الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[92] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 208 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الآية 213
تاريخ النشر: ١٤ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 4172
مرات الإستماع: 2546

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۝ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:208-209].

"يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله ﷺ أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك.

قال العوفي عن ابن عباس -ا- ومجاهد وطاوس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله: ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ [سورة البقرة:208]: يعني الإسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً، تفسير ابن كثير للآية بأن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا، هو المعنى المتبادر، وهو من أحسن ما تفسر به الآية.

والخطاب في الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ موجه لأهل الإيمان كما يدل عليه ظاهر النص، وإليه ذهب ابن كثير.

ومن أهل العلم من يرى أن الخطاب موجه لأهل الكتاب الذين لم يدخلوا في الإسلام، باعتبار أن السلم هو الإسلام، والمراد بكافة أي: ادخلوا فيه جميعاً بجميع شرائعه، لا تتركوا شيئاً من العمل أو الاعتقاد الذي شرعه الله وبينه في كتابه، فهم مطالبون جميعاً بالدخول فيه باعتبار مجموع الأفراد مسلمين كانوا أو غير مسلمين.

وقال جماعة من السلف: إنها خطاب لبعض من أسلم من أهل الكتاب ممن بقي عنده نوع شائبة من دينه الذي كان عليه، كأن يعظم يوم السبت، أو يتعبد لله ببعض ما كان عليه من العمل والعبادة، مما لم يشرعه الله في دين الإسلام، فهذا التردد والتلكؤ هو المقصود بقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً، يعني من غير أن تبقوا على شيء مما كنتم عليه في دينكم السابق. 

ولكن ما عليه عامة أهل العلم، ويدل عليه ظاهر القرآن أنها خطاب لأهل الإيمان جميعاً سواء من أسلم من أهل الكتاب وتردد، وبقي في رأٍسه اعتقادات من دينه السابق، أو من يأخذ ببعض الدين ويترك بعضاً لهواه، فيتخير من دين الله أموراً تناسبه، ويترك ما سواه، فأهل الإيمان جميعاً مطالبون بالدخول في الإسلام، ولذا لما خاطب الله نبيه يحيى قال: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [سورة مريم:12]، يقول أهل العلم: فمِن أخْذِه بقوة ألا يترك شيئاً منه، وألا يتردد أو يتلكأ في الاتّباع والانقياد والتسليم والعمل، وهذا المعنى اختاره ابن جرير الطبري -رحمه الله.

السِّلْمِ يقال: السِّلْم والسَّلْم والسَّلَم بمعنى الإسلام، ومن أهل العلم من يفرق بين السِّلم والسَّلم، فيقول: السِّلم هو الإسلام، والسَّلم المقصود به المسالمة بترك الحرب والاستسلام والمصالحة مع دفع الجزية، فيكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً يعني مع المصالحة ودفع الجزية، والله تعالى أعلم.

وقوله: كَآفَّةً قال ابن عباس -ا- ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وقتادة، والضحاك جميعاً.

وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر، خاصة من آمن من أهل الكتاب.

هذا المعنى باعتبار أن المراد من قوله: ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً أي: ادخلوا في جميع شرائع الدين، فيدخل فيه من أسلم من أهل الكتاب وغيرهم، وتكون كَآفَّةً حالاً من السِّلم.

ويمكن أن تكون كَآفَّةً حالاً من ضمير المؤمنين في قوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي [سورة البقرة:208] والمعنى: ادخلوا أيها الناس في الإسلام جميعاً.

كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً، كذا قرأها بالنصب يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله: ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً، يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد ﷺ ولا تدعوا منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها.

وقوله: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:208]، أي اعملوا الطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون [سورة البقرة:169]، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير [سورة فاطر:6]، ولهذا قال: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:208].

المقصود بالخطوات: طرائق الشيطان ومسالكه فلا يُتبع في شيء مما يزينه للناس من الباطل، ومن طرائقه ما يتدرج به مع الإنسان ليوقعه بعد ذلك في المهالك، فتجده يبدأ معه شيئاً فشيئاً من التوسع في المباح، ثم يجره إلى الوقوع في المشتبه، فلا يدري إلا وقد أوقعه في الحرام، تحت أي مبرر أو حجة، فهذه كلها من خطوات الشيطان.

وقوله: فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ [سورة البقرة:209]، أي: عدلتم عن الحق بعدما قامت عليكم الحجج فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم [سورة البقرة:209].

قوله سبحانه: فَإِن زَلَلْتُمْ زل: بمعنى انحرف وحاد ومال، والمراد إذا عدلتم ووقع منكم انحراف، ومخالفة بعد ما تبين لكم الحق، فالتهديد بانتظاركم.

فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم [سورة البقرة:209] أي: في انتقامه لا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب، حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه، ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [سورة البقرة:210]، يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد -صلوات الله وسلامه عليه: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ، يعني يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

الظُلَل: جمع ظُلَّة، وهي كل ما أظلك من غمام وغير ذلك، والمقصود بالغمام كما يفسره بعض أهل العلم: السحاب الأبيض الرقيق، وقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما[1] فالغياية: كل شيء أظل الإنسان، وغطاءه، ولهذا سمي أسفل البئر: "غيابة الجب" وهي قعره، وكلّ ما غيّب شيئاً فهو غيابة .

ويقال للسحاب غمام، ويقال له ظُلَّة، ويجمع على ظُلَل.

ولهذا قال تعالى: وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ.

قوله سبحانه: وَقُضِيَ الأَمْرُ فعل عبر به بالماضي؛ لأنه متحقق الوقوع، فما كان متحقق الوقوع مما سيحصل في المستقبل يمكن أن يعبر عنه بالفعل الماضي، ومثل الآية قوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ [سورة النحل:1]، مع أنه لم يأت بعد.

وبعضهم يذكر كلاماً مختلفاً، لكن هذا من أقرب ما تفسر به الآية، والله أعلم.

كما قال الله تعالى: كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ۝ وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ۝ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [سورة الفجر:21-23]، وقال: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ .... [سورة الأنعام:158] الآية، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ [سورة البقرة:210]، يقول: الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجيء فيما يشاء.

هذا التفسير باعتبار أن قوله: فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [سورة البقرة:210] من صلة الملائكة، ولكن هذا خلاف الظاهر، والراجح أن قوله: فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [سورة البقرة:210] يرجع إلى مجيء الله -تبارك وتعالى، وهذا يدل عليه ظاهر القرآن، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري، وغيره من أئمة السنة في غالب ما نقل عنهم، إذ إن المجيء ثابت لله كما أخبر عن نفسه أنه يأتي، لكن إتيانه كما شاء على الوجه اللائق به، والواجب أن نؤمن ونصدق به كما أخبر، من غير أن ندخل في شيء من ذلك بأفهامنا وآرائنا، وإنما المرجع في ذلك كله إلى الوحي.

والذين يؤولون المجيء بمجيء أمر الله ، أو قضائه، أو عذابه، أو جزائه، أو نحو ذلك، ترد عليهم الآية الأخرى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [سورة الأنعام:158]، وقوله : وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر:22]، ولا حاجة لهذه التأويلات، فمجيئه على الوجه اللائق به، كما أن سمعه وبصره على الوجه اللائق به، وفعله وإرادته على الوجه اللائق به، فالقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.

يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام والله تعالى يجيء فيما يشاء، وهي في بعض القراءات: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، وهي كقوله: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً [سورة الفرقان:25].

القراءة الثانية يوجد فيها الاحتمال بأن قوله: فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [سورة البقرة:210] من صلة الملائكة، وعليه فلا تكون الآية مخالفة لظاهر القرآن، إلا أن الصواب في تفسير الآية ما أسلفناه.

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب ۝ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب [سورة البقرة:211-212]، يقول تعالى -مخبراً عن بني إسرائيل: كم شاهدوا مع موسى من آية بينة؟!

قوله سبحانه: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ [سورة البقرة:211] هذا سؤال تقريع وتوبيخ، لا سؤال استفادة، والمعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [سورة البقرة:211] المراد كم شاهدوا من الآيات البينات على يد أنبيائهم، ومن أعظمهم موسى ﷺ؟ كما قال الله : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ [سورة الإسراء:101] هو الأصح في تأويل الآية، لا قول من قال: إن المقصود من الآية النبي ﷺ مما جاء به من دلائل صدقه وأمارات نبوته، إذ ليس هذا هو الظاهر، وبالرغم من الآيات البينات والشواهد الساطعات، والدلائل المؤكدات مَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [سورة يونس:101].

أيْ حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به، كَيَدِه، وعصاه، وفلقه البحر، وضرب الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الآيات الدالة على وجود الفاعل المختار.

ظللهم الغمام حينما كانوا في التيه فالتفحوا بوهج الحر؛ لأنهم تاهوا في الصحراء فكان الغمام يظللهم، ويتنزل عليهم من لطف الله بهم وحسن تدبيره المن والسلوى كما أخبر سبحانه بقوله: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ [سورة البقرة:57].

وصدقِ من جرت هذه الخوارق على يديه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبدلوا نعمة الله كفرا، أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها، وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب [سورة البقرة:211]، كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار ۝ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار [سورة إبراهيم:28-29].

ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها، واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال، ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يُ، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها.

قوله -تبارك وتعالى: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة البقرة:212] جملة حالية، والمراد حال كونهم ساخرين من الذين آمنوا.

وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوا ابتغاء وجه الله، فلهذا فازوا بالمقام الأسعد، والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين.

جاء في المراد بالفوقية في قوله: وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة البقرة:212]: أنه العلو في الدرجة؛ لأنهم في الجنة والكفار في النار، ويحتمل أن يراد بالفوق المكان؛ لأن الجنة في السماء، والنار في أسفل سافلين، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام، وسقوط الكفر، وقتل أهله، وأسرهم، وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة، ومن تأمل تفسير ابن كثير -رحمه الله- للآية يجده من أجمع ما يقال في معنى الآية، فأهل الإيمان في درجات الجنة في مراتب علية ومقامات سمية، وأهل الكفر في دركات النار، يتجرعون غصصها، ويكتوون بنارها، ولا تسأل عما يغشاهم من ألوان الذل وصنوف المهانة.

أما ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ولهذا قال تعالى: وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة البقرة:212]، أي: يرزق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث: ابن آدم أَنفقْ، أُنفقْ عليك[2]، وقال النبي ﷺ: أَنفقْ بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً[3]، وقال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين [سورة سبأ:39]، وفي الصحيح أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم، فيقول أحدهم: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً [4].

قوله سبحانه: وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ قيل المراد: أنه عطاء متتابع كثير، بلا عد ولا حساب، وجاء بهذا اللفظ ليعبر به عن الكثرة، والغاية في التوسعة عليهم.

وبعض أهل العلم يقول: يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ يعني من غير محاسبة لهم على هذا العطاء، فرزْقُهم هنيء مليء مما أعده الله لهم في جناته، لا يلحقهم فيه تبعة، وليس وراءه مطالبة أو محاسبة، ولكن المعنى الظاهر المتبادر أنه عطاء كثير؛ لأن الذي يُحسب ويُعد من العطاء إنما هو القليل، وأما الكثير فلا حصر له ولا حد، والله أعلم.

وفي الصحيح: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس[5]

وفي مسند الإمام أحمد عن النبي ﷺ أنه قال: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له[6].

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم [سورة البقرة:213].

روى ابن جرير عن ابن عباس -ا- قال: كان بين نوح وآدم -عليهما السلام- عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا}.

ورواه الحاكم في مستدركه ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كذا رواه أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها: {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين}.

قوله -سبحانه: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ [سورة البقرة:213] اختلف أهل التأويل في المراد بالناس المذكورين في هذه الآية فبعضهم يقول: آدم، وبعضهم يقول: آدم وحواء، وبعضهم يقول: حينما استخرجهم الله من ذرية آدم -عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يقول غير هذا، والمعنى الذي ذكره ابن كثير هو أرجح أقاويل المفسرين، وهذه الآية كقوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ [سورة يونس:19]، فكانوا كذلك من بعد آدم -عليه الصلاة والسلام- إلى عهد نوح -عليه الصلاة والسلام- ثم وقع الشرك، وهو أول ما وقع في الأرض كما دل عليه أثر ابن عباس، وعليه عامة السلف وهو قول المحققين، كابن جرير الطبري، وابن القيم، وجماعة غيرهم.

فَاخْتَلَفُواْ هذا المقدر تدل عليه قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود –ا، واقتُبس من لفظ الآية، وهذا ما يسمى بدلالة الاقتضاء من قسم المنطوق غير الصريح عند الأصوليين، والاقتضاء تارةً يكون اقتضاء لغوياً، وتارة عقلياً، وتارة شرعياً، ولا منافاة بين العقل والشرع، فحينما يقول الله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [سورة النساء:23]، فقول الشرع لا يدل على أن التحريم يتعلق بالذوات، فلا بد من مقدر، هل حرم عليكم أكل أمهاتكم، أو ضرب أمهاتكم، فدلالة الاقتضاء تقتضي أنه حرم عليكم الاستمتاع بأمهاتكم.

وفي آية الصيام أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى [سورة البقرة:184] دلالة الاقتضاء الشرعي: فأفطر فعندها يجب عليه عدة من أيام أخر، والعرب تترك من الكلام ما كان مدرَكاً للسامع لا يخفى عليه اختصاراً، وهذا من الفصاحة والبلاغة، ولذا يقول ابن مالك:

وحذف ما يعلم جائز ..........................
والله تعالى أعلم.

وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة:213] (أل) تحتمل أن تكون للجنس، جنس الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء.

وتحتمل أن تكون (أل) العهد، ويكون المراد بالكتاب التوراة، وهذا المعنى اختاره بعض السلف، واختاره ابن جرير الطبري -رحمه الله، ولكن ظاهر القرآن أن (أل) للجنس في لفظ الكتاب؛ لأنه ذكر النبيين ولم يذكر بعضاً منهم.

وابن جرير -رحمه الله- كلامه يتراوح في هذه الآيات فيحملها على بني إسرائيل تارة، ويجعلها عامة تارة أخرى، ولا شك أن بني إسرائيل ممن يدخلون في هؤلاء الذين وقع بينهم هذا التفاوت والاختلاف والافتراق، لأجل ذلك بعث الله النبيين بحيث إن أكثر الأنبياء في بني إسرائيل.

لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [سورة البقرة:213] يحتمل أن يكون المراد أن الله يحكم بين الناس، ويحتمل أن يكون الذي يحكم هو الكتاب المذكور وهذا هو الأقرب، ولا إشكال أن يضاف الحكم إلى الكتاب والمقصود به من بعث بالكتاب، أو من يقوم على الحكم به كما قال الله : إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ [سورة المائدة:44]، والله قال: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا [سورة الجاثية:29]، فعبر بنطق الكتاب، وقصد أن الأنبياء ينطقون عنا بالحق من هذا الكتاب المنزل.

وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ [سورة البقرة:213] في عود الضمير احتمالات:

  • أنه يعود إلى الكتاب المذكور، وهذا المتبادر.
  • أنه يعود إلى الحق، وهذا معنى قريب ومحتمل.
  • أنه يعود إلى من أُنزل عليه الكتاب وهو محمد ﷺ، باعتبار أن الذي أنزل عليه الكتاب هو محمد -عليه الصلاة والسلام، وهذا بعيد، لأن الكتاب كما سبق جنس يصدق على كل الكتب المنزلة، والقاعدة في هذا الباب: أنه إذا أمكن اتحاد مرجع الضمائر فإنه لا يصار إلى تفريقها، والعلم عند الله -تبارك وتعالى.

إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ [سورة البقرة:213] يعني أوتوا الكتاب وأعطوا علمه، وهم الأمم الذين أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب بعدما وقع الشرك والخلاف والكفر في الناس، وابن جرير -رحمه الله- يحملها على معنى خاص، يحملها على اليهود، وعلى كتابهم وهو التوراة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

 

  1. رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها –باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة برقم (1/553) (804).
  2. رواه البخاري في كتاب النفقات –باب فضل النفقة على الأهل بلفظ أنفق يا ابن آدم أنفق عليك برقم (5352) (13/384)، ورواه مسلم في كتاب الزكاة –باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم (993) (2/690).
  3. رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (1018) (1/442)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (1885).
  4. رواه البخاري في كتاب الزكاة –باب قول الله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5-10]  اللهم أعط منفق مال خلفا برقم (1374) (2/522)، ومسلم في كتاب الزكاة –باب في المنفق والممسك برقم (1010) (2/700).
  5. رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق –باب حدثنا قتيبة بن سعيد برقم (2958) (4/2273).
  6. رواه أحمد في مسنده برقم (24464) (6/71)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (6757).

مواد ذات صلة