ننتقل بعد ذلك إلى كتاب: "الفصل أو الفِصل في الملل والأهواء والنحل" مؤلفه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، المولود سنة: أربع وثمانين وثلاثمائة، المتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة، أصله من فارس، ولكن انتقل أهله كما انتقل الكثيرون إلى بلاد الأندلس.
وقد صنف كتبًا كثيرة ذكر ابنه في يده من مؤلفات أبيه ما يبلغ أربعمائة مجلدًا، مع أن كتبه أُحرقت في عصره في حياته لشدة ابن حزم رحمه الله على المخالفين فناصبه الكثيرون العداوة وقاموا عليه وشنعوا عليه وأحرقوا ما استطاعوا من كتبه.
فيما يتعلق بعقيدته فهو في كلامه على التوحيد يقرر توحيد الربوبية على عادة المتكلمين، المتكلمون يدندنون حول توحيد الربوبية ومعلوم أن توحيد الربوبية أمر لا إشكال في إثباته، وكان المشركون من العرب يثبتونه في الجملة، ولذلك لم يرد القرآن بتقرير هذا النوع من التوحيد وإنما يذكره للوصول إلى التوحيد الآخر الذي وقع فيه الاختلاف بين الرسل وأقوامهم وهو توحيد العبادة توحيد الإلهية، فالمتكلمون يدندنون حول توحيد الربوبية الذي لا إشكال أصلًا في ثبوته.
كذلك أيضًا يقرر نفي الجسمية والعرضية والزمانية والمكانية والحركة العبارات التي يرددها المتكلمون، وهي عبارات مجملة قد يقصدون بها أيضًا نفي بعض الصفات الذاتية، أو الصفات المتعلقة بالمشيئة والإرادة لكن هذه العبارات لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وكان الواجب الترفع عنها والإعراض عن ذلك، وضبط العبارة بما يوافق ويتفق مع الوحي.
المؤلف يوافق المعتزلة في أن أسماء الله أعلام محضة لا تتضمن الصفات، فهي ليست مشتقة وإنما جامدة عنده، ولهذا هو لا يثبت الصفات.
ولهذا ذكر مثل ابن عبدالهادي[1] رحمه الله بأن ابن حزم هو ظاهري في الفروع وجهمي في الأصول، وهذه من المفارقات العجيبة، فلم يجر نصوص الوحي على ظواهرها في باب الصفات مثلًا، كما أخذ بظواهر النصوص بالفروع العملية.
كذلك هو يرجع كثير من الصفات إلى الذات بعد أن يثبت ألفاظها الواردة كالوجه، واليد، والعين، والعز، والكبرياء، والحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، يرجع ذلك إلى الذات وهذا غير صحيح.
كما يؤول حديث الصورة والأصابع والساق والاستواء والنزول، ويوافق أهل السنة في إثبات النفس، والذات، والرؤية حقيقة على أحد قوليه، ويقر بأن الله قد تكلم بالقرآن حقيقة، لكنه يضطرب حينما يتحدث عن كون الله متكلمًا كما يوافق أهل السنة في غالب مباحث أفعال الله تبارك وتعالى فيثبت القضاء والقدر، وخلق الله لأفعال العباد، وهدايته، وإضلاله وعدم إيجاب شيء عليه إلا ما أوجبه على نفسه ، ولا ينسب إلى الله الظلم.
ويخالف المعتزلة في التحسين والتقبيح، مسألة التحسين والتقبيح المعتزلة يقولون: هما عقليان ويخالفهم في هذا.
وفي باب تعليل أفعال الله تعالى يوافق الأشعرية فيرى أنها غير معللة، يعني هذا يقتضي نفي صفة الحكمة لله تبارك وتعالى، يعني أنه يفعل لا لعلة ولا لحكمة تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، ومعلوم أن الله لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، فما خلق السموات والأرض وما بينهما عبثًا وباطلًا تعالى وتقدس عن ذلك.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له كلمة في ابن حزم وكتابه هذا في "مجموع الفتاوى": فذكر أنه في هذا التصنيف "الملل والنحل" إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث، يعني ما وافق بهذا الكتاب من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح هذا يحمد له، مثل ما ذكره في مسائل القدر، والإرجاء، ونحو ذلك، بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات، يقول: "فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث؛ لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، ويُعظم السلف وأئمة الحديث"[2].
ويقول: "إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن، وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك، ولكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات"[3]، يعني الأشعري في آخر أقواله في آخر مراحله هو انتقل إلى مراحل كما سيأتي ففي آخر أحواله كان أكثر موافقة للسنة ولأئمتها، يقول: "وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث، وأكثر تعظيمًا له ولأهله من غيره"[4]، طبعًا ابن حزم معروف أنه واسع الاطلاع والعلم على السنة والأحاديث وأقاويل الصحابة فمن بعدهم، وهو حافظ واسع الحفظ، بخلاف هؤلاء من المتكلمين الذين لم يعرفوا هذه النقول السمعية من الأحاديث النبوية، والآثار عن السلف الصالح .
شيخ الإسلام يقول: "لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك"[5]، يعني هو يحفظ لكن أثر عليه دراسة الفلسفة والمنطق، وله كتاب في المنطق مطبوع، ويشدد فيه على من منع من دراسة المنطق.
شيخ الإسلام يقول بأنه وافق هؤلاء في اللفظ، وهؤلاء في المعنى، يعني وافق أئمة السنة في اللفظ لحفظه للنصوص، ولكنه خالف في محملها ومعناها فوافق فيها هؤلاء المتكلمين، يقول: "وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له"، -يعني تناقض- "كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات، ونحوه من عبادات القلوب، مضمومًا إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، -يعني الجمود على الظاهر- ودعوى متابعة الظواهر"[6]، يعني يأخذ بظواهر النصوص وتعرفون ما شنه به عليه مما أضافوه إليه وقد لا يكون من كلامه أصلًا لكن من باب مثلًا نهى النبي ﷺ عن البول في الماء الدائم الذي لا يجري[7]، فيقولون بأنه يقول وهذا قد لا يثبت عنه أصلًا لكن من باب تشنيع الخصوم يقولون: "لو بال في قارورة ثم صبها في الماء الدائم الذي لا يجري فلا حرج"[8]؛ لأنه لم يبل في الماء الدائم مباشرة النهي لا يبولن أحدكم في الماء الدائم فإذا بال بواسطة ثم صبه في الماء الدائم لم يبل فيه ظاهرًا وأن هذا سائغ، لكن لم تصل الأمور إلى هذا الحد، لكن هكذا يشنعون بمثل هذا ونظائره.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره"[9]، لاحظ إنصاف شيخ الإسلام رحمه الله هكذا مع الجميع حتى حينما يتحدث عن الغزالي والرازي، بل حينما يتحدث عن الفلاسفة، وغيرهم.
يقول: "فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة لأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء"[10].
عنوان الكتاب
العنوان هو الفصل أو الفِصل بعضهم قال إنه يضبط هكذا بالكسر الفِصل قالوا: هذا جمع فصلة وهي النخلة المنقولة من موضعها إلى موضع آخر لتثمر لكن هذا قد لا يصح من جهة اللغة أصلًا والاشتقاق.
وذهب آخرون إلى أنه بالفتح الفَصل واحتجوا: بأن جمع الفصلة كما قالوا: النخلة التي نقلت من مكانها فصال وفصلات وليس فصل هذا من جهة اللغة، ثم قالوا: بأن الفتح هكذا الفَصل هو الحق والقضاء بين الحق والباطل وهذان المعنيان مناسبان لموضوع الكتاب، الفَصل يعني الحكم والقضاء بين الطوائف الفرق ونحو ذلك، وهذا المناسب لمنهج صاحبه؛ لأنه يناقش ويقرر ويستدل ويحتج، ويبين أن هذا حق وباطل يحكم، يعني بين هؤلاء فقصد الفصل بين أهل الملل والأهواء والنحل.
وقد ذكره ياقوت الحموي بعنوان: "الفَصل بين أهل الآراء والنحل"، هذا العنوان لا إشكال فيه ما يحتمل الفِصل، الفصل يعني الحكم والقضاء بين أهل الأهواء والنحل العنوان واضح يؤيد الفتح.
وفي كتاب "نفح الطيب"[11] هكذا قال العنوان: الفَصل بين أهل الأهواء والنحل أيضًا.
سبب تأليف الكتاب
ما الباعث على تأليف هذا الكتاب لماذا ألفه ذكر في المقدمة أنه قصد به إيراد البراهين المنتجة عن المقدمات الحسية، أو الراجعة إلى الحس من قرب أو من بعد، يعني أنه يرجع إلى المقدمات اليقينية طبعًا اليقينية عند بعضهم هي الحس، نرجع إلى الحواس الخمس رأيته، أو سمعته، وتعرفون أهل الكلام يرون أن العقل هو الذي يعول عليه بقضايا الاعتقاد، وهذا أيضًا فيه إشكال، وأهل السنة يقولون: إن اليقين يؤخذ من دلائل الكتاب والسنة الصحيحة، وهذه هي الأدلة الأصلية وما يتبع ذلك من الإجماع، ثم الأدلة الفرعية، وهي الفطرة والعقل الصحيح، هذه أدلة تابعة كلها أدلة صحيحة على كل حال وذكر أنه لا يصح من ذلك إلا ما صححت البراهين المذكورة فقط، فيقول: بأن الحق هو فقط هذا يعني أنه قصد بيان الحق من الباطل من مقالات أهل الأديان والنحل والملل عن طريق الأدلة اليقينية، ما هي الأدلة اليقينية؟
يقول: لا يرجع إلى الحس والواقع أن الأدلة اليقينية لا تقتصر على هذا، لكن في الاحتجاج على أهل الديانات ممن لا ينتسبون إلى الإسلام أصلًا هنا يحتاج إلى الأدلة العقلية والحسية؛ لأنهم لا يؤمنون بالقرآن أصلًا، ولا بالسنة فتقول: لهم قال الله قال رسوله ﷺ، مع أن الدلائل من الكتاب والسنة كما يقول الشاطبي[12]: "هي على نوعين نوع هو دليل سمعي عقلي: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91] هذه أدلة نقلية لكنها في مضمونها تتضمن حجة عقلية فهذه يستدل بها على الموافق والمخالف، يعني لا يقول: أنا ما أؤمن بالقرآن مضمون هذا الدليل يلزمه لو يوجد أكثر من إله في هذا الكون لحصل التضاد والتخالف والتعارض فيفسد نظام هذا الكون.
وهناك أدلة سمعية لا تتضمن أدلة عقلية، فهذه يستدل بها على الموافق، يعني الذي يؤمن بهذه النصوص، يؤمن بالإسلام بالكتاب والسنة فيحتج عليه بها، قال الله كذا، وقال رسوله ﷺ كذا، فالأدلة من هذه الحيثية الأدلة السمعية على نوعين في الاحتجاج.
مصادر ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل
مصادر المؤلف في هذا الكتاب هو ذكر نحوًا من ثلاثين مصدرًا فيه تضعيف الكتاب، يعني الكتب التي يسميها، أو المصادر التي يسميها، وصرح أيضًا بالتلقي عن بعض الأشخاص في تسعة مواضع أخرى.
طريقته في ترتيب الكتاب إجمالًا جعله على قسمين، ثم ألحق بهما قسمًا ثالثًا، أما الأولان فتكلم فيهما على أهل الملل والنحل، الأول: في الملل المخالفة لملة الإسلام، ورتبهم على حسب بعدهم عن الإسلام حيث بدأ بالأبعد.
والثاني: في أهل النحل المنتسبة إلى الإسلام، مراعيًا في الأغلب الأبواب التي اختلفوا عليها وهي في نظره هذه الأبواب التوحيد القدر الإيمان الوعيد الإمامة المفاضلة يعني بين الصحابة .
أما الثالث: فخصه في الحديث عن بعض المعاني والموضوعات التي يسميها المتكلمون: اللطائف، مثل: السحر، المعجزات، الجن، الطبائع، النجوم، الجواهر، الأعراض، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالعقائد.
وصدر هذا الكتاب بمقدمة نبه فيها على الغرض من التأليف، ثم ذكر رؤوس الفرق المخالفة لدين الإسلام، وهي ست في نظره، ثم ذكر بعض فروعها.
كذلك أفرد بابًا مستقلًا ذكر فيه ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق في كل ما اختلف فيه، يعني ما اختلف فيه الناس، وكيفية إقامة هذه البراهين، والرجل أوتي جدلًا كما لا يخفى.
وطريقته في عرض هذه الموضوعات يبدأ أولًا بذكر الاختلاف الحاصل في كل مسألة يوردها، ويذكر الفرق التي افترقت فيها، ويوضح مذهب كل فرقة باختصار، ثم يشرع في مناقشة كل مذهب على حدة، هو لا يعرض مثل الشهرستاني فقط بل يناقش هؤلاء، ويحتج عليهم، ولربما خلط مناقشة أكثر من مذهب في موضع واحد؛ لكون الكلام ينطبق على أكثر من فرقة كما فعل مع فرق النصارى الثلاث.
ولم يلتزم بمنهج معين في بيان القول المختار عنده، فهو تارة يفرد موضعًا خاصًا يصرح فيه برأيه كما في مسألة القرآن، وتارة يذكر رأيه أثناء المناقشة كما في الرؤية في رؤية الله ، وتارة يفرقه في مواضع متعددة فإذا جمعتها تبين ترجيحه، تتبع عبارات المؤلف ويتبين الترجيح، وتارة ينسب ذلك إلى أهل السنة يقول: وهذا قول أهل السنة، وأهل السنة بحسب فهمه هو.
يكثر المؤلف من الاستطرادات في مناقشة الأقوال والرد على الاعتراضات بعد استقصائها، بل قد يذكر أقوالًا محتملة ويرد عليها يعني ما يعرف قائل بها، وإنما أن ذلك ذكره احتمالًا، يعني لو قال أحد بهذا، ثم يرد عليه بخلاف الشهرستاني فهو لا يرد ولا يستطرد.
كذلك أيضًا في مواضع كثيرة يفرد أبوابًا أو فصولًا لبعض المسائل الفرعية، ويطيل النفس في مناقشتها، مثل: مسألة: الواحد هل هو عدد أو لا؟ رقم واحد هل هو عدد أو لا؟
وهذه مسألة يناقشها ويطيل فيها بناء على قضية يشغب بعض المنحرفين فيها، في مسألة تتعلق بوحدانية الله ، وما إلى ذلك مما يتصل بالوحدانية.
أنا لا أريد أن أذكر شيئًا فيه شبهة؛ لأن هذا ليس وقت المناقشة لهذه الأمور والرد عليها فيذهب الوقت، ولكني أشير لبعض الإشارات مما لا يورث شبهة وأترك ما قد يورث اشتباهًا وإشكالًا.
منهج المؤلف في الاستدلال والرد
ما يتعلق بمنهج المؤلف في الاستدلال والرد فالكتاب مليء بالأدلة النقلية والعقلية والحسية، وقد اعتمد في القسم الأول من الكتاب، والقسم الأول: يتعلق بأهل الديانات الأخرى، اعتمد على الأدلة العقلية والحسية بالدرجة الأولى؛ لأن هؤلاء لا يؤمنون بالقرآن والسنة.
وفي القسم الثاني: اعتمد على الأدلة النقلية خاصة من القرآن مع ذكر الأدلة العقلية، يعني هذه في الملل أو في الفرق المنتسبة إلى الإسلام، كما أنه يسوق الأحاديث كثيرًا بأسانيده هو صاحب إسناد كما هو معلوم، ويعول على اللغة في كثير من الاستدلالات والردود كما في مسألة الصفات والإيمان.
وهو متأثر في كثير من استدلالاته وردوده بمناهج المتكلمين ومصطلحاتهم وعباراتهم مع استقلالية واضحة في الرأي والشخصية كما هو معلوم، فهو ليس بمجرد ناقل أو مقلد لغيره، وهذا ظاهر كما في مناقشته للنصارى، ومناقشات مع بعض الطوائف المنتسبة إلى الإسلام سواء كانوا على حق أو باطل، فحينما يتحدث عن قضايا الصفات مثلًا الاستواء العلم الكلام ونحو هذا يناقش بطريقته المعهودة وإن كان في بعض ذلك على غير الصواب.
ويبني آراءه ذات الصلة على أصول الفقه الظاهري يعني القضايا التي لها تعلق بهذا في فهم الأمور العملية الفروعية على أصول الفقه الظاهري.
ملامح عامة لكتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل
هذا الكتاب اشتمل على الملل والفرق، المؤلف أنكر حديث الافتراق وبالتالي لم يبن كتابه عليه كما فعل آخرون، يعني بنوا كتابهم على حديث الافتراق[13] إلى آخره المؤلف أصلًا أنكر هذا الحديث وضعفه.
ولم يضع مقدمات يضمن فيها مجمل محتويات الكتاب كما فعل البغدادي والشهرستاني.
كذلك اعتمد على منهج التقرير والنقد، يعني ليس مجرد العرض للفرقة ولآرائها لا وكان في ذلك شديد اللهجة كما هو معلوم خاصة مع النصارى واليهود في كلامه على كتابهم المقدس، ولهذا يعتبر كتابه أول دراسة نقدية للكتاب المقدس؛ لأنه عارضه بنصوص منه وبين تناقضاته.
من حيث طريقة العرض تارة يجعل زعماء الفرق وأصحاب المقالات أصولًا ثم يورد تحت كل منهما آراءه ومقالاته، وتارة يجعل المسائل أصولًا ثم يورد ما قيل فيها من آراء وإن كان الثاني هو الأغلب.
وكما سبق في عبارة السبكي حينما قارن بينه وبين الشهرستاني فذكر أن الشهرستاني أحسن ترتيبًا، وأن كتاب ابن حزم يعني كأنه مشتت كذلك أيضًا لم يوافق أصحاب الكتب المشهورة في أصول الفرق التي تفرعت عنها المذاهب والمقالات، كما ذكرنا هل هي أربع فرق الأصول الكبار ثم تفرعت.
كذلك أطال النفس في الكلام على أهل الكتاب حتى أخذ ذلك قدرًا من الكتاب أكثر مما أخذه غيرهم بينما كان حديثه عن الفرق مختصرًا، والشهرستاني يتحدث بطريقة متوازنة هذا لا يطيل النفس في بعض الأبواب ويختصر في بعضها.
كذلك جاء ترتيبه للموضوعات مضطربًا كما قال السبكي يقول: "مصنف ابن حزم وإن كان أبسط منه، -يعني أوسع من الشهرستاني- إلا أنه مبدد ليس له نظام"[14]، فمثلًا: تحدث عن النصرانية ثم استطرد في الحديث عن عادات القدماء والنبوات وتناسخ الأرواح وتحدث عن اليهود ثم عاد إلى النصرانية ولعل سبب ذلك أنه أدمج فيه رسائل مستقلة، يعني رسائل هي في موضوع التناسخ مثلًا، رسالة في موضوع مثلًا: النبوات، أو نحو ذلك.
وقد صدر هذا الكتاب في الحديث عن الملل خلافًا للشهرستاني والأشعري، يعني ما تحدث عن الفرق المنتسبة للإسلام أولًا وإنما عن الملل.
يعد هذا الكتاب مباينًا لغيره من كتب الفرق في الاستدلال والترتيب والمصادر وتقسيم الفرق، وتحدث المؤلف عن بعض الطوائف التي لم يتحدث عنها الشهرستاني مثلًا مثل: السفسطائية، كذلك اعتبر أصول الفرق خمسًا: المعتزلة، المرجئة، الشيعة، الخوارج، أهل السنة.
ويظهر من خلال هذا الكتاب اهتمام المؤلف بالقضايا الفلسفية لذلك تجد الكلام على مثل الطفرة، الإحالة، الجوهر، العرض، فقد أفرد الحديث عنها وأعطى كل مسألة يعني حيزًا ولا حاجة لشيء من ذلك أصلًا.
كذلك مع شدته في الردود والمناقشات إلا أنه كان أكثر موضوعية من البغدادي كما سيأتي في الكلام عن كتاب البغدادي، فكان نقده يميل إلى الناحية العلمية الموضوعية أكثر من البغدادي يعني الجانب العاطفي عند البغدادي أظهر.
كذلك يظهر جليًا في مناقشاته نبرة التحدي والتعالي والاعتداد بالنفس كما هو معروف، فكان رحمه الله يصك المخالفين صك الجندل، وينشقهم الخردل كما قيل، ولهذا ناصبوه العداوة، يعني حتى في غير المذاهب الاعتقادية يعني في الفقه المالكي مثلًا أو المذاهب الأخرى الأحناف والحنفية والشافعية تكلم على الأئمة بكلام شديد، أئمة المذاهب، وشنع عليهم، وأحيانًا يتحدث بطريقة ساخرة، ويذكر أن ذلك من قبيل المخالفة والمصادمة للنصوص، أو التناقضات، أو نحو ذلك فقام عليه أتباعهم من الفقهاء وردوا عليه بردود مشابهة، وأخرجوه، وأخرجوا الظاهرية بعضهم يعني أخرجوهم من أهل الإجماع؛ فلا يعتد بإجماعهم أصلًا، وما إلى ذلك.
المؤلف يكثر من الأدلة النقلية لا سيما من القرآن كما يذكر وجه دلالتها.
وللمؤلف عناية في بيان الحق لا سيما في بيان أحقية دين الإسلام وإثبات نبوة محمد ﷺ، والوحي، وسلامة القرآن، وهذه لو تجمع بعض هذه الجوانب ويكتب فيها أبحاث ورسائل جامعية، ونحو ذلك.
كذلك عبارته في الكتاب واضحة ويعتني بنسبة الأقوال إلى أصحابها مع الإسناد أحيانًا مع أنه في أحيان كثيرة لا يذكر مصدر القول الذي نقله بل قد ينقل عن قوم أشياء لا تثبت عنهم، كما نقل عن الشافعي والكناني وداود بن علي الظاهري الذي هو يتبعه في أعني أن ابن حزم على مذهب داود في الظاهرية أنهم قالوا: إن الله سميع بصير ولا نقول: بسمع ولا بصر؛ لأن الله تعالى لم يقله ولكنه سميع بذاته، وهذا الكلام غير صحيح، ولا يثبت عنهم إطلاقًا[15].
وكذلك أيضًا قد يذكر عنوان الكتاب الذي نقل منه وقد لا يذكره أحيانًا يقول كتاب دون تسميته.
مصادر المؤلف في هذا الكتاب كثيرة ويحاول استقصاء كل ما يتعلق بالموضوع من أقوال وأدلة واعتراضات وشبه وفروع مع المناقشة لذلك كله، ولم يبن الكتاب على عقيدة أهل السنة، ولا على منهجهم في الاستدلال مع تبحر المؤلف بالسنة وعلومها، وسعة اطلاعه على الآثار؛ لأنه درس الفلسفة، والمنطق فأثر ذلك عليه.
خاض المؤلف في موضوعات كان ينبغي أن ينزه الكتاب عنها مسألة: زعم البعض بأن الله خلق العالم جملة كما هو بجميع أحواله بلا زمان هذه أسقط من أن يرد عليها وتناقش، فضلًا عن أن يُطال في بيان بطلانها المؤلف يناقش هذا الكلام ويرد وهذه القضية لا تستحق ذلك، معروف أن الله خلق الأرض في يومين وخلق السماء في يومين السموات ودحا الأرض في يومين خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، وكان آخر ذلك يوم الجمعة، وخلق الله فيها آدم في آخر ساعة منها هذا معروف ولم يخلق العالم جملة واحدة.
لم يذكر الماتريدية في كتابه، والماتريدية مقاربون جدًّا للأشاعرة حتى أن مسائل الخلاف بينهم فرعية في الاعتقاد أعني وجزئية، بعضهم يقول: إنهم اختلفوا في نحو ثلاث عشرة مسألة أو نحو هذا قريب من هذا وبعضهم يزيد قليلًا لكن يبقى أن الماتريدية والأشعرية كأنهم يرجعون إلى الكلابية، وكأنهم يتلقون من مصدر واحد مع أنه ما ثبت لقى لكن هم في غاية التقارب، فالماتريدية في المشرق أقصد المشرق البعيد يعني بلاد العجم، والأشعرية في يعني بلاد العراق وما والاه والشام وبلاد المغرب انتقلت إليها هذه المذاهب الكلامية للأسف عن طريق الهروي، أعني أبا ذر كان في مكة وتأثر بالباقلاني بسبب موقف للأسف الشديد، رأى الإمام أبا الحسن الدارقطني يقبل رأس الباقلاني فتعجب أبو ذر الهروي وهو الذي يروي صحيح البخاري، ويسنده تأثر لما رأى هذا المشهد وسأل الدارقطني كيف تقبل رأس الباقلاني، والباقلاني ليس من أئمة السنة، وإنما هو من أئمة المتكلمين لكن كان من فضلائهم فذكر أن هذا يذب عن الإسلام ويرد على خصومه الطاعنين فيه، فوقع ذلك في نفس الهروي فتأثر ببعض ما يقوله الباقلاني من المسائل الكلامية وبقي الهروي في مكة يروي صحيح البخاري ويأتي الناس بالحج والعمرة من الآفاق فيأخذون عنه فجاء المغاربة، وأهل الأندلس من جملة من جاء فتلقى بعضهم ذلك عنه، فنقل أبو الوليد الباجي كما ذكر أبو بكر بن العربي في رحلته إلى المشرق في "قانون التأويل" تلقى هذا المذهب ورجع فيه إلى الأندلس ولم يكن معروفًا باعتراف ابن العربي، ووالد ابن العربي ومن كان بحضرته من الشيوخ إن هذا المذهب غير معروف المذهب الكلامي يعني ما كانوا يعرفون إلا مذهب السلف، يعني إلى القرن الرابع الهجري ثم بعد ذلك لما سمع هذا الكلام ابن العربي وهو صغير شاب في مقتبل العمر قرر أن يذهب إلى المصدر من هو المصدر الغزالي، أعني أبا حامد في العراق ويتلقى عنه ولا يكتفي بما جاء به الباجي، بل يأخذ من حيث أخذ فجاء وقابل الغزالي في رحلته إلى الحج وللأسف حتى إنه قال بنفسه ابن العربي: "إن الغزالي دخل في بطن الفلسفة ولم يستطع الخروج منها"[16]، ومع ذلك أخذ عنه ونقل مذهب المتكلمين إلى الأندلس مذهب الأشاعرة هكذا انتقلت المذاهب الكلامية بعد ما كان الناس على مذهب السلف رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم
هذا استطراد لكن له أهمية كيف تنتقل الآراء والمذاهب والأفكار والعقائد، وابن حزم رحمه الله في هذا الكتاب يفسر الألفاظ ويبين معانيها اللغوية يورد بعض الأحاديث الضعيفة دون تنبيه، قد يحكم على الحديث، وقد يورده بالمعنى، عباراته في بعض العناوين طويلة جدًّا، نسب لبعض السلف ما هم بريؤون منه، كنسبة بعضهم إلى نفي الرؤية، ونسب الإمام أحمد إلى أنه فسر الكلام بالعلم، وهذا باطل، انتهى الكلام على هذا الكتاب.
كتاب: الفرق بين الفرق
الكتاب الثالث: وهو "الفرق بين الفرق" هذه الكتب التي نتحدث عنها كلها مطبوعة، المؤلف هو عبدالقاهر بن طاهر بن محمد التميمي أبو منصور البغدادي الشافعي، توفي في اسفرايين سنة: أربعمائة وتسع وعشرين للهجرة، يعني في أوائل القرن الخامس الهجري.
سبب تأليف الكتاب
الباعث على تأليف هذا الكتاب ذكره في المقدمة أن ذلك كان إجابة لما طلب منه من شرح حديث الافتراق، وتمييز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة، فهو بنى كتابه على حديث الافتراق الذي لم يبن عليه ابن حزم مثلًا.
ما هي الطريقة التي سلكها في ترتيب هذا الكتاب جعله على خمسة أبواب:
الأول: في بيان حديث الافتراق.
الثاني: في بيان فرق الأئمة إجمالًا وكذلك ما ليس منها إجمالًا، وذكر أقوال الناس في تحديد الضابط لذلك.
كما ذكر فصلًا في تاريخ الخلاف، يعني هذه أشياء يستفاد منها فيمن أراد أن يبحث ويطلع في مثل هذه المسائل
الثالث: في بيان فضائح كل فرقة من الفرق المنحرفة كما يعبر.
الرابع: في بيان الفرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منه.
الخامس: في بيان الفرقة الناجية هذا الكتاب له مختصر اختصره رزق الله الرسعني وهو مطبوع.
المؤلف له كتاب آخر في "الملل والنحل" لكنه مخطوط.
والرازي كما سبق يرى أن هذا الكتاب هو الأصل الذي اعتمد عليه الشهرستاني في القسم الأول من كتابه عندما ذكر الفرق والرازي له تحفظ على هذا الكتاب مع أنه يوافق مؤلفه في الاعتقاد، كلاهما من المتكلمين الأشاعرة، والواقع أنه يختلف مع الشهرستاني في المنهج، وفي عرض الآراء، وترتيب الفرق، وتصنيفها بل في كل من الكتابين موضوعات وأبحاث ليست في الآخر، لكنه استفاد منه المؤلف سابق للشهرستاني لكني أذكرها هذه الكتب الأربعة بالذات بحسب أهميتها.
والشهرستاني قد يتبنى بعض الآراء الذي كذّب البغدادي في نسبتها إلى بعض الفرق يعني البغدادي يقول هذا لا يصح عنه هذه الفرقة، والشهرستاني قد يتبناها، وأنها تنسب إلى تلك الطائفة هذا يدل على أنه ما اعتمد عليه اعتمادًا كليًا.
مصادر المؤلف
صرح المؤلف في ثنايا الكتاب بما يزيد على أربعين مصدرًا، وقد اقتصر فيه على ذكر الفرق، وبناه كما سبق على حديث الافتراق.
وصدره بمقدمة علمية تتضمن مجمل ما احتواه الكتاب، وهو لا يكتفي بعرض الآراء والمذاهب بل ينقدها، وأحيانًا بأسلوب فيه شدة وسخرية وشماته، فمثلًا ما قاله عن الجاحظ.
الجاحظ من المعتزلة وأديب وله فرقة تنسب إليه من المعتزلة يقال لها: الجاحظية يقول عنه البغدادي يقول عن الجاحظ يقول: "ولو عرفوا جهالاته في ضلالاته لاستغفروا الله على تسميتهم إياه إنسانًا"[17]، فهذا كلام شديد، يعني مهما كان الاختلاف فمثل هذا لا يسوغ، بل قال عنه:
لو يمسخ الخنزير مسخًا ثانيًا | ما كان إلا دون قبح الجاحظ |
رجل ينوب عن الجحيم بنفسه | وهو القذى في كل طرف لاحظ[18] |
يعني القذى في العيون يقول: ينوب عن الجحيم ولو مسخ الخنزير مسخًا آخر ما كان أقل من الجاحظ.
الجاحظ كان في صورته ذمامة يقولون: كان دميم الخلقة حتى يقولون: إن امرأة جاءت للصائغ صائغ الذهب تريد خاتمًا عليه رسم صورة شيطان، فقال لها: الصائغ لم أر شيطانًا حتى أنقش ذلك على الخاتم، وكان الجاحظ جالسًا في ناحية فذهبت إليه وأخذت بيده، ودعته فجاء معها لا يدري فأشارت إليه، وقالت للصائغ: مثل هذا وذهبت، فقال الجاحظ: ما الأمر؟ فقال: إنها طلبت مني أن أنقش على خاتمها صورة شيطان، فقلت لها: لم أر شيطانًا حتى أنقش صورته فجاءت بك وقالت: مثل هذا[19].
وهناك أمثلة أخرى لعبارات مثل هذه لكني لا أحب مثل هذه العبارات لكن ذكرت شيئًا؛ ليتبين مستوى هذه الألفاظ.
هو لا يذكر الفرق ذكرًا مجردًا لا هو يقارن بعض المقالات بالمذاهب والأديان المنحرفة، فهؤلاء شابهوا اليهود في كذا، وهؤلاء كذا، بل قد يبلغ الأمر إلى الاتهام في الأعراض بل التكفير، وجعل أصحاب المقالات وزعماء الفرق أصولًا، ثم أورد تحت كل منهم آراءه ومقالاته.
ووافق الأشعري في أصول الفرق حيث ذهب إلى أنها اثنا عشر مع الاختلاف في تحديد عدد الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق، وكان عرضه للفرق متقاربًا فلم يركز الحديث ويسهب فيه في بعضها دون بعض، وأيضًا تميز كتابه بحسن الترتيب.
وفي تقسيم الفرق الإسلامية كان تصرفه متشابهًا إلى حد ما مع تصنيف الشهرستاني والأشعري، وكذلك مصادره كانت متقاربة نوعًا ما مع مصادر الأشعري والشهرستاني إلا إنه كثيرًا ما يصرح باطلاعه على كتب الفرقة التي يتكلم عليها.
كما عمد عند عد بعض الفرق لما ذكر مثلًا غلاة الشيعة فهؤلاء ذكرهم ضمن الفرق الخارجة عن الإسلام.
كذلك عرض عقيدة الأشاعرة وآراءهم عرضًا يفيد أنها العقيدة الصحيحة التي عليها جمهور أهل السنة، وهم معظم المسلمين، ولم يعرضها على أنها عقيدة طائفة فحسب، بل لم يدخلها ضمن تصنيفه للفرق الإسلامية؛ لأنه كان على عقيدة الأشاعرة، والقول بأن عقيدة الأشاعرة هي العقيدة الصحيحة هذا كلام غير صحيح، والقول بأنها عقيدة أكثر المسلمين هذا أيضًا غير صحيح، لماذا؟
لأن العامي لا مذهب له أصلًا، والعوام على الفطرة حتى في الفقه العوام لا مذهب لهم تقول: هذا شافعي، وهذا مالكي، وهذا حنفي، هذا غير صحيح، العامي لا مذهب له؛ لأنهم ما درسوا هذه المذاهب أصلًا وإنما مذهب العامي هو مذهب من أفتاه فيأخذ بقول من أفتاه حينما يتحرى الأعلم والأورع في الفتيا والسؤال.
فكذلك في العقائد العوام على الفطرة لا يقال: إنهم أشاعرة، أو معتزلة، أو زيدية، أو غير ذلك بل هم على الفطرة فالسواد الأعظم من المسلمين كانوا على الفطرة ولا زالوا.
الملامح العامة لكتاب: الفرق بين الفرق
بعض الملامح العامة لهذا الكتاب مثلًا: عرضه لهذا الكتاب جاء شاملًا بحيث يعطي القراء تصورًا عن الفرقة من جوانب متعددة سواء كانت تاريخية، أو فقهية، أو غير ذلك، فيذكر حتى القضايا الفقهية فضلًا عن قضايا الاعتقاد، وهذا الكتاب يعتبر فيه تكامل في موضوعه، وفق عقيدة المؤلف كما سبق.
كذلك المقدمات التي ذكرها وختم كتابه بالحديث عن الفرقة الناجية، وتحقيق نجاتها، ومحاسن الإسلام وفضائل أهل السنة وعقائدهم، والأمور التي أجمعوا عليها في الاعتقاد والعمل طبعًا هو يعتقد أن الأشاعرة هم أهل السنة.
وقد جاء معظم ردود المؤلف بطريقة يعني فيها اندفاع وعاطفة وليست موضوعية كطريقة ابن حزم، وهو في هذا الكتاب يظهر منه التعصب الشديد لمذهبه ومعتقده، ولذلك الاعتماد على أقواله ونقولاته فيه إشكال، وأيضًا لم يذكر الماتريدية.
والكتاب فيه لطائف أو في بعض الجوانب لعلي أذكر شيئًا من ذلك؛ لتجديد النشاط، أشياء عجيبة هو يرد وذكرها ضمن الرد على الباطنية، الباطنية يأتون بأشياء غريبة ويدعون بذلك أنهم أصحاب كرامة، أو أصحاب معرفة غير عادية، فيرد عليهم بأن هذه أمور سهلة وبسيطة والعرب كانت تعرف أشياء أعجب من هذا بل يذكر أن الفلاسفة مثل: أرسطو نقلوا هذه الأشياء عن العرب، والأشياء التي سأذكرها مثلًا قضايا الحيوانات والمخلوقات علوم العرب هو ذكرها على أنها من علوم العرب شيء هائل انظروا كيف عرفوا هذه الأشياء بدقة يقول: "بأن العرب ذكروا في أشعارهم وأمثالهم جميع طبائع الحيوان، ولم يكن في زمانهم باطني ولا زعيم للباطنية"[20]، ويذكر كما سبق أن أرسطو أخذ هذه الفروقات التي يذكرها في الحيوان من أمثال العرب وأشعارهم.
الشاهد في الفرق بين ما يلد وما يبيض الحيوانات مثلًا هل السلحفاة تلد أو تبيض، وهل السمك يلد أو يبيض؟ هل الوزغ يلد أو يبيض، والضب يلد أو يبيض، والحية تلد أو تبيض في ضابط معين عند العرب يقولون: "كل شرقاء ولود، وكل صكاء بيوض"[21]، شرقاء يعني لها أذن هذه تلد، الفأرة لها أذن تلد، الأرنب له أذن يلد، السلحفاة السلحفاة ليس لها أذن وإنما ثقب فهذه صكاء فتبيض، الضب ثقب يبيض، وهكذا.
الحية تبيض السمكة تبيض وتعرف بهذا كل أنواع الحشرات والحيوانات بهذا الضابط القصير، "كل شرقاء يعني لها أذن فهي ولود وكل صكاء فهي بيوض"، يقول: ولهذا كان الخفاش من الطير ولودًا لا بيوضًا الخفاش طائر لكن له أذن فهو يلد وكل ذات أذن صكاء بيوض كالحية، والضب، والطيور، البائضة.
ونقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى والأصمعي أن العرب قالت بتجربتها في الجاهلية: إن كل حيوان لعينيه أهداب على الجفن الأعلى دون الأسفل إلا الإنسان، فإن أهدابه على الجفن الأعلى والأسفل، لاحظ كل كذا، وكل كذا، كل كذا.
وقالوا: "كل حيوان ألقي في الماء يسبح فيه إِلَّا الْإِنْسَان والقرد وَالْفرس الاعسر فانه يغرق فِيهِ إِلَّا أَن يتَعَلَّم الانسان السباحة"، فكل حيوان يعرف السباحة إلا ما استثنى، فإذا ألقيت الجمال لا تحتاج إلى تعليم وكذا الغنم والبقر تسبح، هذا من علوم العرب في الجاهلية يقولون كانوا في غاية الجهل اسمع هذه المعارف عندهم.
وقالوا في الإنسان: إنه إذا قطع رأسه وألقي في الماء انتصب قائمًا في وسط الماء، وباقي الحيوانات بحسب ما ألقيته إن ألقيته على جنب رأس مثلًا شاة يبقى على جنب ألقيته مقلوبًا يبقى مقلوبًا إلا الإنسان يقولون: يبقى منتصبًا حتى لو ألقيته بأي طريقة.
يقولون: "كل طائر كفه في رجليه وكف الإنسان والقرد في اليد".
يقولون: "كل ذي أربع ركبته في يده وركبتا الإنسان في رجليه".
وقالوا: "ليس للفرس غدد ولا كرش ولا طحال ولا كعب وليس للبعير مرارة وليس للظليم مخ"، والظليم هو ذكر النعام، يقولون: "كذلك طير الماء وحيتان البحر ليس لها ألسن ولا أدمغة، وقد يكون حوت النهر ذا لسان ودماغ".
وقالوا: "إن السموك يعني الأسماك كلها لا رئة لها"، كذلك وقالوا: "إن الضأن تضع في السنة مرة وتفرد ولا تتئم يعني لا تلد باثنين تلد مرة في السنة.
والماعز تضع في السنة مرتين وتضع الواحدة والاثنتين والثلاث والعدد أليس كذلك؟
يقول: "والنماء والبركة في الضأن أكثر منها في الماعز"، الناس أكثر ما يذبحون الضأن وهي لا تلد إلا في السنة مرة وتفرد تلد واحدًا.
وقالوا أيضًا: "إذا رعت الضأن نبتًا نبت ولا ينبت ما تأكله الماعز"، الضأن تأكل ما ظهر من النبات تقضمه وتترك الأصول والجذور، المعز تقلعه من أصوله فلا ينبت فتفسد المرعى لكن هي أقل من الضأن، يقول: "لأن الضأن تقرضه بأسنانها والماعز تقلعه من أصله".
وقالوا: "إن الماعز إذا حملت أنزلت اللبن في أول الحمل إلى الضرع، والضأن لا تنزل اللبن إلا عند الولادة".
وقالوا: "إن أصوات الذكور من كل جنس أجهر من أصوات الإناث إلا المعزة، فإن أصواتها أصوات الإناث أجهر من أصوات الذكور"، لاحظ هذا الإحصاء يعني جميع أنواع الحيوانات.
ومن أمثال العرب في الحيوان قولهم: "كل ثور أفطس"، أفطس يعني الأنف منخفض ومتطامن، "وكل بعير أعلم"، يعني مشقوق الشفه العليا.
"وكل ذي ناب أفرج"، وقالوا: إن الأسد لا يأكل شيئًا حامضًا ولا يدنو من النار ولا يدنو من الحامل.
وقالوا: إن حمل الكلب ستون يومًا فإن وضعت حملها لأقل من ذلك لم تكد أولادها تعيش.
وقالوا: "إن إناث الكلاب يحضن لسبعة أشهر، ثم إن الكلبة تحيض في كل سبعة أيام"، لكن ربما هنا خلل في الضبط هنا: يحِضنْ لسبعة أشهر والظاهر أنها يحضُنْ قال: لسبعة أشهر أو أنها تحيض كل سبعة أيام لمدة سبعة أشهر الله أعلم، ثم إن الكلبة تحيض في كل سبعة أيام وعلامة حيضها ورم أثغارها.
وقالوا في الكلب: "إنه لا يلقي من أسنانه شيئًا إلا الثامن"، يعني لا تسقط أسنانه إلا الثامن ثامن الأسنان.
وقالوا في الذئب: إنه ينام بإحدى عينيه ويحترس بالأخرى، والأرنب قالوا: تنام مفتوحة العينين.
وقالوا: ليس في الحيوان ما لسانه مقلوب إلا الفيل، وليس في ذوات الأربع ما ثديه على صدره إلا الفيل.
وقالوا: إن الفيل تضع لسبع سنين، والحمار لسنة، والبقرة في ذلك كالمرأة تسعة أشهر.
وقالوا في قضيب الأرنب والثعلب: "إنه عظم"، وقالوا: كل ذي رجلين إذا انكسرت إحداهما قام على الأخرى وعرج إلا الظليم، يعني ذكر النعام فإنه إذا انكسرت إحدى رجليه جثم في مكانه" لاحظ الاستقصاء كل كذا.
ولهذا قال الشاعر:
فإني وإياه كرجل نعامة على ما بنا | من ذي غنى أو لدى فقر[22] |
وقالوا في النعامة: إنها تبيض من ثلاثين بيضة إلى أربعين لكنها تخرج ثلاثين منها تحضن عليها كخيط ممدود على الاستواء، ولربما تركت بيضها، وحضنت بيض غيرها، ولهذا قيل:
كتاركة بيضها بالعراء | وملبسة بيض أخرى جناحا |
وقالوا في الفرخ والفروج: "إنهما يخلقان من البياض، -يعني ليس من صفار البيض وإنما من البياض-، والصفرة غذاؤهما.
وقالوا في القطا يشبه الحمام: إنها لا تضع إلا فردًا وفي العقاب الطائر المعروف إنها تضع ثلاث بيضات فتخرج بيضتين وتطرح واحدة فيخرجها الطير المعروف بكاسي العظام، ولهذا قيل في المثل: أبر من كاسي العظام.
وفي بعض المقاطع جاءوا بصورة طائر مع عش العقاب وقالوا: هذا الطائر فضولي، وهذا طائر مفسد، وأنه يخرج بيضة هذه ويضع بيضته وكذا هو في الواقع عندهم أنها هي كذا، وهذا يقوم بالإحسان إليها، يعني تخرج بيضة وتبقي بيضتين فيخرجها هذا الطائر المعروف بكاسي العظام، ولهذا قيل في المثل: "أبر من كاسي العظام".
وقالوا في الضب: "إنها تضع سبعين بيضة ولكنها تأكل ما خرج من الحسولة عن البيض إلا الحسل الذي يعدو ويهرب منها"، الحسل هو ولد الضب الصغير هذا لا تدركه تأكله لأنها لا تُرضع هي وليس لها أثداء ترضع أولادها فهم يهربون منها ويتقوت كل واحد منهم على ما تتقوت عليه الأم من الأعشاب، وأحيانًا بعض الحشرات، فهي تطارد هؤلاء الحسول وتأكلهم إلا الذي ينجو منها فيهرب ولا تدركه، ولهذا قالوا: "أعق من ضب"، هذا يمكن يقال عن الولد العاق، أو الذي لا يعرف أبويه، أو يذهب بشأنه يقال: هو حسل، أو أعق من حسل، أو أعق من ضب، أو نحو ذلك.
يقولون: والضب لا يرد الماء، ولهذا قالوا في المثل: "أروى من ضب".
وقالوا في الضب: "إنه ذو ذكرين، وللأنثى من الضباب فرجان من قُبل"، وقالوا في الحية: لها لسانان ولسانها أسود على اختلاف ألوان قشرها، والحيات كلها تكره ريح السذاب نوع من النبات، والبنفسج، وتعجب بريح التفاح والبطيخ والجزر والخردل واللبن والخمر.
وقالوا في الضفادع: إنها لا تصيح إلا وفي أفواهها الماء، ولا تصيح في دجلة بحال من الأحوال، وإن صاحت في الفرات وسائر الأنهار، يقول الشاعر في الضفدع:
يدخل في الأشداق ما ينقفه | حتى ينق والنقيق يلفته[23] |
يعني أن النقيق يدل عليها الحية فتصيدها فتأكلها وقالوا: إن الضفادع لا عظام لها.
وقالوا في الجعلان: إذا دفن في الورد سكن كالميت، فإذا أعيد إلى الروث تحرك، نسأل الله العافية.
فهذا خواص الحيوان هذه من علوم العرب في الجاهلية كانوا يعرفونها وتذكر في أمثالهم وأشعارهم بهذه الدقة ما الذي عرفهم بمثل هذا وكل كذا إلا كذا.
الكتاب الرابع: "مقالات المسلمين واختلاف المصلين"
ننتقل بعد ذلك إلى الكتاب الرابع هو كتاب مقالات المسلمين واختلاف المصلين لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المتوفى سنة: أربع وعشرين وثلاثمائة، هذا المؤلف معروف ومشهور، وله كتاب آخر في جمل مقالات الملحدين وجمل أقاويل الموحدين، اسمه: "جمل المقالات".
ومن المعروف عن أبي الحسن الأشعري رحمه الله أنه في باب المناظرة أقوى منه في باب التصنيف، فهذا يبين لنا طريقة تصنيف الكتاب هو قوي في المناظرة، وقد قال عنه ابن عساكر: "كان الأشعري تلميذًا للجبائي، وأبو علي الجبائي كان متزوجًا لأم الأشعري، فكان الأشعري ربيبه فكان الأشعري يدرس على الجبائي؛ لأنه كان في أول مراحله معتزليًا ويتعلم منه ويأخذ عنه لا يفارقه أربعين سنة، وكان صاحب نظر في المجالس، وذا إقدام على الخصوم ولم يكن من أهل التصنيف، وكان إذا أخذ القلم يكتب ربما ينقطع، وربما يأتي بكلام غير مرضي، فالناس مواهب قدرة على الاحتجاج والمناظرة والكلام والفصاحة وبالتأليف ينقطع، وبعض الناس يحسن التأليف جدًّا ولكنه إذا تكلم لا يحسن الكلام، وقلَّ من يجمع له بين جودة التصنيف مع القدرة على الإلقاء، والكلام والحجاج، والمناظرة، ويقول ابن عساكر:" كان أبو علي الجبائي صاحب تصنيف يعني على العكس وقلم إذا صنف يأتي بكل ما أراد مستقصى، وإذا حضر المجالس وناظر لم يكن بمرضٍ، -ليس عنده قدرة على الكلام والمناظرة عكس الأشعري- فكان إذا داهمه الحضور في المجلس يبعث الأشعري ويقول له: نُب عني؛ لأنه لا يحسن الكلام"[24].
عنوان الكتاب
هذا الكتاب ما عنوانه؟ هل هو مقالات المسلمين أو مقالات الإسلاميين؟
جاء في النسخة المؤرخة سنة: سبع وثمانين وخمسمائة التي أوقفها خادم الحرمين الشريفين الغازي محمود خان الذي كانت سلطنته من سنة: ألف ومائة وثلاث وأربعين إلى: ألف ومائة وثمان وستين بهذا العنوان: "مقالات الإسلاميين"، والكتاب اشتهر بهذا وطبع بهذا العنوان لكن هذا الخط على النسخة الخطية أحدث من خط الكتاب الذي كتب كما سبق في سنة: سبع وثمانين وخمسمائة، فهذا عنوان كأنه كتب بعد ذلك.
وفي النسخة الأخرى تاريخ: ثلاث وثمانين وستمائة "المقالات الإسلامية".
وفي النسخة الثالثة المكتوبة في القرن السادس تقريبًا مقالات الإسلاميين ونقل ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري عن الأشعري" قوله: "وألفنا كتابًا في مقالات المسلمين يستوعب جميع اختلافهم ومقالاتهم"[25]، يعني هذا الكتاب.
طريقة المؤلف في ترتيبه
طريقة المؤلف في ترتيبه وتبويبه المؤلف لم يجعل كتابه هذا على نمط واحد في الترتيب، بل رتب بعضه على الفرق، وبعضه على المسائل، وكثر التقسيم والتعديد وجعل الكتاب على قسمين الأول في الجليل من الكلام يعني المسائل الكبار، والثاني في الدقيق منه، وذكر في القسم الثاني على وجه التفصيل ما قد ذكره في القسم الأول على سبيل الإجمال، مما أوقعه في التكرار، وذكر القول الواحد في المواضع المتعددة وربما صرح باسم صاحب القول مرة وأغفله مرة أخرى، وهذا يرجع إلى ما ذكرنا من أنه ما كان يحسن التصنيف.
الملامح العامة للكتاب
بعد ذلك أكثر جملة من الملامح العامة للكتاب: يعد كتاب الأشعري في المقالات من أكثر المصنفات من الناحية الحيادية والموضوعية، وقد بين أن الذي حمله على تصنيفه ما رأى من تقصير وغلط في نسبة الأقوال، وكذب متعمد، يعني في جملة من الكتب في هذا الباب مع قلة التقصي، والزامات لا تلزم في كتب المقالات، يعني يلزمون الطائفة أو المذهب بلوازم قولهم والمفروض أنه لا يلزم بلازمه إلا إذا كان يلتزمه إذا عرض عليه.
وهو في هذا الكتاب يعتمد منهج التقرير والعرض فقط دون نقد أو اعتراض، يعني غير البغدادي وابن حزم كما أنه أيضًا أعلم بالمقالات وأدق في نقل الأقوال، وقد ذكرنا كلام شيخ الإسلام وقال في "المنهاج": "ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء لأنه أعلم بالمقالات وأشد احترازًا من كذب الكذابين فيها مع أنه يوجد في نقله ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم من الغلط ما يظهر به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم"[26].
وذكر أيضًا في موضع آخر من "منهاج السنة" قال: "وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها، وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم، وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم"[27]، هذا في آخر أمره لما رجع إلى مذهب أهل السنة بحسب ما فهم
يقول شيخ الإسلام مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته بالحديث ومقالات السلف وأئمة السنة قد ذكر في غير موضع عنهم أقوالًا في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلًا"، يعني أخطأ بنسبتها إليهم يقول: "بل المنقول الثابت عنهم يكون فيه تفصيل وفي نفي ذلك اللفظ والمعنى المراد يعني أو إثباتها، وهم منكرون الإطلاق الذي أطلقه من نقل عنهم ومنكرون لبعض المعنى الذي أراده بالنفي والإثبات وذكر أيضًا في موضع آخر من المنهاج
يقول: "ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري، وقد ذكر فيه من المقالات وتفصيلها ما لم يذكره غيره، وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة، بحسب ما فهمه عنهم، وليس في جنسه أقرب إليهم منه، ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة، وقال به الصحابة والتابعون لهم بإحسان في القرآن، وفي الرؤية، والصفات، والقدر، وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه"[28].
فالشاهد يعني استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين يقول: "أما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين المختلفين في أصول الدين"
والمؤلف قصد الاختصار فيما يذكره كما صرح بذلك في المقدمة وكثيرًا ما ينقل عن أصحاب الفرق أنفسهم لا سيما المعتزلة، وهو أخبر بهم وقد اقتصر فيه المؤلف على الفرق دون الملل ما تحدث عن الأديان، ولم يضع مقدمة للكتاب على طريقة الشهرستاني والبغدادي، وجمع فيه بين الطريقتين هو جعل أصحاب المقالات أصولًا، وهذا في عامة الجزء الأول ويتعرض للجليل من المسائل كما سبق، وجعل المسائل أصولًا يعني حينما يجعلها أصولًا يورد ما قيل فيها من آراء وهذا في عامة الجزء الثاني وذلك في الدقيق من المسائل كأصول الفقه والمسح على الخفين والمكاسب والتقية.
وقد أكثر في هذا الجزء من التفريعات والمسائل بل إنه في الجزء الأول جمع أيضًا بين الطريقتين فعندما عرض آراء الفرقة وفق الطريقة الأولى يُتبع عقب ذلك بسوق آراء الفرقة وفق الطريقة الثانية حتى صار الكتاب بمثابة الكتابين،
يعني من أراد آراء الفرق في مسألة فإنه يقع في إشكال لتفرق ذلك في الموضعين.
وأسهب المؤلف في الحديث عن المعتزلة حتى قارب ذلك ثلثي الكتاب، واعتبر أصول الفرق عشر: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، والضرارية، والحسينية، والبكرية، والعامة، وأصحاب الحديث، والكلابية، لم يقسم المعتزلة إلى فرق كما فعل في غيرها وإنما اكتفى بطريقة جعل المسائل أصولًا، وذكر في أول الكتاب الأمور التي وقع فيها الخلاف في صدر هذه الأمة واقتصر في ذلك على ما يعد اختلافًا حقيقيًا، ويتعلق بمضمون الكتاب، يعني ليس كما فعل الشهرستاني.
يُعد هذا الكتاب من أوسع كتب المقالات بل هو أحد مصادر الشهرستاني والبغدادي.
والمؤلف كثيرًا ما يغفل أسماء أصحاب الآراء لا سيما في الجزء الثاني من الكتاب، فيذكر الرأي دون التصريح باسم صاحبه كقوله: ذهب بعضهم، قال قائلون: كذلك أيضًا لم يرد في ثنايا كتابه مصطلح مثلًا الجبر الجبرية بخلاف كتب المقالات الأخرى.
يذكر المؤلف بعض الجوانب مثل: رجال الطائفة، وأماكن تواجد الطائفة، وهذا مهم من وقت مبكر تجد بعض الطوائف بنفس المواقع إلى اليوم، وفوائد أخرى مثل: من خرج من آل النبي ﷺ، كذلك العلماء باللغة من الخوارج هذه قضايا لا علاقة لها بالموضوع، رجال الخوارج الذين لم يذكر لهم خروج ولا مذهب خاص بهم، أسماء الذين خرجوا على علي إلى وفاته.
كذلك ذكر المؤلف عقيدة أهل السنة ونسبها إلى أهل الحديث بطريقة شاملة وصرح بأنه يقول بذلك كله، يعني هذا الذي ذكره يصلح أن يكون متنًا لو يشرح شرحًا سنيًا فهو مفيد، يعني في البيئات الأشعرية، حينما يقال لهم: هذا متن لأبي الحسن الأشعري، ويشرح فهذا ينفع بإذن الله يعني لو يفرد من الكتاب يعني ذكر عقيدته.
انتهى الكلام على هذا الكتاب.
انتهينا من الكتب الأربعة التي هي الأصول، والأهم، ثم بعد ذلك نذكر الكتب الأخرى بطريقة أكثر اختصارًا من أجل إن شاء الله أن نأتي على جميع هذه الكتب.
- وقفت على هذا القول: "لكنْ تبيَّنَ لي منه أنه جَهْميٌّ جَلْد"، لابن عبدالهادي كما في طبقات علماء الحديث (3/ 350).
- انظر: مجموع الفتاوى (4/ 19).
- مجموع الفتاوى (4/ 19).
- مجموع الفتاوى (4/ 19).
- مجموع الفتاوى (4/ 19).
- مجموع الفتاوى (4/ 19).
- أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، برقم (238)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد، برقم (282).
- نقل الإمام النووي عن بعض الشافعية نسبتها لداود الظاهري كما في المجموع شرح المهذب (1/ 119).
- مجموع الفتاوى (4/ 19-20).
- مجموع الفتاوى (4/ 20).
- نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس (2/ 79).
- انظر: الموافقات (3/ 247).
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم (4596)، والترمذي، أبواب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء في افتراق هذه الأمة، برقم (2640)، وقال: "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب افتراق الأمم، برقم (3991)، وأحمد في المسند، برقم (8396)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1083).
- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (6/ 129).
- انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 9).
- انظر: مجموع الفتاوى (4/ 164).
- الفرق بين الفرق (ص: 160).
- انظر: المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 275).
- انظر: المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 275).
- الفرق بين الفرق (ص: 295).
- الفرق بين الفرق (ص: 295)، والأقوال التالية مصدرها الكتاب هذا.
- الفرق بين الفرق (ص: 297).
- الفرق بين الفرق (ص: 298).
- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري (ص: 91).
- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري (ص: 23).
- منهاج السنة النبوية (6/ 301).
- منهاج السنة النبوية (6/ 303).
- منهاج السنة النبوية (5/ 275-276).