الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[5] من قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} الآية 32 إلى قوله تعالى: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} الآية 39.
تاريخ النشر: ١٨ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 1696
مرات الإستماع: 2452

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ ۝ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ۝ وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. [سورة هود:32-34].

يقول تعالى مخبراً عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه وسخطه، والبلاء موكل بالمنطق، قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا أي: حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا أي: من النقمة والعذاب، ادع علينا بما شئت، فليأتنا ما تدعو به.

إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ ۝ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يعجزه شيء.

وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي: أيُّ شيء يجدي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي، إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي: إغواءكم ودماركم، هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: هو مالك أزمة الأمور، المتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور، له الخلق وله الأمر وهو المبدئ المعيد مالك الدنيا والآخرة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة هود:34]، الغواية هي الإضلال، وفسرها ابن جرير بمعنى الهلاك، وهو تفسير باللازم وجمع الحافظ ابن كثير بين المعنيين فقال: "أي: إغواءكم ودماركم"، وهذه الآية كقوله –تبارك وتعالى: وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [سورة المائدة:41]، والإرادة المذكورة في الآية هي الإرادة الكونية؛ لأن الله قال: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7].

قوله-تبارك وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ [سورة هود:35] هذا كلام معترض في وسط هذه القصة مؤكد لها مقرر لها، يقول تعالى لمحمد ﷺ: أم يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون افترى هذا وافتعله من عنده، قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي أي: فإثم ذلك علي، وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ أي: ليس ذلك مفتعلاً ولا مفترى؛ لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه.

قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ هذا يحتمل أن يكون كلاماً معترضاً كما قال الحافظ ابن كثير، وهو اختيار ابن جرير أيضاً، وهو الظاهر المتبادر -والله تعالى أعلم.

ومعنى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ أي: اختلق القرآن، يحتمل أن يكون ذلك من كلام نوح، أو أن هذا الخطاب يُقصد به نوح -عليه الصلاة والسلام- يعني: أن قوم نوح يقولون ذلك عن نبيهم -عليه الصلاة والسلام- والله يوجهه ويخاطبه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي، والأقرب -والله أعلم- أن هذا موجه إلى النبي ﷺ.

وأصل الإجرام، من الاجترام وهو الاكتساب، وصار ذلك في غالب الاستعمال يطلق على الاكتساب السيئ.

قوله: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ۝ وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ۝ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ۝ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [سورة هود:36- 39].
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم، فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله تعالى مخبراً عنه أنه قال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح:26] فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، فعند ذلك أوحى الله إليه: أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ، فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ يعني: السفينة، بِأَعْيُنِنَا أي: بمرأى منا، وَوَحْيِنَا أي: تعليمنا لك ما تصنعه.

كلام ابن كثير -رحمه الله- صريح في أن نوحاً ﷺ دعا على قومه بأن لا يذر على الأرض من الكافرين دياراً، قبل أن يعلمه الله بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، ومن أهل العلم من يقولون: بأن نوحاً ﷺ لم يدعو عليهم حتى أخبره الله -تبارك وتعالى- أنه لن يحصل منهم الإيمان، فعندئذ دعا عليهم بالهلاك.

وقوله: فَلا تَبْتَئِسْ، أي: لا تحزن، والبائس: هو المستكين والحزين، والابتئاس حزن مع استكانة، الإنسان إذا اشتد به الحزن أثر ذلك في حاله وظاهره وحركاته، وغلب عليه الخمول والسكون، وَاصْنَعْ الْفُلْكَ، أي: السفينة، بِأَعْيُنِنَا أي: بمرأى منا، وهذا دليل على إثبات صفة العين.

وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ [سورة هود:37]، وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة: أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج، وأن يجعل طولها ثمانين ذارعاً وعرضها خمسين ذراعاً، وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤاً أزوراً يشق الماء، وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً، ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطيور، وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.

هذه الروايات من الإسرائيليات ولا يبنى عليها شيء، ولا يوثق بها إلا ما كان موافقاً لما جاء عن النبي ﷺ.

قول ابن كثير –رحمه الله: "وأن يجعل لها جؤجؤاً أزوراً" الجؤجؤ هو صدر السفينة، الذي يشق البحر، ومعنى أزور: يعني مائل.

وقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ [سورة هود:38] أي: يهزءون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق.

قوله: سَخِرُواْ مِنْهُ قال بعض أهل العلم أنهم كانوا يقولون له: كنت نبياً وصرت نجاراً، وقال بعضهم أنهم سخروا منه لأنه كان يصنع السفينة بعيداً عن البحر، فقالوا له ما الفائدة من صنع هذه السفينة في هذا المكان؟

وقال بعض العلماء: أنهم سخروا منه لكونهم أول مرة يشاهدون السفينة.

قوله: إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [سورة هود:38] الآية، وعيد شديد وتهديد أكيد، مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ [سورة هود:39] أي: يهينه في الدنيا، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [سورة هود:39] أي: دائم مستمر أبداً.

قال: إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا، السخرية: بمعنى الاستهزاء، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ، يحتمل أن تكون السخرية في وقت نزول العذاب بهم، ويحتمل أن تكون في الآخرة، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- وكأنه اعتبر قوله -تبارك وتعالى- في الآية التي بعدها: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [سورة هود:39].

والعذاب المقيم هو الدائم المستمر، وهو عذاب الآخرة، ولا شك أن أهل الإيمان يسخرون من الكافرين في الآخرة، كما قال الله : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [سورة المطففين:34]. 

مواد ذات صلة