الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[84] قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} الآية 195
تاريخ النشر: ٠٣ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 4405
مرات الإستماع: 3177

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

قال الله تعالى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195]، روى البخاري عن حذيفة -: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، قال: نزلت في النفقة، ورواه ابن أبي حاتم مثله."

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، النفقة هنا أعم من أن تكون مختصة بالنفقة الواجبة التي هي الزكاة، فهو أمر عام بإخراج الأموال، ما كان ذلك الإخراج فيه على سبيل الوجوب كالزكاة، وما كان على سبيل التطوع.

قوله: فِي سَبِيلِ اللّهِ، سبيل الله إذا أطلق في القرآن فالأصل أن المراد به الجهاد وهذا هو الغالب، ومعلوم أن من مصارف الزكاة الجهاد في سبيل الله كما في سورة براءة: وَفِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة التوبة:60]، فالأرجح من أقوال أهل العلم أن المراد به الجهاد خاصة.

وقوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، العرب تقول للمستسلم: أعطى فلان بيديه، يعني استسلم، وتقول لمن استجاب وخضع لما يطلب منه: أعطى بيديه، فالعرب تعبر باليدين عن الاستسلام والانقياد التام من غير معارضة ولا مقاومة.

فقوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195] يعني لا تستسلموا للهلكة.

وأحسن ما فسرت به هذه الآية: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195] ما جاء عن ابن عباس   -ا- ما خلاصته ومحصلته: أنكم إذا تركتم النفقة في الجهاد قوي عدوكم وكان من نتيجة ذلك أن تسلَّط عليكم وقهركم، وأخذ ما بأيديكم، وقتل من قتل منكم وانتهك الأعراض، وفعل فعله فيكم، فهذا معنًى يدخل في الآية دخولاً أولياً أصلياً.

ويدخل في معنى الآية أيضا ما ذكره طوائف من السلف من أن تركهم للإنفاق في سبيل الله الذي أمرهم الله به هو لون من إلقاء النفس في التهلكة، وهذا المعنى معنًى ظاهر يدخل في الآية أيضاً بلا شك، فترك أمر الله ، والإعراض عنه من إلقاء النفس في التهلكة.

ويدخل في عموم اللفظ في قوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ كل طريق وسبيل يفضي بالإنسان إلى التهلكة، أي لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، ولا تلقوا بأيديكم، ولا تلقوا بأرواحكم، فمن سلك طريقاً مخوفة من غير موجب يقال له: لا تلق بيديك إلى التهلكة، ومن سافر سفراً طويلاً بعيداً يحتاج معه إلى الزاد فذهب من غير زاد وليس في طريقه ما يجد فيه حاجته، فإنه يقال: ألقى بيده إلى التهلكة، ومن تعاطى شيئاً من الأمور الضارة فإنه يكون قد ألقى بيديه إلى التهلكة، ومن عرَّض نفسه للأخطار من غير موجب يقال: ألقى بيده إلى التهلكة، وهكذا كل ما يفضي بالإنسان إلى الهلكة من غير موجب، فإن ذلك يدخل تحت عموم هذه الآية.

قال روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد ين جبير وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك.

وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجلٌ من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية.

يعني أن هذا الرجل حينما دخل في صف العدو لوحده، أو إذا خرج إلى العدو من غير درع، قالوا عنه: ألقى بيده إلى التهلكة، فهل هذا هو المراد؟

يقال: الجواب لا؛ لأنه يجوز للإنسان في الجهاد أن يخرج من غير درع، ويجوز له أن يحمل على العدو لوحده ولو كان المظنون غالباً أنه يقتل إذا كان لا يتحمل تبعة ذلك غيره من المسلمين بحيث يعود عليهم بالضرر، أما إذا كان تصرفه يفضي إلى ضرر يتحمله غيره فيقال له: لا وألف لا؛ لأنه يسع الإنسان في نفسه ما لا يسعه في غيره، وهذه قاعدة مهمة، فالإنسان يمكن أن يحمل نفسه على أمور من الورع، أو أمور تتصل بالجهاد أو نحو ذلك من الأمور التي فيها لون من المخاطرة بالنفس، لكن لا يتحمل تبعة هذا غيره، ولذلك عمر لم يكن يولي البراء بن مالك مع أنه من خيار الصحابة؛ وذلك لفرط جراءته، ففي يوم اليمامة كما هو معلوم طلب من الصحابة أن يجعلوه على ترس، ويرفع على أسنة الرماح الطوال، ثم ألقوه في حديقة الموت في حصن أهل اليمامة، فنزل عليهم يضربهم بالسيف حتى فتح الباب، فهذا  الأمر يمكن أن يفعله رجل واحد، وإن كان المتوقع غالباً أنه يموت، لكن لا يقدم على هذا إنسان يقود مجموعة من الجيش، ويحملهم على هذه الأمور بهذه الطريقة فيفضي بهم ذلك إلى هلكة وموت غالب، فهو يسعه في نفسه ما لا يسعه في غيره، وهذا إذا كان قتله بيد العدو، وهو بخلاف ما إذا كان موته بيده هو، فهذه قضية ثانية.

فقال أبو أيوب: "نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله ﷺ وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًّا فقلنا: ..."

نجيًّا: يعني في حال نجوى، أي نتناجى، أي أنهم انفردوا عن غيرهم، فالنجوى: كل حديث تنفرد به طائفة عن غيرها وهذه الطائفة اثنان فأكثر.

فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ﷺ ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195] فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد". رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وان جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ولفظ أبي داود: عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى أهل الشام رجل يريد فضالة بن عبيد فخرج من المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه، فقالوا: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها، فأنزل الله هذه الآية."

قوله: قلنا فيما بيننا، هذه هي النجوى، وقوله: فأنزل الله هذه الآية، هذا من قبيل سبب النزول الصريح الذي عرفناه في درس ماضٍ، وذلك بأن يذكر واقعة أو سؤالاثم يقول بعده: فأنزل الله، وهذا بخلاف ما لو قال كما في الرواية السابقة: إنما نزلت فينا معشر الأنصار، فهذه الرواية غير صريحة، وإنما المعنى أننا ممن يدخل في معناها، لكن في هذه الرواية قال في آخرها: فنزل فينا، فهذا مثال على أحد أنواعه، وهو ما جمع فيه بين الصيغتين، ففي أول الحديث غير صريح، وفي آخره جاء ذلك صريحاً حيث قال: فنزلت الآية، ولهذا فإن أهل العلم تكلموا في هذا النوع وهو فيما إذا قال: هذه الآية نزلت في كذا، هل له حكم الرفع أم ليس له حكم الرفع؟

كثير من أهل العلم يقولون: ليس له حكم الرفع؛ لأنه متردد، فهو يحتمل أن يكون من قبيل التفسير، كما في مثل قول ابن عمر –ا- لما رآهم يغلقون حوانيتهم للصلاة قال: في هؤلاء نزلت: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ [سورة النــور:37] وكان هذا بعد وفاة النبي ﷺ بمدة طويلة، فلا يمكن أن تكون نزلت هذه الآية في هؤلاء الذين أغلقوا الحوانيت، وإنما يقصد أن هؤلاء ممن يدخلون في معناها، أي في عمومها، والمقصود أن هذا اللفظ محتمل، فأحياناً يقصد به سبب النزول وأحياناً لا يقصد ذلك، ولذلك لا يحكم عليه بأنه من قبيل المرفوع إلا ما كان صريحاً، فهذا المثال -الرواية السابقة- هي مثال واضح على أن ذلك تارة يراد به هذا وتارة يراد به هذا، وهي مثال على ما اجتمع فيها الصيغتان.

والخلاصة هي أن هذه الرواية في قوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195] نزلت في الرجل الذي أغار على الروم لوحده أو دخل في صفهم، وهي تدل على أنهم كانوا يفهمون من عموم الآية أنه إذا اقتحم الإنسان طريقاً يغلب فيه عليه الهلاك فهو مقصود بالآية، لكن في هذا المثال المعين كان الحكم غير صحيح؛ لأن هذا الفعل كما قلت آنفاً فيه قربة وطاعة وجهاد وهو إنما اقتحم بنفسه ولم يحمل غيره على هذا الاقتحام، فيسعه في نفسه ما لا يسعه في غيره من العمل المشروع في أصله لا الأمر غير المشروع.

صور من إلقاء النفس في التهلكة:

تقرأ في الأخبار -في الإنترنت مثلاً- أن رجلاً ذهب ليجاهد في العراق ثم دخل بين الرافضة في يوم عاشوراء وفجر نفسه، هل هذا جهاد؟

هذا إلقاء بالنفس في التهلكة، وهو من أسوأ الأعمال؛ حيث يترك أهله ويسافر، ثم هذه نهايتها، لكن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله به عدوه نسأل الله العافية.

كيف تكون نهاية الإنسان بهذه الطريقة؟ ومن الذي حمله على هذا؟ ومن الذي زين له هذا العمل، ومن الذي قال له: إن عملك هذا جهاد، وإن عملك هذا مشروع؟

قد عدَّ نفسه أنه على خير وطاعة وقربة، والحقيقة أن من يفعل هذا يقال له: ليتك ثم ليتك ما ذهبت ولا جاهدت.

وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب -: "إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟" قال: "لا، قال الله لرسوله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء:84] وإنما هذه في النفقة" رواه ابن مردويه، وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الثوري وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء، فذكره وقال بعد قوله: لا تكلف إلا نفسك، ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب.

من الصور التي تدخل في إلقاء النفس في التهلكة أن يتقحم الإنسان الذنوب ومعصية الله ويستمر على ذلك.

وقل مثل ذلك في الأمور الأخرى التي أشرت إليها آنفاً، كأن يركب الإنسان الأخطار من غير موجب، فيسافر من غير زاد، وهو يعلم أنه لن يجد في طريقه ذلك، فهذا يكون ألقى بيده إلى التهلكة، وهكذا في كل ما يتصور في هذا من غير موجب.

وهذه الآثار التي تذكر هنا يستدل بها عادة من يقول بجواز ما يسمى بالأعمال الانتحارية، وليس الأمر كذلك فيما أظن؛ لأن الذين ذكروا في هذه الآثار التي استُدل بها إنما قتلوا على يد عدوهم وليس على أيديهم هم.

وقال عطاء عن ابن عباس -ا- في قوله تعالى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195] قال: ليس ذلك في القتال إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة.

القتال من الممكن أن يكون فيه تهلكة وذلك أنه لو حمل قائد الجيش جيشه على ارتكاب المهالك والأخطار العظيمة التي تفضي بهم إلى الهلكة غالباً، وإنما قوله هنا: ليس ذلك في القتال: يعني على ما فهمه هؤلاء من أن هذا الإنسان الذين اقتحم في صف العدو وحده ليس هو المراد وإنما المراد ترك النفقة في الجهاد في سبيل الله، فإن ذلك إلقاء باليد إلى التهلكة، ويوضحه قول ابن عباس -ا- الذي سبق ذكره وهو قوله: "إذا تركتم النفقة في الجهاد قوي عدوكم وكان من نتيجة ذلك أن تسلَّط عليكم وقهركم، وأخذ ما بأيديكم، وقتل من قتل منكم وانتهك الأعراض، وفعل فعله فيكم".

ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده.

ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195].

أمرهم الله بقوله: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ثم أمرهم بالإحسان عموماً فقال: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195] وذلك لا يختص بوجه دون وجه، ولذلك حمله ابن جرير على أوسع معانيه، فقال: أحسنوا بأداء فرائضي واجتناب النواهي والإنفاق في سبيل الله، وبعض أهل العلم يقول: وَأَحْسِنُوَاْ أي: أحسنوا ظنكم بالله في إخلافه عليكم وعائدته عليكم بهذه النفقة التي أنفقتموها كي لا تضيع، لكن هذا المعنى بعيد، فالأصل في مثل هذا حيث يحذف المتعلق أنه يحمل على أعم معانيه، فهو قال: وَأَحْسِنُوَاْ ولم يقل: ظنكم ولا يوجد في السياق ما يدل عليه، لكن بعض المفسرين لما نظروا إلى قوله: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ، قالوا: هذا إحسان بالمال، ثم قال ثانياً: وَأَحْسِنُوَاْ، فقالوا: هذا الإحسان إذاً إحسان الظن، وليس ذلك بلازم، وإنما يقال: إن قوله: وَأَحْسِنُوَاْ أي إضافة إلى إحسانكم السابق بالإنفاق في سبيل الله الذي أمرهم به، فيدخل فيه النفقة، ويدخل فيه سائر وجوه الإحسان القولية والفعلية والمالية، فيحمل على عموم معناه، حيث لم يخصص معنًى دون معنى، وهكذا التهلكة تحمل على أعم المعاني وإن كان يدخل فيها ما سبق دخولاً أولياً، وهو سبب نزول الآية.

وفي الأصول -أصول الفقه- أن الأفراد الداخلة تحت العموم ثلاثة أنواع من حيث القوة، ومنها:

الأول: صورة السبب -سبب النزول- فهي تدخل دخولاً أولياً تحت العام، فالعام هنا مثلاً قوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195] فكل صورة من صور التهلكة داخلة فيه، والتي نزلت بسببها الآية هي ترك النفقة في سبيل الله، وهذا بعض أفراد العام، فالتهلكة يدخل فيها ترك النفقة في سبيل الله، ويدخل فيها إنسان يربط الحبل في عنقه، ويدخل فيها أن يرقى إنسان جبلاً شاهقاً، أو عمارة عالية من غير موجب، أو تكون هوايته تسلق الحبل المربوط بين عمارتين ونحو ذلك من صور التهلكة، فهؤلاء جميعاً يقال لهم: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، لكن ترك النفقة في سبيل الله هي صورة سبب النزول فهي أقوى صورة داخلة من أفراد العام في هذا المعنى.

النوع الثاني الذي يلي الصورة الأولى في الدرجة وفي قوة الدخول في العام هو ما يسمى بالتخصيص بالمجاورة، أي المجاور لسبب النزول، أي علاقة المناسبة بين الآيات، ومثال ذلك قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51]، فالمقصود بذلك هم اليهود لما ذهبوا إلى قريش وحرضوهم على قتال النبي ﷺ، وسألهم المشركون أيُّنا أهدى؟ فقالوا: أنتم أهدى من محمد، وسجدوا لآلهة المشركين إلى آخر القصة المعروفة، وهي كانت بعد غزوة أحد، وقد نزلت مجموعة من الآيات بسبب هذه القضية في سورة النساء، وبعد هذه القضية يقول تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [سورة النساء:58]، وهذه ليس لها علاقة بهذه القضية فهي نزلت عام الفتح، ويذكرون فيها سبب نزول جاء في رواية فيها ضعف وذلك في قصة مفاتيح الكعبة، إلا أن قوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ [سورة النساء:58] يدخل فيها جميع أنواع الأمانات، من أمانة الكلمة والشهادة بالحق، وإذا أخذت من الإنسان شيئاً يجب أن ترجعه إليه، ويدخل في ذلك دخولاً صورة سبب النزول –إن صحت- وهي إرجاع مفاتيح الكعبة لأصحابها ويدخل في ذلك أنك إذا أخذت من الإنسان شيئاً ترجعه إليه، ويلي ذلك في القوة ما جاوره مع أنه لم ينزل معه وهو ما ذكر في المقطع الذي قبله أي شهادة اليهود التي كتموها، وذلك أنهم قالوا: أنتم أهدى من محمد، فالشهادة بالحق تدخل تحت أفراد العام، ويدخل فيه سائر أفراد العام مثل لو أن إنساناً استكتمك على شيء فعليك كتمه، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي تدخل في هذا الموضوع، ومثل هذا قوله: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195] فهو يحمل على معناه الأعم في الإحسان، فتدخل فيه النفقة في سبيل الله، ويدخل فيه التصدق على الفقراء، والإحسان إلى الأقارب، ويدخل فيه الإحسان بالقول والكلام كما قال تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [سورة البقرة:83]، ويدخل فيه الإحسان بالفعل وإعانة المحتاج ومواساة المريض إلى غير ذلك.

وقول الله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:196] لما ذكر تعالى أحكام الصيام، وعطف بذكر الجهاد شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة

هذا الكلام يسمى المناسبة بين الآيات، أو وجه الارتباط بين الآيات.

ما المراد بإتمام الحج والعمرة في قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ؟

من أهل العلم من يقول: إن المراد بذلك أن يأتي بهما من غير إخلال ولا شائبة، ولا تحمله العجلة على أن ينقص منها أو يضيع أحكام الله التي فيها أو يتجاوز حدوده التي حدها، أو يرتكب محظورات الإحرام أو نحو ذلك، فهذا نقص في الحج وقد يفضي به أحياناً إلى بطلانه كالجماع.

وبعضهم يقول: الإتمام هو أن يخرج لهما لا لغيرهما، وهؤلاء نظروا إلى لفظة الإتمام بمعنى الإكمال، لكن الله يقول: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198] وهي التجارة في الحج، ولا شك أن من خرج وهو يريد الحج فحسب هو أتم وأكمل منزلة وحالاً ممن كانت نيته مشتركة بأمر يجوز الالتفات إليه يحصل على سبيل التبع، فهذا يجوز ويصح حجه، لكن مرتبة الأول أعلى، فهم نظروا إلى لفظة الإتمام، فعبر كل واحد بمثل هذه العبارات.

وبعضهم نظر إلى الإتمام فقال: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقال: هذا أكمل، والحقيقة أن الإحرام من دويرة أهله أصلاً غير مشروع، وإنما يحرم الإنسان من الميقات، وقصة الرجل الذي سأل الإمام مالك معروفة، فمع أن أبعد المواقيت ميقات المدينة ومع ذلك لما قال له: أريد أن أحرم من المسجد، قال: إني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة؟ فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة النــور:63] وبين له أن الرسول ﷺ أحرم من ذي الحليفة، فمع أن ذا الحليفة قريب جداً، فهو يعتبر في طرف المدينة، ومع ذلك فالأصل الاتباع لا القرب والبعد، لكن هناك فرق بين لبس الإحرام في البيت وبين نية النسك، فلبس ثياب الإحرام في البيت ليس بإحرام، وإنما المقصود بالإحرام الإهلال بالنسك أو نية الدخول فيه، وعلى كل حال فهذا القول الذي ذكروه فيه إشكال.

وبعضهم نظر إلى أن الكمال والإتمام هو أن يأتي بالحجة مستقلة في سفرة، والعمرة مستقلة في سفرة، وهذا لا شك أن من فعله ممن لا يتأتى منه حج ولا عمرة سوى هذه في العام هو أكمل ممن جاء إليهما في سفرة واحدة، وهذا مراد شيخ الإسلام -رحمه الله- حينما قال: إن الإفراد أفضل، فهو يقصد هذا المعنى لا ما فهمه كثير من طلبة العلم.

صور مراتب الكمال في مناسك الحج الثلاثة:

القسمة العقلية التي تبين مراتب الكمال للأنساك الثلاثة في الحج كما يأتي:

المرتبة الأولى: وهي أعلى مرتبة، وذلك أن يأتي إنسان فيقول: أنا أعتمر في رمضان، وأعتمر في الصيف، وأعتمر في الفصل الدراسي الأول، وأعتمر في الفصل الدراسي الثاني، فما هو الأفضل في الحج الإفراد أم التمتع أم القِران؟

يقال له: الأكمل والأفضل لك أن تحج متمتعاً، فإن لم يكن فقارناً، وذلك أنه بدلاً من أن يكون لك أربع عُمَر في السنة، صار عندك خمس عمر.

المرتبة الثانية: أن يأتي إنسان آخر فيقول: أنا ليس بإمكاني أن أعتمر في السنة إلا عمرة واحدة وحجة واحدة، فهل آتي بهما في سفرة واحدة أم أجعل العمرة في سفرة وحدها والحجة في سفرة وحدها؟ فهذا نقول له: الأكمل أن تؤدي العمرة في سفرة مستقلة عن سفرة الحج، فيكون الإفراد في هذه الصورة أكمل من أن يتمتع بالعمرة إلى الحج في سفرة واحدة، وهذا الذي قصده عمر حينما نهى الناس عن المتعة، فهو أراد ألا يُهجر البيت بحيث لا يأتيه الناس إلا في مرة واحدة للحج والعمرة معاً ويبقى أثناء السنة لا يأتيه أحد.

المرتبة الثالثة في الكمال: هي أن يأتي إنسان يأتي في السنة مرة واحدة للحج والعمرة معاً.

المرتبة الرابعة، وهو ذلك الإنسان الذي يأتي في السنة مرة واحدة فقط وبحجة إفراد.

فبعض الناس فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على أنه يقصد هذا بقوله: إن الإفراد أفضل، وهو إنما يقصد أن يأتي بالحجة في سفرة وبالعمرة في سفرة أخرى.

أما من كان يتردد أثناء السنة فالبيت معمور بأمثال هؤلاء، فمثل هذا يقال له: إذا جئت في الحج فتعال بحج وعمرة، فهذا من باب الزيادة والفضل، فالتمتع أفضل بكثير من الإفراد والقران.

والمقصود من هذا الكلام كله أنهم نظروا إلى لفظ "الإتمام" ففسرها كل واحد بما يحتملها لفظ "الإتمام".

وبعضهم قال: إن كمالها يكون بالإنفاق الطيب، وهذا كله لا شك أنه من الكمال، ولكن المعنى المتبادر هنا هو أن الحج والعمرة ليستا كغيرهما، فلابد من إكمالهما، فمن أحرم فيهما حتى ولو لم يكن إحرامه واجباً ابتداءً فإنه إذا شرع وأحرم فيجب عليه الإتمام.

والعلماء يتكلمون في مسألة العبادات غير الواجبة إذا شرع فيها العبد كصلاة النافلة أو صيام التطوع أو الاعتكاف أو نحو ذلك، هل يجوز له أن يقطعه؟

الراجح أنه يجوز للمتطوع في كل الأعمال الصالحة أن يقطعها من غير حرج، ولا يطالب بالبدل، خلافاً لمن قال: إن عليه أن يكمل، أو قال: عليه البدل لقوله تعالى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [سورة محمد:33]، فإنه ليس هذا هو المراد، وإنما المراد لا تبطلوها بالمن والأذى والرياء، وبعض أهل العلم يخص بعض العبادات، يقول: يجوز فيها الإكمال، كما في المراقي:

صلاتنا وصومنا وحجنا وعمرة لنا كذا اعتكافنا
طوافنا مع ائتمام المقتدي فيلزم القضاء بقطع عامد

فالمالكية يرون أنه من الأمور التي يلزم إتمامها إذا شرع فيها ما ذكر في هاتين البيتين وهي الصلاة والصيام والحج والعمرة وكذا المأموم إذا اقتدى بإمامه، فهؤلاء جميعاً على مذهب المالكية يلزمهم القضاء إذا قطعوا هذه العبادات عمداً.

والصحيح أنه لا يلزم ذلك إلا في الحج والعمرة لقوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196].

وهذه الآية يُستدل بها على وجوب العمرة، وقد جاءت أدلة أخرى من السنة تدل على أن العمرة واجبة على الراجح مرة في العمر كالحج، وبالنسبة للاستدلال على هذا من الآية فإنه مبني على أصل مختلف فيه وهو هل الأمر بالإتمام أمر بالابتداء أو لا؟ فبعضهم قال: إن الأمر بالإتمام أمر بالابتداء، يعني لزوماً أو ضمناً وليس صراحة مطابقة، وعلى كل حال فإن من قال بهذا قال: إن الآية تدل عليه.

وبعضهم لم يأخذ وجوب الابتداء بالنسبة للحج من هذه الآية وإنما أخذه من قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97].

وإذا أرادوا أن يستدلوا به على العمرة فإنهم يربطون معه أحاديث وأدلة أخرى مثل قوله ﷺ: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة[1]، ومنها قوله -عليه الصلاة والسلام: وتحج وتعتمر[2]، إلى غير ذلك من الأدلة التي يستدلون بها، كما أنه يقال للعمرة: حج أصغر.

وعلى كل حال ليس حديثنا هنا على هذا الأمر، لكن يشار إشارة إلى الأحكام؛ لأن ابن كثير من منهجه الإشارة إليها، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك – باب إفراد الحج (1792) (ج 2 / ص 90) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3373).
  2. أخرجه الدارقطني (ج 2 / ص 282) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.

مواد ذات صلة