الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
[62] تتمة قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} الآية 137
تاريخ النشر: ٠٣ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 3963
مرات الإستماع: 3360

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر –رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم ، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] يُلاحظ في هذه الآية أن الله غاير فيها تقديماً وتأخيراً عند ذكر شهادتهم وشهادة رسول الله ﷺ عليهم، فقال: لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] ولم يقل: ويكون الرسول شهيداً عليكم، ومعلوم أن تقديم المعمول على عامله لا يكون إلا لمعنىً قصده المتكلم. 

فيمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إنه في الأول لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء [سورة البقرة:143] لإثبات شهادتهم على الأمم، وفي الثاني: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] من أجل إثبات اختصاصهم بشهادة رسول الله ﷺ، فقدم الجار والمجرور (عليكم) على قوله: (شهيداً) وتقديم المعمول على عامله يدل على الحصر أحياناً، مثل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ومثل: وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ [سورة المائدة:23] يعني لا تتوكلوا على غيره، وهنا وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:143] يعني: أنهم يختصون بشهادة رسول الله ﷺ.

"إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرها".

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] وكذلك الجعل جعلناكم أمة وسطاً يعني: عدولاً خياراً، هذا أشهر ما فُسرت به، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، فكما أن الله   اختار لهم القبلة وهي أعدل الجهات، وكذلك أيضاً اختار لهم الإسلام وهو أعدل الأديان، كذلك أيضاً جعلهم أمة وسطاً في كل شيء، جعلهم أمة خياراً عدولاً يصلحون للشهادة على الخلق.

ولعل أحسن ما يفسر به هذا هو ما ورد عن رسول الله ﷺ وثبت عنه، حيث بين فيه معنى الوسط، ومعنى شهادة هذه الأمة على الأمم، وشهادة الرسول ﷺ عليهم، وجاء ذلك صريحاً عنه ﷺ، ومن ثم فلسنا بحاجة إلى ذكر الأقوال الأخرى في معنى شهادتهم على الأمم، وشهادة الرسول ﷺ عليهم، أو في بيان معنى الوسط من غير ما ذكرت.

وابن جرير الطبري -رحمه الله- يفسر الوسط هنا في هذه الآية بمعنىً يدخل في عموم وسطية هذه الأمة، ما يفسره بمعنى العدول والخيار وإنما يقول: وسط بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والجفاء، فالأمة وسط في هذا، فاليهود عندهم غلو والنصارى عندهم تفريط، فمثلاً في الطهارة اليهود إذا وقعت النجاسة على الثوب قطعوه، والنصارى على العكس لا يتنزهون من النجاسات.

فالحاصل أن هذا لا شك أنه من وسطية هذه الأمة، ولكنه لا يوقف عليه في التفسير؛ لأن ما قاله رسول الله ﷺ لا شك أنه عين المعنى المراد، ورسول الله ﷺ أعلم بكلام الله من غيره، وبناءً على هذا يقال: الوسط هم العدول، والعدول هم الخيار، فالوسط من كل شيء هو أفضله وأعدله وأقومه، ولهذا فإن ابن جرير -رحمه الله- يرى أن الخيار والعدول بمعنىً واحد، يرى أن هذا بمعنى هذا، وذلك لأن أعدل الأمور هو خيرها وخيرها هو أعدلها، فهذا راجع إلى هذا ولا يكون إلا به، قال تعالى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ [سورة القلم:28] أي: قال أعدلهم وأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً [سورة طـه:104] يعني: أعدلهم وخيرهم طريقة.

الأنبياء وسط في قومهم، بمعنى هم أفضل وأعدل قومهم، فعلى كل حال كون هؤلاء هم الأعدل معنى ذلك أنهم ليسوا في جانب الإفراط ولا في جانب التفريط، فهم أزكى الناس، وخير الناس، وقد جاء ذلك في نصوص كثير في الكتاب والسنة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] وكذلك في قول النبي ﷺ: إن الله اصطفى كنانة[1].. إلى آخره، وكما في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] بفئاتهم الثلاث: الظالم والمقتصد والسابق، فهذا كله في هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

ويكفي هذا القدر في بيانه، فإن الحديث واضح وصريح في بيان معنى هذه الآية.

"وكان رسول الله ﷺ وسطاً في قومه، أي: أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة الحـج:78].

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟[2].

هذا الحديث يصرح بتفسير هذه الآية، والتفسير النبوي أنواع: منه: ما ذكر مع الآية، فهذا إذا صح سنده فلا يعدل عنه، وهذا من هذا النوع. 

ومنه: ما لم يذكر فيه النبي -عليه الصلاة والسلام- الآية، ولم يتعرض لها، فيأتي المفسر ويربط بين هذا وهذا، كقوله: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [سورة الفجر:23] يمكن أن يفسر بحديث: يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام... [3] إلى آخره.

فأقوى ذلك وأصرحه ما صح مع التصريح بالآية؛ لأن المفسر قد يخطئ حينما يربط بين الآية وبين الحديث، ولهذا إذا قيل -كما سبق في أصول التفسير: بأن التفسير النبوي يدخله الاجتهاد فالمقصود بهذه العبارة النوع الثاني الذي لم يتعرض فيه النبي ﷺ للآية، وإنما الاجتهاد يكون من قبل المفسر حينما يحاول أن يربط بين آية وبين حديث وقد يخطئ إذا لم يكن هناك علاقة بين الآية والحديث، لكن إذا ذكر النبي ﷺ الآية فهذا لا مجال للتوقف فيه.

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته" قال: فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] قال: والوسط: العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم[4] ورواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه.

يعني من فسر بغير هذا المعنى فيمكن أن يحمل على أنه لم يبلغه هذا الحديث، أعني التفاسير التي تخالف هذا المعنى وليست التي تدور حوله، يعني من فسره بأنه الخيار كما سبق فإنه يرجع أنهم وسط بين الإفراط والتفريط، لكن هناك أقاويل أخرى، فمثل هذه لا يلتفت إليها.

"وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه، فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا ﷺ فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] قال: عدلاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] [5].

فالنبي ﷺ يشهد على شهادتهم، هم يشهدون للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بالبلاغ، والرسول ﷺ يشهد على شهادتهم، ولا يصلح لهذه الشهادة العظيمة على الأمم إلا من كان عدلاً.

وروى الإمام أحمد عن أبي الأسود أنه قال: أتيتُ المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتاً ذَريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب -، فمرّت به جنازة فَأثْنِيَ على صاحبها خير، فقال: وجبت وجَبَت، ثم مُرّ بأخرى فَأُثْنِيَ عليها شرٌّ، فقال عمر: وجبت، فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسولُ الله ﷺ: أيّما مسلم شَهِد له أربعة بخير أدخله الله الجنة قال: فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة قال: فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان[6] ثم لم نسأله عن الواحد" وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي.

هذا من أحاديث الرجاء، فلا ينبغي للمسلم أن يركن له، وفرق بين شهادة أهل الفضل والصلاح والخير وبين شهادة الأشرار، فرق بين هذا وهذا، وإلا فإنك تجد رأس البدعة والضلالة بل والكفر لن يعدم من يشهد له من قومه، وممن هو على شاكلته، ومن المعجبين به، وتجد الفاجر المُغنِّي مثلاً أو الممثل أو المهرج قد يبكي عليه الملايين من الناس، فالمقصود أن ذلك منوط بأهل الفضل والصلاح والخير.

ولذلك ما جاء من الكلام على تعريف المعروف مثلاً وأنه: ما عرفه أهل الإيمان، واطمأنوا إليه، هذا في وقت استقامة المجتمع، وإلا إذا كان المجتمع منحرفاً فلا عبرة بنظرهم، ففي بعض المجتمعات الإسلامية المتمسك بدينه يلمز بأبشع الأوصاف، فهل ما رآه هؤلاء حقاً ومعروفاً يكون من قبيل الحق والمعروف، وما رأوه منكراً يكون من قبيل المنكر؟ لا.

كذلك قول الإمام أحمد -رحمه الله- لأهل البدع: "بيننا وبينهم يوم الجنائز" معناه: أن جنائز أهل السنة حاشدة، لكن هذا في وقت ظهور السنة وإلا قد يكون رأس الضلال فهذا الرافضي الهالك الخميني يوم مات مزقوا الكفن، وما استطاعوا أن ينزلوه من أجل تهافت البشر عليه بشكل منقطع النظير، قطعوا كفنه ليأخذوه للتبرك حتى بدت سوءته، فهذا في المجتمعات المنحرفة.

وهذه المرأة التي ماتت وهي كافرة نصرانية تتكلم بكل وقاحة في قنوات فضائية عن فواحشها وفجورها لما ماتت بكتها أمم، ولا زالوا يذكرونها أليس كذلك؟! فهل هذه شهادة معتبرة؟ فشهادة الفجرة وأهل السفه من الناس لا عبرة بها وهكذا.

وقد يكون العالم في محل غربة وهو إمام لكنه في أرض بدعة وضلالة فقد لا يجتمع على جنازته ثلاثة، فينزل كل ما ورد من ذلك من النصوص في محله، وهكذا النصوص الواردة عن السلف في كثير من القضايا حينما يقولون مثلاً: من قال كذا فهو كذا، أو من فعل كذا يهجر، أو من فعل كذا لا يُكلم، هذا متى يقال؟ وفي حق من يقال؟ لا يقال بإطلاق في كل وقت، وإنما يختلف ذلك من حين إلى حين. 

وفي بعض الأحيان قد يكون قائل هذه المقالة من أفضل أهل زمانه في تلك الناحية، هذا إذا غلب المنكر والانحراف والبدعة على ناحية وأرض، ففرق بين وقت ظهور السنة أو بين وقت ظهور الضلال، فقد يكون هذا شامة بيضاء في جلد ثور أسود، فكل شيء يوضع في محله، ومن الخطأ أن نتلقف نصاً أو أثراً ورد في مناسبة أو في حال من الأحوال ثم ينزل على جميع الحالات والعصور والظروف فهذا غير صحيح، وليس هذا من الفقه في دين الله .

وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ [سورة البقرة:143] يقول تعالى: إنما شرعنا لك -يا محمد- التوجه أولاً إلى بيت المقدس.

يعني معنى ذلك القبلة التي كنت عليها هي بيت المقدس، وهذا هو المتبادر، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، خلافاً لمن قال: بأن المقصود بذلك الكعبة، القبلة التي كنتَ عليها يعني التي حولتَ إليها، يعني ما جعلنا هذه الكعبة قبلة بعد بيت المقدس إلا لنعلم من يثبت ومن لا يثبت؛ لأنها كانت محنة عظيمة جداً، ارتد بسببها جماعة من الناس، وتضعضع آخرون، وأرجف فيها أهل النفاق واليهود وأهل الإشراك، وكلٌ صار يتكلم بما يحلو له كما سبق. 

أهل الإشراك يقولون: تحول إلى قبلتكم فذلك مؤذن بتحوله إلى دينكم، وأهل النفاق واليهود لربما قال قائلهم: حن إلى دين أبيه، ورجع إلى دين قومه، وآخر يقول: تحير، وآخر يقول: إن كان ذلك -استقبال بيت المقدس- حق فهم على باطل، وإن كان باطلاً فقد كانوا على باطل، إلى غير ذلك من المقالات القبيحة التي قالوها، ولكنهم يدورون مع أمر الله حيث دار، فهم أهل عبوديته الخاصة، تارة يوجهون إلى هذه الناحية فيتوجهون، وتارة إلى هذه الناحية وهكذا، كل ذلك بناءً على علمه وحكمته -تبارك وتعالى.

"ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويُطيعك، ويستقبل معك حيثما توجهت مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] أي: مرتداً عن دينه وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [سورة البقرة:143] أي: هذه الفعلة".

يعني الآن في قوله: إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] مثل هذا الأسلوب الذي ورد في مواضع من القرآن إِلاَّ لِنَعْلَمَ [سورة البقرة:143] وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [سورة آل عمران:140] حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31] فـ"حتى نعلم" و"ليعلم" معلوم أن الله علمه محيط بكل شيء، فهو يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كل ذلك يعلمه، فما المراد بقوله: حَتَّى نَعْلَمَ [سورة محمد:31]، هل يخفى عليه شيء؟ أبداً.

أهل السنة يفسرون هذا بأن المقصود: العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وهو علم المشاهدة، يعني بعد ما كان ذلك من الغيوب التي لم تقع، والله يعلم أنه سيقع، فكان وقوعه هو المراد، حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ [سورة محمد:31] إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [سورة البقرة:143] يعني أن يكون ذلك واقعاً معلوماً لله بعد أن كان في علمه من جهة أنه أمر غيبي، يعني علم الوقوع، وهو لم يقع بعد، والله يعلم أنه سيقع.

وعلم الوقوع هذا هو العلم الذي يترتب عليه الجزاء، فإن الله لا يحاسب خلقه بناءً على ما علم منهم أنهم سيعملونه قبل أن يعملوه، الله يعلم أن فلان سيفعل المعصية الفلانية، في الوقت الفلاني، في المحل الفلاني، لكنه لم يكتبها عليه سيئة حتى يعملها، فهذا هو العلم الذي يترتب عليه الجزاء.

مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] أي: مرتداً عن دينه، وَإِن كَانَتْ [سورة البقرة:143] على قول البصريين (إن) هذه مخففة من الثقيلة، وهذا ظاهر كلام ابن كثير هنا الذي مشى عليه في التفسير بناءً على هذا، وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً [سورة البقرة:143] أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: إن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس إلا على الذين هدى الله، يعني كأنه يقول: وإنها لكبيرة، فهذا التحويل أمر عظيم جداً، زلزل النفوس.

وأما على قول غيرهم فإن (إن) هذه نافية، وإن كانت لكبيرة كأنه يقول: وما هي إلا كبيرة إلا على الذين هدى الله، ما كانت إلا كبيرة وعظيمة إلا على الذين هدى الله، فيكون ذلك من قبيل النفي والاستثناء، إن كانت لكبيرة إلا، فما هي إلا كبيرة وعظيمة إلا على الذين اطمأنت نفوسهم بالإيمان، وثبت في قلوبهم، وهداهم الله ، ووفقهم للثبات، تكون عكس المعنى الأول.

المعنى الأول يقول: وإنها لكبيرة يقرر هذا، فتكون (إن) هذه للتوكيد، وعلى الثاني: تكون نافية، ما هي إلا كبيرة إلا على الذين هدى الله، لكن المعنى العام في النهاية كما ترون هو يقرر أنها عظيمة إلا على من هداهم الله ، سواءً على هذا الاحتمال أو على ذاك.

أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول.

على كل حال وإن كانت لكبيرة يعني التحويل، هذا أجود ما قيل في معناه، ما هو الشيء الكبير العظيم؟ هو تحويلهم من بيت المقدس إلى الكعبة، القبلة شعار كما سبق وليست قضية سهلة، فحينما يتحولون فإن هذا لا شك أنه ليس بالأمر السهل إلا على من هدى الله قلوبهم، واطمأنوا، ولذلك أرجف بهم اليهود وأهل النفاق والمشركون، فإذن أحسن ما يفسر به -والله أعلم- أن التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة هو الكبيرة، هو الأمر العظيم على كثير من النفوس، وقد قيل غير ذلك في أقاويل أخرى، لكن لا حاجة إليها، هذا أوضحها وأعدلها، والله تعالى أعلم.

وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:124-125] وقال تعالى: وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [سورة الإسراء:82] ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول ﷺ وإتباعه في ذلك، وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين.

وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن ابن عمر -ا- قال: "بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي ﷺ قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة"[7] رواه مسلم والترمذي".

هذا كما سبق في قباء في صلاة الفجر، وأن النبي ﷺ كان أول صلاة صلاها كانت العصر في مسجده إلى الكعبة، وفي بني سلمة كانت صلاة الظهر، وبني سلمة أرضهم تقع إلى ناحية الشمال من المدينة قليلاً إلى جهة الغرب، وفيها المسجد المعروف اليوم بمسجد القبلتين، فالتحويل وقع لأهل قباء بصلاة الفجر، ولبني سلمة بصلاة الظهر، وفي مسجد النبي ﷺ في صلاة العصر، هذا على قول بعض أهل العلم.

فعلى كل حال لربما يستشكل بعض طلاب العلم مسجد القبلتين والمشهور والمعروف أن التحويل كان في قباء، نقول: كان التحويل في مسجد بني سلمة في وقت، وفي قباء في وقت، وفي مسجد الرسول ﷺ في وقت، والله أعلم.

وعند الترمذي: أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع، وكذا رواه مسلم عن أنس -، مثله، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله، وانقيادهم لأوامر الله   أجمعين.

سبق الكلام على بلوغ الخطاب في التكليف وأنه شرط، فهؤلاء اعتبروا أول الصلاة مع أنهم صلوا إلى قبلة منسوخة، فكل من لم يبلغه الخطاب فإنه معذور، والله أعلم. 

  1. أخرجه مسلم في الفضائل باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (ج7/ص58-6077).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (ج4/ص1632- 4217). وأحمد في المسند [جزء 3 ص 32 – 11301)
  3. أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين (ج8/ص149- 7343).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [سورة نوح:1] [جزء3-  1215– 3161]  وفي كتاب التفسير باب قول الله وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] [جزء4 -ص1632 ]، وأحمد في المسند [جزء3- ص 58 -11575)، والنسائي في السنن الكبرى في كتاب التفسير سورة البقرة [جزء 6- ص 292 – 11007] والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة البقرة [جزء5- ص207 – 2961] وابن ماجه في كتاب الزهد باب صفة أمة محمد ﷺ [جزء2- ص1432-4284).
  5. المسند (ج3/ص58 - 11575) وابن ماجه في كتاب الزهد باب صفة أمة محمد ﷺ  (ج2/ص1432- 4284) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (ج2/ص 425).
  6. في المسند (ج1/ص30 - 204) وهو في البخاري في كتاب الجنائز باب ثناء الناس على الميت (ج1/ص460- 1302) وفي كتاب الشهادات باب تعديل كم يجوز؟ (ج2/ص935 – 2500) وفي سنن النسائي الكبرى (ج1/ص629- 2061)، وفي سنن الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في الثناء الحسن على الميت (ج3/ص373 – 1059).
  7. البخاري في كتاب التفسير باب قول الله وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (ج4/ص1632- 4218) ومسلم في المساجد باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (ج2/ص66 – 1206).

مواد ذات صلة