الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالموضوع الذي سيكون الحديث عنه هو الأحكام المتعلقة بالطفل، وهو من أوسع الموضوعات، حاولت أن أتتبعه، وسيكون الكلام أولاً عن تؤطة تُذكر فيها بعض القضايا التي نحتاج إلى معرفتها ابتداءً: "الصبي، الطفل، الغلام، الصغير، التمييز، المراهقة، الرشد، البلوغ، الأهلية"، ثم بعد ذلك المراحل العمرية من الولادة إلى التمييز، يعني الصبي غير المميز وما يتعلق به من أحكام، ثم من التمييز إلى البلوغ، يعني الحديث عن الصبي المميز، ثم بعد ذلك يكون الكلام عن الموضوعات الرئيسة:
القسم الأول: العبادات، وأبدأ بما يشرع أن يفعل للمولود، هل يؤذن في أذنه؟ وهل تقام الصلاة؟ وعن التحنيك والتسمية، وما يتعلق بها من أحكام، وهكذا ما يتعلق بحلق رأسه والتصدق بوزنه فضة، وما يتصل بالعقيقة، وما يدخل تحتها من أحكام، وهكذا الختان، ثم بعد ذلك الطهارة، ثم بعد ذلك صلاته وصيامه، ثم بعد ذلك يكون الكلام عن قضايا تتعلق به وهو ما يتصل بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه سواء كان جنيناً سقط من بطن أمه، أو كان مولوداً، ثم بعد ذلك يكون الكلام عما يتعلق به من الزكاة وصدقة الفطر، ثم الحج والعمرة وهذا ما يتصل بالعبادات.
والقسم الثاني: في أحكام الولاية على الصغير وذلك يشمل أموراً متعددة.
القسم الثالث: ما يتعلق به من الأحوال الشخصية، مثل النسب والحضانة، وكذلك مسائل تتعلق بتخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا، وإذا أسلم أحد الأبوين، وهكذا ما يتصل بالرضاع، والنفقة، والنكاح، والطلاق، وظهار الصغير، والخلع هل يقع منه أو لا إذا زُوج؟.
القسم الرابع: ما يتعلق بالمعاملات وذلك على أنواع، ما كان من قبيل النفع المحض، وما كان من قبيل الضرر المحض، وما كان متردداً بين الضرر والنفع، وهكذا النفقات الواجبة في مال الصغير، ثم متى يفك الحجر عنه.
القسم الخامس: هو في أبواب متنوعة الأيمان والنذور، وإذا حلف الصغير أو نذر في ما يتعلق بالأدب واللباس والزينة، والميراث، وجناية الصغير، والجناية على الصغير ولو كان جنيناً في بطن أمه، والأضحية هل يضحي أو لا؟
فالله -تبارك وتعالى- نوّع أحكامه على الإنسان من حين خروجه إلى هذه الدار إلى حين يستقر في دار القرار، بل وقبل ذلك وهو في ظلماتٍ ثلاث، في بطن أمه فقد كانت أحكام الله القدرية جارية عليه ومنتهية إليه، فلما انفصل عن أمه تعلقت به أحكامه الأمرية يعني الأحكام الشرعية، وكان المخاطب بها الأبوين أو من يقوم مقامهما في تربيته والقيام عليه، فلله أحكامُ أمرٍ قيِّمه بها مادام تحت كفالته.
فهو المطالب بها دونه حتى إذا بلغ حد التكليف تعلقت به الأحكام واستقل بنفسه، وجرت عليه الأقلام، وحُكم عليه بأحكام أهل الكفر أو أهل الإسلام، وأخذ بعد ذلك في التأهب لدار السعداء أو دار الأشقياء، فتطوى به مراحل الأيام والليالي إلى الدار التي كتب من أهلها، و يُسِّر في هذه المراحل لأسبابها، واستُعمل بعملها فإذا انتهى به السير إلى آخر مرحلة، وأشرف على المسكن الذي عُمر له قبل إيجاده إما في دار الشقاء، وإما في دار الهناء والسعادة واللذة والنعيم فهناك يضع عصا السفر عن عاتقه ويستقر نواه، وتصير دار العدل مأواه أو دار السعادة مثواه، وسأذكر جملة من القضايا الكثيرة، ولذلك يحتاج الإنسان أن يتابع ولا يغفل من أجل أن يربط أطراف الموضوع ببعضها:
فأولاً: ما يتعلق ببعض التعريفات:
الصبي: يطلق على المولود من حين ولادته إلى أن يُفطم، وبعضهم يقول: إنه يقال للمولود بعد التمييز، والصبي لفظ يشترك فيه المذكر والمؤنث، فإذا قيل: صبي فهو يشمل هذا وهذا، فإذا أنثته قلت صبية فإن ذلك يختص بالبنت، وأما الطفل فهو المولود من حين الولادة إلى أن يحتلم، ويستوي فيه أيضاً الذكر والأنثى؛ ولهذا سميت عنوان هذه الدورة: بـ"أحكام الطفل"؛ لأنه يشمل ما قبل التميز وما بعده، وبعضهم قصره على المولود قبل التمييز، وأما الغلام فهو: الصبي حين يقارب البلوغ، وأما الصغير: فهو مَن دون البلوغ، فكل من كان دون البلوغ فهو صغير، وأما التمييز فالمميز في الاصطلاح: هو الذي يعرف الضار من النافع، والمصلحة من غيرها في الأمور العامة إجمالا، وإن لم يدرك الدقائق والتفاصيل في ذلك فهو يفرق بين البيع والشراء مثلاً، فيعرف أن البيع يُخرج المبيع من الملك، وأن الشراء يترتب عليه دخول المبيع في الملك، وبعضهم يقول: إن المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن رد الجواب، ومقاصد الكلام فهذا لا شك أنه ضابط وأنه وصف يعبر عن التمييز، فإن التمييز -هذه اللفظة أو هذا الاسم- يدل على ذلك: أنه يميز بين ما ينفعه وبين ما يضره، ولكن يبقى النظر هل للتمييز سن معتبر؟، أو يقال: من وجد فيه هذا الضابط فهو مميز سواء كان يبلغ من العمر خمس سنوات أو يبلغ ستاً أو سبعاً أو أكثر؛ فإن الصغار يتفاوتون من حيث القُدر، والإمكانات والمواهب والاستعدادات، فمنهم من يدرك في وقت مبكر، ومنهم من يتأخر نموه العقلي فيحصل عنده بطء في التمييز، فمن أهل العلم من جعل للتميز سناً متى بلغها الصبي عُد مميزاً واختلفوا في هذا السن فذهب كثير منهم إلى أن ذلك يحد بالسابعة، مع أنهم لا يخالفون في أن التمييز وصف يحصل لهذا الإنسان بما ذكرت، لكن قالوا: لما كان هذا لا ينضبط فلا بد من وضع حدٍ يحصل به التمييز غالبا لدى الصغار، فتربط به الأحكام المتعلقة بالتمييز، فقالوا: إن الصبي المتوسط المعتدل في حاله وفي نموه العقلي إذا بلغ السابعة فإنه يكون مميزاً هذا في مجال العادات، وإن وجد في بعض الصغار من يميز قبل ذلك فإنه لا عبرة بالقليل أو النادر، وبعضهم يقول: بل المعتبر تلك الأوصاف، فمتى ما وجدت في صبي فإنه مميز ولذلك فإن هؤلاء يفاوتون بين الصغار، فيربطون أحكام التمييز بهذا الصبي الذي وجد فيه هذا الوصف ولا يربطون ذلك بصبي آخر، أما الأولون فيقولون: إنه حكم عام لكل من بلغ السابعة، ولا شك أن القول الأخير -أن ذلك يربط بالوصف- أدعى إلى مراعاة الفوارق الفردية بين الناس والاستعدادات، وما أعطى الله للناس من مواهب، والقول الآخر بتحديد ذلك بالسن أسهل في ربط الأحكام على عموم الناس، والشريعة قد راعت هذا -كما سيأتي- في مسألة البلوغ فيمن بلغ الخامسة عشرة ولم يظهر عليه شيء من علامات البلوغ، والأصل في التمييز هو أن يوجد عند الصغير ذلك الوعي الذي يميّز به ويدرك، ويفهم به الخطاب إجمالاً، ويبقى هل يحد ذلك بسن معين أو لا؟ فيه قولان مشهوران لأهل العلم، ولو أنه حُد بسن معين فإن ذلك أضبط وأسهل، وأما المراهقة فأصل الرهق جهل في الإنسان وخفة في عقله، فيقال: فلان فيه رهق يعني فيه خفة أو حدة، وقولنا: راهقَ الغلام وهذا غلام مراهق معناه أنه قد قارب البلوغ، ومن الناس من ينكر إطلاق هذه اللفظة، ولا أرى لهذا الإنكار حاجة، بل إنك إذا تتبعت كلام أهل العلم من المتقدمين تجد هذا مستعملاً في عبارتهم، فالمراهق المقصود به من قارب سن البلوغ، وليس ذلك يراد به التنقيص، ولا العيب، ولا التهمة، ولا الإشارة إلى خفة العقل، وإنما المقصود أنه مقارب لسن الرجولة أو البلوغ، وأما الرشد فهو أن يبلغ الصبي حد التكليف مع حسن التصرف في المال، وبعضهم يضيف إليه الصلاح في الدين، والله يقول: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [سورة النساء:6]، يعني: اختبروهم، تعطيه شيئاً من المال ثم تنظر كيف يتصرف في هذا المال، حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ يعني: سن البلوغ، فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا يعني: علمتم منهم حسن التصرف في المال فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ والأقرب أن المقصود بذلك هو حسن التصرف في المال، فإذا انضاف ذلك للبلوغ فإن هذا هو الرشد، فيكون رشيداً بهذا الاعتبار.
والله -تبارك وتعالى- علق التكاليف بالعقل، رُفع القلم عن ثلاثة وذكر النبي ﷺ المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحتلم[1]، فالعقل شرط في التكليف كما لا يخفى إلا أن التكليف لا يناط بكل مقدار من العقل، فهو يتفاوت، وإنما هناك درجة من العقل إذا بلغها الصبي أصبح مكلفاً، يعني انظروا إلى من بلغ الثامنة أو التاسعة أو العاشرة هو عاقل وليس بمجنون، لكن هذا العقل الشارع ما ناط به وما علق به التكاليف، فهو عقل قاصر لم يدرك، إذاً فهناك مرحلة إذا بلغها الإنسان حكم له غالباً باكتمال عقله الذي يكتمل به التكليف، ولكن العقل يكتمل بعد ذلك؛ ولهذا يقولون: إن كمال العقل يحصل ببلوغ الأربعين، فلا يزال ينمو عقل الإنسان حيناً بعد حين، ولكن النمو الذي تناط به الأحكام يحصل لهذا الصغير إذا بلغ فيكون مكلفاً، لكن العقول خفية ومتفاوتة، ولهذا يصعب أن نحدد بدقة أن هذا بلغ بالعقل مستوًى يصلح للتكليف وهذا لم يبلغ؛ لأن هذه القضية تربط بأمور معينة إذا حصلت أو وجدت هذه العلامات فإن ذلك يدل على أن هذا الإنسان بلغ المرحلة العمرية التي تُناط أو تُوجَب عليه فيها التكاليف أو خطاب الشارع، فإن لم يظهر شيء من هذه العلامات فإننا ننظر بعد ذلك في تحديده بالسن في عمر معين، هذا الوصف الظاهر الذي يمكن أن ينضبط هو البلوغ ولا بد، وهذا البلوغ هو الحد الذي يصل به الصغير إلى حد الرجولية، فيصير بعده رجلاً وما قبله يقال له: طفل، وصغير، وغلام ونحو ذلك، والبلوغ معناه في الشرع: انتهاء حد الصغر، وبعضهم يقول: هو قوة تحدث في الصبي يخرج بها عن حال الطفولية إلى حال الرجولية، ويعرف البلوغ بعلامات، وهذه العلامات منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، فمن العلامات المتفق عليها إنزال المني دفقاً بلذة في حال اليقظة أو في حال المنام، يعني بالاحتلام بجماع أو بغيره، ويدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، والله يقول: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [سورة النور:59]، فدل على أنهم قد بلغوا مبلغ الرجال، والنبي ﷺ قال: رفع القلم عن ثلاثة ... ، وذكر: الصبي حتى يحتلم، وهكذا في قصة بني قريظة لما أمر النبي ﷺ بقتل الرجال فأمر النبي ﷺ بقتل كل من احتلم من بني قريظة، فقد جاء عن عطية القرظي قال: عُرضنا على رسول الله ﷺ زمن قريظة، فمن كان محتلماً أو نبتت عانتُه قُتل"[2]، وقد نقل ابن المنذر -رحمه الله- الإجماع على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل، وذكر الحافظ -رحمه الله- في الفتح أن العلماء أجمعوا على أن الاحتلام في الرجال أو النساء تلزم به العبادات وسائر الأحكام، ويقول الإمام البخاري -رحمه الله: "قال مغيرة: احتلمت وأنا ابن اثنتي عشرة سنة"[3]، هذا بالنسبة إلى الصبي أو الغلام الذكر قد يحتلم في هذا السن ولكنه قليل، والغالب أنه يكون بعد ذلك، وإن كان هذا يختلف من البلاد الحارة إلى البلاد الباردة، وأما البنت فإنها قد تبلغ في التاسعة، ولم يكن بين عمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو -ا- سوى اثنتي عشرة سنة، فمعنى ذلك أنه تزوج وهو ابن إحدى عشرة، والعلامة الثانية هي الإنبات، والمقصود به إنبات الشعر الخشن على العانة، يعني ما حول القبل، ويدل على هذا حديث عطية القرظي السابق وفيه قال: "كنت من سبي قريظة، فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعرَ قُتل ومن لم يُنبت لم يقتل، فكنت فيمن لم ينبت"، وفي رواية: "فكشفوا عانتي فوجدوها لم تنبت فجعلوني في السبي"، أي: جعلوه مع الصغار، وهذا ما فهمه عمر فقد كتب إلى عماله: "ألا تأخذوا الجزية إلا ممن جرتْ عليه الموس"، وقال في غلام شبّب بامرأة -تغزل بها: "لو أنبتَّ الشعرَ لحددتُك"، يعني: عامله بما يعامل به الكبار، لكن المقصود بذلك هو إنبات الشعر الخشن وأما ما عداه فلا عبرة به، وإن اختلف أهل العلم في غيره من الشعر في غير العانة، مثل لو أنه ظهرت له لحية أو هل يعرف ذلك بظهور شعر الإبطين مثلاً فيحكم ببلوغه، والعلماء -رحمهم الله- اختلفوا في هذا، فالذي عليه المذاهب الأربعة هو عدم اعتبار نبات شعر غير العانة بلوغاً، واحتجوا لذلك بأمور:
منها: قالوا لو أن ذلك يعتبر لما كُشفت العورة وانتهكت الحرمة، ولاكتُفي بالنظر إلى إبطه أو نحو ذلك، فكشف العورة فيه انتهاك من قِبل الناظر ومن قبل المنظور إليه، ثم قالوا أيضاً: إن العادة أن شعر اللحية يخرج متأخراً عن شعر العانة، وإنما العبرة بالغالب، وهذه الأحكام في الشريعة تربط بالغالب، ومن أهل العلم من قال: كل ذلك يعتبر، وهذا الذي مال إليه الحافظ ابن حجر -رحم الله الجميع- فهو يقول: الشعر الخشن سواء كان في الشاربين أو اللحية أو الإبط أو العانة الحكم فيه واحد، فهو يدل على البلوغ وإن هذه الأمور إذا وجدت فإن شعر العانة يكون قد ظهر، هذا على قول الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ومن وافقه من أهل العلم، مع أنه خلاف الجمهور.
فعلى قول الحافظ ابن حجر يمكن أن يعرف هذا بشعر الإبط، والشعر الخشن في الشارب أو اللحية، وعلى قول الجمهور أن ذلك لا يعتبر، ومن باب أولى ما قد يظهر على الساقين أو الذراعين من الشعر فإنه لا عبرة به، وهناك علامة تختص بالأنثى وهي الحيض، وهي علامة على البلوغ بالإجماع، كما حكى هذا غير واحد من أهل العلم كابن المنذر وآخرين، وأقل سن يمكن أن تحيض فيه البنت اتفق المذاهب الأربعة على أنها يمكن أن تحيض في سن التاسعة، ومبنى هذا إنما هو على التتبع والاستقراء، وإلا فلا دليل من الكتاب ولا من السنة في تحديد أقل سن للحيض، والبخاري -رحمه الله- يقول: "وقال الحسن بن صالح أدركتُ جارةً لنا جَدّةً بنتَ إحدى وعشرين سنة"[4]، وقد وُجدت جدة في الحادية والعشرين من عمرها، ذكر الشافعي أنه رأى مثل ذلك، فقد حاضت لاستكمال تسعٍ، ووضعت بنتا لاستكمال عشرٍ، ووقع لبنتها مثل ذلك، ومن العلامات القطعية بالنسبة للبنت الحمل، فإن هذا بالاتفاق يدل على البلوغ، بل هو أبلغ من سائر العلامات إذا لم يظهر شيء منها، وقد يتأخر البلوغ فيُشاهَد بعضُ من بلغ السابعة عشرة ولم يظهر عليه شيء من علامات البلوغ، فلا يقال عنه: غير مكلف ولا تناط به الأحكام، ولا تجب عليه الصلاة ولا الصيام، ولا يكون محرماً، والفقهاء -رحمهم الله- من أهل المذاهب الأربعة اتفقوا على أن هناك سناً معيناً إذا بلغها فإنه يحكم ببلوغه، فمن أهل العلم من قال: إن ذلك يُحد بالخامسة عشرة، فإذا بلغ الخامسة عشرة ولم يظهر شيء من هذه العلامات قلنا: إنه بالغ، وهذا هو أقرب الأقوال، ومما يدل عليه -وإن لم يكن ذلك قاطعاً- ما جاء عن ابن عمر -ا- قال: "عرضني رسول الله ﷺ يوم أُحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم خندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني"[5]، فهذا قد يفهم منه أن النبي ﷺ أجازه حينما بلغ الخامسة عشرة باعتبار أنه حكم له بالبلوغ، ولكن هذا ليس بقاطع؛ لأن ما يتطلبه القتال -كما لا يخفى- شأن آخر فإن القتال يحتاج إلى قوة وقدرة، فقد يبلغ الصبي ولكنه ضئيل صغير الجسم، وقد يكون لم يبلغ ولكنه في حال من كمال الجسم والامتداد والطول، والقوة، والنشاط، وهذا الحديث قد لا يدل قطعاً على أن من بلغ الخامسة عشرة فإنه يحكم ببلوغه، ولكن يستأنس به، ومثل هذا قد يقبل، وهذا الذي فهمه عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فقد اعتمد على هذا الحديث، فكتب إلى أمراء الأجناد أن يفرض لمن بلغ خمس عشرة سنة يعني يجعل في عداد المقاتلين، وقال: هذا حد ما بين الذرية والمقاتلة؛ لأن الذرية والنساء إذا شهدوا القتال فإنه يُرْضَخ لهم، ولا يعطون من الغنيمة كأسهم المقاتلين، وإنما يعطون شيئا من غير تقدير، ويقول: ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال.
الأهلية: أصلها في اللغة يقال: فلان عنده أهلية لكذا أي عنده صلاحية له، فلان مؤهل لكذا أي: صالح له، فأهلية الإنسان للشيء صلاحيته لصدور ذلك الشيء منه، وطلبه منه، وقبوله إياه، أو لواحد من تلك الأشياء، أما الأهلية في الاصطلاح فهي: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له وعليه، ولصحة تصرفاته، وتعلق التكليف به، وهذه الأهلية على نوعين: أهلية وجوب، وأهلية أداء، فأهلية الوجوب هي صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، ومناط هذه الأهلية هو الذمة، والمقصود بالذمة هي وصفٌ يصير به الإنسان أهلاً لما له وما عليه، ومناط هذه الذمة هو الإنسانية، فلا يوجد عند الحيوان أهلية، ولا تتعلق الحقوق به، فهو عادم الأهلية، مسلوب الأهلية، وأهلية الوجوب على نوعين: أهلية ناقصة، وأهلية كاملة، فالأهلية الناقصة بمعنى أنه صالح ومهيأ لثبوت الحقوق له فقط، وهذه تكون للجنين، فإن الجنين تثبت له الحقوق من الإرث، والوصية، والعتق، والنسب، والوقف، لكن لا يجب عليه حق أبداً.
أما أهلية الوجوب الكاملة فهي صلاحيته لثبوت الحقوق له، ووجوب الحقوق عليه، وهذه تثبت للإنسان بعد الولادة، فأهلية الوجوب عنده كاملة؛ لأنه إنسان موجود، له كيان مستقل، وهذه لا تحتاج إلى تميز ولا إلى عقل، والذمة تكون مشغولة فهي للأهل؛ لأنه تثبت له حقوق وواجبات، فكان ينبغي أن يكون كالبالغ، لكن الصبي في هذه المرحلة -يعني ما قبل التمييز- لما كان عديم العقل أو قريباً من ذلك وجسمه لا يقوى على التكاليف فإن كثيراً من الحقوق لا تجب عليه؛ لعلة الصغر، والصبي إما لأنه لا يطيقها لضعفه وعجزه والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وإما لأنه لو أتى بها فإنه لا يتحقق المقصود من أدائه لها، والصغير الذي له ثلاث سنوات لو صلى لا يتحقق المقصود.
ولو صُوِّم لا يتحقق المقصود، وهناك حقوق فالمقصود أن تُوصل إلى أصحابها مثل الحقوق المالية، فتحتمل النيابة، ولذلك نقول: إن الزكاة تجب في مال الصغير، والذي يخرجها عنه وليه، وهكذا بدل المعاوضات وعوض المتلفات، وهناك حقوق المقصود منها أداء نفس الواجب أو قصد الامتثال، والاختيار فيه ليتحقق الابتلاء وليتبين العاصي من المطيع، وهذا يحتاج إلى فهم الخطاب، ويحتاج إلى البلوغ والعقل، فمثل هذا لا يناط بالصبي والصغير الذي لم يبلغ، والخلاصة أن الحق إذا كان يحصل المقصود منه بأداء ولي الصبي فهو يثبت في حق الصبي، وتنشغل به الذمة متى وجد سببه، والمطالبة تتوجه إلى الولي، وأما ما لا يتحقق المقصود منه بأداء الولي فهو لا يثبت في حقه، ولا تشغل به ذمته، ولا يكون أهلاً للمطالبة به؛ فلذلك نقول: لا تجب عليه الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا الطهارة.
أهلية الأداء: هي صلاحية الإنسان لكون ما يصدر عنه معتبر شرعاً، ولتعلق التكليف به، فالصبي تثبت له حقوق، وتجب عليه واجبات كما تقدم قبل أن يميز، وإذا صدرت منه تصرفات فإنه لا يُعتد بها ولا تترتب عليها آثارها الشرعية، إلا إن كان من قبيل الإتلافات، فغير المميز لا يصح بيعه، أو شراؤه أو هبته، أو تبرعه، ولا يترتب على سرقته حكم، ولا يترتب على قذفه الحكم الشرعي وهو الحد، ولا على قتله القصاص؛ لأنه لم توجد عنده هذه الأهلية، فإذا بلغ ترتبت الأحكام على جميع ما يصدر عنه من الأقوال والأفعال والاعتقادات، فإذا باع صح بيعه، وإذا اشترى صح اشتراؤه، وإذا فعل شيئاً من العبادات فإن ذلك يتعلق به ما يترتب عليه من الأحكام من صحتها أو ما يترتب على ذلك من جبر نقص يقع فيها، وما إلى ذلك، فأهلية الأداء على نوعين قاصرة وكاملة، أما القاصرة فهي صلاحية الإنسان لصدور بعض الأقوال والأفعال عنه على وجه يعتد بها شرعاً، وهذه تكون للصبي المميز إلى البلوغ، وأما أهلية الأداء الكاملة فهي صلاحية الإنسان لتوجه الخطاب ووجوب الأداء عليه، وتكون هذه للبالغ العاقل، وأهلية الأداء القاصرة تعتمد على العقل القاصر، وهذا يضبط بسن التمييز، بينما تعتمد أهلية الأداء الكامل على العقل الكامل، وهو مضبوط بسن البلوغ.
الأمر الثاني من هذه المقدمات: المراحل العمرية، بعد أن تبين أن الصبي يمر بمرحلتين مرحلة ما قبل التمييز، ومرحلة ما بعد التمييز إلى سن البلوغ، فما قبل التمييز لا يدرك ما يدور حوله في هذه الحياة، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره في الجملة، وما بعد التمييز يحصل فيه نوعاً من الإدراك ولكنه لا يصل إلى حد التمام، فيكون الصبي مميزاً وعاقلاً وإن كان عقله ناقصاً.
إسلام الصغير: اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على أن الصبي غير المميز لا يجب عليه الإسلام؛ لأن الخطاب غير متوجه إليه أصلاً؛ فالنبي ﷺ كما في الحديث في السابق يقول: رفع القلم عن ثلاثة... ، فذكر: الصبي حتى يبلغ، فإذا أسلم فإنه لا يصح إسلامه، صبي له ثلاث سنوات من أبوين نصرانيين قلتَ له: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا يحكم بإسلامه، وكذلك لو أن الصغير الذي دون سن التمييز صدر منه ما يوجب الردة لا يحكم بردته، فلو قال مثلاً: إنه نصراني أو يهودي أو سب الله ، أو سب الرسول ﷺ لاشك أنه يُعلَّم ويُمنع ويُنهى ويُزجر عن ذلك لكن لا يحكم عليه بالردة؛ لأنه غير مميز، ولا عبرة بأقواله ولا بأفعاله؛ لأنه لا يدري ما الإيمان أو الكفر، فجميع أقواله ملغاة، ولكن ليس معنى ذلك أن نترك هؤلاء الصغار يتكلمون بما لا يليق في حق الله أو حق الرسول ﷺ، أو حق الدين، ونقول: هؤلاء غير مخاطبين بالتكاليف، ولو تكلم ونطق بالشهادتين فإن هذا لا عبرة به؛ لأنه غير مميز، واتفق أصحاب المذاهب الأربعة على أن الصبي يحكم بإسلامه تبعاً لإسلام أبيه، فإذا أسلم أبوه حكم بإسلامه تبعا له، هذا الرجل نصراني فأسلم فإن صغاره يحكم لهم بالإسلام، وذهب الأئمة الثلاثة -عدا المالكية- إلى أن الأم أحد الأبوين فيتبعها الصبي في الإسلام كالأب كما نحكم بإسلامه إذا أسلم أبوه، فإذا أسلمت الأم فإنها أحد الأبوين فنحكم بإسلامه وإن لم يسلم الأب، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو قول الجمهور، فالإسلام يعلو ولا يُعلا عليه، فإذا أسلمت الأم حكم بإسلام الصغار من أولادها، وإذا كان الصبي مميزاً بحيث يعقل الإسلام، ويمكن أن يفهم إذا خوطب وعلم ودرس، فمثل هذا أيضاً لا يجب عليه الإيمان، لكن إذا صدر ذلك منه يصح ويعتد به، فإذا بلغ وقع ذلك منه على سبيل الفرض، فإذا أسلم الصبي المميز ونطق بالشهادتين ودخل في الإسلام فإنه يحكم له بذلك، وإن لم يكن هذا محل اتفاق بين أهل العلم، ويدل على ذلك ما جاء عن علي أنه أسلم قبل البلوغ، وأن النبي ﷺ قَبل ذلك فقد جاء عن عروة -رحمه الله- قال: "أسلم عليٌّ وهو ابن ثماني سنين"[6]، وأخرج الحاكم في المستدرك: أنه أسلم وهو ابن عشر سنين[7]، وجاء عن ابن عباس أن النبي ﷺ دفع الراية إلى عليٍّ يوم بدر وهو ابن عشرين سنة[8]، فهذا يدل على أنه أسلم قبل البلوغ، يقول الذهبي -رحمه الله: هذا نص على أنه أسلم وله أقل من عشر سنين، بل نص على أنه أسلم وهو ابن سبع سنين أو ثماني سنين، وجاء في فتح الباري أنه ولد قبل البعثة بعشر سنين على الأرجح، ومما يدل على ما سبق ما رواه البخاري من حديث أنس قال: "كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ فمرض فأتاه النبي ﷺ يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم[9]، فأسلم، فالنبي ﷺ دعاه إلى الإسلام وهو غلام، وجاء في الصحيح أيضاً أن النبي ﷺ عرض الإسلام على ابن صياد وهو غلام لم يبلغ الحلم[10].
حكم أطفال المسلمين وأطفال المشركين: يعني من مات وهو صغير، هل هو في الجنة أو في النار؟ هذه المسألة فيها كلام كثير لأهل العلم فيما يتعلق بأطفال المشركين، أما أطفال المسلمين فقد جاء عن النبيﷺ أنه قال: صغارهم دعاميصُ أهل الجنة ومعنى دعاميص دويبة في البحر فيها خفة الحركة وسرعة تضرب إلى السواد شبه بها الطفل، يتلقى أحدهم أباه -أو قال: أبويه- فيأخذ بثوبه -أو قال: بيده- كما آخذ بصنفتي ثوبك هذا فلا يتناهى -أو قال: فلا ينتهي- حتى يدخله الله وأباه الجنة[11]، فدل على أن الصغير من أبناء المسلمين يدخل الجنة، وصح عن النبي ﷺ أنه قال لرجل مات له ابن وهو صغير: ما يسرك ألا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى ليفتح لك[12]، ولما توفي إبراهيم ابن النبي ﷺ قال ﷺ: إن له مرضعا في الجنة[13].
وفي الرؤية التي رآها النبي ﷺ في الحديث الطويل وفيه: فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طُولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر وِلْدان رأيتهم قط[14]، ثم فسره في آخر الحديث قال: وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم ﷺ وأما الوِلْدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، ولهذا يقول النووي -رحمه الله: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة، وذكر الإمام أحمد -رحمه الله- أنه لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً عنه إلى النبي ﷺ: ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم [15]، وفي حديث: أطفال المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يدفعوهم إلى آبائهم يوم القيامة[16] إذاً أطفال المسلمين في الجنة، والذي وقع فيه الخلاف الكثير بين أهل العلم هو في أولاد المشركين؛ وذلك بناء على الأحاديث الواردة في الباب، فالأحاديث التي وردت عن النبي ﷺ هي التي أوجبت هذا الاختلاف بين أهل العلم، ومن هذه الأحاديث أن النبي ﷺ في حديث الرؤيا السابق قال: وأما الوِلْدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال: فقال بعض المسلمين: يارسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله ﷺ: وأولاد المشركين، فهذا يدل أنهم في الجنة، فحديث الرؤيا الطويل لما سئل النبي ﷺ عن أطفال المشركين قال: وأطفال المشركين، فدل على أنهم في الجنة، والحديث الثاني وهو قوله ﷺ: ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه... إلى أن قال: قالوا: يارسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير قال: الله أعلم بما كانوا عاملين[17]، فالنبي ﷺ لم يبين حكمهم، وبعض أهل العلم توقف فيهم، وجاء في حديث ابن عباس -ا- قال: سئل رسول الله ﷺ عن أولاد المشركين فقال: الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين[18]، وهذا كالذي قبله، وفي حديث أبي هريرة سئل النبي ﷺ عن ذراري المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، وفي حديث عائشة -ا- قالت: قلت يارسول الله ذراري المؤمنين؟، قال: هم من آبائهم، فقلت: يارسول الله بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، قلت: يارسول الله فذراري المشركين؟ قال: من آبائهم، قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين[19]، فهذا يدل على أنهم في النار، فهذه الأحاديث ثلاثة أنواع: ما يدل على أنهم في الجنة، وما يدل على أنهم في النار، وما ظاهره عن النبي ﷺ توقفٌ في حكمهم، وذكر ابن القيم -رحمه الله- في أطفال المشركين ثمانية أقوال لأهل العلم فمنهم من توقف، وقال: نقول كما قال النبي ﷺ: الله أعلم بما كانوا عاملين، ولا نتكلم فيهم، فيوكل علمهم إلى الله -تبارك وتعالى، ومنهم من قال: هم في الجنة، وحمل الحديث الذي ظاهره توقَّفُ النبي ﷺ حمله بعضهم على أن ذلك قبل أن يُبلغه الله حكمهم، قبل أن يبين الله له حكم هؤلاء الأطفال، واحتج هؤلاء بما رواه البخاري في صحيحه من حديث سمرة -حديث الرؤيا- قال: كل مولود يولد على الفطرة، فقال الناس: يارسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين، حكم لهم بالجنة، وكذلك حديث حسناء بنت معاوية قالت: حدثتني عمتي قالت: يارسول الله مَن في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والموؤدة في الجنة[20]، والموؤدة من دفنت في الجاهلية، وهذا حسّن الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- إسناده، واستدلوا أيضاً بقول النبي ﷺ لما رأى بعض الصغار قتلوا في بعض الغزوات قال: ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية، -ينكر عليهم- فقال رجل: يارسول الله إنما هم أولاد المشركين، فقال: ألا إن خياركم أبناء المشركين، ثم قال: ألا لا تقتلوا الذرية، ثم قال: كل نسمة تولد على الفطرة حتى يُعْرِب عنها لسانها فأبواه يهودانه أو ينصرانه[21]، فالشاهد فيه أنه قال: تولد على الفطرة مع نهيه عن قتلهم مما دل على أنه يحكم لهم بمقتضى ذلك -والله تعالى أعلم، وهذا الذي انتصر له ابن حزم -رحمه الله، واختاره النووي، وعزاه ابن حزم إلى الجمهور، وابن القيم -رحمه الله- يقول: إن حجج هولاء لا سبب إلى دفعها، وذهب آخرون إلى أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، ويرسل إليهم هنالك رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وبناءً على ذلك يكون بعض هؤلاء الأطفال بحسب نتيجة الامتحان بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، وهذا قال به البيهقي، واختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وهذه ثلاثة من أشهر الأقوال في هذه المسألة، وإلا فالأقوال أكثر من ذلك، والحافظ ابن حجر يعلق على قول البخاري: باب ما قيل في أبناء المشركين، فيقول: هذه الترجمة تشعر أنه كان متوقفاً في ذلك، وقد جزم بعد هذا في تفسير سورة الروم مما يدل على أن القول الصائر إلى أنهم في الجنة هو مذهب البخاري -رحمه الله.
القسم الأول: وهو العبادات:
أول ما يشرع أن يفعل للمولود من أحكام بعد أن وجد على ظهر هذه الأرض ما يلي:
أولاً: الأذان في أُذن الصبي اليمنى والإقامة في الأُذن اليُسرى: أما الإقامة فلا يصح فيها شيء عن النبي ﷺ بحال، فلا يقال: يُقام في الأُذن اليسرى، وأما الأذان فإنه قد ورد فيه بعض الأحاديث ولكنها لا تخلو من ضعف، وبعض أهل العلم يرى أنها تتقوى بمجموعها فيحسن الحديث، يعني أنه من باب الحسن لغيره، وكان الشيخ الألباني -رحمه الله- على ذلك ثم تراجع عنه، ورأى أن الحديث لا يصح، في حديث أبي رافع قال: "رأيت رسول الله ﷺ أذّن في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة -ا"[22]، رواه أبو داود والترمذي، ولكن في سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو ضعيف، فالحديث لا يصح، فإذا لم يصح الحديث فيقال: لا يشرع الأذان في أذن الصغير، ومن صححه ذكر له تعليلات، وابن القيم -رحمه الله- يعلل ذلك بأشياء يقول: ليسبق الشيطان، فالشيطان يطعن في خاصرته، فنسبقه بالأذان ثم ليكون أول ما يطرق سمع هذا الصغير الدعاء إلى الصلاة، لكن يقال: إذا لم يصح الحديث فلا حاجة للاشتغال بهذه الأمور وهذه التعليلات، فلا يُؤذن في أُذنه ولا تقام الصلاة؛ لأن الحديث لا يصح.
ثانياً: التحنيك: أصل التحنيك هو الدلك، دلْكُ حنكِ الصغير المولود بتمرة ممضوغة أو نحو ذلك، يمضغ تمرة، من أراد أن يحنك يمضغ تمرة ثم بعد ذلك يخرجها ويدلك فيها حنك الصغير، والتحنيك ثابت عن النبي ﷺ في عدد من الأحاديث، ولكن من أهل العلم من قال: إن المقصود بذلك هو التبرك بريقه ﷺ ليكن أول ما يصل إلى الجوف هو ريق النبي ﷺ الممتزج بالتمر، فمن قال بهذا فبناء عليه يقال: التحنيك لا يشرع بعد النبي ﷺ لأحد؛ لأنه لا يتبرك بآثار الصالحين مهما اعتقدنا في صلاح فلان من الناس، فهذا لا يتبرك بآثاره، بريقه مثلا أو نحو ذلك وإذا قلنا: ليس المقصود هو التبرك بريق النبي ﷺ فإن هذا مقصود الصحابة حينما يأتون بصبيانهم إليه ﷺ ليحنكهم- والتحنيك فيه معنى آخر أيضاً فلا يختص برسول الله ﷺ بل يحنك كل صغير، مما يدل على مشروعية التحنيك حديث أبي موسى ﷺ قال: "ولد لي غلام فأتيت به إلى النبي ﷺ فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة، ودعا له بالبركة، ودفعه إليّ"[23].
وجاء في حديث أسماء بنت أبي بكر -ا- أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة وفيه: لما أتت به النبي ﷺ فوضعته في حجره ﷺ ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفَه ريق رسول الله ﷺ، ثم دعا له بالبركة، وجاء في حديث أنس بن مالك قال: كان ابنٌ لأبي طلحة يشتكي ثم بعد ذلك مات، وتهيأت له زوجته، وفي الحديث: فولدت غلاماً، يقول أنس قال ليأبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي ﷺ، فلما جاء به إلى الرسول ﷺ وكانت أمه قد أرسلت معه بتمرات، فأخذه النبي ﷺ فقال: أمعه شيء؟ قال: نعم تمرات، فأخذها النبي ﷺ ثم أخذ من فيه فجعلها في فم الصبي وحنكه بها، وسماه عبد الله، وفي حديث عائشة -ا: كان يؤتى بالصبيان فيبرّك عليهم ويحنكهم، فإذا قلنا: إن التحنيك مشروع وإنه ليس المقصود مجرد البركة وإن فيه مصلحة للصبي، وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم فبناء على ذلك نقول: لا يتحرى أحد بعينه ليحنك الصبي، يعني بعض الناس قد يحرص على أن فلاناً من الناس من الذين يُتوسَّم فيهم الخير أن يحنك هذا الصبي من أقاربهم أو إمام المسجد أو نحو هذا، فيقال: لا،ولا نتبرك بآثار أحد من الناس بعد النبي ﷺ، الإمام أحمد -رحمه الله- لما ولدت أم ولده غلاماً قال: هاتوا ذلك التمر ثم بعد ذلك حُنك به، فدل ذلك على أن الإمام أحمد -رحمه الله- كان يرى أن ذلك يختص بالنبي ﷺ ولم يحنكه هو مع جلالته وإمامته وصلاحه، وإنما حنكه غيره وهو حاضر وموجود، يقول النووي -رحمه الله: اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند ولادته بتمر، فإن تعذر -يعني ما عندهم أو في بلاد لا يوجد فيها تمر- ماذا يصنعون؟ قال: فما في معناه أو قريب منه من العلق، فيَمضغُ المحنِّك التمرة، أو ما في معناها حتى تصير مائعة بحيث يسهل ابتلاعها، ثم يفتح فم المولود ويضعها في فيه؛ ليدخل شي منها جوفه، ويدلك فيها حنك الصغير.
ثالثاً: التسمية: تسمية المولود متى يسمى؟ هل يسمى قبلما يولد، يتفقون على اسم قبل الولادة، أو يسمي بمجرد الولادة أو يسمى في اليوم السابع؟ الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ تدل على أن الأمر فيه سعة، لا يضيق فيه، ولا يشدد في هذا، فالأمر في وقت التسمية واسع، وحديث سهل بن سعد قال: أُتِي بالمنذر بن أبي أسيد إلى رسول الله ﷺ حين ولد فوضعه النبي ﷺ على فخذه وأبو أسيد جالس، فلها النبي ﷺ بشيء بين يديه فأمر أبو أسيد بابنه فاحتُمل من على فخذ رسول الله ﷺ فأقلبوه، فاستفاق رسول الله ﷺ فقال: أين الصبي؟، فقال أبو أسيد أقلبناه يا رسول الله فقال: ما اسمه؟، قال: فلان يا رسول الله قال: لا، ولكن اسمه المنذر فسماه يومئذ المنذر"[24]، فهذا الحديث يدل على أن التسمية من الممكن أن تكون أول يوم يولد فيه الصغير، وفي حديث أنس قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله ﷺ حين ولد، وفي آخره قال: وسماه عبد الله"[25]، وفي حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم[26]، وفي حديث سمرة أن النبي ﷺ قال: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويسمى[27]، والأحاديث الأولى تدل على أنه يسمى قبل اليوم السابع من الناحية العملية فيما نقل عن رسول الله ﷺ، فهذه الأحاديث تدل على أنه يمكن أن يسمى في يوم ولادته، أو في اليوم الذي بعده، أو في اليوم السابع، فالأمر في ذلك واسع كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وغيره من أهل العلم، والبخاري -رحمه الله- جمع بين هذه الأحاديث فعقد باباً في الصحيح فقال: "باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه"[28]، فالبخاري -رحمه الله- يرى أن الذي يسمى بعد ولادته مباشرة هو من لا يراد أن يفعل له عقيقة، أن تذبح له عقيقة، وأما من يريد أن يعق فإنه يسميه في اليوم السابع الذي يعق عنه فيه.
- رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا، برقم (4401) عن ابن عباس -ا، وبرقم (4403) عن علي بن أبي طالب ، وأحمد في المسند من حديث عائشة -ا، برقم (24694)، وقال محققوه: إسناده جيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3512).
- رواه النسائي، كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي، برقم (3429)، وأحمد في المسند، برقم (19002)، وقال محققوه: حديث صحيح، والحاكم في المستدرك، برقم (4333)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه.
- صحيح البخاري (2/ 947)، دار ابن كثير.
- صحيح البخاري (2/ 947)، دار ابن كثير، اليمامة - بيروت.
- رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان سن البلوغ، برقم (1868).
- انظر: نصب الراية تخريج أحاديث الهداية، للزيلعي، كتاب السير، باب أحكام المرتدين (3/ 456).
- رواه الحاكم في المستدرك، برقم (4580).
- رواه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب اللقطة، باب من قال يحكم بصحة إسلامه، برقم (11945).
- رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟، برقم (1290).
- روى الحديث البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟، برقم (1289)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، برقم (2930)، من حديث عبد الله بن عمر -ا.
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم (2635).
- رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة، برقم (1870)، وأحمد في المسند، برقم (15595)، وقال محققوه: إسناده صحيح، والحاكم في المستدرك، برقم (1417)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح برقم (1756).
- رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المسلمين، برقم (1316).
- رواه البخاري، كتاب التعبير، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، برقم (6640)، ومسلم، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي ﷺ، برقم (2275).
- رواه أحمد في المسند، برقم (8324)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3428).
- صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1467).
- رواه البخاري، كتاب القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين، برقم (6226)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2658).
- رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم (1317)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، برقم (2660).
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في ذراري المشركين، برقم (4712)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (33).
- رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في فضل الشهادة، برقم (2521)، وأحمد في المسند، برقم (20583)، وقال محققوه: إسناده ضعيف؛ لجهالة حسناء وهي بنت معاوية بن سليم الصريمية، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3380).
- رواه أحمد في المسند، برقم (15589)، وقال محققوه: رجاله ثقات رجال الشيخين لكن سماع الحسن من الأسود بن سريع لا يثبت عند بعضهم. إسماعيل: هو ابن علية، ويونس: هو ابن عبيد العبدي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (10508).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الصبي يولد فيؤذن في أذنه، برقم (5105)، والترمذي، كتاب الأضاحي عن رسول الله ﷺ باب الأذان في أذن المولود، برقم (1514)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند، برقم (27186)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وضعفه الألباني في الكلم الطيب برقم (211).
- رواه البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه، برقم (5150)، ومسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، برقم (2145).
- رواه البخاري، كتاب الأدب، باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه، برقم (5838)، ومسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه وجواز تسميته يوم ولادته واستحباب التسمية بعبد الله وإبراهيم وسائر أسماء الأنبياء -عليهم السلام، برقم (2149).
- رواه البخاري، باب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه، برقم (5153)، ومسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، برقم (2144).
- رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيانَ والعيالَ وتواضعِه وفضلِ ذلك، برقم (2315).
- رواه أبو داود، كتاب العقيقة، برقم (2838)، والنسائي، كتاب العقيقة، باب متى يعق؟، برقم (4220)، وأحمد في المسند، برقم (20083)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (1165).
- صحيح البخاري (5/ 2080).