الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
[38] تابع لقوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} الآية 97
تاريخ النشر: ١٤ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 4842
مرات الإستماع: 3851

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

لا زلنا نتحدث عن قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ..الآية [سورة البقرة:102].

وذكرنا القول الأول الذي عليه أكثر المفسرين من السلف فمن بعدهم وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- بأن الآية على ما يتبادر من ظاهرها أن لهؤلاء اليهود سواء قلنا الذين في زمن النبي ﷺ أو الذين كانوا في زمن سليمان أو أن المقصود به الجميع؛ لأنهم كلهم معرضون عن كتاب الله متبعون للسحر، وعرفنا أن معنى تتلوا ما كانت تحدث به أو ما كانت تفعله الشياطين على عهد أو في ملك سليمان، أي في زمن ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا حيث نسبوا إليه السحر، وذلك كفر فلله نفى عنه ذلك وما قال: وما كان ساحرًا، بل قال: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ.

يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ "ما" موصولة على هذا القول، أي: يعلمون الناس السحر ويعلمونهم أيضًا الذي أنزل على الملكين ببابل، وسيأتي بعض ما يتعلق بهذه من وجوه أخرى محتملة لبعضهم.

وهنا سؤال وهو كيف يقع منهم مثل هذا؟

الجواب: أنه ابتلاء لهذا الخلق، أو أنه سبق في علم الله أن هؤلاء الملائكة كإبليس على القول بأنه من الملائكة أنه ينحرف ويضل، وذكرنا قول من قال بأن الملائكة قد تصدر منهم المعصية، لكن يقولون: تصدر منهم تكلفًا، كما أن البشر تصدر منهم الطاعة تكلفًا فهم عكس البشر، وهذا كلام غير صحيح.

وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أي: والذي أنزل على الملكين ببابل اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت.

قوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ يعني هذين الملكين مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ قالوا: وهذا ظاهر في أنه ابتلاء من الله هذا هو القول المشهور.

ويوجد قول آخر في المسألة قال به بعض السلف، لكنهم أقل بكثير من أصحاب القول الأول، ومن أشهر من قال به من المتأخرين القرطبي.

يقولون في قوله: وَاتَّبَعُواْ يعني اليهود، مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ يعني على عهد سليمان،  وهذا الكلام نفس الكلام في أولها لأصحاب القول الأول.

قال: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ حيث نسبوا إليه السحر وهو كفر وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يعلمون الناس السحر هنا القضية، يقولون: "ما" هنا نافية، يعني يقول: يعلمون الناس السحر ولم ينزل على الملكين.

فإذا قلنا بأنهم ملائكة على هذا، تكون هاروت وماروت عائدة أيضًا إليها.

فعلى هذا القول بأنه لم ينـزل على الملكين ببابل بعضهم يقول مثل القرطبي، يقولون: إن هاروت وماروت هي عائدة إلى الشياطين، يعني واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا يعلمون الناس السحر، يعني صارت هاروت وماروت أسماء لشياطين على قول القرطبي، فيصير الكلام واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين، يعني أن الكلام صار فيه تقديم وتأخير.

واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا، يعلمون الناس السحر، فيصير وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل.

وخلاصة المعنى للآية: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين هنا (ما) نافية، ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل.

وبعض أصحاب هذا القول يقول: إن هاروت وماروت تعود إلى الناس، فيصير المعنى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس هاروت وماروت، أي: يعلمونهم السحر، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، هذا هو القول الثاني، وهذا القول مبني مبناه ولا شك أن فيه تكلف واضح، والقاعدة أنه إذا دار الكلام بين الترتيب والتقديم والتأخير فالأصل فيه الترتيب بحيث يبقى على وجهه.

وهذا القول فيه هذا التكلف وهم لا ينكرون هذا التكلف إلا أن الذي حملهم عليه هو كيف يكونا من الملائكة ويقع منهم هذا الفعل الذي هو كفر؟ فقالوا: إذن نقول: "ما" نافية، ثم ركبوا هذه التأويلات والمحامل البعيدة.

كما أن بعض أهل العلم قال في قوله تعالى: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [سورة البقرة:102] بكسر اللام من الملكين، وصارت على هذا "ما" نافية، والمعنى أنهم يعلمونهم السحر ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين –من الملوك- وهذان الملِكان يقول بعضهم: هما داود وسليمان، واحتجوا لهذا القول بقراءة شاذة وهي: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين داود وسليمان) فهذه قراءة شاذة.

 وفي قراءة أخرى شاذة من غير ذكر داود وسليمان تصير موصولة، فيكون المراد بالملكين أي من ملوك الدنيا، وهذا سواء قلنا بأنهما علجان أعجميان، أو غير ذلك مما قيل، وممكن يكون اسم أحدهما هاروت والآخر اسمه ماروت أو غير ذلك مما يقال.

وبعضهم حتى على قراءة الفتح في ملكين -وهي القراءة المتواترة- قالوا: إنها لغة في الملِكين، حيث يقال: ملَك وملِك أي من ملوك الدنيا، وتكون "ما" نافية على قراءة كسر اللام إذا قلنا: مع داود وسليمان، أي: ولم  ينزل على الملكين داود وسليمان.

وتكون موصولة من غير داود وسليمان، يعني: اتبعوا السحر والذي أنزل على الملكين أيًا كانوا من ملوك الدنيا.

طبعًا يوجد إشكال على هذا وهو قضية كيف أنزل وما معنى الإنزال هنا؟ وهل أنزلته الشياطين أو يفسر الإنزال بمعنى آخر غير النزول المعروف وما إلى ذلك. 

والمقصود  أن هذه خلاصة لأشهر ما قيل في الآية، وهو الكلام الموجود مفرقًا في كتب التفسير، وبهذه الطريقة نكون قد رتبنا الأفكار بحيث إذا قرأنا من الكتاب تستطيع أن نجمع ونعيدها إلى هذا.

مسألة أخرى:

بعضهم يقول: أن "ما" في قوله: وَمَا أُنزِلَ ترجع إلى "ما" الأولى، فيصير المعنى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل، فهم اتبعوا شيئين، وعلى هذا فالعطف في الأصل أنه يقتضي المغايرة فيصير الذي أنزل على الملكين غير الذي كانت تتلوه الشياطين، فالذي أنزل على الملكين هو التفريق بين المرء وزوجه، والذي كانت تتلوه الشياطين هو أنواع السحر.

وبعضهم يقول: إن "ما" الثانية ترجع إلى قوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ والمعنى أنهم يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فتكون عائدة إلى ما قبلها، يعلمونهم السحر ويعلمونهم الذي أنزل، وهذا باعتبار أن السحر غير التفريق، مع أن التفريق بين المرء وزوجه هو نوع من السحر؛ بل إن بعض أهل العلم قال: السحر ما له أي تأثير إلا في التفريق بين المرء وزوجه وما إلى ذلك من الحب والبغض وإلا فلا يستطيع الساحر أن يمرِض أو يحول بعض الأشياء عن حقيقتها كتحويل الفرس إلى بقرة أو الإنسان إلى فرس أو كذا أو يكسر العظم أو يميت أو نحو هذا.

والأقرب –بل هو المشهور- أن السحر يؤثر أكثر من مجرد التفريق والحب والبغض وما أشبه ذلك، فيمكن أن يمرض ويقتل.

وقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] شدد ابن جرير -رحمه الله- على أصحاب القول الذي سبق أن ذكرناه وما فيه من المحامل البعيدة حيث قال لهم: إذا قلنا بأن "ما" نافية في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [سورة البقرة:102] فما معنى وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ إذ لو كان الأمر كما زعمتم بأن "ما" نافية فالمعنى أن الملكين لا علاقة لهم بالسحر ولا شيء من ذلك؛ إذ كيف يقول: وما يعلمان –بالتثنية- من أحد السحر حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وهما لم ينزل عليهما شيء من ذلك؟ هذا إيراد أورده ابن جرير -رحمه الله- على أصحاب هذا القول.

نقرأ الآن وتنزلون الكلام الذي يقرأ على هذا الكلام الذي سمعتم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقال السدي في قوله تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102]، أي: على عهد سليمان ، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه.

فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنـز لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادن فقال: لا، ولكنني ههنا في أيديكم فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخروجها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب فلما جاء محمد ﷺ خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ [سورة البقرة:102].

هذه الرواية المذكورة هنا تعود إلى ما أخذ عن بني إسرائيل، فهي من الأشياء الإسرائيلية التي لا يعتمد عليها، لكنها على كل حال قد توضح لك شيئًا يستأنس به فيما يتعلق باتباعهم ما كانت تتلوه الشياطين على ملك سليمان، أي: على عهد سليمان، أو في ملك سليمان حينما يذكرون أخباره وقصصه وأخبار مملكته وملكه -عليه الصلاة والسلام، فمثل هذا لا يعتمد عليه في تفسير الآية، لكنهم اتبعوا ذلك السحر الذي كان موجودًا في ذلك الزمان، سواء كان كما قيل دفن تحت كرسيه حينما صادر هذه الأشياء منهم أو غير ذلك مما ذكروه من أن آصف كاتب سليمان كان يكتب له ما يأمره به ثم دفنه تحت كرسيه، ثم جاؤوا واستخرجوه وزادوا فيه بين كل سطرين، أو أنه ما كانوا يتلقونه من الكهنة وفيه كذب كثير فكانوا يزيدون فيه، أو غير ذلك مما يذكرونه مما لا أصل له، فكل هذه الأشياء لم يرد فيها شيء عن النبي ﷺ لكن المقصود أن اليهود هؤلاء اتبعوا السحر، وتركوا كتاب الله الذي أنزله عليهم وطالبهم بالعمل به.

وقوله تعالى: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [سورة البقرة:102] اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية، أعني التي في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال القرطبي: "ما" نافية، ومعطوف على قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ.

نعم ما كفر سليمان ولم ينـزل السحر على الملكين.

ثم قال: وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله.

قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بهذا الاعتبار يكون الملكين هم على قول القرطبي جبرائيل وميكائيل، فنـزه سليمان -عليه الصلاة والسلام- عن السحر، ونزه جبريل وميكائيل، وما أنزل على الملكين.

وقوله: بِبَابِلَ يعني يعلمون الناس السحر ببابل.

وجعل قوله هاروت وماروت بدلًا من الشياطين.

نعم هذا على توجيه القرطبي، وأما على القول الآخر فهي بدل من الناس، يعلمون الناس هاروت وماروت السحر ببابل.

قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [سورة النساء:11].

الإشكال الآن هو كيف صار هاروت وماروت بدلًا من الشياطين، والشياطين جمع؟ قال: لا إشكال؛ لأنه إما أن نقول: إن أقل الجمع اثنان، وهو قول معروف ومنقول عن الإمام مالك، وجماعة، قال تعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11] وإنما تأخذ الأم السدس إذا وجد أخوَان فأكثر، فقال: إخوة، قال في مراقي السعود:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري

الإمام الحميري هو مالك -رحمه الله- أقل معنى الجمع في المشهور عنه اثنان، فهذا توجيه.

فهذا توجيه أو لكونهما لهما أتباع، قال تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [سورة الأنعام:61]، مع أن الذي يتوفاهم واحد كما قال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ [سورة السجدة:11].

كما في قوله تعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكر من بينهم لتمردهما. وتقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح، ولا يلتفت إلى ما سواه.

وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ الآية. يقول: لم ينزل الله السحر.

وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال: ما أنزل الله عليهما السحر، قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون قوله: بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ من المؤخر الذي معناه المقدم.

يعني نخرج من هذا القول بنتيجة وهي أن قول القرطبي لم ينفرد به وإنما له سلف فيه.

قال: فإن قال لنا قائل كيف وجه تقديم ذلك؟
قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنيًا بالملكين جبريل وميكائيل -عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه محمدًا ﷺ أن جبريل وميكائيل لم ينـزلا بسحر، وبرَّأ سليمان مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان، اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردًا عليهم.

إذا قلنا هاروت وماروت هم شياطين أو من الناس يبقى فيها أيضًا إشكال وهو: هل الشياطين سيقولون للناس: لا تكفر إنما نحن فتنة وهم أصلًا يريدون نشر السحر، ويريدون كفر الناس؟ فهذا إشكال على كل حال.

هذا لفظه بحروفه، وهذا التأويل فيه من التكلف ما لا يخفى.

قوله: قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا: ليس هذا هو قول ابن جرير، وإنما ابن جرير لما ذكر هذا القول في المسألة وجهه يعني كأنه يقول: كيف يكون المعنى على هذا القول؟ ثم رده، فلا تفهم من هنا، قال ابن جرير والمعنى على هذا يكون كذا وكذا أن هذا هو اختيار ابن جرير، وإنما ابن جرير يرد هذا بقوة، بل بعنف، حتى إنه يقول: فإن قال ذو غباء كيف يكون السحر منزلًا على الملكين؟ قلنا: بأن ذلك سبق في علمه، أو أن ذلك ابتلاء وامتحانًا للخلق.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة