الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا باب "دعاء التَّعجب والأمر السَّار"، يقول: "سبحان الله، والله أكبر"، فيما يتعلق بالتَّسبيح: الغالب أنَّ النبي ﷺ كان يُسبّح إذا كان ذلك في مقامٍ يكون مما يتَّصل بالتَّعجب من حالٍ، لاسيّما إذا كان ذلك مما يكره، هذا هو الغالب في هديه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وإذا أعجبه شيءٌ فإنَّه يُكبّر، وهذا جاء في أحاديث كثيرةٍ.
وقد يكون التَّكبير في أمرٍ مما يُكره، يعني: على خلاف الغالب، فالنبي ﷺ حينما قالوا: اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، قال: الله أكبر! إنها السنن، وذكر لهم أنهم قالوا كما قال أصحابُ موسى لموسى -عليه الصلاة والسلام-: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ[الأعراف:138][1]، فهو يعجب ﷺ من قولهم هذا، وهذا لا شكَّ أنه من الأمور المكروهة.
"اجعل لنا ذات أنواط" أتوا على المشركين وهم في طريقهم إلى الطائف للقاء هوازن في حنين، بين مكة والطائف، في وادي حنين، فأتوا على قومٍ من المشركين كانوا يُعلِّقون أسيافهم على شجرةٍ، ينوطون بها هذه الأسلحة، يرجون بركتها، فقالوا: "اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ"، فقال: الله أكبر! إنها السّنن، الغالب في مثل هذا أن يقول -عليه الصلاة والسلام-: "سبحان الله!"، لكنَّه في هذا الموضع قال: الله أكبر!.
التَّسبيح: لو نظرنا إلى الأحاديث الواردة في "الصحيحين" فقط، أو في أحدهما: حديث أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "استيقظ النبيُّ ﷺ ذات ليلةٍ فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا فُتح من الخزائن؟ أيقظوا صواحبات الحُجَر يعني: أزواجه -عليه الصلاة والسلام-، فرُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة، أخرجه البخاري في "صحيحه"[2].
هذا موضعٌ يتعجب منه فيما يكره من نزول الفتن، فالنبي ﷺ يقول: "مَن يُوقظ صواحبات الحُجَر"، يعني: لصلاة الليل، كأنَّ ذلك يكون به استدراك حال العافية والسَّلامة قبل وقوع الفتن، والاشتغال عن العبادة التي تكون في أوقات وأزمان وأحوال الهرج كالهجرة إلى النبي ﷺ.
كذلك أيضًا هذا مما يستدفع به الافتتان، يعني: الصلاة، لاسيّما صلاة الليل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ[البقرة:45]، فالصلاة مطلقًا تكون سببًا مع الصَّبر للثَّبات العظيم.
الحديث الآخر: حديث أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، فانخنس منه، يعني: توارى من النبي ﷺ، فذهب، فاغتسل، ثم جاء، فقال له النبيُّ ﷺ: أين كنتَ يا أباهريرة؟، قال: كنتُ جنبًا؛ فكرهتُ أن أُجالسك وأنا على غير طهارةٍ، فقال: سبحان الله! إنَّ المسلم لا ينجس، أخرجه الشيخان[3].
هنا تعجّب النبي ﷺ من فهم أبي هريرة، فهذا مقامٌ مما يُتعجّب منه أنَّ هذا الفهم غير صحيحٍ.
كذلك حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-: أنَّ امرأةً سألت النبيَّ ﷺ عن غسلها من المحيض، فأمرها أن تغتسل، قال: خذي فُرصةً من مسكٍ فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله! تطهري، تقول عائشة -رضي الله عنها-: فاجتذبتُها إليَّ، فقلتُ: تتبعي بها أثر الدَّم"، أخرجه الشيخان[4].
يعني: أنها تُجري ذلك على موضع خروج الدم، يعني: على فرجها، فهي تسأل النبيَّ ﷺ، وفي بعض الرِّوايات: أنَّه ﷺ عُرف ذلك في وجهه، يعني: الحياء، وانصرف -عليه الصلاة والسلام-، وأشاح بوجهه حياءً، ففهمت عائشة ُ-رضي الله عنها- هذا، والمرأة لا زالت تقول: كيف أتطهر بها؟ فاستحيا النبيُّ ﷺ أن يُخاطب المرأة ويقول بأنَّ المقصود بذلك إمرار هذه الفرصة على فرجها؛ لينقطع أثرُ الدم من جهة الرائحة.
فهنا النبي ﷺ تعجب من مثل هذا، يعني: هذا السؤال مما قد يكون سببًا لإحراج النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكان ينبغي أن تفهم ذلك بمجرد التَّنبيه عليه، أو الإشارة إليه، لا تحتاج إلى شرحٍ، ولا زالت تقول: كيف؟
فهذه مواضع، وغيرها أيضًا هي في نفس السياق، النبي ﷺ يُسبّح إذا تعجب من شيءٍ، ويكون ذلك عادةً أو غالبًا مما يُكره: أنَّ مثل هذا لا يليق، أنَّ مثل هذا لا يجمل، لا يحسن، كيف يقع هذا؟ فيُقال: سبحان الله!
وسبحان هذه إذا ذكرت مُفردةً هكذا: "سبحان"، فهي علمٌ للتَّسبيح: "سبحان"، وهي منصوبة على المصدرية عند بعض النُّحاة.
والتَّسبيح معروفٌ، قد مضى الكلامُ عليه مرارًا، والتَّنزيه، فأنت تُنَزِّه الله -تبارك وتعالى- عمَّا لا يليق به، فهنا في هذا المقام في التَّعجب العرب تُعبّر بذلك في مقام التَّعجب، كأنَّه -والله أعلم- في هذا الأمر الذي يتعجّب منه كأنَّه نظر إلى أنَّ الله مُصرِّف الأمور، ومُصرِّف الأحوال، فتقع مثل هذه الأمور التي من شأنها أن يُتعجّب منها، بخلاف التَّكبير، إذا رأى أمرًا يُعجبه كبَّر، قال: "الله أكبر"، فهذا الأمر الذي يعجب قد يحصل معه ارتفاعُ الناس، قد يحصل به شيءٌ من الرفعة، أو العلو، أو نحو ذلك، أو الشُّعور بالتَّمكين، فيقول:"الله أكبر".
فهنا "الله أكبر" من كل شيءٍ، فيُورثه ذلك الإخبات والتواضع، كما يُقال في الأمور المحسوسة،كما سبق أنَّ النبي ﷺ كان إذا علا على شيءٍ مُرتفعٍ أو نحو ذلك كبَّر، وهكذا كان أصحابُه -رضي الله تعالى عنهم-، وإذا هبط سبَّح[5].
فالعلو يميل إليه الإنسانُ، الناس يحبون سكنى الأماكن العوالي، والبقاء فيها، فينظرون إلى الدنيا -إلى مَن تحتهم- نظر مَن هو فوق؛ فيكون ذلك مُورثًا لشيءٍ من العلو والرِّفعة.
وإذا كان الإنسانُ في الطائرة، والناس تحته أمثال الذَّر، فإنَّ ذلك قد يُورثه شيئًا من الشُّعور بالتَّمكين والرِّفعة، والتَّعالي والتَّعاظم، وهنا يقول: الله أكبر، أكبر من كل شيءٍ، فيترادّ إليه الحال التي تليق بمثله، فيبقى على حالٍ من الإخبات لربِّه، والتَّواضع لمالكه -جلَّ جلاله-.
أما التَّسبيح فكأنَّك تقول: أتعجب من هذا الأمر، ومن غاية هذا التَّعجب أُسبّح الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّه مُصرف الأحوال، ومُدبّر الأمور، وإذا أُضيف هذا –أعني: سبحان- فقيل: سبحان الله، فهنا ليس بعلمٍ على التَّسبيح؛ لأنَّ العلم لا يُضاف، ومن ثم فإنَّ المعنى: سبحان الله، أي: أُسبّح الله، وهي من ألفاظ التَّعجب عند العرب.
وقد ذكر هذا الإمامُ النووي -رحمه الله- في شرحه لـ"صحيح مسلم:[6]، وذكره آخرون، ومن النُّحاة أبو بكر ابن السّراج[7]، وغيره.
وقد يقولون -كما ذكر النووي رحمه الله- غير هذه العبارة في حال التَّعجب، كما ذكرت التَّكبير: الله أكبر! إنها السنن.
وكذلك أيضًا قد يقول -كما يقول النووي رحمه الله-: "لا إله إلا الله" في حال التَّعجب، يتعجّب من شيءٍ فيقول: "لا إله إلا الله"، هذه تجري على ألسن الناس، لكن من هديه ﷺ، من عادته الغالبة المستمرة أنه إذا تعجّب من شيءٍ سبَّح، وإذا أعجبه شيءٌ كبَّر، هذا هو الفرق؛ ولذلك ذكر التَّكبير هنا، فيكون ذلك في الأمور السَّارة.
لاحظ: قال هنا: "والأمر السَّار"، فذكر التَّعجب، وذكر الأمر السَّار، التَّعجب -كما سبق- بالتَّسبيح في أمرٍ في الغالب يكون مكروهًا، أو يتعجّب من وقوعه: كيف يقع مثل هذا؟! ينبغي ألا يفعل، ألا يحصل، ألا يكون.
أمَّا التكبير ففي الأمور السَّارة، كما في حديث أبي سعيد الخدري المشهور، لما قال النبي ﷺ: يقول الله يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك، فيُنادي بصوتٍ: إنَّ الله يأمرك أن تُخرج من ذُريتك بعثًا إلى النار، قال: يا ربّ، وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمئة وتسعة وتسعين، فحينئذٍ تضع ذاتُ الحمل حملها، ويشيب الوليدُ، وترى الناسَ سُكارى، وما هم بسُكارى، ولكن عذاب الله شديد، فشقَّ ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي ﷺ: من يأجوج ومأجوج تسعمئة وتسعة وتسعين، ومنكم واحدٌ، ثم أنتم في الناس كالشَّعرة السَّوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشَّعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربعَ أهل الجنة، فكبَّرنا، هذا مقامٌ يسرّ؛ فكبَّروا، ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبّرنا. أخرجه البخاري [8].
فهذا هو المشروع، وليس التَّصفيق، أو التَّصفير، أو الهتافات بأصوات مُتعالية تُنْبِئ عن خِفَّةٍ في العقول، وطيشٍ في الأحلام، فعل ضُعفاء العقول، لربما لم تتمالك المرأةُ نفسها إذا سمعت شيئًا يسرّها، أو رأت شيئًا يسرّها، فربما ولولت، وربما صدر منها ما تستحي منه في ثاني حالٍ؛ لأنها لا تتمالك، ولكن العاقل إذا رأى شيئًا يسرّه فإنه يُكبر: الله أكبر من كل شيءٍ يمكن أن يبعث في النفس العلو، أو الارتفاع، أو الشُّعور بالتَّمكين، أو النَّصر، أو نحو ذلك، فيقول: الله أكبر.
وليس أيضًا من شأن أهل الإيمان والعُقلاء وأهل الوقار والمروءة التَّصفيق والتَّصفير؛ فإنَّ ذلك لا يليق.
وقد ذكر في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً[الأنفال:35]، قيل: المكاء هو التَّصفير، والتَّصدية: التَّصفيق، فهذا كان من فعل هؤلاء المشركين.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ[العنكبوت:29]، ذكر من جملة المنكر الذي كانوا يفعلونه التَّصفير والتَّصفيق، هذا فعل أهل السَّفه، مثل هذا لا يليق.
والنبي ﷺ قال: إنما التَّصفيق للنِّساء[9]، فالمرأة هي التي إذا نابها شيءٌ في صلاتها صفقت، وأمَّا الرجل فإنه لا يُصفق، وإنما يُسبّح في الصلاة، وفي غير الصلاة يُكبّر، وما كان النبيُّ ﷺ وما كان أصحابُه يُصفقون إذا رأوا شيئًا يسرّهم.
فهذه السنة، وهذا الهدي عن النبي ﷺ: التَّكبير في الأمور السَّارة، فيه ذكرٌ لله -جلَّ جلاله، وتقدّست أسماؤه-، ومثل هذا المقام يحسُن فيه تكبير الله -تبارك وتعالى- الذي أعطى، وأولى، وأحسن، وأجزل وأنعم، والله أعلم.
هذا ما يتعلّق بهذا الباب.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
- أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (21900)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين"، والنَّسائي في "السنن الكبرى"، برقم (11121).
- أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب العلم والعِظة بالليل، برقم (115).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الغسل، باب عرق الجنب، وأنَّ المسلم لا ينجس، برقم (283)، ومسلم: كتاب الحيض، باب الدليل على أنَّ المسلم لا ينجس، برقم (372).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض، وكيف تغتسل، وتأخذ فرصةً ممسكةً فتتبع أثر الدم، برقم (314)، ومسلم: كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصةً من مسكٍ في موضع الدَّم، برقم (332).
- أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب التَّسبيح إذا هبط واديًا، برقم (2993).
- "شرح النووي على مسلم" (3/10).
- انظر: "الأصول في النحو" (2/252).
- أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}[الحج:2]، برقم (4741).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: أبواب العمل في الصلاة، باب التصفيق للنساء، برقم (1203)، وأبواب ما جاء في السَّهو، باب الإشارة في الصَّلاة،برقم (1234)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيءٌ في الصلاة، برقم (422).