بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وقال قتادة: وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ [سورة الرعد:8] أي: بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلًا معلومًا. وفي الحديث الصحيح أن إحدى بنات النبي ﷺ ورضي عنها بعثت إليه أن ابنًا لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره. فبعث إليها يقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب[1]، الحديث بتمامه.
وقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [سورة الرعد:9] أي: يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم، ولا يخفى عليه منه شيء، الْكَبِيرُ الذي هو أكبر من كل شيء، الْمُتَعَالِ أي: على كل شيء، قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا فقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعًا وكرهًا.
سَوَآءٌ مّنْكُمْ مّنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنّهَارِ لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوَءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [سورة الرعد:10، 11].
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء، كقوله: وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [سورة طـه:7]، وقال: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [سورة النمل:25]، قالت عائشة -ا: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ، وأنا في جنب البيت، وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة المجادلة:1].
وقوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي: مختف في قعر بيته في ظلام الليل، وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ أي: ظاهر ماشٍ في بياض النهار وضيائه، فإن كليهما في علم الله على السواء، كقوله تعالى: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ الآية.
وقوله تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة يونس:61].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: سَوَآءٌ مّنْكُمْ مّنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنّهَارِ، فسره بعض السلف بالتصرف في شؤونه، التقلب في أحواله، فالله -تبارك وتعالى- يعلم من القول السر وأخفى، يستوي عنده السر والعلانية في أحوال الناس، وتجلياتهم وخفائهم، واستتارهم عن الأعين، يستوي عنده من يتقلب ظاهرًا أمام الناس منكشفًا، يرونه ويرون فعله وتقلبه، وتصرفه في أحواله وشؤونه جلوة بينهم، كما أنه -تبارك وتعالى- يعلم من هو سارب بالليل، أي: مستخف ومستتر لا تراه العيون، ولا يطلع عليه إلا الله ، فيستوي عنده الغيب والشهادة، والسر والعلانية، فالله يعلم أحوال الإنسان جميعًا، ولا حاجة لتخصيص ذلك كما قال بعضهم: بأن السارب يعني من دخل في السراب، فالمقصود من كان مستخفيًا عن العيون، والله يراه ويطلع عليه، والمقصود من هذا جميعًا أن الإنسان يراقب ربه في حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله، فإن الله يستوي عنده السر والعلانية، هذا هو المعنى.
الضمير في قوله: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ، يرجع إلى المستخف بالليل والسارب بالنهار كما قال ابن جرير -رحمه الله، وفسر المستخف بالليل بالذي يستخفي ويستتر بمعصية الله ، مع أن ظاهر الآية العموم، يستوي عند الله الإنسان في كل أحواله، فهو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وابن جرير -رحمه الله- خصه بالعمل السيئ في الخلوة، فيقول: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ أي: لهذا السارب مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ؛ لأنه فسر المعقبات بالحرس من الآدميين، يعني له حرس وجلاوزة يمنعونه من أن يصل إليه أهل الإيمان فيغيروا عليه ما هو فيه من المنكر والشر والفساد، فيكون المعنى عند أبي جعفر ابن جرير -رحمه الله- هكذا.
وفسرها ابن جرير -رحمه الله- بالأمراء والعظماء الذين يقيمون على معصية الله ويتمنعون بمالهم من الجند، فلا يغير ذلك عليهم، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني: بزعمه، وعلى قوله هذا يكون المعنى مترابط، وفسرها رحمه الله بهذه الطريقة، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ أي: أنهم بزعمه يدفعون عنه أمر الله وقضاؤه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وظاهر الآية العموم، وإذا حملت على هذا يكون لَهُ مُعَقِّبَاتٌ أي: الإنسان، الذي تحدث الله عنه بقوله: سَوَآءٌ مّنْكُمْ أيها الناس، مّنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنّهَارِ، وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ يعني: ظاهر، فيكون المعنى لَهُ مُعَقِّبَاتٌ: جمع معقبة، والمعقبة يقال لمن يحصل بينهم التعاقب، هؤلاء لهم وقت وهؤلاء لهم وقت، كما يقال: هؤلاء لهم نوبة وهؤلاء لهم نوبة، يأتون في أوقات متفاوتة، يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار[2]، فهذه معقبات.
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ أي: الإنسان، مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، فالإنسان جعل الله عليه الحفظة الكاتبين، كما أن الله -تبارك وتعالى- جعل ملائكة يتعاقبون لحفظه، وكل إنسان وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن، فالملك له لمة بالقلب، والشيطان كذلك، فالشيطان يدعوه إلى الشر، والملك يأمره بالخير، وهؤلاء المعقبات يدفعون عنه الآفات، ويدفعون عنه ما قد يقصده الشياطين من إيصال الأذى إليه، فلا تتخطفه الشياطين، ولا يصلون إليه بسوء إلا إذا جاء قدر الله خلي بين العبد.
وقد ذكر بعض السلف بأن الشياطين بالرصد لبني آدم، فلو تركوا معه لتخطفوه وأوصلوا إليه كل أذى، وهذا شيء مشاهد، فكثير من الناس يبتلون بالسحر، ويرقون ويجدد لهم، فما يحصل للإنسان مما يعتبره من المكاره والآفات، من حوادث من أذى يصيبه، فتخطئه هذه الأمور، وينجيه الله من هذه المصائب والبلايا، وذلك بأن قيض الله له معقبات من الملائكة يدفعون عنه، فإذا جاء أمر الله وقضاؤه خلي بين العبد، فوقع به حتى لو كان محافظًا على أذكار الصباح والمساء، فإنه إذا جاء قدر الله فلابد أن يقع، لكن هذا من فعل الأسباب.
فالمقصود لَهُ مُعَقِّبَاتٌ، هي المتناوبات، وهي الملائكة، جمع معقبة، وجاءت بالتأنيث إما لأن الجماعة من الملائكة يقال لها: معقبة، وتجمع على معقبات في كلام العرب، وإما للمبالغة، لكثرة تعاقبها، مثل التاء في نسابة، وعلامة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم.
ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلًا، حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون[3].
وروى الإمام أحمد -رحمه الله- عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يارسول الله؟ قال: وإياي، ولكن الله أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير[4]، انفرد بإخراجه مسلم.
وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ "حافظان وكاتبان" إلى آخره، ما يذكره السلف من عبارات فهي والله تعالى أعلم ترجع إلى معنى قوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ أي: فلا يصل إليه ما يكره، وهذا يأتي من المعاني التي ذكرها أهل العلم، يتأتى هذا على قول ابن جرير: أي في زعمه هو، ووهمه وظنه، وذلك إذا فسرت المعقبات بالجند والحرس، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ، يحوطونه ويظن أنه بهذه الحماية يسلم من قدر الله، وما أراد الله إيقاعه به، ولا يصل إليه أهل الإيمان بالتغيير والإنكار.
والمعنى الثاني مما يتمشى مع تفسيرها بأنهم يحفظونه من أمر الله فلا يصل إليه ما يكره أنهم يحفظونه من أمر الله إذا عصى، كما قال بعض السلف: بالاستمهال والاستغفار، فلا يعاجل بالعقوبة، يستغفرون له، يطلبون المغفرة، لعله يراجع لعله يتوب، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ أي: من عقابه.
فحفظهم حاصل وناشئ من أمر الله وليس من عند أنفسهم، أن الله وكلهم بذلك، فالعبارات التي يقولها السلف: يحفظونه عن أمر الله، أو يحفظونه، يعني فسروا مِنْ أَمْرِ اللّهِ بعن أمر الله، يعني أن حفظهم نتج عن أمر الله لهم بحفظه، هم منفذون منقادون لأمر الله -تبارك وتعالى، فوكلهم بذلك، وهم لا يعصون الله ما أمرهم، أو يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ أي: بأمر الله؛ لأن حروف الجر تتناوب، فحفظهم واقع بأمر الله لهم بحفظه.
وقول من قال: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ أي: من أجل أمر الله، يرجع لنفس المعنى، فالله أمرهم بحفظه فهم يقومون بذلك، وليس حفظهم من عند أنفسهم وإنما أن الله تعالى قد وكلهم بذلك، فهو ناشئ عن أمر الله أو بأمر الله أو من أمر الله أو من أجل أمر الله، كل هذا يرجع إلى معنىً واحد، وهو الأقرب -والله تعالى.
- رواه البخاري من حديث أسامة بن زيد ا برقم (6942)، كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]، ومسلم برقم (923)، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت.
- رواه البخاري من حديث أبي هريرة برقم (530)، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، ومسلم برقم (632)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.
- رواه البخاري من حديث أبي هريرة برقم (530)، وبرقم (3051)، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، ومسلم برقم (632)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، ولفظهما: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون.
- رواه مسلم برقم (2814)، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا، وأحمد في المسند (6/351)، برقم (3802)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.