بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مائَة عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259]
تقدم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ [سورة البقرة:258]، وهو في قوة قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه، ولهذا عطف عليه بقوله: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
روى ابن أبي حاتم عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير، ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه، وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا، والحسن، وقتادة، والسدي، وسليمان بن بريدة، وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل، وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، مر عليها بعد تخريب بخت نصّر لها وقتل أهلها.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالمشهور عند المفسرين أن عطف هذه الآية على ما قبلها محمول على العطف في المعنى ليس غير، وأما بخصوص تحديد صاحب القصة بأنه عزير فلم يثبت في تعيينه شيء صحيح، بل قال بعضهم: إنه حزقيل، وقيل: أرميا، وكذا تحديد هذه القرية الصواب أنه لم يثبت في تحديدها شيء، ولا طائل من معرفة ذلك، فالأولى أن لا يشتغل المرء بمثل هذه المبهمات؛ لأنه ليس فيها مراجع موثّقة يستند عليها، ولا طريق للوصول إلى التأكد من صحتها ومصداقيتها، والله أعلم.
أشار بقوله سبحانه: وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا إلى خلو القرية، والمعنى أنها غدت خالية من الساكنين، تقول: هذه الديار خاوية على عروشها، أي لا ساكن فيها، مع أن تفسيرها الأقرب إلى اللفظ المعبر به هو سقوط السقوف، وتهاوي الجدران؛ لأن العروش هي السقوف، فإذا سقطت بسبب تداعي الزمن سقطت على أثرها الجدران، لكن هذا المعنى ملازم للذي قبله، وهو يدل على خراب القرية.
اختلف أهل التأويل في المراد بقوله سبحانه: أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فقيل: أهل القرية، وقيل: هذه القرية.
والقرية تارة تطلق ويراد بها البنيان، وتارة تطلق ويراد بها أهل القرية، والأقرب في الدلالة على المقصود هو القول الأول: إنهم أهل القرية، وذلك أن الله لما أماته ثم أراه الإحياء؛ إنما أراد بذلك أن يريه قدرته على إحياء الموتى، ولذلك ذكر الله أنه أراه العظام كيف يقيمها!، ويركب بعضها على بعض!، وأراه بعد ذلك كيف ينشزها لحماً!، فجعل الله له هذه آية في نفسه.
ويحتمل أن يكون المراد الأمرين: أهل القرية مع القرية، ولكن ذلك لم ينقل بطريق يعتمد عليه، وما ورد من الروايات أنها عمرت من جديد وقامت، كله من الإسرائيليات فلا يعول عليها، والله أعلم.
على هذا التفسير يكون المراد بقوله -تبارك وتعالى: وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا أنها عظام نفسه وخلقته، يدعوه ربه إلى التأمل في قدرته على تركيب عظامه بعضها على بعض!، ثم كيف يكسوها لحماً!...، وبعد ذلك أراه نفس الآية في حماره الذي تفرقت عظامه يميناً وشمالاً.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد عظام حماره، والله أعلم.
وأما قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ قيل: من السَّنة أي لم تغيره مضي السنون بل بقي على حاله، وبعضهم يقول: إن أصله لم يتسنَّ الهاء للسكت، والمعنى أنه لم يتغير، بالرغم من كون الطعام يسرع إليه الفساد والتغير أكثر من بدن الإنسان أو الحيوان، إشارة ودلالة على قدرة الله وعظمته، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.
لا فائدة تذكر من تحديد ماهية هذا الطعام، وليس هناك نصوص يعتمد عليها في هذا.
ما يظهر من الآية أن الله لفت نظره إلى إحياء الحمار بعد موته لأجل أن ينظر إلى قدرة الله في إحياء الموتى، وبعض أهل العلم قال: إن المقصود انظر إليه أي الحمار قائماً هذه المدة لم يتغير ولم يحصل له شيء، ولكن المشهور القول الأول وهو أن حماره قد مات وتلاشى واضمحل، فأراه الله قدرته على الإحياء بهذا الحمار. والله أعلم.
وأصل النشوز الارتفاع تقول: أرض ناشزة بمعنى مرتفعة، وامرأة ناشز بمعنى أنها ترفعت عن طاعة الزوج.
قراءة الزاي هي قراءة حفص عن عاصم، والكوفيين، وابن عامر، وأما الباقون فقرءوها بالراء كيف ننشرها وهي قراءة سبعية متواترة، ومعناها من النشور وهو الإحياء بعد الإماتة، يقال: أنشره الله إذا أحياه بعد إماتة، ولذلك قيل لليوم الآخر –يوم القيامة: يوم النشور، ويوم النشر.
وقال السدي وغيره: تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحاً فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه، حتى صار حماراً قائماً من عظامٍ لا لحم عليها، ثم كساها الله لحماً وعصباً وعروقاً وجلداً، وبعث الله ملكاً فنفخ في منخري الحمار فنهق، كله بإذن الله .
وذلك كله بمرأى من عزير، فعند ذلك لما تبين له هذا كله قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: أي أنا عالم بهذا، وقد رأيته عياناً، فأنا أعلم أهل زماني بذلك.
وقرأ آخرون: {قال اعلم}ْ على أنه أمر له بالعلم.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:260] ذكروا لسؤال إبراهيم أسباباً منها: أنه لما قال للنمرود: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [سورة البقرة:258]، أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[2] فمعناه أننا نحن أحق بطلب اليقين.
أراد إبراهيم بطلبه أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال وهي علم اليقين إلى مرتبة أعلى منها وهي عين اليقين، ذلك أن مراتب اليقين ثلاث:
الأولى: علم اليقين: وهو الاعتقاد الجازم الثابت الذي لا يتطرق إليه شك ولا يقبل التشكيك.
الثانية: عين اليقين: وهذا لا يتوصل إليه إلا بالمشاهدة.
الثالثة: حق اليقين: وهذه لا تتحقق إلا بملابسة الشيء والدخول فيه، فإبراهيم أراد أن ينتقل من مرحلة التصديق الجازم إلى المشاهدة الواقعة ليحقق عين اليقين فكان له ما أراد.
يقول ابن القيم في كتابه -التبيان في أقسام القران- معقباً على كلامه عن مرتبة عين اليقين: "وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى!؛ ليحصل له مع علم اليقين عين اليقين، فكان سؤاله زيادة لنفسه وطمأنينة لقلبه، فيسكن القلب عند المعاينة ويطمئن لقطع المسافة التي بين الخبر والعيان، وعلى هذه المسافة أطلق النبي لفظ الشك حيث قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم، ومعاذ الله أن يكون هناك شك من إبراهيم، وإنما هو عين بعد علم، وشهود بعد خبر، ومعاينة بعد سماع".
وعلى افتراض اعتبار طلب نبي الله إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- شكاً، فيحمل على ما يعرض للإنسان من الخواطر التي يدفعها بمجرد قدحها في الذهن، ولا يسترسل معها، فلا يكلف بها ويحاسب عليها، ومن أمثلة وروده في الوحيين ما جاء في قوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ [سورة يوسف:110] والمعني تخلف الوعد، فهذا مما يخطر على النفوس، ولكنها لا تسترسل معه فيكون مغتفراً، ومثله ذلك الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه ثم يذرّوه بعد ذلك، فلما كان إقدامه على هذا الصنيع ليس شكاً في قدرة الله على جمعه وإحيائه من جديد، إنما حصل له بسبب غلبة الخوف تجاوز الله عنه وصفح.
والحواريون حينما طلبوا من عيسى ﷺ كما حكاه الله على لسانهم بقولهم: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة المائدة:112]، وكانت علتهم: نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:113] ولا يعقل أن يكون خاصة أصحاب المسيح –عليه الصلاة والسلام- مشككين في قدرة الله ، بدليل أن الاستطاعة تأتي مستفهَماً عنها في بعض الأحيان، مراداً بها الفعل، مثل قولك: هل تستطيع أن تذهب معي إلى مكان كذا وكذا؟ لأجل ذلك لم يؤاخذوا.
والخلاصة أن الآية يمكن أن تحتمل المعنيين، إلا أن الأحسن حملها على القول الأول وهو أن إبراهيم أراد أن ينتقل من مرتبة عالية في اليقين إلى مرتبة أعلى منها.
وبهذا التوضيح ينتفي استشكال ورود لفظ الشك في الحديث، بما قرره ابن القيم ورجحه، وإذا عُلم أن الشك في البعث ينفر منه كثير من آحاد الناس، فيكف بأبي الأنبياء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مَن عُرف برسوخ الإيمان وثباته، والله أعلم.
الروايات الإسرائيلية المنقولة في تحديد هذه الطيور تجدها في غاية الاختلاف، وهذا يدل على تطرق الكذب إليها، ولا يوجد مستند صحيح يعتمد عليه في تحديد نوعها.
أقوال المفسرين تباينت في تفسير قوله: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ فبعضهم يقول: قطعهن، وبعضهم يقول: أَمِلْهن، من قولهم: رجل أصور أي مائل العنق، والمعنى مختلف، والذي يظهر أن كل معنى من هذه المعاني يرجع إلى قراءة، فإذا قرأت فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بالصاد مضمومة، فهي بمعنى الإمالة أي اجعلهن نحوك، وبعضهم فسره بمعنى ضمهن إليك وهو لا يخالف هذا المعنى، وإذا قرأت فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ بكسر الصاد يكون المعنى قطعهن، فلا حاجة للترجيح بين القولين، والقراءات إذا وجد لكل منها معنى يخصها فهي بمنزلة الآيات، وقيل غير هذا مما ظاهره التكلف، والله أعلم.
فذكروا: أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، قيل: أربعة أجبل، وقيل: سبعة.
قال ابن عباس -ا: وأخذ رءوسهن بيده، ثم أمره الله أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعياً؛ ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم فإذا قدّم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته، ولهذا قال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب في قوله: وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قال: قال ابن عباس -ا: ما في القرآن أرجى عندي منها.
وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر أنه قال: التقى عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص -، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أي آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [سورة الزمر:53] الآية، فقال ابن عباس: لكن أنا أقول: قول الله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى فرضي من إبراهيم قوله بلى، فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان. وهكذا رواه الحاكم في المستدرك مثله، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [261سورة البقرة:] هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف".
ابن جرير ذكر وجهاً للارتباط والمناسبة بين هذه الآية، والآيات السابقة فقال: وهذه الآية مردودة إلى قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245:]، والآيات التي بعدها التي ذكرت قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبأ الذي حاجّ إبراهيم، وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها، وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل، اعتراض من الله -تعالى ذكره- بما اعترضَ به من قصصهم بين ذلك، احتجاجاً منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة، وحضّاً منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 244:]، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدَد عدوّهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرِّق جمعهم ومُوهِنُ كيدهم، وقطعًا منه ببعض عذر اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجر رسول الله ﷺ، بما أطلع نبيَّه عليه من خفيِّ أمورهم، ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم؛ ليعلموا أن ما أتاهم به محمد ﷺ من عند الله، وأنه ليس بتخرُّص ولا اختلاق، وإعذارًا منه به إلى أهل النفاق منهم، ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد ﷺ أن يُحِلَّ بهم من بأسه وسطوته، مثل الذي أحلَّهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها، فتركها خاوية على عروشها.
ثم عاد -تعالى ذكره- إلى الخبر عن الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا، وما عنده له من الثواب على قَرْضه، فقال: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم.
وأما معنى قوله سبحانه: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فبعضهم جعله مقدراً بقوله: مثل نفقة الذين ينفقون؛ لأن التشبيه للنفقة وليس للمنفقين، ويمكن أن يكون التقدير مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أي كمثل زارع حبة، فيكون ضرب المثل بهم.
على قول سعيد بن جبير تكون الآية محمولة على العموم، فتشمل النفقة في سبيل الله كل باب من أبواب الخير، كالدعوة إلى الله ، والعلم، والجهاد، والفقراء، وسائر وجوه البر في النفقات.
والغالب في القرآن الكريم إذا أطلق فيه لفظ في سبيل الله أريد به الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى، ولذلك جعلوا هذه المضاعفة للحسنات إلى سبعمائة ضعف للنفقة في الجهاد فقط، وأما في الأبواب الأخرى فإن الحسنة بعشر أمثالها كما قال الله : مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160].
وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف، روى الإمام أحمد عن ابن مسعود -: أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ: لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة[3] ورواه مسلم والنسائي،
ولفظ مسلم: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة[4] حديث آخر: روى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، الصوم جنة[5] وكذا رواه مسلم.
ظاهر هذه المضاعفة المذكورة في الحديث إلى سبعمائة ضعف أنها عامة في جميع الأعمال سواء كانت في الجهاد أو في غير الجهاد من النفقات في سبيل الله، إلا أنه قد جاء ما يخالف هذا الفهم في حديث آخر عن أبي عبيدة مرفوعاً إلى النبي ﷺ: من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً أو ماز أذى- يعني أماط أذى- فالحسنة بعشر أمثالها [6]فدلالة الحديث ظاهرة في اختصاص المضاعفة إلى سبعمائة ضعف في الأجر بالنفقة في الجهاد، وأما النفقة في غير الجهاد فتلك الحسنة بعشر أمثالها، والله أعلم.
يُحتمل في المراد من المضاعفة في الآية أمران:
- أن الله يضاعف هذه المضاعفة يعني من العشرة إلى السبعمائة ضعف لمن شاء وأراد من خلقه، وليس كل الناس يحظون وتشملهم هذه المضاعفة في الأجر.
- أن الله يضاعف هذا العدد –السبعمائة- فيزيد في الجزاء والأجر على السبعمائة لمن يشاء، فيعطيه أكثر من السبعمائة، والذي يفهم من السياق أن المضاعفة في العدد، فيجازي الله ويضاعف الحسنات للإنسان إلى سبعمائة ويزيد من شاء فوق السبعمائة، وهذا الذي اختاره ابن جرير وابن القيم –رحمهما الله- ولعل مرد هذا العطاء والمضاعفة في الأجر والثواب إلى حال المنفق والنفقة، واعتبار الموضع والزمان، فإذا كانت النفقة في وقتٍ الناس أحوج ما يكونون إليها كمجاعة مثلاً، فهي أعظم من النفقة في حال زهد الناس فيها، وإذا كانت من أطيب الكسب، فهي أفضل مما دونها من الكسب، وإذا أخرجها العبد وهو طيب النفس كامل اليقين بجزاء الله ، وأن يخلفه على هذه النفقة خيراً، كانت أفضل ممن يخرجها وهو يشعر أنها مغرم، أو يكون متردداً في إخراجها، أو أن قلبه متعلق بها، فالجزاء والأجر في النفقات بحسب ما يقوم بقلب الإنسان من الإخلاص واليقين وعموم النفقة ونفعها وحاجة الناس إليها وثمنها ونفاستها، فهذه الأمور سبب لمضاعفة الأجر وزيادته، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
- رواه الحاكم في مستدركه برقم (2918) (2/255)، وعلق الذهبي في التلخيص: في السند إسماعيل بن قيس من ولد زيد بن ثابت ضعفوه.
- رواه البخاري في كتاب التفسير –باب تفسير سورة البقرة برقم (4263) (4/1650)، ومسلم في كتاب الإيمان –باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة برقم (151) (1/133).
- رواه النسائي برقم (3187) (6/49)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3187).
- رواه مسلم في كتاب الإمارة –باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها برقم (1892) (3/1505).
- رواه مسلم في كتاب الصيام – باب فضل الصيام برقم (1151) (2/806)، ورواه أحمد في مسنده برقم (9712) (2/443)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- رواه أحمد في مسنده برقم (1690) (1/195)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.