الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية 23 إلى قوله تعالى: {إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ} الآية 31.
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 2675
مرات الإستماع: 2373

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سورة هود:23، 24].

لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنّى بذكر السعداء، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فآمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولاً وفعلاً من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات، وبهذا ورثوا الجنات، المشتملة على الغرف العاليات، والسرر المصفوفات، والقطوف الدانيات، والفرش المرتفعات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والمآكل المشتهيات، والمشارب المستلذات، والنظر إلى خالق الأرض والسماوات، وهم في ذلك خالدون لا يموتون ولا يهرمون، ولا يمرضون ولا ينامون، ولا يتغوطون، ولا يبصقون، ولا يتمخطون، إن هو إلا رشح مسكٍ يعرقون.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ذكر الإخبات مع الإيمان والعمل الصالح، والإخبات من جملة الأعمال الصالحة؛ لأنه لا يخلو من أن يكون عملاً يتصل بالقلب أو يتصل بالجوارح، وفُسر الإخبات بالإنابة، وفسر بالخضوع، وفسره كثيرون بالخشوع، وفُسر بالسكون، وهي معانٍ متقاربة.

وبعضهم قال: هو بمعنى الخشوع والطمأنينة، جمعاً بين الأقوال، وكبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- يفسره بالخشوع والتواضع، وهو قريب من الذي قبله، ومن أهل العلم من يرجع معانيه إلى التواضع والسكون كالحافظ ابن القيم -رحمه الله.

وهذه المعاني لا منافاة بينها، فالمُخبِت يكون خاشعاً متواضعاً مطمئناً ساكناً، وعُدَّي بـ "إلى"؛ لأن قوله: وَأَخْبَتُوا فعل ضُمن معنى فعل آخر يصح تعديته بهذا الحرف وهو "إلى"، وتضمين الفعل معنى الفعل أبلغ من القول بتضمين الحرف معنى الحرف، فـ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ يكون قد ضمن معنى التواضع والطمأنينة، وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ يعني سكنوا إلى ربهم، أنابوا إلى ربهم، تواضعوا إلى ربهم، والله أعلم.

ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين فقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ أي: الذين وصفهم أولاً بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، فأولئك كالأعمى والأصم، وهؤلاء كالبصير والسميع، فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا والآخرة، لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه، أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به، وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ [سورة الأنفال:23] الآية، وأما المؤمن ففطِنٌ ذكي لبيب بصير بالحق، يميّز بينه وبين الباطل، فيتبع الخير ويترك الشر، سميع للحجة يفرق بينها وبين الشبهة، فلا يروج عليه باطل، فهل يستوي هذا وهذا أفلا تذكرون؟ أفلا تعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء؟ كما قال في الآية الأخرى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة الحشر:20]، وكقوله: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۝ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ۝ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ۝ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ۝ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ۝ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر:19- 24].

ذكر الله أربع أوصاف، كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ وهذه الأوصاف ترجع إلى طائفتين لا إلى أربع طوائف، وذلك أن الواو عاطفة عطفت صفة على صفة لموصوف واحد، فالفريق الأول وهم الكفار كالأعمى والأصم، والصفات قد تتابع إما بالعطف بالواو أو بإسقاطها ويكون الموصوف واحداً، كقوله -تبارك وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [سورة الأعلى:1، 2]، ولم يذكر الواو، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:3] جاء بالواو فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3، 4]، وقول الشاعر:

هو الملك القرن وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

كل هذا يرجع إلى موصوف واحد، والأمثلة على هذا كثيرة جداً في كلام الله وفي كلام العرب.

كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ هذا مثل لطائفة واحدة، وإذا كان موصوفاً بالصمم فمعنى ذلك أنه موصوف بأنه أبكم؛ لأن الإنسان إذا كان لا يسمع منذ نشأته وولادته فإنه لا يمكن أن يتكلم، فالصُّم هؤلاء ليس بألسنتهم علة، وإنما العلة في أسماعهم، ولذلك إذا كان الصغير فيه بطءٌ في الكلام فإن أول ما يلتفت إليه هو السمع، فقد يكون سمعه ضعيفاً فلا يصل إليه كثير من الكلام الذي يقوله المتكلمون عنده، فيتأخر في الكلام، وإذا كان لا يسمع بالكلية فعندئذ لا يمكن أن يتكلم، فهذا الإنسان الذي لا يبصر ولا يتكلم ولا يسمع شيئاً كيف يكون تعلمه؟

 والله امتن على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، فالسمع والبصر ميزابان يصبان في القلب، هذا في عالم المشاهدات، وهذا في عالم الأصوات والمسموعات، إنما المعارف ترجع إلى هذا وهذا، يعني الإنسان إما أن يقرأ شيئاً أو يراه أو يشاهده أو يسمعه -وإن كان السمع أكثر من البصر- لكن إما يكون تحصيله من جهة السمع وإما من جهة البصر، فهذا لا سمع ولا بصر، فكيف يرى دلائل عظمة الله ، وكيف يسمع آياته؟

لا يمكن أن يحصل له شيء من ذلك، فهؤلاء بهذه المنزلة، الذين لا يفقهون عن الله ، ويعرضون عن آياته، هذا هو الصمم والعمى الحقيقي، وهو أعظم وأشد ممن ابتلاه الله بحاسته، وقد يكون مؤمناً تقياً أعظم إيماناً وتُقىً من كثير من المبصرين الذي أعطاهم الله آلة السمع وآلة البصر، كما هو مشاهد، فهنا هذه الوصفان الأولان لفريق الكفار، كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ، أعمى عن رؤية الحق ودلائله، وبراهينه، وآياته المشهودة الدالة على وحدانية الله ، وأصم لا يسمع الآيات، ولا ينتفع بها، والفريق الآخر البصير والسميع.

هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً، والمقصود بالمثل الصفة؛ لأن المثل يأتي لمعانٍ متعددة منها الصفة كما في هذا الآية، وكما في قوله تعالى: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [سورة الرعد:35] أي: صفة الجنة، وهو أحد الأقوال أيضاً في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] أي: صفتهم، والله أعلم.   

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ۝ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ۝ فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [سورة هود:25-27].

يخبر تعالى عن نوح ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله؛ فلهذا قال: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ.

وقوله: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ أي: إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذاباً أليماً موجعاً شاقاً في الدار الآخرة.

قول الله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ الإرسال مضمن معنى القول، أي: أنه أرسله إليهم فقال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، ومعلوم أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بالبشارة والنذارة، فهو يبشر المؤمنين وينذر الكافرين، وهذا كثير في القرآن، واقتصر على الإنذار لأنه يمكن أن يكون من باب الاكتفاء، اكتفى بذكر أحد القبيلين أو الطرفين؛ ليدل بذلك على الآخر، كقوله -تبارك وتعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] أي: والبرد، وكقوله -تبارك وتعالى- في أحد الأقوال في تفسير الآية: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] أي: وإن لم تنفع، فذكر أشرف الاحتمالين، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ.

ويمكن أن يكون ذكر الإنذار هنا باعتبار أن هؤلاء في غاية المكابرة، والإعراض، والجحود فهو ينذرهم، كما قال النبي ﷺ: أنا النذير العريان[1]، فاقتصر على هذا، فتارة يحسن الإنذار وتارة التبشير وتارة الجمع بين هذا وهذا، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ۝ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ، فهذا بدل من قوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ۝ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ، وقيل غير ذلك، وأما قوله: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فـ(إن) هنا تفيد التعليل، فهو يأمرهم وينهاهم خوفاً عليهم وشفقة من أن يمسهم عذاب الله -تبارك وتعالى.

فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: والملأ هم السادة والكبراء من الكافرين منهم.

الملأ هنا من الكافرين، وإلا فالملأ لا يلزم أن يكونوا كفاراً، فالملأ هم الأشراف والكبراء، وغالباً ما يكون هؤلاء هم أعداء الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا أي: لست بملَك ولكنك بشر، فكيف أُوحي إليك من دوننا.

هذه الآية كقوله: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [سورة المؤمنون:47] في موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام، وقوله: أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94]، وقوله: قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً [سورة فصلت:14]، والآيات في هذا كثيرة، فهم يتعجبون ويستنكفون أن يكون الله -تبارك وتعالى- قد بعث بشراً، فرد الله عليهم في مواضع من كتابه فقال: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20]، وأخبر عن الذين بعثهم أنهم رجال يوحي إليهم، وكذلك أخبر أن الناس لا يطيقون مشاهدة الملَك فقال: قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ [سورة الإسراء:95]؛ لأن الناس إن رأوا الملَك لم يستطيعوا الأخذ عنه، لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً، وقال الله : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً [سورة الأنعام:9]؛ أي: لأجل أن يستطيعوا التلقي عنه، فالله أعلم وأحكم، وليس لأحد أن يقترح على الله -تبارك وتعالى.

ثم مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا كالباعة والحاكة وأشباههم، ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك.

هذا كقوله -تبارك وتعالى- في قصة نوح -عليه الصلاة والسلام: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء:111]، فهم يستنكفون ويقولون: هؤلاء الأراذل هم الذين اتبعوك، وهؤلاء في مؤخرة الناس، وفي حاشيتهم، ليس لهم شأن ولا قيمة، فكيف سبقوا إلى هذا الذي جئت به، لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11]، فنحن أهل العقول والنظر البعيد والتقدم في كل خير وفضيلة، فكيف يسبق إليك هؤلاء الأعبُد والبسطاء والأراذل الحقراء ويكون الذي جئت به هو الحق؟ يظنون أن المقاييس في اتباع الحق ومعرفته هي بما يملكه الإنسان من أموال، وما يتنعم به في هذه الحياة الدنيا، لكن الأمر عند الله يختلف عن هذا، وهذا الاستنكاف وقع في قوم نوح، ووقع أيضاً للذين بُعث فيهم النبي -ﷺ، وقالوا له: أبْعِد عنا، واطرد عنا هؤلاء النتْنى.

ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تروٍّ منهم ولا فكر ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك؛ ولهذا قالوا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ.

ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في اتبعك هؤلاء الأراذل بَادِي الرَّأْيِ أي: من غير تعمق ولا نظر ولا روية ولا فكر، وإنما دعوتهم إلى شيء فهرولوا خلفك، ليس عندهم عمق في النظر والتقصي والتفكير، والتمييز بين معدن الحق ومعدن الباطل؛ ولذلك اتهموهم ولمزوهم في بعض الآيات، ويدل عليه أنهم إنما اتبعوه لأشياء يريدونها فقط، ليأكلوا عنده طعاماً أو يجدوا عنده شيئاً من متاع الدنيا، ولم يكونوا مخلصين صادقين في اتباعهم لهذا النبي -عليه الصلاة والسلام، هكذا في زعمهم؛ ولهذا يأتي الرد عليهم بأنه لا يعلم ما في نفوسهم، وأن حسابهم إلى الله -تبارك وتعالى، طبعاً ويحتمل أن يكون المراد بقول: بَادِي الرَّأْيِ أي: فيما يبدو لنا من النظر والرأي وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا أي: فيما يبدو لنا، فهم ليسوا بهذا المستوى من الأدب والتواضع حتى يتكلموا بهذه الطريقة.

بَادِي الرَّأْيِ أي: في أول بادئ الرأي، وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ يقولون: ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلْق ولا خُلُق ولا رزق ولا حال لمّا دخلتم في دينكم هذا، بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ أي: فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها، هذا اعتراض الكافرين على نوح وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعارٍ على الحق رذالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل، بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء.

قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلْق ولا خُلُق ولا رزق ولا حال، لمّا دخلتم في دينكم هذا"، أي: ما رأيناكم تميزتم حينما دخلتم في هذا الدين، ويمكن أن يكون المعنى: أنه ما المؤهل لكم أن تتقدموا بهذا الفضل فتحصل لك النبوة والرسالة وأنت بشر لا نراك تتميز علينا، ولا نرى لهؤلاء الذين تزعم أنهم صاروا إلى الحق، لا نرى لهم أي فضل علينا، فهم يخاطبون النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن معه من أهل الإيمان، فيقولون: ليس لكم منقبة ومزية حتى يحصل لكم مثل هذا الأمر الكبير الذي تقولون إنكم عليه، من أنك يوحى إليك، وأن الله اختارك من بين سائر الخلق، وأن هؤلاء الذين اتبعوك لهم المنازل العالية عند الله ، ما نرى شيئاً فضلكم علينا، لمّا دخلتم في الإيمان ما رأينا شيئاً حصل، بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ أنتم تقولون على الله هذا ولكن لا حقيقة له.

ثم الواقع غالباً أن ما يتبع الحقَّ ضعفاءُ الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ [سورة الزخرف:23].

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي ﷺ قال في ما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.

وقولهم: بَادِي الرَّأْيِ ليس بمذمة ولا عيب؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق، والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء، بل لا يفكر هاهنا إلا غبي أو عيِيٌّ، والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعون- إنما جاءوا بأمر جلي واضح.

وقوله: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ، هم لا يرون ذلك؛ لأنهم عميٌ عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، وفي ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون، وهم في الآخرة هم الأخسرون.

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ [سورة هود:28].

يقول تعالى مخبراً عما رد به نوح على قومه في ذلك: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي: على يقين وأمر جلي ونبوة صادقة، وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي: خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرها، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، أَنُلْزِمُكُمُوهَا أي: نغصبكم بقبولها وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.

هذا التفسير الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو من أحسن ما قيل في معنى الآية، وهو بمعنى قول ابن جرير -رحمه الله: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ قال: أي على يقين وأمر جلي ونبوة صادقة، أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ، ما هي البينة؟ وَآتَانِي رَحْمَةً، ما هذه الرحمة؟ فمن أهل العلم من يقول: البينة: هي النبوة، والرحمة أيضاً هي النبوة، كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي: أن الله أوحى إليّ وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بهذا الإيحاء، والنبوة، ومن أهل العلم من يقول: كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي: على أمر جلي بيّن واضح لا لبس فيه ولا خفاء، على يقين، وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هذه الرحمة هي النبوة، وهذا المعنى هو الأقرب إلى السياق -والله تعالى أعلم.

وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ۝ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سورة هود:29، 30].

يقول لقومه: لا أَسْأَلُكُمْ على نصحي لكم مَالاً: أجرة آخذها منكم، إنما أبتغي الأجر من الله ، وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا.

فقوله: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً يعني: لا آخذ عليه عرضاً من الدنيا، شيئاً من المال، أجرة أتقاضها منكم في سبيل هذا البلاغ والتعليم والدعوة إلى الله والنصح، وهذا كثير في القرآن كقوله -تبارك وتعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سورة سبأ:47]، وكقوله: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [سورة ص:86]، وهكذا في قوله: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [سورة الفرقان:55]، قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:90]، يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة هود:51] إلى غير ذلك من الآيات، وذلك أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يعلمون الناس ولا يأخذون على ذلك شيئاً.

فيؤخذ من هذه الآية ونظائرها أن الإنسان ينبغي له أن يدعو إلى الله ولا يأخذ في مقابل دعوته لهم شيئاً من الأجر، ويوجد في بعض البلاد الأعجمية في كل مسجد صندوق للدعوة، تقوم عليه لجنة من المسجد لشئون المسجد، فيؤتى أحياناً ببعض الدعاة ممن يرتاحون له؛ لأنه يذكر لهم بعض الأشياء الطريفة أو القصص أو الحكايات وما أشبه ذلك، فيجلس معهم ساعة أو نحو ساعة بأكثر من ألفي دولار، مع أنها بلاد فقيرة جداً، متوسط دخل الإنسان فيها ما يصل إلى ثلاثمائة ريال.

وللأسف الشديد ابتلينا بشيء من هذا فتجد الدرس الواحد أو المحاضرة تباع بأربعمائة ألف ريال، وربما يذهب الواحد مع حملة بمائة ألف، ومثل هذا المفروض أنه لا يقع مهما تأول الناس في هذه الأشياء، ومن فعل ذلك فثقوا تماماً أن الكلمات تخرج ميتة من فمه، ويذهب النور الذي على كلامه، ولا ينتفع الناس بما يقول إطلاقاً.

أيضاً من أراد أن يعلم الناس القرآن لا يأخذ على تعليمه أجراً، والعلماء تكلموا على هذه المسألة هل يجوز له أن يشترط أو لا يشترط؟ إلا من اضطر فالضرورات لها أحكامها، حتى لا يتعطل التعليم، بخلاف ما يعطاه من بيت مال المسلمين إذا كان قد انقطع لهذا وتفرغ له، فإن هذا يختلف عن الأجرة، أما أن يشارط الناس ويقول: لا أُعلّم إلا بكذا العلوم الشرعية، أو لا أعلّم القرآن إلا بكذا، فالمفروض أن تبذل مجاناً، ومثل هذا ينبغي للإنسان أن يترفع عنه.

وقد قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله: "قوله تعالى: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالاً في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجاناً من غير أخذ أجرة في مقابله، وبيّن في آيات كثيرة أن ذلك هو شأن الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه، كقوله في سبأ عن نبينا ﷺ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ الآية

وقوله فيه أيضاً في آخر ص: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وقوله: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ [سورة الطور:40، وسورة القلم:46]، وقوله في الفرقان: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، وقوله في الأنعام: قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ.

وقوله عن هود في سورة هود: يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي الآية، وقوله في الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:109]، وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في يس: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۝ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا[سورة يــس:20، 21] الآية.

وقد بيّنا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [سورة الشورى:23]، في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سورة سبأ :47].

ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً من غير أخذ عوض عن ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام، ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه، فمن ذلك ما رواه ابن ماجه والبيهقي والروياني في مسنده عن أبيّ بن كعب قال: علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً، فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار، فرددتها[2]، قال البيهقي وابن عبد البر في هذا الحديث: هو منقطع، أي بين عطية الكلاعي وأبيّ بن كعب -، وكذلك قال المزي، وتعقبه ابن حجر: بأن عطية ولد في زمن النبي ﷺ، وأعله ابن القطان بأن راويه عن عطية المذكور هو عبد الرحمن بن سلم وهو مجهول، وقال فيه ابن حجر في التقريب: شامي مجهول، وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وله طرق عن أبيّ -، قال ابن القطان: لا يثبت منها شيء، قال الحافظ: وفي ما قاله نظر. وذكر المزي في الأطراف له طرقاً منها: أن الذي أقرأه أبيّ هو الطفيل بن عمرو، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال: أقرأني أبيّ بن كعب القرآن فأهديت له قوساً، فغدا إلى النبي ﷺ وقد تقلدها، فقال النبي ﷺ: تقلدها من جهنم[3] الحديث.

وقال الشوكاني أيضاً: وفي الباب عن معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبيّ، وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضاً، ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجه عن عبادة بن الصامت قال: علّمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إليّ رجل منهم قوساً فقلت: ليس بمالٍ، أرمي بها في سبيل الله ، لآتين رسول الله ﷺ فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله أهدى إليّ رجل قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، أرمي عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها[4]، وفي إسناده المغيرة بن زياد الموصلي، قال الشوكاني: وثّقه وكيع ويحيى بن معين، وتكلم فيه جماعة، وقال الإمام أحمد: ضعيف الحديث حدّث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر، وقال أبو زرعة الرازي: لا يحتج بحديثه، وقال فيه ابن حجر في التقريب: المغيرة بن زياد البجلي أبو هشام أو هاشم الموصلي صدوق له أوهام، وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق أخرى ليس فيها المغيرة المذكور، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا: حدثنا بقية حدثني بشر بن عبد الله بن بشار، قال عمرو: وحدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ ﷺ فقال: جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها[5]. انتهى منه بلفظه، وفي سند هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة ووثقة آخرون إذا روى عن الثقات، وهو من رجال مسلم، وأخرج له البخاري تعليقاً، وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، والظاهر أن أعدل الأقوال فيه أنه إن صرح بالسماع عن الثقات فلا بأس به، مع أن حديثه هذا معتضد بما تقدم، وبما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين -ا- عن النبي ﷺ أنه قال: اقرءوا القرآن واسألوا الله به، فإنّ مِن بعدكم قوماً يقرءون القرآن يسألون به الناس، قال الترمذي في هذا الحديث: ليس إسناده بذلك[6].

وكل الأحاديث الواردة في هذا لا تخلو من مقال؛ ولهذا ذكر عامة أهل العلم أن ما أخذه الإنسان من غير استشراف نفس فلا إشكال فيه، وإنما الإشكال في الاشتراط، ومسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ألف فيها بعض أهل العلم رسائل مستقلة، وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه يجوز ذلك للمصلحة، يعني مصلحة التعليم وإذا كان الإنسان منقطعاً لهذا الغرض، ولا يجد بداً من هذا، والعلماء -رحمهم الله- حتى الذين منعوا كالحنفية وتشددوا في هذا، المتأخرون منهم لانوا في هذه المسألة، فلا ينبغي للإنسان أن يشترط هذا، فإن أعطي وكان محتاجاً أخذ، وإن كان مستغنياً فلا يأخذ، حتى في تعليم الحديث ونحو ذلك، وقد تكلم بعض أهل العلم ولمز من كان لا يحدّث إلا بمقابل؛ لفقره.

وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، كأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه احتشاماً ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتم الرسل ﷺ أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء، ويجلس معهم مجلساً خاصاً، فأنزل الله تعالى: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الأنعام:52] الآية.

وقال في قصة نوح -عليه الصلاة والسلام: إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ۝ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:113، 114]، يقولون: إن هؤلاء غير صادقين في اتباعهم لك وإيمانهم، وإنما يريدون شيئاً من عرض الدنيا، على أحد الأقوال في تفسيرها، فهو يقول: حسابهم على الله -تبارك وتعالى، وليس ذلك إليّ، هذا هو المشهور.

ومن أهل العلم كابن القيم -رحمه الله- من يقول: إن المقصود بقوله في هذه الآية: اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ [سورة هود:31] أن المراد أنه أعلم بهؤلاء أنهم أهل لقبول الحق واتباعه؛ لما فيهم من التجرد، بخلاف هؤلاء من أصحاب الرئاسات فهم يحسبون حسابات طويلة لما يفوتهم بسبب اتباع الحق من ذهاب رئاساتهم وأموالهم. 

وللشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني -رحمه الله- في كتاب التنكيل كلام نفيس، في القسم الأخير منه الذي أفرد بكتاب مستقل سمي بالقائد إلى تصحيح العقائد، ذكر جملة من الأمور التي يردّ الإنسان بها الحق، فذكر من ذلك، قال: ومنهم من له في الباطل شهرة ومعيشة، فهو لا يريد أن تذهب عنه هذه الشهرة والأضواء والنجومية، ويصير في النهاية آخر الناس، كان مغنياً مهرجاً ممثلاً مخرجاً فناناً لاعباً، فإذا تاب وصلح حاله واستقام، تبقى المؤهلات الحقيقة، ماذا عنده من العلم والعمل، متخرج من رابع ابتدائي، فيبقى في المحل الطبيعي فهو يحسب حساباته، من أين يأتيه الدخل والأموال والملايين، والسيارات والهدايا والعطايا، من أين تأتيه، وهو ربما ما يصلح يوزع إعلانات، ما عنده شيء، لا يحسن القراءة.

وقد سمعت أحدهم يتكلم وهو مغضب على تلامذته يقول: تربينا مع الكلاب، يعني يقول: نحن عصاميون، نحن الذين بنينا أنفسنا بأنفسنا حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وهو لاعب، يقول: وصلنا إلى هذا المجد بجهد ومجاهدة وصبر، نشأنا مع الكلاب، ولا يعرف وجه الفخر، فمن الناس من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة فيرد الحق بسبب هذا، فهؤلاء من أصحاب الرئاسات والملأ رأوا أنهم إذا اتبعوا الحق سيستوون مع هؤلاء الضعفاء، وتذهب عنهم الأموال والرئاسات؛ ولذلك تجد كبار شيوخ الطرق الصوفية الذين سخّروا الناس في إقطاعاتهم أو في مصالحهم أو يأخذون منهم أموالاً، وهكذا شيوخ الطوائف كالرافضة وغيرهم، يأخذون من الخمس ونحو هذا، هذا إذا اتبع الحق ستذهب هذه الأشياء كلها، وقد لا يجد له وظيفة بألفين وخمسمائة ريال، تذهب كل هذه الأشياء، بعدما كان عالماً معمماً، إذا رجع إلى الحق سيبقى من أجهل الناس في دين الله ، يحتاج يتعلم الحروف الهجائية، ويقرأ القرآن ويحفظ، ويتعلم الأربعين النووية، ويتعلم الأحاديث والمتون، يبدأ من الصفر، فهو ما عنده استعداد.

وقال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [سورة الأنعام:53] الآيات.

وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ [سورة هود:31].

يخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، بإذن الله له في ذلك، ولا يسألهم على ذلك أجراً، بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع، فمن استجاب له فقد نجا، ويخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن الله، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وليس هو بملَك من الملائكة، بل هو بشر مرسل مؤيد بالمعجزات، ولا أقول عن هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ، فإن كانوا مؤمنين باطناً كما هو الظاهر من حالهم فلهم جزاءً الحسنى، ولو قطع لهم أحد بشرٍّ بعدما آمنوا لكان ظالماً قائلاً ما لا علم له به.

قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ، هل المراد أن هؤلاء يقصدون أنهم غير صادقين، فالله يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ أو أن المقصود أن الله أعلم بما في أنفسهم ولذلك هداهم للحق، وفي قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ، استدل به من قال: إن الملائكة أفضل من البشر، وهي مسألة لا طائل تحتها، ولا ينبغي التشاغل بمثل هذه القضية، ولا يترتب على ذلك عمل، والذين قالوا: إن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة احتجوا بحجج كقوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة البقرة:34] إلى آخر ما ذكر الله من خبر آدم وتعليمه، وإقرار الملائكة لآدم بذلك، وهذه المسألة لا يترتب عليها عمل، لكن أشرت إليها؛ لأن هذا الموضع هو الذي يذكر فيه العلماء مثل هذه المسألة غالباً.

فائدة:

الرقية أمرها يختلف عن التعليم، فالرقية من باب الطب، وليست فيما نحن بصدده من التعليم للقرآن أو الدعوة إلى الله ، هي من باب الطب؛ ولذلك تجري أحكام الطب فيها، فيقال: الأصل في باب الرقية الإباحة ما لم تشتمل على محرم، فكل ما دلت التجربة على صحته في باب الرقية من تخصيص بعض الآيات لبعض الأشياء، إذا دلت التجربة على هذا فلا إشكال فيه، فهي من باب الطب، لكن الذين قالوا بالجواز وأطلقوا احتجوا بما ورد في الحديث من قوله ﷺ: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله[7]، والشاهد أنه لم يشترط عليهم في رقية الرجل، مع أن هذا لا يبرر ولا يعني بحال من الأحوال أن ينقطع الإنسان للرقية ويفتح عيادة في بيته، ويتوارد إليه الناس، ويكون طريقاً للتكسب بهذا الأسلوب الذي للأسف نراه اليوم، ويحصل فيه كثير من المخالفات، فمثل هذا لا يحسن أن يفعله الإنسان، فرق بين هذا وبين إنسان يرقي نفسه أو يرقي من حوله، أو طلب منه إنسان بصفة خاصة فرقاه أو نحو ذلك، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. رواه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري برقم (6117)، كتاب الرقائق، باب الانتهاء عن المعاصي، ومسلم برقم (2283)، كتاب الفضائل، باب شفقته ﷺ على أمته.
  2. رواه ابن ماجه برقم (2158)، كتاب التجارات، باب الأجر على تعليم القرآن، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5/316)، برقم (1493).
  3. رواه الطبراني في الأوسط (1/139)، برقم (439)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: "عبد الله بن سليمان بن عمير ولم أجد من ترجمه ولا أظنه أدرك الطفيل" (4/111)، برقم (6446).
  4. رواه أبو داود برقم (3416)، كتاب البيوع، باب في كسب المعلم، وابن ماجه برقم (2157)، كتاب التجارات، باب الأجر على تعليم القرآن، والحاكم في المستدرك (2/48)، برقم (2277)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2915).
  5. رواه أبو داود برقم (3417)، كتاب البيوع، باب في كسب المعلم، وأحمد في المسند (37/426)، برقم (22766)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2916).
  6. رواه الترمذي برقم (2917)، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر، وأحمد في المسند (33/146) برقم (19917)، وقال محققوه: إسناده حسن لغيره، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6467).
  7. رواه البخاري برقم (5405)، كتاب الطب، باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم.

مواد ذات صلة