بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:262-264]: يمدح -تبارك وتعالى- الذين ينفقون أموالهم في سبيله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات مناً على من أعطوه، فلا يمنون به على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا بفعل.
وقوله: وَلاَ أَذًى أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان، ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك فقال: لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه، وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أي على ما خلفوه من الأولاد، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول، أما بعد:
فقد سبق الكلام على أن الأقرب في حمل الآيات المادحة للمنفقين أموالهم في سبيل الله على العموم في الجهاد وغير الجهاد.
وقوله سبحانه: ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى المن: نوع من الأذى ولكنه خاص منه، فالمن: أن يمتن على المعطى بالعطية، بأن يذكره ويبكته بها، أو يقرره بإحسانه إليه..
والأذى: يحصل بهذا المن ويحصل بغيره، كأن يعطيه ثم يسمعه ما يكره، بأن يغلظ عليه بالقول أو يشتمه أو يجرح مشاعره أو يرفع صوته، أو يبدي امتعاضه وتذمره منه، أو نحو ذلك من الكلام، فهذه الأمور قد تذهب بأجر صدقته، سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر.
ثم قال تعالى: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم، وَمَغْفِرَةٌ أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي، خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ عن خلقه.
حَلِيمٌ أي يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم.
القول المعروف من كلمة طيبة أو دعاء لمسلم في حال الاعتذار، وكذا التلطف من العبد في الكلام والعبارة، خير وأفضل من العطاء مع الأذية وجرح المشاعر، أو المن عليه، أو إبداء الضجر منه، والناس قد تذهب أجور صدقاتهم بسبب هذه الأمور المحتفة بها، وقد قال دريد:
لا تدخلنك ضجرة من سائل | فلخير دهرك أن تُرى مسئولاً |
لا تجبهن برد وجه مؤمل | فبقاء عزك أن تُرى مأمولاً |
وقيل: المغفرة بالنسبة للسائل نفسه، بمعنى أن السائل ينبغي له أن يقدِّر، وأن يلتمس العذر، ويغفر للإنسان الذي سأله فلم يعطه، وهذا المعنى بعيد.
قوله: وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يحتمل في المعنى إذا ربطناه بالآية، أن الله غني عن صدقاتكم، حليم فلا يعجل العقوبة لهذا المانِّ، ويحتمل معنى آخر وهو أن الله مع غناه الكامل المطلق إلا أنه حليم برغم ذلك، وأنتم مع فقركم وقلة ما في أيديكم تضجرون حينما تُسألون شيئاً من هذا الحطام الذي في أيديكم، والمعنى الذي قبله أحسن منه، والله أعلم.
وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المنّ في الصدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب[1]، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [سورة البقرة:264]
فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى، ثم قال تعالى: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليُشكر بين الناس أو يقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى، وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال: وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.
ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جيد في الربط بين الجملتين، وجلي في توضيح المعنى.
في قوله سبحانه: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ تشبيه لحال الإنسان المرائي بالمطر الشديد الذي نزل على صخر أملس عليه تراب قد علق به، فأزال المطر هذا التراب، فلم يعد حينها محلاً لإخصاب النبات، ولا أرضاً طيبة تقبل المطر وتنبت العشب، فهذا مثل لحال المرائي.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يشبه هذا الصفوان بقلب المنافق، والتراب الذي عليه بما ظهر للناس من عمله من صدقة أو سواها...، فعمل المنافق بمنزلة التراب الذي على الصفوان زاح عندما هَمَع عليه ماء المطر.
والصفوان يستعمل للمفرد والجمع بلفظ واحد، وبعضهم يقول: الصفوان مفرد وجمعه: صُفِي بضم أوله وكسر ثانيه، وصِفِي بكسر الصاد والفاء.
الذي يكون قطره كبيراً متتابعاً.
بمعنى أنه رجع على حالته وصورته الحقيقية.
بل قد ذهب كله، أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب، ولهذا قال: لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:265] وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات الله عنهم في ذلك، وتثبيتاً من أنفسهم.
ورود هذه الآيات متتابعة على الرغم من كونها مختلفة في الدلالة جاءت على طريقة القرآن إذ يأتي بالشيء وما يقابله، فتجده يذكر حال أهل الجنة ثم يعرج على ذكر حال أهل النار، يورد صفة الجنة وأهلها وبعدها يعقب بذكر صفة النار وأهلها، يرغب ثم يرهب أو العكس وهكذا ....
فتحقيق القبول لهذه النفقات نابع من التصديق بوعد الله الناشئ من جهة أنفسهم، وباليقين الثابت الراسخ بعائدة هذه النفقة ومردودها، وأنها مخلوفة، أما من يرى هذه النفقة من المغرم، أو تعلق قلبه بها غاية التعلق فلا يخرجها إلا وهو متردد، يكاد قلبه ينخلع معها، فمثل هذا الإنسان ليس بهذه المثابة التي وصفها الله ، لأن من لازِمِ قبول هذه النفقات احتسابها عند الله وهو منتفٍ هنا.
وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مفعول لأجله، والمعنى ومثل الذين ينفقون أموالهم طلباً لمرضات الله وطلباً للتثبيت، أو لأجل الابتغاء والتثبيت.....
وقيل: بل إن قوله: وَتَثْبِيتًا مصدر، والمعنى أنهم بهذا الإنفاق يروضون النفس ويثبتونها، ويدربونها ويخطمونها بتقويتها على البذل والإنفاق لئلا تضعف، فتمتد أيديهم في الإنفاق طاعة لله ، وهذا المعنى الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم ومنهم الحافظ ابن القيم -رحمه الله.
وقيل: المعنى أن نفوسهم هي التي تثبتهم عند بذل هذه النفقات، وهذا قال به كثير من السلف، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري، وكلا المعنيين تحتملهما الآية.
قوله سبحانه: ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ أي أن إنفاقهم خالصٌ لوجه الله -تبارك وتعالى.
الربوة: هي ذات الارتفاع اليسير، والبستان إذا احتضنته ربوة فُضِّل على المكان المنخفض؛ لأن المكان المنخفض يكون مجمعاً للأتربة، وأرضه فيها ضعف ورخوة، أما الربوة فأرضها أطيب وأصلب وأقوى وأثبت للنبات وأحفظ للماء ويضربها الهواء من كل ناحية، وتصيبها الشمس وما أشبه ذلك.
ابن القيم -رحمه الله- ينزل هذا المثل على المنفقين أموالهم في سبيل الله، ويجعلهم قسمين:
الأول: السابقون بالخيرات، وهم الذين ينفقون الإنفاق الكثير الطيب ويتحرون في البذل أفضل أموالهم، فهؤلاء: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ.
والثاني: المقتصدون، وهم من كانت نفقاتهم دون ذلك فأصابها الطل، وهو الرذاذ أو المطر الخفيف، وكل ذلك يثمر أحسن الثمر، والله يجازي عليه أحسن الجزاء.
ومن أهل العلم من ينزل الآية على شيء واحد، باعتبار أن هذه الأرض -لطيبها وحسن منبتها وتربتها- إن أصابها وابل أخرجت ألوان الثمار والأشجار، وإن لم يصبها وابل يكفيها الطل، فتخرج بهجتها، ويمكن أن تشمل هذا النفقة قليل المال وكثيره إذا كانت طيبة من مال طيب، وبنفس طيبة من مُخرجها مع تحقق الإخلاص لله عند إخراجها، فتكون النفقة بهذه المنزلة.
والضمير في قوله سبحانه: أَصَابَهَا وَابِلٌ يحتمل أن يرجع إلى الجنة لأنها موضع الحديث، ويحتمل أن يرجع إلى الربوة، وما دام أن الأصل في عودة الضمير أن يرجع إلى أقرب مذكور، فأقرب مذكور هو الربوة، والواقع أن بينهما تلازماً، والله أعلم.
قوله سبحانه: فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ قال ابن القيم: "اختلف في الضعفين، فقيل: ضعفا الشيء مثلاه زائداً عليه، وضعفه مثله، وقيل: ضعفه مثلاه، وضعفاه ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله، كلما زاد ضعفاً زاد مثلاً، والذي حمل هذا القائل على ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه، فإذا زاد إلى المثل صار مثلين وهما الضعف، فلو قيل لها ضعفان لم يكن فرق بين المفرد والمثنى، فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل، ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعاف ثلاثة أمثاله مضافة إلى الأصل ومثله، وعليه يدل قوله تعالى: فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ أي مثلين، وقوله تعالى: يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [سورة الأحزاب:30] أي مثلين، ولهذا قال في الحسنات: نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [سورة الأحزاب:31]، وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهمٌ منشؤه الظنُّ أن الضعف هو المثل مع الأصل وليس كذلك، بل المثل له اعتباران، إن اعتبر وحده فهو ضعف، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان، والله أعلم".
تقدير المقطع: فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ أي يكفيها الطل.
لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأيّاً ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً، بل يتقبله الله ويكثره وينميه، كل عامل بحسبه، ولهذا قال: وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [سورة البقرة:266].
ابن جرير يرى أن هذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ... [سورة البقرة:264]، ويقول: هذا مثل آخر لنفقة الرياء، إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي فلا يأجره الله فيه، فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت، كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا. فكذلك المنفق رياء.
وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ الواو يمكن أن تكون حالية والمعنى وقد أصابه الكبر.
فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ الإعصار: الريح الشديدة التي تهب من الأرض مرتفعة إلى السماء، تدمر ما يمر بها في طريقها.
كلام ابن عباس يعني أن الآية أعم من أن يكون مختصاً بها المنافق، ويشهد لذلك حديث: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها...[3].
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً، ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات عياذاً بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيء فخانه أحوج ما كان إليه، ولهذا قال تعالى: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ وهو الريح الشديد، فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ أي أحرق ثمارها، وأباد أشجارها فأي حال يكون حاله؟
وقد روى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس -ا- قال: ضرب الله مثلاً حسناً، وكل أمثاله حسن، قال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ يقول: ضيعه في شيبته، وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق بستانه فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خيرٌ يعودون به عليه.
وكذلك الكافر يوم القيامة إذا رُد إلى الله ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه، كما لم يغنِ عن هذا ولده، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته.
وهكذا روى الحاكم في مستدركه: أن رسول الله ﷺ كان يقول في دعائه: اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني وانقضاء عمري [4]، ولهذا قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43].
في ضرب هذا المثل عبرة عظيمة جداً لكل إنسان فرداً كان أو جماعة أو غير ذلك، أن يحذر درب الغواية بعد الهداية؛ لأن العبد إذا كانت له أعمال طيبة، وأيادٍ بيضاء، ونفع للقريب والبعيد، وتعليم للناس، ويَحمِل الاعتقاد الصحيح وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك ينسلخ من هذا الخير، ويتنصل منه، ويدير ظهره له، ويركب موجة أخرى تناقض ما كان عليه في السابق، فبصنيعه هذا يهدم كل ما بناه بيديه عبر السنين الطوال، وينقض ما كان يشتغل به، ويبذل فيه الوقت والمال وما أشبه ذلك، وهذه الأيام تعج بمثل هذه التقلبات والانتكاسات، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت.
والله أعلم، وصلى الله وسلم، وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم.
- رواه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم برقم (106) (ج 1 / ص 102).
- رواه البخاري في كتاب الإيمان – باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان برقم (38) (1/22)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم (760) (1/523).
- رواه البخاري في كتاب القدر- برقم (1226) (6/2433)، ومسلم في كتاب القدر – باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته برقم (2643) (4/2036).
- رواه الحاكم في مستدركه برقم (1987) (1/726).