الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[97] من قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية 222 إلى قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية 223
تاريخ النشر: ١٨ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 3655
مرات الإستماع: 2366

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ۝ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:222-223].

روى الإمام أحمد عن أنس -: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي ﷺ فأنزل الله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ حتى فرغ من الآية، فقال رسول الله ﷺ: اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر -ا- فقالا: يا رسول الله، إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أنْ قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله ﷺ فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما، ورواه مسلم[1].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد تباينت أقوال المفسرين في المراد من اعتزال النساء حال الحيض، فبعضهم يطلق المراد على المكان ويقرر أن المرأة إنما تجتنب في مكان الحيض فقط، وآخرون يرجعون المراد إلى الزمان وأن المرأة إنما تجتنب في وقت وزمن الحيض، وكلا القولين يلزم من الآخر لزوماً يتضح به المعنى.

لكن لو قلنا: إن المقصود هو اجتناب المرأة زمان الحيض، فإن هذا الاجتناب يكون لموضع الحيض ولغيره، بخلاف ما لو جعلنا المراد اجتناب موضع الحيض، فإن اجتناب موضع الحيض يلزم منه اجتناب ذلك في وقت حيضتها، فيكون ذلك أدل على المراد؛ لأن المجتنب من المرأة نوع من الاستمتاع خاص، هو ما بين السرة إلى الركبة أو مكان الحيض خاصة على خلاف، وأما ما دونهما فيحل الاستمتاع به، والنصوص الأخرى تدل عليه، فقد ثبت أن النبي ﷺ كان إذا أراد من امرأته شيئاً وهي حائض، أمرها أن تتزر ما بين السرة والركبة، وفي بعض الروايات ألقى على فرجها ثوباً. 

فالترجيح بين القولين بهذه الطريقة مما يتضح به المعنى، وهذه الرواية التي أوردها ابن كثير -رحمه الله- هي سبب نزول صحيح صريح لهذه الآية، وتدل دلالة واضحة على أن المرأة الحائض إنما يجتنب منها موضع الحيض، ويحل منها ما عداه من ألوان الاستمتاع، ناهيك عن جواز المخالطة والمؤاكلة وما إلى ذلك فهو من باب أولى، والله أعلم.

فقوله: فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ يعني الفرج.

بحسب الاحتمالين السابقين، أي: وقت الحيض يسألونك ماذا يحل لهم من النساء؟ أو يسألونك عن محل الحيض من المرأة عند حيضها، هل يحل لهم الاستمتاع به أم لا؟

والتقارب بين المعنيين كبير، إلا أن ابن كثير مال إلى أن المراد من الآية محل الحيض، واستدل بما جاء عن النبي ﷺ.

لقوله: اصنعوا كل شيء إلا النكاح.

والنبي ﷺ أراد بقوله: إلا النكاح الوطء، فعلق الحيض بمكانه ومحل خروجه، وهذا الحديث يستدل به القائلون بجواز الاستمتاع ما بين السرة والركبة، وإن كان الأفضل أن يكون فيما فوق هذا المقدار، لكن الشيء المحرم قطعاً هو موضع الحيض؛ لأنه موضع الأذى وهو الذي تتعلق به العلة، وما عداه فليس محلاً للأذى، وإنما كرهه من كرهه مبالغة في التباعد. 

وقد يتأثر هذا الحكم –ما يتعلق بالمباعدة عن موضع الحيض- باعتبارات تطرأ نظراً لما استحدثه الناس في هذا الزمان، فالحاصل أنه لا يجوز لأحد أن يطأ المرأة في وقت الحيض بحال من الأحوال إطلاقاً.

وأما بالنسبة لمن قارف ووقع على أهله في حال الحيض فقد ورد عن بعض أهل العلم أنه يتصدق بدينار.

وبعض أهل العلم يفرق جمعاً بين الروايات، بين الوطء في زمن الدم، والوطء بعد انقطاعه وقبل الغسل، وكل ذلك لا يجوز.

وأما ما يفعله البعض من الوطء في محل البول، فهذا لن يستطيع التباعد عن محل الأذى، فلا بد أن يلامسه أولاً.

ثانياً: أن ذلك ليس بمحل للوطء حتى ولو في حال الطهر، إنما محل الوطء هو موضع الولد خاصة، ولذا فتركه أولى.

ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج.

روى أبو داود عن عكرمة عن بعض أزواج النبي ﷺ: أن النبي ﷺ كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً[2].

وروى أبو جعفر بن جرير أن مسروقاً ركب إلى عائشة -ا- فقال: السلام على النبي ﷺ وعلى أهله، فقالت عائشة -ا: أبو عائشة، مرحباً مرحباً، فأذنوا له، فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي، فقالت: إنما أنا أمك، وأنت ابني، فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت: له كل شيء إلا فرجها، وهذا قول ابن عباس -ا- ومجاهد، والحسن، وعكرمة، قلت: ويحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف، قالت عائشة -ا: كان رسول الله ﷺ يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن"[3].

وفي الصحيح عنها -ا- قال: كنت أتعرق العرق وأنا حائض، فأعطيه النبي ﷺ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه[4].

العرق هو: العظم الذي أخذ أكثر اللحم، والمعنى أن عائشة كانت تأكل ثم تناوله النبي ﷺ فيأكل من الموضع الذي أكلت منه.

وثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية -ا- قالت: كان النبي ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض، وهذا لفظ البخاري[5].

ولهما عن عائشة -ا- نحوه.

وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله ﷺ: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض، قال: ما فوق الإزار [6].

فقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ [سورة البقرة:222] تفسير لقوله: فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْن، ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجوداً، ومفهومه حله إذا انقطع.

وقوله: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ، فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال، وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه.

حكم الوطء بعد الحيض ينطبق عليه قاعدة: الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل النهي، فمن قال: إنه مستحب لكونه سبباً للولد وسبباً للعفاف ولأجل قول النبي ﷺ: وفي بضع أحدكم صدقة [7] رجع إلى الاستحباب.

ومن قال: إنه مباح، جعله باعتبارين، مباح بالجزء وواجب بالكل، والمعنى أنه ينظر له من جهتين جهة الفاعل المعين وجهة العموم، فالفاعل المعين يتردد حكم الوطء في حقه من الوجوب -إذا خشي على نفسه العنت- إلى سائر التكاليف الباقية: "المباح – المستحب – المكروه - المحرم" وهي في كل مقام بحسب، وأما من جهة العموم فإنه يتعين على الرجل أن يطأ امرأته، حفاظاً على النسل من الانقطاع، وأما المقدار في الوطء فهذا لا ينضبط والكل أعرف بنفسه، فالوطء بعد الطهر يعرف حكمه بالاعتبار السابق، وهكذا سائر الأحكام ينظر إليها باعتبارين، يسميها الشاطبي -رحمه الله- الكل والجزء.

ولقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله سبحانه: حَتَّىَ يَطْهُرْن فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فبعضهم زعم أن المراد بطهارتهن يعني انقطع الحيض عند المرأة وهذا محتمل.

والبعض الآخر قال: يحتمل أن المراد من التطهر الاغتسال، وعليه عامة أهل العلم، فلا يجوز له أن يطأها حتى تغتسل، ويدل عليه القراءة الأخرى المتواترة: لا تقربوهن حتى يَطّْهَرْن والمعنى يتطهرن، التاء للطلب، فهذا يدل على صنع وفعل وتكلف يصدر من ناحيتها وجهتها، فليس انقطاع الدم هو المراد فحسب بل لا بد من فعلٍ يصدر منها وهو الاغتسال، وهذا خلافاً لمن أمضى عليها عشرة أيام، وبعضهم يقول: تتوضأ، فيقوم وضوءها مقام الاغتسال. والله أعلم بالصواب.

وقال ابن عباس -ا: حتى يطهرن: أي من الدم، فإذا تطهرن: أي بالماء، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، ومقاتل بن حيان، والليث بن سعد وغيرهم.

قراءة يَطّْهَرنَ قراءة حمزة والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين عنه وهي قراءة متواترة، وبقية القراء السبعة على الأولى حَتَّىَ يَطْهُرْن وهي محتملة انقطاع الدم، ومحتملة للانقطاع مع الاغتسال كما سبق، ولكن لما كانت القراءات يفسر بعضها بعضاً سواء كانت متواترة أو من قبيل الآحاد فسرت القراءة الثانية الأولى، فيتبين المراد من ذلك أنه لا يجوز له أن يقربها حتى ينقطع الدم وتغتسل، وفي بعض المواضع من القرآن الكريم قد ترد في الآية قراءتين ويكون لكل منهما معنى يخصها فتنزل بمنزلة الآيتين.

وقوله: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ قال ابن عباس -ا- ومجاهد وغير واحد، يعني: الفرج، وفيه دلالة على تحريم الوطء في الدبر، كما سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى.

وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ، يعني طاهرات غير حيض.

وبعضهم يقول: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ أي بالحلال وهو النكاح، وبعضهم يقول: من غير مانع مثل أن تكون معتكفة أو هو معتكف، أو تكون صائمة صيام الفرض، فهذا لا يجوز له أن يفسد صومها، لكن الأقرب من هذه المعاني وهو الظاهر المتبادر ما ذكره ابن عباس أن المراد بذلك الفرج. والله أعلم.

ولهذا قال: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ أي من الذنب وإن تكرر غشيانه، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أي المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتي.

هذه من جنس الآيات السابقة المتكررة التي يجمع الشارع فيها بين أمرين.

وقوله: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:223]، قال ابن عباس -ا: الحرث موضع الولد، فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي كيف شئتم.

أصل الحرث الزرع، تقول: فلان صاحب حرث، يعني صاحب زرع، ثم أطلق على سببه، فصارت المرأة المزدرع الذي يوضع فيه البذر، لكونها محل مزدرع الرجل.

ومعلوم أن موضع الزرع من المرأة القبل، ولا يكون الحرث إلا في هذا الموضع، والآية دلالتها واضحة وصريحة في تحريم إتيان المرأة في غير القبل، وإن كان يحل منها جميع أنواع الاستمتاع فيما عدا محل الأذى "الدبر"، بل وتواردت الأحاديث في هذا المعنى وإن كانت لا تخلوا من ضعف، إلا أن بعضها يتقوى، فيرتقي إلى درجة الحسن، وعلى فرضية أنه لم يصح شيء منها كما نقل عن بعض أهل العلم من الأئمة المتقدمين، فهذا لا يفهم منه الجواز والحل؛ إذ إنهم محكومون بالآية وهي في غاية الوضوح وناصعة الاستدلال.

وأما ما ينسب إلى الأئمة كالإمام مالك أنه أجازه، فهذا كذب عليه صريح، ويوجد في كلامه ما يكذبه صراحةً، ويبرِّئه منه، وكذا ما نسب إلى الشافعي إنما كان ذلك عن طريق أحد الكذابين.

وأما ما نقل عن جماعة كابن عمر وغيره من الكلام الذي فُهم منه قصده هذا المعنى، فقد جاء في روايات أخرى عنه ما ينفيه صراحة وأنه لا يريده ولا يقصده، وإنما حمله الناس عنه على غير الوجه الذي قصده، ولذا أنكره ابن عمر غاية الإنكار، والحقيقة أن هذا الفعل لا يقدم عليه إلا صاحب هوى ممسوخ، وفطرة منكوسة، نسأل الله العافية.

فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي: كيف شئتم مقبلة أو مدبرة في صِمام واحد، كما ثبتت بذلك الأحاديث.

أراد الله سبحانه بقوله: أَنَّى شِئْتُمْ أي على أي هيئة مكانية أو فترة زمانية شئتم فيما حدده لكم الشرع فقد أجاز إتيان المرأة مقبلة أو مدبرة إلى آخره، وابن جرير -رحمه الله- يقول: إن السياق يبين المراد، ولذا فسر المراد من قوله: فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي من قِبل المأتى، وهذا تفسير مطابق، وانتقد من فسرها باعتبار الزمان أو المكان، ويقول: إن ذلك كان بسبب ألوان من الاستعمال جاءت في كلام العرب، فكلٌّ حمل المراد على معنى، لكن الملاحظ في التركيب والسياق وأصل المعنى إذا تمعن فيه المتمعن وجده: من أي وجه شئتم. والله أعلم.

روى البخاري عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، ورواه مسلم وأبو داود[8].

المراد من الجماع في رواية جابر ما كان في موضع الولد قطعاً؛ لأن الولد لا يأتي إلا إذا جامعها في القبل، والمقصود من إيراد سبب نزول الآية أن للمرء الخيار في طريقة الجماع، وهي مقبلة أو مدبرة أو على جنبها أو بأي شكل كان، والآية إنما وردت في مقام التهكم باليهود؛ لأنهم كانوا يتصورن هذا التصور المنحرف الخاطئ، ولذا كانوا يجامعون نسائهم على جنب ويقولون: إن ذلك أستر، ويعتقدون في الجماع بتلك الهيئة ما سبق، فجاء الشرع بخلاف ما اعتقدوه، ونفى ضمناً ما ظنوه.

وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله -ا- أخبره: أن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول، فأنزل الله: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. قال ابن جريج في الحديث: فقال رسول الله ﷺ: مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج[9].

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: أنزلت هذه الآية نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ....، في أناس من الأنصار أتوا النبي ﷺ فسألوه، فقال النبي ﷺ: ائتها على كل حال إذا كان في الفرج [10].

وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن سابط قال: دخلت على حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت: إني سائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك عنه، قالت: فلا تستح يا ابن أخي. قال: عن إتيان النساء في أدبارهن، قالت: حدثتني أم سلمة -ا- أن الأنصار كانوا لا يجبون النساء، وكانت اليهود تقول: إنه من جبَى امرأته كان ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فجبوهن...

التجبية: أن تكون المرأة باركة على وجهها كالساجدة، ويأتيها في موضع الولد خاصة، وفي حديث وفد ثقيف لما أنزلهم الرسول ﷺ المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يُجَبُّوا، أي يسجدوا كناية عن امتناعهم عن الصلاة، وفي صحة الحديث نظر.

فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله ﷺ، فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك، فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله ﷺ، فلما جاء رسول الله ﷺ استحيت الأنصارية أن تسأل رسول الله ﷺ، فخرجت فحدثت أم سلمة رسول الله ﷺ فقال: ادعي الأنصارية، فدعيت فتلا عليها هذه الآية: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، صماماً واحداً.[11] ورواه الترمذي وقال حسن.

هذا الأثر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود ليس من أسباب نزول الآية؛ لأن النبي ﷺ في هذا الحادثة إنما تلا هذه الآية ليبين الحكم فقط ليس غير، وقد سبق الإشارة إلى سبب نزولها وأنها نزلت في اليهود، وقد جاء في بعض الروايات ما يشبه هذه الرواية، وهو أن قريشاً كانوا يشرحون النساء -يأتون المرأة مستلقية، فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار فامتنعت.... القصة.

ويؤخذ من الرواية أنه لا يمنع الإنسانَ الحياءُ من السؤال في الدين، وهذا العبارة أصوب من قول بعضهم: لا حياء في الدين، وكأنه غفل أن الدين كله حياء، بل إن الحياء شعبة من الإيمان كما أخبر بذلك المصطفى ﷺ.

وروى النسائي عن كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر -ا: إنه قد أكثر عليك القول إنك تقول عن ابن عمر -ا- إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن، قال: كذبوا عليّ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر، إن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، فقال: يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا، قال: إنا كنا معشر قريش نُجبِّي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار، أردنا منهن مثلما كنا نريد، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود، إنما يؤتيْن على جنوبهن، فأنزل الله: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.[12] وهذا إسناد صحيح.

هذه الرواية صريحة في نفي وتكذيب ما نسب إلى ابن عمر، ولعل ذلك فهم من ابن عمر على غير قصده، والرواية الأخرى الواردة عنه في مخالفته لهذا القول جاءت في البخاري.

روى أحمد عن خزيمة بن ثابت الخُطَمي أن رسول الله ﷺ قال: لا يستحيي الله من الحق ثلاثاً، لا تأتوا النساء في أعجازهن[13] رواه النسائي وابن ماجه.

وروى أبو عيسى الترمذي والنسائي عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر[14]. ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه ابن حزم أيضاً.

حسن بعض أهل العلم كالشيخ الألباني هذا الحديث، والأحاديث وإن كانت متضافرة في هذا الباب إلا أنها لا تخلو من ضعف، والآية وحدها دلالاتها كافية في تحريم إتيان النساء في أدبارهن.

وروى الإمام أحمد عن علي بن طلق قال: نهى رسول الله ﷺ أن تؤتى النساء في أدبارهن، فإن الله لا يستحيي من الحق،[15] وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال: هو حديث حسن.

وروى أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر -ا: ما تقول في الجواري حين أحمض لهن؟ قال: وما التحميض. فذكرت الدبر، فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين، وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك.

وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: حدثني إسماعيل بن حصن، حدثني إسماعيل بن روح، سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال: ما أنتم قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع، لا تعدوا الفرج!! قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك، قال: يكذبون عليّ، يكذبون عليّ.

فهذا هو الثابت عنه، وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعكرمة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، والحسن وغيرهم من السلف، إنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فاعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء.

مراد ابن كثير من قوله: وهو مذهب جمهور العلماء، أي تحريم إتيان المرأة في الدبر، وليس إطلاق الكفر عليه، ولا يكاد يوجد مخالف في هذه المسألة، ومن نُقل عنه خلاف ذلك فهو كذب كما أسلفنا.

وقوله: وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ أي: من فعل الطاعات مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك المحرمات.

الأقرب في تفسير الآية والأظهر ما ذكره ابن كثير، ولذا اختاره جمع من المحققين منهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري –رحمه الله- وقد جاء في الآية الأخرى: وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ [سورة البقرة:110]، والمعنى قدموا لأنفسكم من فعل الخير ما تعمرون به آخرتكم.

وبعضهم يقول: قدموا لأنفسكم، يعني الذكر الذي يقال عند الجماع: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا[16]، وقيل غير هذا لكنها معانٍ بعيدة.

ولهذا قال: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ أي: فيحاسبكم على أعمالكم جميعها، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي: المطيعين الله فيما أمرهم، التاركين ما عنه زجرهم.

وروى ابن جرير عن عطاء قال: أراه عن ابن عباس -ا: وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ، قال: تقول: بسم الله -التسمية عند الجماع.

وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً[17].

هذا المعنى في تفسير المراد من الآية وإن كان حكماً ثابتاً، لكنه يمكن أن يكون من الأمثلة على تفسير القرآن بالسنة مما يدخله الاجتهاد إلا أنه جانب الصواب، وذلك أن تفسير القرآن بالسنة على نوعين:

  • نوع تعرض فيه النبي ﷺ للآية بالتفسير والتوضيح، هذا لا إشكال فيه إذا ثبت عن النبي ﷺ، ولا ينظر إلى قول أحد بعد النبي ﷺ؛ لأنه أعلم الناس بكلام الله ومراده.
  • ما يجتهد فيه المفسر من تفسيره للقرآن بالسنة من خلال فهمه لكلام الله ، فيعمد المفسر إلى حديث لا تعلق له بالآية فيتكلف في الربط بين الآية وبين الحديث، وقد يوفق في الربط، وقد لا يوفق، مثل من فسر هذا الحديث بأنه المراد من قوله سبحانه: وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ، فهذا يعتبر من قبيل النوع الثاني من تفسير القرآن بالسنة مما يدخله اجتهاد المفسر، وهو مأجور على اجتهاده فيما ذهب إليه من تفسيره وإن لم يوفق للصواب.

والخلاصة أن يُفسر قوله: وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ بما ذكره ابن كثير من فعل الطاعات مع امتثال ما نهاهم عنه من ترك المحرمات، وهو الأصوب، والله أعلم.

ويبقى سؤال هو ما وجه المناسبة بين قوله: فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وما بعدها وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ؟

الجواب يكمن في أن أعظم متعة في هذه الدنيا هي النساء، كما قال النبي ﷺ: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب...[18]، ولذلك كان العرب يقولون عن النكاح والطعام: الأطيبان؛ لأنه أطيب ما في الدنيا، وقد يشغل العبدَ السعيُ في طلب الزوجة والبحث عنها، وما يتعلق بكماليات وأمور ومتطلبات الحياة الزوجية، وذلك كله مآله إلى الوطء، يشغله عما هو بصدده من عبادة الله ، لأن النساء من الزينة المحببة إلى قلب الإنسان كما قال سبحانه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء... [سورة آل عمران:14]

وتأمل كيف أن الله بدأ بذكر النساء من الشهوات التي يبحث عنها الناس، لما علم أنه لا يعادلها قناطير ولا أنعام ولا حرث ولا خيل مسومة لكنه قال بعدها: ذلك مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ۝ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ فيكون ذلك من قبيل لفت أنظار المكلفين إلى أن هذه المتع في الحياة الدنيا زائلة، وأن هذه المرأة التي يحرص على نكاحها والالتصاق بها سوف تشمط يوماً ما، وتظهر آثار الزمان على وجهها، وتشيخ عند كبرها، عندها يذهب جمالها وبهاؤها ورونقها وحسنها وشبابها، فتصير إلى حالة لا يطلب فيه أحد نكاحها، ولا تتوق إليها النفوس، فلا ينبغي أن ينشغل العبد بالنساء عن عبادة الله ، بل لا بد أن يقدم لنفسه زاداً يدخره لآخرته؛ فالآخرة دار لا تصلح للمفاليس، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه مسلم في كتاب الحيض –باب جواز غسل رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه برقم (302) (1/246).
  2. رواه أبو داود برقم (272) (1/111)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (8792).
  3. رواه البخاري في كتاب الحيض –باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض برقم (7110) (6/2744)، دون قولها: "يـأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض".
  4. رواه مسلم في كتاب الحيض -باب جواز غسل رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه برقم (300) (1/245).
  5. رواه البخاري في كتاب الحيض –باب مباشرة الحائض برقم (297) (1/115).
  6. رواه أبو داود برقم (212) (1/58)، وأحمد في مسنده برقم (86) (1/247).
  7. رواه مسلم في كتاب الزكاة –باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف برقم (1006) (2/69 7).
  8. رواه البخاري في كتاب التفسير –باب تفسير سورة البقرة برقم (4254) (4/1645)، ومسلم في كتاب النكاح –باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها من غير تعرض للدبر برقم (1435) (2/1058).
  9. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/122).
  10. رواه أحمد في مسنده برقم (2414) (1/268)، وعلق عليه شعيب الأرنؤوط بقوله: حسن لغيره، وإسناده ضعيف لضعف رشدين بن سعد.
  11. رواه أبو داود برقم (2979) (5/215)، وأحمد في مسنده برقم (26601) (6/305)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2979).
  12. رواه النسائي في سننه الكبرى برقم (8978) (5/315).
  13. رواه النسائي في سننه الكبرى برقم (8986) (5/317)، وابن ماجه بلفظ «في أدبارهن» برقم (1924) (1/619)، والترمذي برقم (1164) (3/468)، وأحمد برقم (21903) (5/213)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13669) عن طريق خزيمة بن ثابت.
  14. رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (9001) (5/320)، والترمذي برقم (1156) (3/469)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13759).
  15. رواه الترمذي برقم (1164) (3/468)، وأحمد في مسنده برقم (21907) (5/213)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (2733).
  16. رواه البخاري في كتاب الوضوء –باب التسمية على كل حال وعند الوقاع برقم (141) (1/65)، ومسلم في كتاب النكاح –باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع برقم (1434) (2/1058).
  17. سبق تخريجه.
  18. رواه النسائي برقم (3939) (7/61)،  وأحمد في مسنده برقم (13079) (3/199)، وقال الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: حسن صحيح برقم (3939).

مواد ذات صلة