بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة هود:9- 11].
يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة -إلا من رحم الله من عباده المؤمنين- أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل، وكفر وجحود لماضي الحال كأنه لم يرَ خيراً ولم يرجُ بعد ذلك فرجاً، وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي أي: يقول: ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ أي: فرح بما في يده بطر، فخور على غيره.
قال الله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أي: على الشدائد والمكاره، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: في الرخاء والعافية، أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي: بما يصيبهم من الضراء، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ بما أسلفوه في زمن الرخاء، كما جاء في الحديث: والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه[1].
وفي الصحيح: والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن[2]؛ ولهذا قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر:1-3]، وقال تعالى: إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [سورة المعارج:19]، الآيات.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ [سورة هود:9]، اللام هي الموطئة للقسم، والإذاقة تدل على أن أدنى ما يحصل للإنسان من ذلك يؤثر عليه، والإنسان جنس يشمل، أو يصدق على الإنسان من حيث هو ولا يختص ذلك بالكافر.
ومن أهل العلم من قال: المقصود به الإنسان الكافر؛ لأن الله قال: إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ، ثم إن الله استثنى الذين صبروا وعملوا الصالحات، فقال: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة هود:11].
قوله -تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [سورة هود:10] المقصود بالفرَح في هذه الآية الفرَح المذموم كما قال المشفقون الناصحون لقارون: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سورة القصص:76]، وكما في قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [سورة الإسراء:37] وهذا الفرَح هو الذي يحمل صاحبه على الأشر والبطر والتعالي في الأرض.
قوله: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة هود:11]، ”أي: على الشدائد والمكاره“، ولا يختص الصبر بالصبر على الشدائد والمكاره فقط، بل الصبر على طاعة الله داخل في معنى هذه الآية؛ لأن الإنسان إذا أصابه الغنى فإن ذلك يحمله غالباً على ترك الطاعة وفعل المعصية، ولهذا تكلم العلماء في الغنيّ الشاكر هل أفضل أو الفقير الصابر؟ والواقع أن هذه المسألة بهذا العرض فيها شيء من اللبس؛ لأن الغنيّ يحتاج إلى الصبر ولربما يحتاج إلى أكثر من صبر الفقير.
قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، [سورة هود:12-14].
يقول تعالى مسلياً لرسوله ﷺ عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول ﷺ كما أخبر تعالى عنهم في قوله: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا [سورة الفرقان:7، 8].
فأمر الله تعالى رسوله -صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدرُه، ولا يصدنّه ذلك ولا يثنينَّه عن دعائهم إلى الله آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [سورة الحجر:97] الآية، وقال هاهنا: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ [سورة هود:12] أي: لقولهم ذلك، فإنما أنت نذير، ولك أسوة بإخوانك من الرسل قبلك فإنهم كُذبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله .
قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [سورة هود:12] ضائق اسم فاعل وهو يدل على أن هذا الضيق عارض وحادث، وقد فرق بعض أهل العلم بين التعبير باسم الفاعل وبين التعبير بالصفة المشبَّهة مثل ضيّق، فالصفة المشبَّهة تدل على اللزوم، واسم الفاعل يدل على العروض والحدوث، فهذا الضيق الذي يحصل للنبي ﷺ هو ضيق عارض بسبب التكذيب، تكذيب قومه، فيضيق صدره بسبب ذلك، وهذا يختلف عن قوله -تبارك وتعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125]، فلكون الضيق ملازماً للإنسان البعيد عن الله –تبارك وتعالى-ولا يفارقه عبر عنه بـضَيِّقًا، وأما الضيق العارض فعبر عنه بـضَائِق، وهذا من سعة اللغة العربية ودقتها، وأفانينها، فتجد اللفظة الواحدة يعبر بها مع اختلاف يسير في الحروف وتدل على معانٍ دقيقة في كل استعمال.
وتأمل قول الله –تبارك وتعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورة الحـج:2] فهناك فرق بين مرضعة ومرضع، فالمرضعة هي التي تقوم عملياً بالإرضاع وتباشر إرضاع طفلها، والمرضع هي من كانت صفتها الإرضاع، فلم يقل الله : تذهل كل مرضع؛ لأن المرأة قد تذهل عن ولدها لأمر ما كأن تكون بعيدة عنه، ولا تذهل عن ولدها وهي تقوم بإرضاعه إلا لأمر عظيم؛ لأن أعظم حالات مشاعر الأمومة عند المرأة -وتفيض من جميع جسدها وقلبها يمتلئ بذلك- في حال الإرضاع.
ومعنى قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، أي: هل أنت تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك مخافة أن يقولوا كذا وكذا؟
قوله –تبارك وتعالى: أَن يَقُولُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أي: كراهة أن يقولوا، أو مخافة أن يقولوا، ولَوْلا للتحضيض بمعنى هلا.
ثم بيّن تعالى إعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور مثله، ولا بسورة من مثله؛ لأن كلام الرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء، تعالى وتقدّس وتنزه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
ثم قال تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ [سورة هود:14] فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن هذا الكلام منزل من عند الله، متضمن علمه وأمره ونهيه، وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة هود:14].
قوله –تبارك وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، ”أم“ بمعنى بل والهمزة، والمعنى بل أيقولون افتراه؟ هذا هو التحدي الأوسط فيما يتصل بالقرآن، فقد تحداهم الله –تبارك وتعالى- أن يأتوا بكتاب مثل القرآن فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.
قوله: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ [سورة هود:14] الضمير في قوله: يَسْتَجِيبُواْ يرجع إلى الكفار، وقوله لَكُمْ يحتمل أن يكون المراد بذلك النبي ﷺ وجاء بصيغة الجمع على سبيل التفخيم والتعظيم له ﷺ لأن الكلام كان مع النبي ﷺ في قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [سورة هود:12]، والعرب قد تخاطب الواحد خطاب الجماعة، ويحتمل أن يكون المقصود هو النبي ﷺ ومن معه من أهل الإيمان؛ لأنهم تبع للنبي ﷺ.
ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله: يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ للكفار والضمير في قوله: يَسْتَجِيبُواْ يرجع إلى الاسم الموصول في قوله: وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ [سورة هود:13]، أي: هؤلاء الذين تدعونهم ليأتوكم بمثل هذا القرآن ويعينوكم عليه أيها الكفار، إن لم يستجيبوا لكم فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ [سورة هود:14]، أي: أن نزوله متلبس بعلم الله، وهذا الذي قاله ابن جرير، ولعل الأقرب -والله أعلم- أن الخطاب للنبي ﷺ ولأهل الإيمان.
قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود:15، 16].
قال العوفي عن ابن عباس -ا- في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا، يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا صومًا أو صلاة أو تهجدًا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى: أوفّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله للتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين.
وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد.
وقال أنس بن مالك والحسن: نزلت في اليهود والنصارى.
وقال مجاهد وغيره: نزلت في أهل الرياء.
وقال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته وطليبته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاءً، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة، وقال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [سورة الإسراء:18-21]، وقال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20].
قوله –تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود:15، 16].
اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية، فحملها بعضهم على الكفار؛ لأن الإنسان لا يخلوا من إرادة للحياة الدنيا وزينتها وقد قال عن أهل بدر وهم خيار أهل الأرض: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [سورة الأنفال:67]
ومن أهل العلم من حملها على أهل الرياء؛ ولهذا لما حدّث معاوية بن أبي سفيان بحديث أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة فبكى معاوية بكاءً شديدًا، حتى ظنوا أنه هلك من شدة البكاء، ثم أفاق ومسح عن وجهه وقال صدق الله ورسوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [سورة هود:15][3].
فحملها معاوية على أهل الرياء، ولا يعنى هذا أن أعمال أهل الرياء تحبط جميعًا، بل يعذبون على قدر معصيتهم، أو تكون لهم حسنات ماحية، ولا يخلدون في النار إلا إذا وقع الرياء في أصل الإيمان.
ومن أهل العلم من قال: معنى هذه الآية من كانت الدنيا غايته وطلبته ومنتهى مناه، فإنه لا يعمل إلا من أجلها، فمن أجلها يقوم، ومن أجلها يقعد، ومن أجلها يعطي ومن أجلها يمنع، فهذا ليس له في الآخرة إلا النار، ولهذا جاء في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله: باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وذكر الآية.
وقوله –تبارك وتعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [سورة هود:15]، يعني: من كان يريد الحياة الدنيا تُوفّ كاملة إليه ولا يبخس منها شيئًا، وهذه الآية كقوله: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20].
ومثل قوله: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا [سورة آل عمران:145]، وهذه الآيات مطلقة ورد تقييدها في سورة الإسراء: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [سورة الإسراء:18]، ولذلك أكثر الخلق ليس لهم همٌ إلا الدنيا وهم فقراء.
(مسألة)
من الكتب التي تعتني بالجوانب البلاغية كتاب التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، وهو من أحسن الكتب في هذا الباب، ومن أراد الاطلاع على بعض الجوانب البلاغية في القرآن فليرجع إلى أشرطة للدكتور السامرائي ففيها نماذج كثيرة من البلاغة القرآنية.
- رواه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرضى (5 / 2137)، برقم (5318)، ولفظه: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
- رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (4 / 2295)، برقم (2999)، ولفظه: قال رسول الله ﷺ: عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.
- رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة (4 / 591)، برقم (2382)، وصححه الألباني.