنه بين أمورٍ هو بصددها وبين أمورٍ يستقبلها أصلاً، فمثلاً هؤلاء الناس الذين يسألون عن مساهمات، وأشياء، أليسوا بحاجة إلى هداية حتى يعرفوا الصواب في هذه المسائل بحيث يدخلون فيها أو لا يدخلون؟

وكذلك من يعرض له خوف وطمع في هذه الأمور وما أشبه ذلك هو بحاجة إلى هداية، فلا يمكن للعبد أن يستكمل هذه الأشياء، لكن لو فرضنا أن إنساناً قد استكملها من أولها إلى آخرها وحققها ظاهراً وباطناً، فعندئذٍ يقال: ما بقي عليه إلا شيء واحد وهو التثبيت.

"وقد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] إلى آخرها أن الله يقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.

وقوله تعالى:  صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [سورة الفاتحة:7] مفسر للصراط المستقيم، وهو بدل منه عند النحاة، ويجوز أن يكون عطف بيان، والله أعلم".

عطف البيان والبدل حقيقتهما واحدة، لكن عطف البيان أوضح، أي إذا كان الثاني أوضح من الأول فهذا هو عطف البيان، وهذا في بدل الكل من الكل، ففي قوله تعالى: الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ وقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ يتضح أن الثاني أوضح؛ لأنه مقيد مفسر مبين لا يلتبس، وهكذا فمثل هذا يكون عطف بيان، وأما إذا كان دونه في الوضوح، أو مساوياً له فإنه يقال فيه: إنه بدل، فلو قلت مثلاً: جاء عبد الرحمن بن صخر أبو هريرة، يكون أبو هريرة عطف بيان لأنه أوضح، لكن إذا قلت: جاء أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر، فإن عبد الرحمن يكون بدلاً لا عطف بيان؛ لأنه ليس أوضح من الأول.

"والذين أنعم الله عليهم المذكرون في سورة النساء، حيث قال تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ۝ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا [سورة النساء:69-70].

وقوله تعالى:  غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ المعنى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله، وامتثال أوامره، وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق.

وأكد الكلام بـ "لا" ليدل على أن ثم مسلكين فاسدين، وهما طريقتا اليهود والنصارى ليجتنب كل واحدٍ منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود والضلال للنصارى؛ لأن من علم وترك استحق الغضب، بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئاً لكنهم لا يهتدون إلى طريقه؛ لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الحق ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه".

قوله: "وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه" لمّا عرف النصارى أن الذي جاء به النبي ﷺ هو الحق تركوه، فصاروا من أهل الغضب إضافةً إلى ما عندهم من ألوان الضلال.

"لكن أخص أوصاف اليهود الغضب، كما قال تعالى عنهم:  مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة:60]، وأخص أوصاف النصارى الضلال، كما قال تعالى عنهم: قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [سورة المائدة:77] وبهذا جاءت الأحاديث والآثار وذلك واضح بيِّن.

روى الإمام أحمد عن عدي بن حاتم قال: "جاءت خيل رسول الله ﷺ فأخذوا عمتي وناساً، فلما أتوا بهم إلى رسول الله ﷺ صُفُّوا له، فقالت: يا رسول الله، نأى الوافد وانقطع الولد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمُنَّ عليَّ منَّ الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فر من الله ورسوله، قالت: فمُنَّ عليَّ، فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه عليٌّ قال: سليه حملاناً، فسألته فأمر لها، قال: فأتتني فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها...".

قوله: "قال: فأتتني" أي عدي يقول: فأتتني يعني أختي.

قوله: "فقالت: لقد فعل" يعني النبي ﷺ.

قولها: "فعلة" يعني من الجود والكرم والإحسان.

قولها: "ما كان أبوك يفعلها" يعني حاتماً.

وفي بعض الكتب "لقد فعلت فعلة"، فتكون محمولة على أن عديًّا فرَّ؛ لأنه ذهب إلى منتهى بلاد الإسلام كما جاء في بعض الروايات، فأخبرته بما وقع لها وقالت له: اقدم عليه، وذكرت أنه قدِم عليه فلان فأعطاه، وقدم فلان فأعطاه، وقدم فلان فأعطاه، فأطمعته بالقدوم على النبي ﷺ في حال الرضا أو السخط، فجاء من غير جوار.

"..لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيَّان، وذكر قربهم من النبي ﷺ قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال: يا عدي ما أفرك؟ أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟ ما أفرك؟ أن يقال الله أكبر؟ فهل شيء أكبر من الله ؟ قال: فأسلمت فرأيت وجهه استبشر، وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى[3] وذكر الحديث ورواه الترمذي وقال: حسن غريب".

هذا حسنه أيضاً بعض أهل العلم مثل الحافظ ابن حجر -رحمه الله، والجملة الأخيرة منه: إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى يوجد ما يشهد لها، وهو الحديث الثابت عن بعض أصحاب النبي ﷺ عنه ﷺ أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى[4].

"وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، فقال: أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال: لا أستطيعه، فاستمر على فطرته وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه، آمن بما وجد من الوحي ".

أصل هذه الرواية في البخاري، وهي أنه لقي حبراً من أحبار اليهود فسأله عن دينه، وأخبره أنه يرغب في الدخول في دينهم، فقال له هذا الكلام.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..

  1. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (395) (ج 1/ص 296).
  2. أخرجه أحمد (17671) (ج 4/ص 182) والحاكم (245) (ج 1/ص 144) وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح وهذا إسناد حسن.
  3. أخرجه أحمد (19400) (ج 4/ص 378) وقال شعيب الأرنؤوط: بعضه صحيح وفي هذا الإسناد عباد بن حبيش لم يرو عنه غير سماك بن حرب ولم يوثقه غير ابن حبان.
  4. أخرجه ابن حبان (7206) (ج 16/ص 183) والطبراني في الأوسط (3813) (ج 4/ص 139) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3263).

مواد ذات صلة