الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[114] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 267 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الآية 271.
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 4038
مرات الإستماع: 2424

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ومصطفاه، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ۝ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۝ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [سورة البقرة:265-267]

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق -والمراد به الصدقة هاهنا قاله ابن عباس- من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض.

قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ولهذا قال: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ أي تقصدوا الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ أي لو أُعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه فالله أغنى عنه منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون وقيل: معناه وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فقد اختلف أهل التأويل في المراد بالإنفاق من الآية في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ فذهب الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إلى أن المراد بالإنفاق هنا الصدقة وقرينة ما ذهب إليه في الآية هي أن الله قال: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ومعلوم أن الزكاة إنما تخرج من أوساط المال رديئاً كان أو جيداً بخلاف الصدقة فالحث فيها على أطيب المال وأفضله.

وذهب كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وغيره إلى أن هذه الآية نزلت في الزكاة واستند من الآية بأن الله  ذكر أصنافاً هي من الأموال المخرجة في الزكاة فقوله: أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ يعني التجارات والأموال التي حصلتموها، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ هي الزروع والثمار والذي يظهر أن الآية عامة في الصدقة وفي الزكاة؛ إذ لا دليل يخصص واحداً منهما، فيدخل في الإنفاق الجميع.

والطيب من المكاسب المقصود به الذي لم يتحصل من طريق محرم وأيضاً ما كان من الأموال غير رديء فالإنسان في الزكاة إذا كان ماله من الطيب أو مختلطاً فإنه لا يعمد إلى الرديء فيُخرج منه الزكاة وإنما يخرج من الوسط؛ ليصدق عليه أنه من الطيبات.

وذكر هذين الصنفين في الآية دون سواهما طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ؛ لأن بقية الأصناف ترجع إليها في النهاية إما مباشرة أو بواسطة كالبترول والذهب والفضة فإن أصله من الأرض.

وقوله سبحانه: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ابن جرير الطبري -رحمه الله- يرى أن هذه في الزكاة، وأن هؤلاء المستحقين للزكاة صار لهم حظ وحق ونصيب في هذا المال فهم فيه شركاء فإذا قصد الإنسان إعطاء الرديء لهؤلاء المستحقين فإنه يكون قد جار وتعدى وظلم؛ لكونه أعطى حصة الشريك من رديء المال.

وفي الآية معنىً آخر ذكره ابن كثير بقوله: "أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه".

قوله سبحانه: إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ أصل الإغماض بمعنى: التغاضي والتجاوز كأنه يغمض عينه فلا يرى هذا الشيء الذي يكرهه ومراده: أنكم لن تأخذوا هذا الشيء إذا أخذتموه إلا على وجه الاستحياء والمجاملة وإلا فإن نفوسكم لا تقبله -هذا أحد المعاني المشهورة في الآية- فلا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى الرديء من الأموال فيتصدق بها، والجيد منها فيحتكره ويضمه إليه، هذا هو المراد والله أعلم.

وعلى رأي من جعل الآية في الزكاة كابن جرير الطبري فينص على اختلاف أهل التأويل في تأويل ذلك، فيقول: قال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث -إذا اشتريتموه من أهله- بسعر الجيد إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه، والله أعلم.

روى ابن جرير -رحمه الله- عن البراء بن عازب في قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ الآية قال: نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر فعلقوه على حبل بين الأُسطوانتين في مسجد رسول الله ﷺ فيأكل فقراء المهاجرين منه فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل ذلك: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ.

في أول الرواية قال: نزلت هذه الآية في الأنصار وهذا سبب نزول غير صريح؛ وفي آخرها أورد عبارة تدل على أن سبب النزول كان صريحاً عند قوله: فأنزل الله فيمن فعل ذلك.. وهذا مما يذكره المفسرون من الأمثلة التي يقصد بها سبب النزول حقيقة وإن جاءت الرواية بعبارة غير صريحة في ذلك وأحياناً قد يكون قوله: نزلت في كذا من قبيل التفسير للآية، ولا يحكم له بالرفع؛ لأنه متردد بين التصريح وغير التصريح.

وفي رواية أخرى: عن البراء قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط منه البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله -تبارك تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ

قال: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده"[1] وأو في الحديث يمكن أن تكون عاطفة يعني على إغماض وحياء فيكون معناهما واحد وجاء في بعض الروايات لو صحت عن رسول الله ﷺ أنه رأى عذقاً من الشيص قد علق في المسجد فقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة[2].

والشيص: الأقناء أو الأكمام من النخيل إذا أبرت خرج الثمر ضعيفاً مستطيلاً مسطح الجوانب أصغر من حجمه المعروف.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ يقول: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه قال: فذلك قوله: إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟ وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه" رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وزاد: وهو قوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92].

هذا بناء على أنه ما كان على وجه الاستحقاق إما على قول ابن جرير في الزكاة الواجبة أو أن ذلك يضرب لهم به المثل بحيث إنه يقول: لا تتصدقوا بالرديء فلو كان لأحدكم حق قد لزم على غيره بشراكة أو غيرها فأعطاه الرديء فإنه لا يقبل ذلك فأنتم أيضاً لا تجعلوا مال الله من نفقاتكم هو الرديء.

وقوله: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي وإنْ أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير كقوله: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ [سورة الحـج:37] وهو غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم جواد وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافاً كثيرة ومن يقرض غير عديم ولا ظلوم، وهو الحميد أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

ويمكن أن يكون المعنى أنه غني عن صدقة هذا المتصدق بالرديء من المال وحميد: أي أنه مستحق للحمد، فلا يليق معه أن تجعل له الرديء من صدقاتك فهذا يخالف مقتضى حمده -تبارك وتعالى.

وقوله: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:268] روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً الآية[3] وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما جميعاً.

ومعنى قوله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي: يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيدكم فلا تنفقوه في مرضات الله وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء أي: مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق.

من أهل العلم من نظر إلى هذين الأمرين الإيعاد بالفقر والأمر بالفحشاء من الشيطان باعتبار الاقتران الذي يرتبط مع المعنى، فالشيطان يوهم المتصدق بالفقر، وقلة المال، وبوادر الاحتياج إليه ويأمر بالفحشاء: قيل: البخل، والمعنى يمنعك من الإنفاق وقيل: كل فحشاء في القرآن يراد بها الزنا إلا في هذا الموضع، وفيه نظر.

وابن القيم -رحمه الله- في بعض المواضع من كتبه نقل الإجماع على أن الفحشاء المراد بها في هذا الموضع البخل وهذا الإجماع غير صحيح فقد نقضه في موضع آخر من كتبه عندما حمل الآية على العموم فقال: قوله سبحانه: وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء أي بكل فاحش قبيح وكل خلق ذميم رديء ويدخل فيه البخل باعتبار أن الآيات في الإنفاق، فالسياق قرينة تبين المراد.

والفحشاء تطلق على الذنب الكبير العظيم وقد غلب إطلاق استعمالها على الزنا، إلا أن الصواب أن كل ما فحش من القول والفعل يسمى فحشاء وفاحشة وفاحشاً والله يبغض الفاحش البذيء.

قال تعالى: وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء وَفَضْلاً أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.

وقوله: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه، وأمثاله.

الحكمة: أصل هذه اللفظة مادة "حكم"، وإمام اللغة أحمد بن فارس -رحمه الله- في كتابه المقاييس يرجعها إلى أصل واحد وهو المنع وبعض أهل العلم يرجعها إلى أصلين كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فإرجاعها إلى المنع معناه أنها في جميع موارد الاستعمال ترجع إلى هذا المعنى فإذا جئت بأي لفظة فيها حكم ويحكم وحاكم وما أشبه ذلك كحكمة فهي ترجع إلى المنع، ولذلك الحاكم إنما سمي حاكماً؛ لأنه يمنع أحد الخصمين من الاعتداء على حق الآخر والقطعة من الحديد توضع على فم الفرس سميت حكمة؛ لأنها تمنعه من الانفلات فهذا مما يؤكد أن أصول هذه اللفظة تدور وترجع إلى شيء واحد، وإن كانت معاني هذه اللفظة متعددة.

وقد تباينت أقوال العلماء في المراد بالحكمة فقيل: هي الإصابة في القول والعمل وهذا بمعنى وضع الشيء في موضعه وإيقاعه في موقعه والحكمة تقتضي اجتماع الأمرين.

وقيل: هي الفقه في الدين، وهذا يقتضي أن يعرف الإنسان الحق كما هو ويضع الشيء في موضعه؛ لأن من عنده علم وليس عنده فقه قد يخطئ في أحكامه ويحيد في رؤيته، ويضل في دعوته ويزيغ في فتواه والفتوى تحتاج إلى فقه ونظر إلى الواقع ومآلات الأمور وليست المسألة مجرد معلومات يحفظها الإنسان ويلقيها.

وقيل: إنها النبوة في بعض المواضع كما قال الله عن داود -عليه الصلاة والسلام: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:251] قال بعض المفسرين: إن المراد بالملك والحكمة في الآية النبوة ومن مسلمات النبوة أن يعطى النبي من العلم والفهم ما يسدده ويرشده، ليكون مسدداً في الأحكام التي يبينها وفيما يأتي ويذر، وهذا لا يتأتي إلا بعبق من الوحي.

وقيل الحكمة: العقل، وقيل: فهم القرآن، وقيل: الفهم والعلم، وقيل: غير هذا، والملاحظ أن كل هذه المعاني الواردة في تفسير الحكمة قريبة من بعضها في المعنى، لكن مِن أوفاها في الدلالة على المعنى أن يقال: هي الإصابة في القول والعمل وقد يراد بها معنى أعظم وأجل وأوفر إذا قصد بالحكمة النبوة والنبوة: منحة إلهية، وتفضل من الله لا ينال بالاكتساب من آثارها التسديد والعلم والفقه والفهم والإصابة في القول والعلم ومن أخذ من ميراث النبوة واقتبس كان له من الصواب والفهم والفقه بقدر ما أخذ والحكمة لا شك أنها تحتاج إلى عقل حتى تكتمل للعبد.

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها [4] وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.

قوله: ورجل آتاه الله حكمة بمعنى: آتاه الله علماً وفقهاً في الدين.

وقوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ أي: وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لُبٌّ وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام.

وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۝ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:270-271]

يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده وتوعد من لا يعمل بطاعته بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره فقال: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [سورة البقرة:270] أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.

الضمير في الآية جاء موحداً على الرغم من عودته على شيئين النفقة والنذر، وهذا محمول على عود الضمير المذكور على المعنى لا اللفظ إذ المعنى أن الله يعلم ما ذكر من النفقة والنذر، ولهذا النوع من عود الضمير الموحد على أكثر من شيء أمثلة في القرآن عديدة كقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة التوبة:34] وكقوله: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [سورة الجمعة:11] وقوله: وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ [سورة النساء:112] ولم يقل: بهما بَرِيئًا وقد يثنى الضمير كقوله سبحانه: إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا [سورة النساء:135].

وقوله: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [سورة البقرة:271] أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي.

عامة أهل العلم على أن المراد بالإنفاق في الآية صدقة التطوع؛ لأنه قال: وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ، وهذا القدر بهذا الإطلاق لا يقال في الزكاة، لأن الزكاة معلوم أنه يطلب فيها الإظهار لأمور:

  • كونها واجبة أصلاً.
  • أن الإنسان لا يتمدح بإخراجها فالجميع تلزمه الزكاة.
  • لدفع التهمة عنه؛ لئلا يقال: فلان لم نره يخرج الزكاة.
  • لما في إخراجها علانية من إظهار لشعيرة من شعائر الدين، وركن من أركان الإسلام فيتداعى الناس إلى ذلك، ويكون إخراجها أمراً معروفاً في المجتمع لا يستوحش منه أحد ولا يجترئ إنسان على تركها أو التنصل منها.

وقوله: وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية وقال رسول الله ﷺ: الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة[5].

والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه [6].

فالأصل أن الإسرار في الصدقات أفضل لعموم الأدلة، إلا إذا ترتب على الجهر مصلحة راجحة من اقتداء الناس وتفانيهم في الصدقات من باب التنافس في الخير، ففي هذه الحالة تُفضَّل صدقة الجهر من هذه الحيثية، ولذلك لما جاء إلى النبي ﷺ وفد عامتهم من مضر حفاةٌ عراةٌ مجتابي النِّمار ...، تمعّر وجه رسول الله ﷺ لمِا رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب ... وحث على الصدقة، فجاء رجل من الأنصار بصُرّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى اجتمع كومين من طعام وثياب ... القصة[7]. 

فالمصلحة هنا كانت داعية إلى أن يُظهر الناس صدقاتهم، وهناك حالات قد لا يتأتى معها السر، مثل لو أن الإنسان أراد أن يصلح طريقاً أو يبني جسراً أو سوى ذلك مما يحتاج إلى أعوان، فلا بأس لكن لا بد من استحضار الإخلاص في الصدقة حتى تقبل عند الله قال سبحانه: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [سورة البقرة:220]، والنبي ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات [8].

وقوله: وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ أي بدل الصدقات ولا سيّما إذا كانت سراً يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات وقوله: وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه.

قرئت وَيُكَفِّرُ بالرفع وقرئت بالجزم أيضاً وَيُكَفِّرْ، وجميعها قراءات متواترة ونحن لا نذكر في العادة القراءات التي تكون بمعنىً واحد ولا يتأثر بها المعنى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

  1. رواه الترمذي برقم (2987) (5/218)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2987).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة [ج1- ص505 – 1608] وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله [ج1- ص583 – 1821]، وأحمد في المسند [ج6- ص23 – 24022] وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده حسن"، وابن خزيمة في كتاب الزكاة، باب كراهية الصدقة بالحشف من الثمار وإن كانت الصدقة تطوعاً إذ الصدقة بخير الثمار وأوساطها أفضل من الصدقة بشرارها [ج4- ص109 – 2467] وقال الأعظمي: "إسناده حسن لغيره صالح بن أبي عريب ضعيف لكن للحديث شواهد"، وابن حبان في كتاب التاريخ، باب إخباره ﷺ عما يكون في أمته من الفتن والحوادث [ج15- ص177 – 6774] وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن"، والحاكم في المستدرك [ج2 - ص313 – 3126] (تعليق الذهبي قي التلخيص: صحيح)، والطبراني في المعجم الكبير [ج18- ص55 – 99] والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الزكاة، باب ما يحرم على صاحب المال من أن يعطي الصدقة من شر ماله [ج4- ص 136- 7318] وحسنه الألباني في صحيح أبي داود [ج1 - ص302 – 1419].
  3. رواه الترمذي برقم (2988) (5/219)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (4773).
  4. رواه البخاري في كتاب الزكاة – باب إنفاق المال في حقه برقم (1343) (2/510)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلَّمها برقم (816) (1/559)، ورواه ابن ماجه برقم (4208) (2/1407)، ورواه أحمد في مسنده برقم (3651) (1/385).
  5. رواه أبو داود برقم (1335) (1/510)، والترمذي برقم (2919) (5/180)، والنسائي برقم (2561) (5/80)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5416).
  6. رواه البخاري في كتاب الزكاة– باب الصدقة باليمين برقم (1357) (2/517)، ومسلم في كتاب الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة برقم (1031) (2/715).
  7. رواه مسلم في كتاب الزكاة – باب الحث على الصدقة لو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار برقم (1017) (2/704).
  8. رواه البخاري في كتاب بدء الوحي – باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ برقم (1) (1/3)، ومسلم بلفظ إنما الأعمال بالنية في كتاب الإمارة – باب قول ﷺ إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال برقم (1907) (3/1515).

مواد ذات صلة