بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [سورة الرعد:15].
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه، الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً على الكافرين، وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ أي: البكور، وَالآصَالِ: وهو جمع أصيل، وهو آخر النهار، كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ [سورة النحل(48] الآية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، السجود في هذه الآية اختلف العلماء هل المراد به وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سورة النحل:49]، "ما" هذه للعموم، ولم يستثني ولم يذكر ما يدل على تبعيض أو تخصيص، وإنما قال: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، و"من" هذه للعموم، و"ما" تكون لغير العاقل
وقوله: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ تغليباً لغير العقلاء على العقلاء؛ لأن غيرهم يكون تبعاً لهم، أو لأنهم الأشرف، ومن أهل العلم من استشكل سجود الكفار، هل هم داخلون في هذا العموم، وما المراد بقوله: طَوْعاً وَكَرْهاً؟ فالمؤمن يسجد طوعاً هذا لا إشكال فيه، لكن من الذي يسجد كرهاً؟
قال بعض أهل العلم: إن العموم في قوله: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، على عمومه، وبعضهم يقول: مخصوص، والأدق من هذا أن يقال: أن هذا عام مراد به الخصوص، فمن قال: إنه عام مخصوص قال: إن الذي يخصصه أو يبيّن أنه مخصص في هذه الآية: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، لكن في الآية الأخرى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ [سورة الحـج: 18]، إلى أن قال: وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [سورة الحـج: 18]، ذكر سجود الشمس والقمر والدواب ثم قال في الناس ولم يعمم: وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ، ومعلوم أن لفظة كثير ليست من ألفاظ العموم، فمن أهل العلم من قال: إن هذا العموم في هذه الآية مخصص، خصصه قوله: وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ.
ويمكن أن يقال: إنه عام مراد به الخصوص، وهذه الآية بيّنت ذلك، وقوله -تبارك وتعالى: طَوْعاً وَكَرْهاً، والكفار لا يسجدون لله السجود المعروف؛ لأن السجود معناه في اللغة الخضوع، ومعناه الشرعي: وضع الجبهة على الأرض، هذا في أجلى صوره وحالاته، ويطلق على الركوع كما في قوله -تبارك وتعالى: ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة: 58]، فليس المقصود أنهم يدخلون وجباههم على الأرض، وإنما يدخلون في حال الإنحاء والركوع تواضعاً لله وشكراً وخضوعاً.
فالشاهد: هذه الآية بهذا العموم الظاهر من أهل العلم من فسر السجود فيها بالمعنى اللغوي، قالوا: السجود وَلِلّهِ يَسْجُدُ أي: يخضع؛ ليدخل الكفار في ذلك، فالكل خاضع لعظمته -تبارك وتعالى، فأمر الله نافذ في الجميع، وهم تحت سلطانه وقهره، فالكافر يجري عليه أمر الله -تبارك وتعالى- وقدره لا يستطيع أن يخرج من ذلك طرفة عين، فهذا هو السجود بمعناه اللغوي، الجميع يخضع لعظمته ، وإنما ألجأ إلى هذا القول، يعني التفسير بالمعنى اللغوي هو كيف يسجد الكافر والآية ظاهرها العموم؟
فإما أن نقول: هذا العموم غير مراد، فيخرج منه الكافر، ونحمل السجود على المعنى الشرعي في الأصل، فيما يكون سجوده وضع الجبهة على الأرض، ولكل سجود يليق به، فالشجر لها سجود والدواب كذلك فلكل شيء سجود يليق به، وسجود المؤمنين بوضع الجبهة على الأرض، فإما أن نقول: بأن هذا العموم غير مراد؛ لأن الكافر لا يسجد، ونكون فسرنا السجود بالمعنى الشرعي.
وإما أن نقول: بأن هذه الآية على ظاهرها في العموم، وأن المقصود بالسجود الخضوع، وهذا تفسير بالمعنى اللغوي.
والقاعدة المعروفة: أن الألفاظ الشرعية تحمل على المعنى الشرعي أولاً، فإن لم يوجد فالعرف في عرف المخاطبين، في زمن نزول القرآن، فإن لم يوجد فاللغوي، فإذا فسرنا السجود بالخضوع فهذا خلاف القاعدة، فمن فسر السجود بأنه الخضوع قال: إن أهل الإيمان يخضعون لأمر الله طواعية وينقادون، وأما الكفار فيجري عليهم قضاؤه وقدره، وإن كانوا يكرهون ذلك، أو لا يخضعون طواعية لربهم وخالقهم ، فأمر الله جارٍ فيهم، "كرهاً".
ومن أهل العلم من فسر "كرهاً" قال: بأن أهل الإيمان يسجدون طواعية، والذين يسجدون كرهاً هم أهل النفاق، فهم كفار في الباطن، فهم يسجدون وهم يكرهون السجود؛ من أجل أن لا يقام حكم الله فيهم، فهم ما دخلوا في الإسلام ظاهراً إلا من أجل حقن دمائهم وإحراز أموالهم، فهم يسجدون ويكرهون.
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً على الكافرين"، فهذا مجمل، وكأنه في أوله يشير إلى أن المقصود به بالخضوع، فخضوع المؤمن يزيد على خضوع الكفار بأنه طواعية، ومن خضوع المؤمن وضع الجبهة على الأرض في السجود، وأما الكافر فهو وإن كان لا يسجد السجود الحقيقي، ولكن أمر الله واقع عليه وقدره نافذ فيه، فهو خاضع لأمر الله -تبارك وتعالى.
قال: وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، أي: أن ظلالهم تسجد تبعاً لهم، فإذا سجد الإنسان سجد ظله معه، وخص الغدو والآصال؛ لأن الظل يكون فيها أطول ويظهر، مثلاً في وقت الظهر فإنه بعد الزوال يكون الظل قليلاً، لا يظهر إذا سجد الإنسان كما يكون في العصر وفي أول النهار أيضاً.
ومن أهل العلم من يقول: وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ قال: لا يبعد أن الله يعطي الظل إدراكاً يليق به، فالظل يسجد، وليس المقصود أنه يسجد تبعاً للساجد، على القول الأول أنه تبع، الظل يتبع صاحبه فإذا سجد سجد الظل، على القول الثاني لا، أن المراد أن الظل يسجد، سواء كان الإنسان يسجد لله أو لا يسجد، والله أخبر عن هذا، يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ [سورة النحل: 48]، فانتقال الظل من ناحية إلى ناحية هذا سجودها، فكل شيء يسجد لجلاله وعظمته -تبارك وتعالى، وإنما الذي يبقى لا يسجد السجود الشرعي المعروف هو الكافر، وإلا فالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب كل ذلك يسجد لله ، وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ.
وقوله -تبارك وتعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ هذه أشهر الأقوال في معناها، ومن أهل العلم من فسره بتفسير أبعد من هذا قليلاً، قال: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، قالوا: بأن المقصود أن السجود حق لله ووجب، وَلِلّهِ يَسْجُدُ يعني: ولله يجب أن يسجد مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وفسرها بعضهم بدخول الكافر في الإسلام بالسيف، من الناس من يقاد إلى الجنة بالسلاسل، فقد يدخل بعض الناس الإسلام في البداية خوفاً من القتل، ثم بعد ذلك يستقر الإيمان في قلبه، ويحسن إسلامه، فيدخل الجنة، وهذا المعنى فيه بعد، والله تعالى أعلم.
وقوله: بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ الغدو: أول النهار، والآصال: بعد العصر، وأصدق ما يقع عليه لفظ الأصيل، آصال جمع أُصُل، وهو ما يكون بعد اصفرار الشمس، يعني الأصل في الأصيل يطلق على ما بعد العصر، وأصدق ما يصدق عليه هذا اللفظ هو بعد الاصفرار، إذا اصفرت الشمس.
وقفت فيها أصيلالاً أسائلها | عيت جواباً وما بالربع من أحد |
فهذا هو الأصيل الذي يكون وقت ذبول الشمس، وهو أحسن وقت للذكر، والله تعالى أعلم.
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة الرعد:16].
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو؛ لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السموات والأرض، وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم، وأولئك الآلهة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعاً ولا ضراً، أي لا تحصّل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة، فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله، ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه؟ ولهذا قال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [سورة الرعد:16]، أي: أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره، أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يشابهه شيء، ولا يماثله، ولا ند له، ولا عدل له، ولا وزير له، ولا ولد ولا صاحبة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له، عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
وكما أخبر تعالى عنهم في قوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فأنكر تعالى عليهم ذلك حيث اعتقدوا ذلك، وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سورة سبأ:23]، وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ [سورة النجم:26] الآية، وقال إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم:93-95]، فإذا كان الجميع عبيداً، فلم يعبد بعضهم بعضاً بلا دليل ولا برهان، بل مجرد الرأي والاختراع والابتداع، ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم، تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله، فكذبوهم وخالفوهم، فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف:49].
قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ، فـ "أم" هذه هي المنقطعة، وهي هنا بمعنى "بل" والهمزة، فيكون معنى قوله: أَمْ جَعَلُوا بل أجعلوا، فهي منقطعة بمعنى "بل" والهمزة.
أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ [سورة الرعد:17].
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أي: مطراً.
فقال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أي: مطراً، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا أي: أخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدره، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علماً كثيراً، ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها.
هذه الجملة التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ضرورية في فهم المثل، فبعض أهل العلم يقول: إن عامة الأمثال في القرآن حينما تفسر فإنه ينظر إليها باعتبار المثل بكليته، لا بالنظر إلى أجزائه، فالمثل المركب الذي فيه قضايا متعددة، إذا أردت أن تتبع كل جملة منه وتركبها على معنى فيما يقابله أو فيما ضرب له فإن هذا قد يشكل في بعض المواضع، وبعض أهل العلم يقول: هذا غير مراد، وما يفهم من عموم هذا التركيب فهو المراد بالمثل.
ومن أهل العلم من يفسر ذلك بأجزائه، فتقع الإشكالات والخلاف، مثل قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [سورة البقرة: 17]، إذا فسر تفسيراً مجملاً يقال: هذا مثل ضربه الله لهؤلاء، بأنه من استضاء بشيء ثم بعد ذلك انطفأ هذا النور وذهب، فهذا حال هؤلاء الناس، وإذا فسر كل هذا يقال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ السين والتاء للطلب اسْتَوْقَدَ فكأنهم استعاروها من غيرهم، هؤلاء أهل النفاق، فهم ليسوا على الإيمان حقيقة، استعاروا ذلك من غيرهم، استمدوه، وإلا ما هو نابع من قلوبهم، ادعوه، تظاهروا به، اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ، هذه النار اسْتَوْقَدَ نَاراً فاستمتع بها في التدفئة والإضاءة، وهذا حال هؤلاء الكفار حينما أظهروا الإيمان انتفعوا به انتفاعاً مؤقتاً حقنوا الدماء، وأحرزوا الأموال، قال بعده: ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ، ذهب النور والضياء فبقوا في ظلمة وهي ظلمة الكفر، وبقي من النار بعدما ذهب الضوء أو النور، بقيت الحرارة والإحراق.
ويقول الله بأنه: أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً هذا الماء الذي أنزله أي: المطر يقابل الوحي، فهو غيث للقلوب كما أن المطر غيث للأرض، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا كما أن المطر تسيل به الأودية في الأرض، كل وادٍ بحسبه من الصغر والكبر، فكذا القلوب وما تستوعبه من العلم بما أنزل الله ، هي كالأودية، كما وصف أصحاب النبي ﷺ، وصفهم بعض من أدركهم من التابعين، أدركت أصحاب محمد ﷺ كالإخاذ، الإخاذ يسع العشرة، والإخاذ يسع، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لوسعهم، من أهل العلم من يفسره بما ينتفع به الإنسان من هذا الوحي، إيمان، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، فأبو بكر إيمانه يوزن بإيمان الأمة، وفسر بالعلم وتفاوت الناس في العلم بما أنزل الله، وبما يحصل لهم من الانتفاع به، فتفاوتوا في الاستفادة من هذا الوحي الذي أنزله الله -تبارك وتعالى.
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً، فالسيل الذي سالت به الأودية يحمل معه من الزبد والأشياء التي تعلوه من رغوة أو ما يحمله السيل معه زَبَداً رّابِياً أي: مرتفعاً، فهكذا الوحي إذا نزل غسل القلوب وحك ما فيها وأزال ما فيها من الشبه والشكوك، فتذهب وتضمحل وتتلاشى، إذا جاءت شمس النبوة والرسالة تبددت الظلمات والأوهام والتصورات الفاسدة، فهذا المثل الأول.
فهذه الطريقة التي يفسر فيها المثل بأجزائه، كل جزء يركب على جزء مما يقابله مما ضرب له المثل، وهذه الطريقة فيها صعوبة وفيها إشكال، والعلماء لا يتفقون على التفسير فيها، يعني إذا فسروا بهذه الطريقة اختلفوا، ما المقصود بالزبد الرابي، وما المقصود بالماء الذي أنزله من السماء مثلاً، أو ما المقصود بالأودية، وإذا فسر تفسيراً إجمالياً فإن ذلك يكون أوضح في المعنى.
وهكذا المثل الثاني، هذا يسمونه المثل المائي، والآخر المثل الناري، وفي البقرة مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً هذا المثل الناري، والثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء [سورة البقرة: 19] هذا المثل المائي، فقال: وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ، فهذا المثل الناري، وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ طلب حلية أو متاع، الحلية من الذهب والفضة، أَوْ مَتَاعٍ من الحديد والنحاس والمعادن الأخرى، يصنع منه قدراً أو آلة أو ملعقة أو سكيناً أو نحو ذلك، زَبَدٌ مّثْلُهُ يعلوه كذلك، فهذا المعدن إذا عرض على النار تحركت الشوائب التي بداخله؛ لأنه حينما يكون عنصراً في الأرض يخالطه الشوائب، فإذا عرض على النار تحركت هذه الشوائب فيه كما تتحرك الشكوك والأوهام إذا نزل الوحي، فتنجلي وتزول وتضمحل فكذلك هذه الشوائب التي في هذا المعدن تذهب وتتلاشى، ويبقى خالصه، فالمثل يفسره بعض أهل العلم بهذا المعنى أو بهذه الطريقة.
قوله: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً يمكن أن يفسر على العموم بأن ذلك ما تبدده شمس النبوة، وما يزيله الوحي بأنواره الكاشفة، من جميع الأباطيل التي يتشبث بها الناس من عبادة غير الله كعبادة الأصنام والأوثان والجن، وكذلك ما عندهم من التصورات الفاسدة عن الكون والحياة، بعيداً عن الوحي، والاستضاءة به، وألوان الجهالات التي يعيشون عليها، سواءً في أوضاعهم الاجتماعية، أو في علاقتهم بربهم -تبارك وتعالى، أو غير ذلك من الأباطيل التي يعيشون عليها، ويقتاتون عليها، فإذا أشرقت شمس الرسالة بددت هذه الظلمات جميعاً وانجلت.
ولهذا يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله: بأن السحر يكثر إذا تلاشت أنوار الرسالة والنبوة، فإذا سطعت في مكان تلاشت هذه الأباطيل، فالسحر إنما يعشش ويكثر إذا صار في ضمور في الدعوة، والاستضاءة بنور الوحي، والأماكن التي يحصل فيها الوعي والعلم، تتبدد كل الأباطيل والأوهام، وهذا مشاهد في البلدان التي انتشر فيها علم الكتاب والسنة والعقيدة الصحيحة من غيرها.
هذه القراءة يُوقِدُونَ هي قراءة حمزة والكسائي وحفص من السبعة، وقرأ الباقون بالتاء تُوقِدُونَ عَلَيْهِ، وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ.
وقوله: "أي ليجعل حلية نحاس أو حديد" الصحيح أنها: ليجعل حلية أو نحاساً أو حديداً.
قوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، يقال: جفأ الوادي بمعنى ألقى، جفأ غثاءً بمعنى ألقى الغثاء، فيضمحل ويتلاشى مع جريان الماء فيعلق بأطرافه ونواحيه بالشجر والحجر ويبقى ما ينفع الناس، والترهات والأباطيل وبنيات الطريق، كل ذلك يذهب، وهذا عام في كل ما لا ينفع، فالعلوم الفلسفية والعلوم الكلامية التي اشتغل الناس بها وقتاً طويلاً اندرست وذهبت وبقي قال الله، قال رسوله ﷺ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً فالزبد وإن كان ظاهراً على الماء، فهو كعلو الدخان، كما ابن القيم -رحمه الله:
فإذا اجتمعت الخصوم وصيحوا | فاثبت فصيحتهم كمثل دخان |
يرقى إلى الأرج الرفيع وبعده | يهوي إلى قعر الحضيض الدان |
فالذي يستقر ويثبت هو الماء الذي تحت الزبد، ما ينفع الناس يمكث في الأرض، والزبد لا ينتفع به الإنسان ولا الحيوان مع أنه يعلو الماء، وهكذا كل اشتغال يشتغل به الإنسان بألوان الأباطيل، فهو مهما كان مبهرجاً فإن العبرة بالحقائق، وما عدى ذلك فإنه سرعان ما يضمحل ويزول، ومهما حاول أهل الباطل أن يزينوا باطلهم فإن ذلك يتلاشى، والذي يبقى هو الحق، والحق أحق أن يتبع، وكم حاول أهل الباطل إخماد الحق وطمس معالمه، ولكن باطلهم هو الذي يذهب والحق يبقى، وانظر ما جرى على الإسلام منذ بعث الله محمداً ﷺ، ابن القيم -رحمه الله- يقول:
والله لولا الله حافظ دينه | لتهدمت منه قوى الأركان |
الحافظ ابن كثيررحمه الله فسر قوله تبارك وتعالى: فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا بالعلم، وابن عباس -ا- فسره باليقين والإيمان، وهذا كله حق.
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ: وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وقد ضرب في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين: نارياً ومائياً، وهما قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [سورة البقرة: 17] الآية، ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة: 19] الآية، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين (أحدهما) قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [سورة النور: 39] الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحر؛ ولهذا جاء في الصحيحين: فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون؟ فيقولون: أي ربنا عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون؟ فيردون النار فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضاً. ثم قال تعالى في المثل الآخر: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [سورة النور: 40] الآية.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ قال: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا، ورعوا، وسقوا، وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى، إِنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»[1]، فهذا مثل مائي.
وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ـ قال ـ: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار، فتغلبوني فتقتحمون فيها»[2]. وأخرجاه في الصحيحين أيضاً، فهذا مثل ناري.
قوله تبارك وتعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ عام في كل شيء في الكتب المؤلفة والأفكار والمعتقدات وغيرها، ومن نظر إلى الكتب والحواشي التي كتبت في التفسير أكثرها لم تطبع أين ذهبت واضمحلت، وانظر إلى تفسير ابن كثير مثلاً كم من الناس انتفعوا به وكم طبعات طبع، وتفسير ابن جرير -رحمه الله، ما ينفع الناس يبقى، وكل شيء سيأخذ حجمه الحقيقي حتى الناس والأشخاص، فرب شخص ينتفش في وقت من الأوقات وفي النهاية يأخذ حجمه الحقيقي، ومهما ينبهر الناس بكتاب في وقت من الأوقات ويتناقله الناس ويعكفون عليه وبعد مدة يأخذ حجمه الحقيقي، ومثل هذا في الطوائف، فالمعتزلة حكموا في أيام الدولة العباسية وأرادوا حمل الناس على مذهبهم الباطل وفعلوا كل ما يستطيعون، ومن أسروه من المسلمين لا يتركونه حتى يمتحن في مسألة القرآن، ومات كثير من العلماء وهم في القيود، ثم اضمحلت المعتزلة.
وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يوصي ابنه عبد الله، ويقول له: إياك وبنيات الطريق، بنيات الطريق هذه الزوابع التي يجدها حيناً بعد حين، ينشغل بها بعض صغار النفوس، ولا يكون له هم التشمير عن ساعد الجد في أمور تضره ولا تنفعه في القيل والقال، والكلام في الناس، والوقيعة في أعراضهم، وتوزيع التهم عليهم، وما أشبه هذا.
وللإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- كلاماً جيداً فقال: "قد ذكر الله المثلين المائي والناري في سورة الرعد ولكن في حق المؤمنين فقال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ شبه الوحي لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علما عظيماً كوادٍ كبير يسع ماء كثيراً، وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها، وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتملت غثاءً وزبداً فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطاً فتكرب بها شاربه، وهي من تمام نفع الدواء فانه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يشاركها وهكذا: يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ.
ثم ذكر المثل الناري فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطّرح ويذهب جفاء فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يسقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره، ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يدرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما، والله الموفق"[3].
وقال -رحمه الله تعالى: " شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي انزله من السماء؛ لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ثم شبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علما كثيراً كواد عظيم يسع ماء كثيراً، وقلب صغير إنما يسع علماً قليلاً كواد صغير إنما يسع ماء قليلاً، فقال: فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً هذا مثل ضربه الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته، فإنه يستخرج منها زبد الشبهات الباطلة، فيطفو على وجه القلب كما يستخرج السيل من الوادي زبداً يعلو فوق الماء، وأخبر سبحانه أنه رابٍ يطفو ويعلو على الماء لا يستقر في أرض الوادي كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطغت فلا تستقر فيه بل تجفى وترمى فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من الهدى ودين الحق، كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاءً، وما يعقل عن الله أمثاله إلا العالمون.
ثم ضرب سبحانه لذلك مثلاً آخر فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ يعني: أن مما يوقد عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه وهو الزبد الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها فإنه يقذف ويلقى به ويستقر الجوهر الخالص وحده، وضرب سبحانه مثلاً بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة، ومثلاً بالنار لما فيها من الإضاءة والإشراق والإحراق، فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الأرض بالماء، وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كما تحرق النار ما تلقى فيها، وتميز جيدها من زبدها كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه، فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العبر والعلم، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت: 43]"[4].
فائدة:
يحمي الإنسان نفسه من الإنجراف من الفتن والزوابع والأمور التي قد تصرفه عن الحق بأمرين اثنين لا بد منهما، وإن وجد أحدهما دون الآخر فإن الإنسان على خطر وهما:
الأمر الأول: التحقق بالعلم، بحيث يكون على بصيرة تنجلي له الشبهات، لا تنطلي عليه الأباطيل.
الأمر الثاني: أن يكون مخلصاً، ذا نية صالحة.
فالإنسان الذي ينجرف في هذه الفتن والشبهات والزوابع إما إنسان قل علمه فاتبع الباطل عن جهل يظنه حقاً، وإن كان له نية صالحة، فيوجد من أتباع الطوائف من قد يكون له نية في التقرب إلى الله تبارك وتعالى وعبادته وما أشبه ذلك، وإذا وجد عنده علم لكن نيته فيها خلل فإنه يُخشى عليه أن يتبع الباطل، فربما يجد في نفسه شيئاً فيبحث له عن مخارج في الشريعة كما جاء في بعض الآثار بأنه يبتدع لهم أشياء من أجل يتبع، والأمثلة في التأريخ كثير، والله أخبر عن أقوام أنهم أضلهم فقال: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [سورة الجاثية: 23] أضله على علم لها معنيين:
الأول: أضله على علم أي: منه من الله باستحقاقه للضلال.
والثاني: أي على علم منه هو، أي: لم يكن ضلاله عن جهل، فاليهود ضلوا عن علم؛ لفساد القصد عندهم حسداً، وأبو طالب لم يكن يخفى عليه حال النبي ﷺ ولكن خشي أن يعير، فهذا لفساد القصد، وكبراء المشركين الذين تكلموا بما يدل على أنهم يعرفون أنه رسول الله ﷺ، فلا بد للإنسان من علم صحيح وقصد صحيح فإذا اجتمع هذا مع هذا فهو طريق السلامة المحققة بإذن الله مع كثرة الدعاء والابتهال إلى الله يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
وقد يجتمع في الإنسان فساد القصد ونقص العلم، كما هو الواقع عند الصوفية، مرة سألت أحد الصوفية عن قول صاحب البردة: "ومن علومك علم اللوح والقلم"، "من" للتبعيض فيكون المعنى أن من علوم النبي ﷺ علم اللوح والقلم، فما بقي لله تبارك وتعالى؟ وهذا كفر بالله تبارك وتعالى، والله تبارك وتعالى يقول: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [سورة النساء:65]، وقوله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النــور:51]، فنتحاكم إلى الكتاب والسنة، أريد دليلا على هذا الكلام حتى اعتقده!
فقال: النبي ﷺ لما عرج به إلى السماء أعطي حلاوة في السماء السابعة، فلما ذاقها وأكلها انجلى له ما بين العرش إلى الأرض السفلى.
فهذه أكذوبة عظيمة على أمر عظيم لا وجود لها في كتب السنة على الإطلاق، لا صحيحة ولا ضعيفة، فألجم وسكت ثم ذهب.
- رواه البخاري برقم (79)، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، ومسلم برقم (2282)، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي ﷺ من الهدى والعلم.
- رواه البخاري برقم (6118)، كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، ومسلم برقم (2284)، كتاب الفضائل، باب شفقته ﷺ على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، وأحمد في المسند (13/476)، برقم (8117)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/178)، والأمثال في القرآن الكريم (12).
- انظر: مفتاح دار السعادة (2/61).