بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
"فصل: واختلف في معنى السورة ممَا هي مشتقة، فقيل من الإبانة والارتفاع.
قال النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة | ترى كل ملك دونها يتذبذب |
تعريف السورة في اللغة:
يقول ابن كثير -رحمه الله- عن السورة: "قيل: من الإبانة والارتفاع" بعض أهل العلم من يرجع الكلمات إلى أصولها، وهي طريقة فذَّة وجيدة في تفسير الألفاظ كالطريقة التي يسلكها أحمد بن فارس -رحمه الله، فعلى طريقته هو يرجع هذه اللفظة إلى العلو والارتفاع، فيقول: كل استعمالات هذه الكلمة تدل على علوٍّ وارتفاع، أو ترجع إلى معنى العلو والارتفاع.
وهنا يقول ابن كثير: "قيل من الإبانة والارتفاع" لو قال: فقيل من الإبانة أو الارتفاع لكانت العبارة أدقَّ؛ لأن القول بأنها من الارتفاع غير القول بأنها من الإبانة، فالقول بأنها من الارتفاع يعني أنها برفعةِ شأنها وجليل قدرها وعلو شأنها قيل لها: سورة، ومنه قول الشاعر يمدح ملكاً:
ألم تر أن الله أعطاك سورة | ترى كل ملكٍ دونها يتذبذب |
وإذا قيل: إنها مأخوذة من الإبانة -وهو المعنى الثاني الذي ذكره هنا- فهي باعتبار أنها منفصلة عن غيرها، الإبانة: بمعنى أنها منفكة عن غيرها، فهي وحدة مستقلة من الآيات، منفصلة عما قبلها وعما بعدها، وهذا كله إذا قلنا: إنها مأخوذة من الإبانة والارتفاع، وعلى كل حال بعضهم يقول غير هذا، كقول من يقول بأنها مأخوذة من الشدة، أو مأخوذة من القوة، كقولك: سَوْرة الأسد، وكقولنا: سَوْرة الغضب، وكقولنا أيضاً: سَوْرة الشراب أي: المسكر –يعني قوة الإسكار وشدته، فبسبب قُوَّتها قيل لها ذلك، لكن هذا فيه بُعد.
وبعضهم يقول: مأخوذة من الجمع كما يقولون: هذا سَورٌ من الإبل، بمعنى جماعة من الإبل، فيقولون: هذه السورة باعتبار أنها مجموعة من الآيات، وأقل السور ثلاث آيات فقيل لها ذلك.
وبعضهم يرجع ذلك إلى معنى الإحاطة، وبعضهم يجمع بين الإحاطة والارتفاع، مثل سور المدينة؛ لارتفاعه ولإحاطته بالبنيان في داخله، فقديماً كانت المدن والقرى لها أسوار تحيط بها، فهذا السور يكون محيطاً بما في داخله من البيوت.
الآن سور البلدان ليس له علاقة بالشرف، وإنما له علاقة بمعنيين هما: الارتفاع والإحاطة، لكن الشرف يتعلق بالعلو والارتفاع، بمعنى: لشرفها، فالشريف رفيع، وهي رفعة معنوية، فهي منزلة كما قال: ألم تر أن الله أعطاك سورةً، يعني منزلةً رفيعة، فقيل لها ذلك بمعنى الارتفاع، أي: لعلو مكانتها ومنزلتها وشرفها، فهذه المعاني تفترق بهذه الطريقة، وبالتالي لا نرجعها إلى سور المدينة بمعنى العلو والشرف، وإنما يكون بمعنى الإحاطة والعلو.
والأمر في هذا سهل؛ إذ لا يوجد أحد تخفى عليه السورة، فالسورة هي التي تعرفون من القرآن، سور طوال، وسور قصار، وسور متوسطة، لا تخفى على أحد.
هذا المعنى بناءً على أنها مهموزة؛ لأن السورة من غير همز (سورة)، وبعضهم يجعلها مهموزة فيقول: (سؤرة) بالهمز، فإذا قلنا: سؤرة فبعضهم يقول: من السؤر وهو البقية، فهي كأنها بقية من القرآن، يعني بعض من القرآن؛ لأن السؤر هو جزء من الشيء، فإذن: هذا المعنى يرجع إلى ما كان بالهمز (سؤرة وليست سورة) إلا على التسهيل.
هذا أحد المعاني اللغوية للسورة، أي: وقيل لها سورة لتمامها وكمالها، وليس المقصود بكلامه هنا أنه بسبب تمامها خففت الهمزة كما قد يُتوهم.
فلو قال قائل: لماذا قيل للسورة سورة؟ يقال: قيل لها سورة لكمالها وتمامها، كما قال هنا: "العرب يسمون الناقة التامة سورة".
يجمع على سُوْرات -بضم السين وسكون الواو- وسُوَرات بضم السين وفتح الواو.
تعريف السورة في الاصطلاح:
السورة في الاصطلاح يذكرون لها معان كثيرة متقاربة، فيمكن أن يقال فيها: إنها قرآن مشتمل على آيات أقلها ثلاث.
وقلنا: ثلاث باعتبار الاستقراء؛ إذ لا دليل عندنا على أن أقلها ثلاث إلا الاستقراء حيث وجدنا أقصر سورة في القرآن هي عبارة عن ثلاث آيات، فأقل السور ثلاث آيات ذات مطلع ومقطع تمثل وحدة مستقلة من القرآن.
معنى ذات مطلع ومقطع:
هذه عبارة نجدها كثيراً في التعريفات، ولكن لا تكاد تجد أحداً يشرحها، بل ما رأيت أحداً شرحها، فأقول: معنى ذات مطلع ومقطع: أي لها بداية ونهاية، مطلع مبتدأ، ومقطع أي يفصلها عن منتهى يحدها ويفصلها عن غيرها.
تعريف الآية في اللغة:
المعنى اللغوي للآية: إما أن تكون من العلامة.
ثم إن قوله: "انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها" هذا تعليل، أي: لماذا سميت الآية علامة بهذا الاعتبار؟ فيقال: قيل لها علامة لأنه يعرف بها المقطع وأنها منفصلة أو قل: إن لها حداً يعرف به حد الآية عما بعدها، وتتميز عما قبلها، فهذا تعليل التعريف الأول للآية لغة، وهذا على أحد المعاني اللغوية لها.
ومن معاني الآية في اللغة: أنها علامة على صدق من جاء بها، أو لكونها علامة على ما تضمنته من الأحكام فهي دالة عليه، فهذا إذا قلنا: إنها من العلامة.
إذن: العبارة إذا أردنا أن ندقق في ضبطها نقول: معنى الآية قيل: من العلامة؛ إما لأنها علامة على انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها، فنعرف بها حدود الآيات والوحدات داخل السورة، فهي علامة يعرف بها ذلك، أي هي بائنةٌ عن أختها ومنفردة، وإما أنها علامة على صدق من جاء بها، أو لكونها علامة على ما تضمنته من الأحكام فهي دالة عليه، أو أن الآية هي كما قال الله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [سورة البقرة:248]، فالآية هنا بمعنى العلامة، والمقصود علامة ملكه.
الآن هذا ما له علاقة بالعلامة، الآن هذا معنى آخر من معاني الآية، فالآية إما من العلامة وهذا هو المعنى الأول الذي ذكرناه، أو أنها آية أي من العجب، بمعنى أن الشيء العجيب يقال له: آية، كما يقال: آية ليس له في الحسن نظير، بمعنى ليس له في الحسن مماثل، وكأن تقول: رأيت إنساناً هو آية في الذكاء، فالمعنى: رأيت إنساناً هو عجب في الذكاء، وهكذا..
هذا الاشتقاق، لكن حتى الآية قيل فيها غير هذا، فقيل: هي بمعنى أنها جماعة من الكلمات، وربما الجمل تمثل هذه الوحدة التي يقال لها آية، وهو معنى معروف أيضاً في كلام العرب، ومنه قول الشاعر وهو برج بن مسفر:
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا | بآيتنا نجزي اللقاح المطافل |
بآيتنا: يعني بجماعتنا، أي: خرجنا بجماعتنا، فممكن أن تكون بمعنى الجماعة.
هذا التصريف للآية، أصلها أيية وهذا هو المشهور.
على كل حال المشهور هو الأول.
المعنى الاصطلاحي للآية والفرق بين الآية والسورة:
معنى الآية في الاصطلاح يمكن أن يقال: إنها قرآنٌ مركب من جمل ولو تقديراً، وبعضهم يقول: أو إلحاقاً،ذو مطلعٍ ومقطع مندرج في سورة.
والفرق بين الآية والسورة أن السورة مجموعة من الآيات، والآية ليست كذلك، فهي قرآن مركب من جمل ولو تقديراً.
والمقصود بقولهم: مركب من جمل ولو تقديراً، يعني أقصر آية ما هي؟ هي قوله تعالى: مُدْهَامَّتَانِ [سورة الرحمن:64]، فهذا مثال الجمل التقديرية لأن التقدير: (هما مدهامَّتان).
والمقصود بقولهم: أو إلحاقاً مثل الحروف المقطعة، فقوله تعالى: الم [سورة البقرة:1]، وقوله:الَرَ [سورة الحجر:1] هذا يسمى إلحاقاً، ولا يصح أن يقال: إن الحروف المقطعة من الجمل التقديرية؛ لأنك لا تقدر فتقول: (هم ألف لام ميم، أو هم ألف لام راء) كما قدرت في قوله تعالى: مُدْهَامَّتَانِ [سورة الرحمن:64]، فقلت: (هما مدهامَّتان).
ومن الأمثلة على الجمل التقديرية في القرآن قوله تعالى: وَالْعَصْرِ [سورة العصر:1]، فالتقدير: (أقسم بالعصر)، فالواو واو القسم، أقسم بالعصر، فإذن: الآية قرآن مركب من جمل ولو تقديراً، فـ (مدهامَّتان) آية وما هي جملة في الظاهر، لكن تقديراً هي جملة: (هما مدهامَّتان) فحذف (هما) للعلم به، وهكذا.
وعلى كل حال يمكن أن يختصر هذا فيقال: الآية طائفة من القرآن ذات مطلع ومقطع مندرج تحت سورة.
والآية لا تخفى فهي معروفة، كقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، هذه آية ما يخفى على أحد.
طبعاً هذا الذي ذكره هو باعتبار أنه يرتبط بعضه ببعض، فجاء بهذه الجمل، لكن إذا أردنا أن نفصِّل هذا فنحذف الضمائر، فسيخرج عندنا أقل من هذا بكثير، فإذا أتيت إلى قوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم، ليستخلفنهم أصلها من: استخلف، وقوله: أَنُلْزِمُكُمُوهَا: من ألزم، وقوله: فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ: من سقى، وهذا إذا أرجعناها إلى الأفعال، وإلا فنقول الأولى أن ترجع إلى الاستخلاف، والثانية إلى الإلزام، والثالثة إلى السقي.
على خلاف كما ذكرت فيما سبق.
طبعاً عندما يقول: في قول الكوفيين ليس هذا رأي الكوفيين، وإنما المقصود بهم قراء الكوفة أمثال الكسائي، إذ قرأ بها الكوفيون: يعني الكوفيين الثلاثة -مشاهير هؤلاء الأئمة- وقراءتهم ليست من جهة الرأي، وإنما ذلك كله بتوقيف، فكله قرآن، وكما سبق في الكلام على عد الآي بأن ذلك ربما يرجع إلى القراءة، فعلى قراءة الكوفيين يكون ذلك آية.
"وغيرهم لا يسمي هذه آيات بل يقول هذه فواتح السور، وقال أبو عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله تعالى: مُدْهَامَّتَانِ بسورة الرحمن.
فصل: قال القرطبي: وأجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية، وأجمعوا أن فيه أعلاماً من الأعجمية، كـ(إبراهيم ونوح ولوط)"
نوح اسم أعجمي لكنه من الأعلام الأعجمية المصروفة؛ لأن الأعجمي إذا كان أوسطه ساكناً فإنه يصرف، وبالنسبة لـ هود ما ذكر هنا؛ لأن هود -عليه الصلاة والسلام- أصله عربي على قول طائفة كما في حديث أبي ذر .
وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم، حيث ذكر أن أربعة من الأنبياءمن العرب، محمد ﷺ، وهود، وشعيب، وصالح، فـ(هود وصالح) من العرب البائدة كما يقولون، وهذا على قول من يقسم العرب إلى هذا التقسيم.
فعلى كل حال بناءً على أنها أسماء عربية فهي منصرفة، وبناءً على أنها أعجمية فهي مصروفة؛ لأن وسطها ساكن، كـ(لوط وهود).
هذه المسألة هي وجود ما يسمى بالمعرّب، وقد مر بنا في درس المراقي في أصول الفقه:
ما استعملت فيما له جا العرب | في غير ما لغتهم معرب |
ما كان منه مثل إسماعيل | ويونس قد جاء في التنزيل |
إن كان منه..... |
فهذا يدل على أن في الأعلام هذه خلافاً.
قال: "وأجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب، وأجمعوا أن فيه أعلاماً من الأعجمية" وفي المراقي يقول: إن كان منه، يعني حتى الأعلام بعض أهل العلم يقول: هي هكذا في كل اللغات، وبالتالي لا يحكم عليها بأنها أعجمية أو عربية، لكن هذا القول فيه نظر؛ لأن الأسماء منها ما هو أعجمي، ومنها ما هو عربي، وهذا معروف لا ينكر، وحتى العلماء تكلموا في التسمية بالأسماء الأعجمية، وفيما لا يعرف معناه من أسماء الأشخاص وأسماء عموم الأشياء من الذوات والمعاني وغير ذلك، وقالوا: لا يطلق أسماء لا يعرف معناها؛ لأنها قد تكون فيها أشياء شركية و نحو ذلك، ثم إن وجود الأسماء الأعجمية أمرٌ مشاهد.
فعلى كل حال من أهل العلم من يقول: لا يحكم على أسماء الأعلام بأنها أعجمية، ولهذا قال هنا في المراقي:
إن كان منه واختيار الأكثر | والشافعي النفي للمنكَّر |
فصار عندنا القسمة ثلاثية، فعندنا الأعلام، ومعنى الأعلام: أسماء الأشخاص مثل: إسماعيل، وإبراهيم، ويونس، ويوسف، هذه أسماء أعجمية، وبعضهم نقل عليها الإجماع، فهذا لا إشكال في وجوده في القرآن؛ لأن الأسماء الأعجمية تطلق في الأصل كما هي وإن كانت العرب تتصرف في الألفاظ الأعجمية بعض التصرف، مما يتلاءم مع لغاتها، فالعرب لا ينطقون باللفظة الأعجمية كما ينطق بها الأعجمي بحيث يلوي لسانه كما في لغة القطط، وإنما القاعدة عندهم في هذا هي: أعجميٌ فالعب به.
ولذلك بعض الناس إذا سمع إنساناً ينطق لفظة إنجليزية أو غيرها على غير وجهها، يضحك منه أو يبتسم ابتسامة ساخرة، وينظر إلى هذا الإنسان على أنه بدوي؛ لأنه لا يعرف كيف ينطق الكلمات الحضارية، وهذه نظرة خاطئة؛ إذ لا بأس عليك أن تنطق بها بما يتلاءم مع لغتك.
فالراديو مثلاً لا بأس أن تقول رادو، ومثله التلفون وأشباه ذلك مما ينطق به عامة الناس، والأحسن أن تسميها بالأسماء العربية، فتقول: مذياع، وهاتف، وما أشبه هذا، لكن لا تلوي لسانك بها كما يلويه الأعجمي؛ فليس ذلك من شأن العرب.
فالحاصل أن الأسماء الأعجمية موجودة بلا شك في القرآن مثل: إسماعيل، وإبراهيم، ويونس، ويوسف..الخ، وهذه يكاد يتفق العلماء عليها.
والقسم الثاني الذي يقابله يتفق العلماء على أنه غير موجود قطعاً وهو التراكيب، فلا يوجد جملة أعجمية في القرآن أبداً؛ إذ كيف يوجد ذلك والله قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [سورة الشعراء:195]، ولا يدعي هذا أحد إطلاقاً، وما قال أحد: إنه يوجد في القرآن تركيب أعجمي أبداً، وقائل ذلك لو قاله فهو مكذب بالقرآن.
الألفاظ المنكَّرة:
الألفاظ الأعجمية المُنكََّرة مثل: مشكاة، قسطاس وإستبرق، وسندس، وأشباه ذلك من الألفاظ المنكرة، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين أهل العلم، فإذا قيل: هل يوجد في القرآن ما يسمى بالمعرّب، والمعرّب يعني الألفاظ الأعجمية التي استعملتها العرب فيما وضعت له في الأعجمية، أي: نقلوه إلى لغتهم، أي: نقل إلى اللغة العربية للمسمى نفسه، فهل هذا موجودأوغير موجود؟
هذا الذي فيه الخلاف الكثير بين أهل العلم.
فمن قائل: إنه موجود، قيل: وكيف تقولون في قوله تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [سورة الشعراء:195]؟ قالوا: نقول: إن وجود الكلمة والكلمتين لا يؤثر، فالألفاظ القليلة لا تؤثر في بحر القرآن، والعبرة في الغالب.
وبعض أهل العلم يقول: هذه الأٍسماء أو ألألفاظ ليست لغة العجم أحق بها، فأنتم لماذا تقولون: أصلها أعجمية ونقلها العرب إلى لغتهم، فلماذا لا تعكسون القضية وتقولون: هي عربية والعجم أخذوها منا؟ والدليل عندنا أن الله قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ، إذن: هي عربية أصلاً فالعجم أخذوها؟
وبعضهم يقول: لماذا يُدّعى أنها أعجمية، هذه الأشياء قد تكون مشتركة بين اللغات.
وبعضهم يهون من شأن هذا، ويقول: على كل حال إذا فرض أن أصولها أعجمية فإن العرب أخذتها، ونطقت بها واستعملتها بطريقةٍ تتلاءم مع لغة العرب ومخاطباتهم فذابت في لغتهم، وأصبحوا يعرفون معناها عند الإطلاق، ولا يخفى ذلك عليهم، فصارت من جملةِ لغتهم وإن كان أصلها أعجمياً، فنزل القرآن بلغة العرب، وكانت هذه الألفاظ مما يستعملون في لغتهم ويتداولونها فيما بينهم فنزل القرآن بذلك، فهذا موافقٌ لقوله تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍإذ إن هذه الألفاظ ذابت في لغة العرب، وصارت في جملة لغتهم..
فعلى كل حال، المسألة هذه خلاصة ما قيل فيها، وهذه الألفاظ -فيما أعرف- من أكثر من جمعها وتتبعها، وقال بأن هذه أعجمية هو السيوطي في كتابٍ له مطبوع في المغرب، اسمه: [المعرَّب]، حيث جمعها ووضعها في جداول.
"سورة الفاتحة: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الََْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ[سورة الفاتحة:1 – 7 ].
يقال لها: الفاتحة أي: فاتحة الكتاب خطاً، وبها تفتتح القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً: أم الكتاب عند الجمهور"
هذا شروع في ذكر أسماء سورة الفاتحة، وأسماء الفاتحة أكثر بعض العلماء من تعدادها، حتى إن بعضهم ربما أوصلها إلى نحو من ثلاثين اسماً، بل عد لها بعضهم كالسيوطي في "الإتقان" ما يزيد على العشرين اسماً، وكثير من هذه الأسماء التي يذكرونها هي أوصاف، ومنها أشياء لا تثبت أصلاً، فأسماء الفاتحة هي أقل من ذلك.
لو وقفنا مع الأشياء التي يصح أن تكون أسماء مما صح فيه الدليل لكان هذا هو اللائق، فمن أسمائها: الفاتحة، وسميت الفاتحة؛ لأنه يفتتح بها القرآن، وهذا إذا قلنا: إن ترتيب السور توقيفي فهو واضح جداً، وإذا قلنا: إنه ليس بتوقيفي فهي مفتتحٌ بها المصاحف على كل حال، لكن أن يكون ذلك هو سبب التسمية ربما يكون فيه إشكال.
كذلك سميت الفاتحة؛ لأنه تفتتح بها القراءة في الصلاة، حيث تقرأ الفاتحة أولاً ثم تقرأ سورة، وليس العكس، وهذا واضح أيضاً.
يقال لها: الحمد –كما في الحديث- باعتبار أنها مبدوءة بالحمد ومشتملة على الحمد، ويقال لها: أم القرآن -كما يقول بعض أهل العلم- باعتبار أنها تشمل معاني القرآن وذلك أنها تدور عليها، وترجع إليها، ولهذا قيل لراية الجيش: أُمّ، ويقال للجلدة التي تجمع الدماغ: أُمُّ الدماغ، فهي أمٌّ باعتبار أنها جامعة لمعاني القرآن، فمعاني القرآن ترجع إليها، فهي أم القرآن، وهي أم الكتاب كذلك.
وأما تسميتها السبع المثاني؛ فلكونها سبع آيات، والله وصف القرآن جميعاً بأنه مثانٍ، قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [سورة الزمر:23]، بمعنى أنه مشتملٌ على الثناء على الله ، أو لأنه يثنى بالقراءة أو غير ذلك.
والمثاني أيضاً هو القسم المعروف في القرآن، وهي الآيات التي تقرب من المائة وهي دون المائة، ومن الأوجه في تسمية القرآن بالمثاني أنها تذكر حال أهل الجنة ثم تثني بذكر حال أهل النار.
والفاتحة مثانٍ باعتبار أنها تثنى، وهي سبع آيات كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [سورة الحجر:87]، والنبي ﷺ قال: هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته[2].
قوله ﷺ: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يبدو -والله أعلم- أن هذا ليس من الأسماء للسورة، وإن كان ثَمّذكر ذلك بما يدل على أن المقصود بها الفاتحة، فإنه أطلق عليها ذلك ربما لأهميتها في الصلاة، ومكانتها، وأنها ركنٌ فيها؛ فإن الشيء قد يسمى ببعض أجزائه وقد يكون العكس.
على كل حال أقرب ما يمكن أن يقال: إن ذلك من أوصافها، يعني أنه يرقى بها لا أن سورة الفاتحة تسمى سورة الرقية.
وجه الاستدلال بهذه الآية على أن سورة الفاتحة مكية هو أن هذه الآية من سورة الحجر، وسورة الحجر سورة مكية، فهي تتحدث عن الفاتحة، فهذا دليلٌ من القرآن على أن سورة الفاتحة نازلة بمكة، وهذا هو المعروف عند أهل العلم، ولا يلتفت إلى غيره.
بعض أهل العلم قال: نزلت في المدينة، واستدلوا على هذا بحديث مشهور في صحيح مسلم: بينما جبريل قاعد عند النبي ﷺ سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة[5]، فإن قيل: هذا كان في المدينة، فكيف جاء بفاتحة الكتاب وهي نزلت بمكة؟
يقال: هو لم يأتِبها أصلاً، وإنما بشر النبي ﷺ بذلك، والبشارة يمكن أن تكون أيضاً على أمرٍ قد مضى، فبين له المزية لسورة الفاتحة وآخر آيتين أوتيهما ﷺ من سورة البقرة، فالبشارة يمكن أن تكون عن شيء كان في الماضي، وهو كذلك، فلا يفهم منه أنه هو الذي نزل بها كما قال بعض المعاصرين: إن بعض القرآن قد ينزل به غير جبريل، فالأمر واضح أن جبريل هو الذي نزل به كما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [سورة الشعراء:193]، فالقول بأن هذا في الجملة ولا يؤثر على ذلك أن ينزل غيره بآيةٍ أو نحو هذا، فهذا قول غير صحيح.
ومعروف قطعاً أن النبي ﷺ كان يصلي بمكة، وكان يقرأ الفاتحة، وآية الحجر تدل على نزولها بمكة، فبعض أهل العلم أراد أن يوفق وأن يجمع فقال: نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة، ولا حاجة لمثل هذا.
بل أغرب بعضهم قال: إن نصفها نزل بمكة، والنصف الآخر نزل بالمدينة، على كل حال هي نازلةٌ بمكة قطعاً.
"وهي سبع آيات بلا خلاف"هنا بلا خلاف يعني إلا الأقوال الشاذة، وإلا فقد سبق بالأمس قول من قال: إنها ست آيات بإسقاط البسملة، ووصل: أَنعَمتَ عَلَيهِمْ مع ما بعدها، وقول من قال: إنها ثمان آيات، باعتبار أن البسملة آية، وأَنعَمتَ عَلَيهِمْ آية، بل إن بعضهم عدَّ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية، لكن هذه الأقوال شاذة لا يلتفت إليها، والله قال: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي فكيف يقال: إنها تسع أو ثمان أو خمس أو ست؟
القول هنا بأن البسملة آية هذا على قولٍكما ذكر هنا، والخلاف في هذا كثير، وقد سبق الكلام عليه، وتعرفون أن من أهل العلم من يقول: إنها آية مستقلة تأتي للفصل بين السور فقط، أي: يعرف بها الفصل وليست من السورة، وهذا اختيار جمع من الأئمة المحققين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، ومن أهل العلم من يقول: إنها آية من كل سورة إلا سورة براءة، والخلاف في هذا -كما سبق- يمكن أن يكون عائداً إلى القراءة.
كلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً، تأكدوا من ذلك وعدوا..
- أخرجه دون قوله: (والقرآن العظيم) أبو داود في كتاب سجود القرآن – باب: فاتحة الكتاب (1457) (ج 1/ص 461)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن – باب: تفسير سورة الحجر (3124) (ج 5/ص 297)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1293).
- أخرجه البخاري في كتاب: التفسير – باب: ما جاء في فاتحة الكتاب (4204) (ج 4/ص 1623).
- أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة – باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (395) (ج 1/ص 296).
- أخرجه البخاري في كتاب: الطب – باب: النفث في الرقية (5417) (ج 5/ص 2169).
- أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة (806) (ج 1/ص 554).