الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} الآية 17 إلى قوله تعالى: {هُمُ الأَخْسَرُونَ} الآية 22.
تاريخ النشر: ١٦ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 2834
مرات الإستماع: 2196

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة هود:17].

يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [سورة الروم:30] الآية.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟[1]، الحديث.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله ﷺ قال: يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، فالمؤمن باق على هذه الفطرة[2].

قوله: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ [سورة هود:17] أي: وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة، المختتمة بشريعة محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها، ولهذا قال تعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ [سورة هود:17] وهو القرآن بلغه جبريل إلى النبي ﷺ وبلغه النبي ﷺ إلى أمته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ [سورة هود:17]، الذي هو على بينة من ربه هو من كان على الفطرة، والشاهد هو الوحي وهو القرآن والمراد بقوله: عَلَى بَيِّنَةٍ أي: أن الله أودع في هذا الإنسان الفطرة، فاجتمع نور الفطرة مع نور القرآن، فأبصر الحق، ولم يلتبس عليه.

وقوله: وَيَتْلُوهُ أي: يعقبه نور الوحي.

وقال بعض أهل العلم في قوله –تبارك وتعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ هو طالب الآخرة، وبعضهم فسر هذه الآية بمعنى أخص، فقال: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ هو النبي ﷺ، وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ هو جبريل ﷺ.

وقال بعض أهل العلم: الضمير في يَتْلُوهُ راجع إلى البينة، والضمير في مِّنْهُ راجع إلى القرآن، وقال بعضهم: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ أي: شاهد من الله، وقال بعضهم: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ أي: من الإنجيل، وذلك أن عيسى بشر بالنبي ﷺ وقد قال النبي ﷺ: أنا دعوة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وبشارة عيسى[3]، والآية تحتمل جميع هذه الأقوال.

ثم قال تعالى: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى [سورة هود:17]، أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة.

وبعض أهل العلم قال في معنى قوله: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى: يعني: ومن قبله شاهد آخر وهو كتاب موسى يشهد بصحة نبوته -عليه الصلاة والسلام.

وفي قول الله –تبارك وتعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ [سورة هود:17]، مقدر وهو: خيرٌ أم ذلك الذي على ضلالة وكفر وإعراض وتخرص وجهل، وقول على الله بلا علم؟

قوله: إَمَامًا وَرَحْمَةً [سورة هود:17] أي: أنزله الله تعالى إلى تلك الأمة إماماً لهم، وقدوة يقتدون بها، ورحمة من الله بهم، فمن آمن بها حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن؛ ولهذا قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة هود:17]، ثم قال متوعداً لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17]، أي: ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركهم وكافرهم، وأهل الكتاب وغيرهم من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم ممن بلغه القرآن، كما قال تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [سورة الأنعام:19]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158]، وقال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17].

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ قال: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[4].

وقال أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن النبي ﷺ على وجهه إلا وجدت مصداقه -أو قال: تصديقه- في القرآن، فبلغني أن النبي ﷺ قال: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار، فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ قال: وقلما سمعت عن رسول الله ﷺ إلا وجدت له تصديقاً في القرآن، حتى وجدت هذه الآية: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، قال: من الملل كلها[5].

وقوله: فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ [سورة هود:17] الآية، أي القرآن حق من الله لا مرية ولا شك فيه، كما قال تعالى: الم ۝ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [سورة السجدة:1، 2]، وقال تعالى: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:1، 2]، وقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة هود:17]، كقوله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116]، وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة سبأ:20].

قوله: فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ [سورة هود:17] سبق الكلام على هذه المسألة، وقال بعض أهل العلم: هذا الخطاب لأمته ﷺ.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ۝ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ۝ أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۝ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ [سورة هود:18-22].

يبيّن تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الخلائق من الملائكة والرسل والأنبياء وسائر البشر والجان، كما روى الإمام أحمد عن صفوان بن محرِّز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل قال: كيف سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعته يقول: إن الله  يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ[6]. أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين.

قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وقوله: أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ، الأشهاد هم جميع الخلائق من الملائكة والرسل والأنبياء وسائر البشر، والمعنى أن من كذب على الله سيفتضح في يوم القيامة، وتقول جميع الخلائق: هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ.

ومن أهل العلم من فسر الأشهاد بالرسل -عليهم الصلاة والسلام، ومنهم من فسرهم بالملائكة، ومنهم من قال: الحفظة من الملائكة، يحفظون أعمال الناس ويشهدون عليهم بذلك، ومنهم من قال: الأشهاد يشمل الملائكة والرسل، وقال بعضهم: هذا يصدق على الملائكة والرسل والعلماء، فهؤلاء يشهدون على الناس، والله يقول: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء [سورة الزمر:69]، والله يقول لنبيه ﷺ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [سورة النساء:41].

فلا شك أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يشهدون على أقوامهم، والملائكة الذين يتعاقبون في الناس، والذين يكتبون الأعمال من جملة الشهداء، والله يقول: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، وقال: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ۝ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ۝ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ [سورة ق:23-25].

قوله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة هود:18] يحتمل أن يكون هذا القول من الأشهاد، ويكون الكلام من الموصول لفظاً ومعنى، ويحتمل أن يكون هذا القول من الله –تبارك وتعالى- والأقرب -والله أعلم- أنه من كلام الأشهاد؛ لأن الأصل في الكلام أن يكون متصلاً لفظاً ومعنى.

وقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا [سورة هود:19] أي: يردون الناس عن اتباع الحق وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله ويجنبونهم الجنة، وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أي: ويريدون أن يكون طريقهم عوجاً غير معتدلة، وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [سورة هود:19]، أي: جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء [سورة هود:20]، أي: بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة، إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [سورة إبراهيم:42]، وفي الصحيحين: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته[7].

قوله -تبارك وتعالى: وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، أي: يريدون أن يكون طريقهم عوجاً غير معتدلة، والضمير في يَبْغُونَهَا يرجع إلى السبيل، وهذه الآية بعموم لفظها تصدق على كل من صد عن سبيل الله ومن ضلل الناس بكتاباته، وضاق ذرعاً بشرائع الإسلام فلبّس على الناس، وشككهم في دينهم، وضللهم وأغراهم بالفساد والشر والمنكر، ودعا المرأة إلى التمرد والاختلاط ومزاحمة الرجال، ونزع الحجاب، واستهزأ بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وجمعيات التحفيظ، والحفظة لكتاب الله، والدعاة إلى الله -تبارك وتعالى.

ولهذا قال تعالى: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ [سورة هود:20] الآية، أي: يضاعف عليهم العذاب، وذلك أن الله تعالى جعل لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم، بل كانوا صماً عن سماع الحق، عمياً عن اتباعه، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار، كقوله: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة الملك:10]، وقال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [سورة النحل:88] الآية، ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه، وعلى كل نهي ارتكبوه.

قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه، وعلى كل نهي ارتكبوه“، هذا باعتبار قول الله : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [سورة المدثر:42-46]، ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة مسألة خلافية بين علماء الأصول.

ولا شك أن أهل النار يتفاوتون في العذاب، وقد قال الله : وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:8].

قوله -تبارك وتعالى: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [سورة هود:20] أي: لا يستطيعون السمع؛ لأنهم عُمي عن رؤية الحق، وصم عن سماعه، فلهم سمع لم ينتفعوا به، ولهم بصر لم ينتفعوا به.

ويحتمل أن يكون معنى قوله: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أنهم من شدة عداوتهم للنبي ﷺ لم يكونوا يستطيعون السمع، فلا يتحملون أن يسمعوا كلامه، ولا يطيقون النظر إليه.

قال العلامة الشنقيطي -رحمه الله تعالى: قوله تعالى: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [سورة هود:20] في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه، بعضها يشهد له القرآن:

الأول: وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره، ونقله عن ابن عباس -ا- وقتادة أن معنى مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع، ولا أن يبصروه إبصار مهتدٍ، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى، وقد كانت لهم أسماع وأبصار. ويدل لهذا قوله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [سورة الأحقاف:26] الآية.

الثاني: وهو أظهرها عندي أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة التي جعل على أبصارهم. ويشهد لهذا القول قوله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [سورة الإسراء:46]، ونحو ذلك من الآيات.

وذلك الختم والأكنّة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [سورة النساء:155]، وقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، وقوله: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة:10] الآية، وقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [سورة التوبة:125]، وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.

الثالث: أن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع أي: لشدة كراهيتهم لكلام الرسل، على عادة العرب في قولهم: لا أستطيع أن أسمع كذا، إذا كان شديد الكراهية والبغض له، ويشهد لهذا القول قوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [سورة الحـج:72]، وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ [سورة فصلت:26] الآية، وقوله: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [سورة نوح:7] الآية.

الرابع: أن ”مَا“ مصدرية ظرفية، أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا، أي: يضاعف لهم العذاب دائماً.

الخامس: أن ”ما“ مصدرية في محل نصب بنزع الخافض، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم.

السادس: أن قوله: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [سورة هود:20] من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله، فيكون متصلاً بقوله: وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء [سورة هود:20]، وتكون جملة: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ اعتراضية.

وقوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة هود:21] أي: خسروا أنفسهم لأنهم أُدخلوا ناراً حامية، فهم معذبون فيها لا يفتّر عنهم من عذابها طرفة عين، كما قال تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [سورة الإسراء:97].

وَضَلَّ عَنْهُم أي: ذهب عنهم، مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تُجدِ عنهم شيئاً، بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:6]، وكقوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم، ولهذا قال: لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ [سورة هود:22].

يخبر تعالى عن مآلهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الآخرة؛ لأنهم استبدلوا الدركات عن الدرجات، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم وظل من يحموم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قرب الرحمن ورؤيته بغضب الديّان وعقوبته، فـ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ.

قال الخليل بن أحمد وسيبويه: إن قوله: لاَ جَرَمَ كلمة واحدة بمعنى حقاً، وقال بعض أهل العلم: إن معنى لاَ جَرَمَ، أي: لابد، ولما كثر استعمالها صارت بمعنى حقاً، وبعضهم يقول: لاَ جَرَمَ بمعنى لا منْع، لا صرْف، وصارت تستعمل بمعنى حقاً.

(مسألة)

من الموصول لفظاً والمفصول معنى قول الله –تبارك وتعالى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:81، 82]

وقول الله : قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ [سورة يوسف:51] إلى قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [سورة يوسف:52].

وقوله : قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [سورة النمل:34].

(مسألة)

الفرق بين كلمة الخاسرين والأخسرين أن الأخسر أفعل تفضيل، أي أنه قد بلغ في الخسران غايته وأما الخاسر فليس كذلك، ولهذا جاء بضمير الفصل ”هم“ بين طرفي الكلام في قوله: هُمُ الأَخْسَرُونَ؛ لأن ذلك يفيد تقويته، ودخول ”أل“ يدل على أنهم حققوا الوصف الكامل من الخسارة.

  1. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين (1 / 465)، برقم (1319)، ورواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (4 / 2047)، برقم (2658).
  2. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (4 / 2197)، برقم (2865).
  3. رواه الحاكم في المستدرك (2 / 453)، برقم (3566).
  4. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس (1 / 134)، برقم (153).
  5. رواه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة هود (2 / 372)، برقم (3309).
  6. رواه البخاري، كتاب المظالم، باب قول الله تعالى: أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة هود:18] (2 / 862)، برقم (2309)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (8 / 105)، برقم (7191).
  7. رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة هود (4 / 1726)، برقم (4409)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم (4 / 1997)، برقم (2583).

مواد ذات صلة