الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
[34] من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} الآية 91 إلى قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} الآية 93
تاريخ النشر: ٠٩ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 4183
مرات الإستماع: 3186

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد ﷺ وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله عن هؤلاء اليهود: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [سورة البقرة: 90].

سبق الحديث عن قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ، وعرفنا معنى بئس وشرى، و[ما] تحتمل أن تكون موصوله، وبعضهم يقول: [ما] موصوفة، والمعنى بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، حيث إن قوله: أَن يَكْفُرُواْ تؤول بمصدر هو كفرهم بما أنزل الله.

وكفرهم بما أنزل الله دافعه الحسد والبغي، والبغي هو التعدي على الآخرين، فالتجاوز والإساءة والظلم والعدوان كل ذلك يقال له: بغي.

وقوله: بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ أي ينزل الله أي حسداً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فبئس شيئاً أو بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، أو يمكن أن يكون أَن يَكْفُرُواْ مؤول بمصدر ويكون هو المخصوص بالذم، أي بئس الشيء كفرهم، والله أعلم.

قوله:فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [سورة البقرة:90] يعني الغضب الأول والغضب الآخِر، فالغضب الأول هو ما استحقوا به اللعن وهو غضب الله بارتكاب الأسباب الموجبة لذلك وهي كثيرة جداً، من كفرهم بالمسيح -عليه الصلاة والسلام- وكذلك ما ذكر الله عنهم من تركهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحادة الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام- وقتلهم الأنبياء وما أشبه ذلك مما استوجبوا به غضب الله سابقاً، ثم بعد ذلك الغضب الآخر وذلك بكفرهم بمحمد ﷺ، فجمعوا كفراً إلى كفر فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ

وبهذا تعرف أن الكفار أنهم متفاوتون غاية التفاوت على النار وليسوا على مرتبة واحدة بل إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [سورة آل عمران:178]، فالكفار يزدادون من الإثم فتتفاوت أحوالهم في النار وعذابهم بحسب ما عندهم من الجرائم.

وقوله تعالى: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة البقرة:90]: لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالمهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60] أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين.

وقد روى الإمام أحمد عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له: بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار[1].

قوله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يدل على أنه قد يوجد العذاب ولا توجد الإهانة، فإن العذاب الذي يقع على أهل الإيمان لا يكون موصوفاً بالإهانة، فقد يحصل للإنسان الألم دون أن يحصل له إهانة معه، ولكن ذلك العذاب الذي يقع بالكفار عذاب يهينهم كما أخبر الله  أن يسحبون في النار على وجوههم. 

فالمقصود أن الإهانة هي إيلام للنفس، والعذاب أشمل من ذلك يقع على البدن ويقع على النفس، ولربما كان العذاب الواقع على النفس أعظم من العذاب الواقع على البدن، فجمع الله لهم بين هذا وهذا، وذلك في القرآن كثير، حيث يذكر الله عذاب أهل النار الذين هم أهلها ويذكر معه الإهانة، والأحاديث الواردة في الكبر كثيرة جداً، وهذا الحديث الذي ذكره أيضاً منها وهو بإسناد حسن.

ومن الأشياء التي يمكن أن تذكر أن الله قال: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ولم يقل: ولهم مع أن الكناية بالضمير تصلح في هذا الموضع، ولهم عذاب مهين لكن الله قال: وَلِلْكَافِرِينَ فهذا الذي يسمونه الإظهار في موضع الإضمار، يعني أنه يصلح فيه الضمير ويغني، والضمائر إنما تأتي بها العرب لاختصار الكلام وتقليله. 

فإذا أظهر في موضع الإضمار وَلِلْكَافِرِينَ بدلاً من أن يقول: ولهم عذاب، فإن ذلك يكون لنكته؛ وذلك لأن يكون المراد بيان السبب الذي استوجبوا به هذه العقوبة، أي: لماذا كان لهم عذاب مهين؟ لكفرهم، وأن هذا الذي فعلوه من كفرهم بما أنزل الله على محمد ﷺ أنه كفر استوجبوا به عذاب الله

فالإظهار في موضع الإضمار تارة يكون لهذا المعنى، وتارة يكون لاستحضار المهابة كما إذا ذكر اسم الجلالة في موضع يصح فيه الإضمار أو غير ذلك من المعاني التي يذكرونها في كل مقام بحسبه، لكن هذا مثال على ذلك.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:91-92].

يقول تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب آمنوا بما أنزل الله على محمد ﷺ وصدقوه واتبعوه، قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك.

وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ يعني بما بعده وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ أي: وهم يعلمون أنما أنزل على محمد ﷺ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ منصوباً على الحال.

في قوله -تبارك وتعالى: وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ: كلمة وراء من الأضداد في لغة العرب، ومعنى أنها من الأضداد أي أنها تأتي لمعنى ولضده، أي تستعمل لمعنيين بينهما تضاد، فكلمة وراء تستعمل بمعنى خلف وتستعمل بمعنى أمام فقوله -تبارك وتعالى- في سورة الكهف: وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [سورة الكهف:79] وراءهم ملك يعني أمامهم، وقد جاء ذلك في القراءة الأخرى لكنها غير متواترة: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً).

فقوله: هنا: وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ يمكن أن تفسر بما بعده، فهم يؤمنون بالتوراة وبموسى ﷺ ويكفرون بمن جاء بعده وهو عيسى ﷺ ومحمد -عليه والصلاة والسلام- هذا هو المعروف في الأنبياء الذين كفر بهم اليهود، ويذكر أنبياء آخرون، لكن لا يثبت ذلك بشيء يجب الرجوع إليه والوقوف عنده كما يقولون: خالد بن سنان في أصحاب الرس، ولكن هذا لا يثبت.

على كل حال وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ يمكن أن يفسر بما هو أعم ذلك يعني بما بعده، فيقال: وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ أي بما سواه وهو اختيار كبير المفسرين بن جرير الطبري -رحمه الله- وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ أي بما سواه، وهذا شيء مشاهد.

قوله: مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ منصوباً على الحال.

يعني هذه جمل حالية وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ [سورة البقرة:91] هذه جملة حالية، فعل وفاعل يكفرون ثم بِمَا وَرَاءهُ جار ومجرور، فهذه جملة حالية، ثم الجملة التي بعدها أيضاً هي جملة حالية، أي والحال أنه مصدق لما معهم.

ووجه الرد عليهم في ذلك والإلزام أن هؤلاء اليهود يكفرون بغير الكتاب الذي أنزل عليهم وبغير الرسول الذي أرسل إليهم مع أن ذلك حق ثابت وهو الحق وهو مصدق لما معهم، فكفرهم بهذا الحق المصدق لما معهم يرجع أثره إلى إبطال إيمانهم الأول؛ لأنهم كفروا بالحق الذي صدق الحق الذي كان معهم، فكفرهم به وهو حق ثابت يصدق ما معهم من الكتاب وهو كفر بكتابهم الأول، هذا وجه الاحتجاج والإلزام لهؤلاء اليهود، وهو لون من ألوان الإلزام المعروفة عند أهل الجدل.

أي في حال تصديقهم بما معهم من التوراة والإنجيل فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146].

ثم قال تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:91] أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلِمَ قتلتم الأنبياء الذين جاؤوا بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم.

وهذا وجه آخر من الإلزام، فالأول عرفناه، والثاني: وهو أنكم إذا كنتم تدعون أنكم على الحق، وأنكم تؤمنون بما أنزل عليكم فلِمَ تقتلون الأنبياء الذين هم من بني إسرائيل؟ ولكنكم أصحاب أهواء إنما قيامكم بالتشهي، بالتشهي فحسب، فهم يقتلون من لا يوافق أهواءهم من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ويكذبونهم ويردون ما جاؤوا به. 

فليست القضية تقتصر على بني إسرائيل أن يكذبونهم ولكن حتى أنبياء بني إسرائيل لو صدقتم لما قتلتم أنبياءكم، فاحتج عليهم بوجهين وألزمهم بأمرين: 

الأول يعود على بطلان الإيمان الأول، أنتم تقولون: بأنكم على حق، وهذا حق مصدق لما معكم كفرتم به، فإن ذلك الكفر به وهو حق يرجع إلى إيمانكم الأول بالبطلان. 

والثاني أنكم تدعون أنكم على الإيمان والحال أنكم تكفرون بما سوى ما جاءكم من الرسل أو ما جاءكم من الأنبياء والكتب مع أنكم تقتلون أنبياء الله الذين كانوا فيكم يا بني إسرائيل، فهل هذا الإيمان صحيح كما تدعون؟ وأنكم أتباع حق؟ فلمَ قتلتموهم وهم منكم إن كنتم صادقين؟!

النتيجة من هذا كله أنكم تتبعون الهوى وما تشتهيه الأنفس وتمليه، وأنكم على باطل.

قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، كما قال تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87].

قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ كلما تدل على التكرار.

أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ كعيسى -عليه الصلاة والسلام- ومحمد ﷺ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ كما فعلوا مع يحيى -عليه الصلاة والسلام-وزكريا وغير هؤلاء الأنبياء كثير، حتى أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً، فهم قتلة الأنبياء.

وقال السدي في هذه الآية: يعيرهم الله -تبارك وتعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:91].

وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [سورة البقرة:91-92] أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله.

والآيات البينات هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفرق البحر وتضليلهم بالغمام والمن والسلوى، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها.

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:92] أي معبوداً من دون الله، أي في زمان موسى وأيامه.

يلاحظ أن العجل إذا ذكرت عبادتهم له في جميع المواضع في القرآن لا يذكر بعده معموله الذي يفسره، والتقدير: ثم اتخذتم العجل إلهاً أو اتخذتم العجل معبوداً، فهذا محذوف يدل عليه السياق، ومعلوم أنهم اتخذوه معبوداً، والعرب تحذف من الكلام ما يفهمه السامع والمخاطب اكتفاء بما ذكر، يعني أنه يفهم المراد مما ذكر.

وبعض أهل العلم يقولون: لما كان ذلك غاية في الشناعة حذف إذ لا يعقل أن يكون ذلك العجل إلهاً معبوداً من دون الله  فهذا أمر لا يمكن أن يتصور، وسواء كان ذلك السبب أو أنه حذف لكونه معلوماً كما لو قلت مثلاً: من جاء؟ فقيل: زيد، فالمعنى زيد جاء.

وقد قال ابن مالك:

وحذف ما يعلم جائز كما تقول زيد بعد من عندكما؟

فالأصل أن تقول: عندنا زيد، أو زيد عندنا.

وقال أيضاً:

وفي جواب كيف زيد قل: دنف فزيد استغني عنه إذ عرف

وهذا كثير جداً في كلام العرب، يكاد يتكرر في كلام الواحد منا في المجلس الواحد مراراً.

وقوله: مِن بَعْدِهِ [سورة البقرة:92] أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ [سورة الأعراف:148].

وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:92]، أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ  [سورة الأعراف:149].

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:93].

يعدد عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه، ولهذا قالوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وقد تقدم تفسير ذلك.

هذا سبق الكلام عليه في صدر الآية ولذلك لم يعده ثانياً.

قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ أي اذكروا إذ أخذنا عهدكم الموثق وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أي ورفعنا فوقكم الجبل، وسبق الكلام على هذا وبيان المراد به.

خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم أي ما أعطيناكم من الكتاب بِقُوَّةٍ أي بحزم وجد واجتهاد من غير توان وتفريط، وَاسْمَعُواْ أي اسمعوا سماع استجابة لا سماع بالأذن مجردا عن القبول، قَالُواْ سَمِعْنَا يعني بآذاننا، وَعَصَيْنَا أي بقلوبنا وحالنا وفعلنا.

وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال عبد الرزاق عن معمل عن قتادة: وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال: أشربوا حبَّه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذلك قال أبو العالية والربيع ابن أنس.

هذا أحسن ما يفسر به قوله تعالى: وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ وإلا فبعضهم يفسر ذلك بقول هو في غاية البعد وهو أن يفسر الشرب بظاهره المجرد، حيث قالوا: إن موسى ﷺ رجع فوجدهم يعبدون العجل، قال للسامري: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [سورة طـه:97]. 

فالعلماء هناك يتكلمون على قوله لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا قالوا: كيف ينسف وهو كتله من الذهب -مع أن في ظني لا إشكال في أن ينسف في اليم نسفاً، وذلك بأن حرقه فذهبت معالمه فألقاه في اليم- لكن بعضهم هناك يقولون: إنه سحله بالمبارد حتى صار مما يمكن أن يذر، ثم نسفه في اليم نسفاً، فيقولون: ثم إنهم شربوا ماءه ذلك الذي سحل فيه في النيل وهذا معنى وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ فأثر ذلك في قلوبهم ونفوسهم، وهذا بعيد.

إنما الصحيح في معنى قوله: وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ هو كما قال النبي ﷺ فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء[2].

فكون القلب يشرب هذه الضلالة أو البدعة أو الانحراف، فمعنى ذلك أنه يتخلله؛ فيؤثر فيه تأثيراً بلغياً لا يكاد يخرج منه أو ينفك صاحبه عنه.

وهذا مثل كلام السلف كما في الآثار في كتب المتقدمين كاللالكائي والآجري وابن بطه والدارمي في مقدمته على السنن وفي رده على بشر المريسي وأمثال هذه الكتب يذكرون فيها بعض الآثار يقول مثلاً: إذا رأيت الشاب يصاحب صاحب سنة فارجه، وإذا رأيته يخالط صاحب هوى فارفع يدك منه، يعني لا ترجه؛ لأن هذا الإنسان ما دام في مقتبل العمر يصاحب  ويخالط أصحاب الهوى فإنه يشرب ذلك في قلبه فلا تستطيع إصلاح حاله غالباً بعد ذلك؛ لأنه شب على ذلك ونشأ عليه، فرفع ذلك من قلبه غاية الصعوبة، ولذلك يقولون: فاغسل يدك منه، وهذا أمر أغلبي وليس مطلقاً فالهداية بيد الله تعالى.

وعلى كل حال فإن معنى وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي حب العجل، وذلك أن الله ابتلاهم بهذا الإشراك والذنب العظيم الذي وقعوا فيه حتى تغلل في شغاف قلوبهم، فصار ذلك لا ينفك عنهم، فصارت ضلالاتهم تلك لعنة تلاحقهم, ومن آثارها أنهم يعبدون المال والذهب ويقدمون ذلك على كل ما أمرهم الله به وعلى كل ما يمكن أن تستحسنه العقول السليمة والفطر المستقيمة، فهم يفعلون كل رذيلة من أجل عبادة هذا المال، فمن بقايا عبادتهم العجل أنهم يعبدون الذهب كما هو مشاهد، والله المستعان.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ - باب 47 (2492) (ج 4 / ص 655) وأحمد (ج 2 / ص 179) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (8040).
  2. أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريبا وإنه يأرز بين المسجدين (144) (ج 1 / ص 128).

مواد ذات صلة