الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[116] قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} الآية 275.
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 3972
مرات الإستماع: 2463

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275].

لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً.

وقال ابن عباس -ا: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق، رواه ابن أبي حاتم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في أول كلامه على هذه الآية يعرف بالمناسبة ووجه الارتباط بين الآيات، والمناسبة في هذه الآيات بين مقطع ومقطع، ليس بين آية وآية، فقد جعل الله الناس أقساماً في التعامل مع المال:

الأول: المنفق ماله في وجوه الخير قربة إلى الله وابتغاء رضوانه.

الثاني: الممسك ماله بخلاً وشحاً.

الثالث: المتسلط على أموال الناس بغير حق، وهؤلاء هم أكلة الربا لا يقومون أي من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وهذا أحسن ما تفسر به الآية، والله تعالى أعلم.

وقوله سبحانه: لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يحتمل معناه أمرين:

الأول: أن الذين يأكلون الربا لا يقومون من المس إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، فيكون قوله: من المس مرتبطاً بقوله: يقومون، وهذا الاحتمال مرجوح.

وأحسن منه الاحتمال الآخر، ومؤداه أن الذين يأكلون الربا لا يقومون من قبورهم إلا كما يقوم الممسوس الذي يتخبطه الشيطان من المس، فمن المس يرجع إلى قيام هذا الأخير، لا إلى قيامهم هم، هذا هو المعنى والله أعلم.

والتخبط: هو الضرب على غير استواء، ولا اهتداء، يقال: فلان يتخبط، أو يخبِط خبْطَ عشواءَ، وهذه الآية نص صريح في أن الشيطان يلابس الإنسان ملابسة يصيبه فيها الصرع، ولا يفهم منه أن الصرع سببه الشيطان فحسب، فقد يكون الصرع بسبب أورام في الدماغ، أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ، وإنما ذكرت فقط هذا المعنى بهذا التصوير لحال هذا المرابي، والله أعلم.

وقال ابن عباس -ا: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق، رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك، وسعيد بن جبير، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان نحو ذلك.

وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: فأتينا على نهر حسبت أن كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً، فذكر في تفسيره أنه آكل الربا.

وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا أي إنما جُوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياساً منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، أي هو نظيره، فلم حُرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا.

ما دفع الحافظَ ابن كثير -رحمه الله- للقول بأن تشبيههم البيع بالربا ليس من باب القياس أمران:

الأول: أنهم لا يقرون بحكم الشرع أصلاً، والقياس إنما هو إلحاق أصل بفرع في حكم لعلة جامعة بينهما، فهم لا يعترفون لا بالأصل ولا بالفرع ولا بالعلة ولا...

الثاني: أنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، ومعلوم أن البيع متفق عليه بين أهل الإيمان أنه حلال، وإنما الكلام والخلاف في الربا، فكيف يصح قياس المتفق عليه على المختلف فيه؟

فإذا قيل: ما وجه اعترض الكفار على الشرع يوم قالوا: إنما البيع مثل الربا فقلبوا القضية وعكسوها؟

الجواب أن يقال: إنما دعاهم إلى قولهم هذا المبالغة منهم في المكابرة كما ذكر المفسرون، بحيث جعلوا الربا لعظم استحلالهم له كأنه أصل، والبيع كأنه فرع، مع المفترض أن يحدث العكس، والله تعالى أعلم.

واختلفت أفهام المفسرين في السبب الذي لأجله ذكر الله قيامهم من القبور بهذه الهيئة المنكرة الواردة في قوله سبحانه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا

فذهب بعض المفسرين إلى أن السبب لهذه العقوبة هو أكلهم الربا، كما يدل عليه ظاهر الآية وصدرها.

وذهب بعضهم إلى أن هذه العقوبة جعلت لمن كان مستحلاً للربا كما يدل عليه ما بعده وهو قوله: بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا.

والصواب القول: إن لفظ الآية ما دام جاء بصيغة العموم الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا -لأن "الذين" اسم موصول يفيد العموم- فهو يصدق على الآكل والمستحل، وإنما الله ذكر الآكل في الآية؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، وإلا فبأي وجه من الوجوه صار الانتفاع من الربا؟ فهو داخل في هذه الآية. 

ولذلك الله لما توعد الذين يأكلون أموال اليتامى، أراد من تصرف فيه بأي لون من التصرف الذي ينتفع به، ولذلك فكل من قال: إنما البيع مثل الربا، أو أنه عصب الاقتصاد، ولا يقوم اقتصاد العالم إلا به، فهذا يكفر بكلامه هذا كفراً أكبر يخرج به من الملة.

وبعضهم يأكل الربا طمعاً أو حباً للمال أو تغلبه نفسه عليه فهذا أيضاً ممن يشمله الوعيد في الآية.

وليس التعليل في الآية لاستحقاقهم هذه العقوبة لقولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا بحجة لقائل؛ لأنه يمكن أن يكون ذكر ذلك باعتبار حالة وقعت مع المشركين فنزلت الآيات، وهذه الآية أصلاً نزلت تحرم الربا، وهي آخر ما نزل، وكان الناس يتعاملون به في الجاهلية، ولما فتح الله قلب قريش وثقيف للإسلام، جاءت ثقيف تتقاضى من قريش، وقد كانوا يقرضونهم قروضاً ربوية، فقالوا: لا نعطيكم شيئاً حتى نسأل رسول الله ﷺ.

فالحاصل أن آية الربا هذه منعت من أن يتعاطى أحد شيئاً من الأموال الربوية وجاءت كرد على هؤلاء المشركين الذي لم ينقادوا لهذا الحكم، ولم يستسلموا أو يذعنوا له.

وقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275] يحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم، أي على ما قالوه من الاعتراض، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل.

يحتمل في إيراد هذا المقطع من الآية وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ثلاثة احتمالات:

  • أنها جملة جديدة لتقرير الحكم، بغض النظر عن دعوى هؤلاء الناس المبطلين.
  • أن تكون من جملة قولهم، يعترضون بها على حكم الله وشرعه، كأنهم يقولون: إنما البيع مثل الربا، فلماذا يحل الله البيع ويحرم الربا؟ وهذا القول فيه بعد.
  • أن تكون من قبيل الرد عليهم، وهذا القول أقرب الاحتمالات لاتصال المقطع بما قبله؛ لأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، فرد الله عليهم بأنه أحل البيع وحرم الربا.

ويستفاد من هذا الرد فائدة عظيمة، وهي أنه لا يجب عند الرد على المبطلين وأصحاب الشبهات والمعترضين أن يكون مشتملاً على الدلائل العقلية المقنعة لمن لا ينقاد للوحي، وإن كانت المناظرة بدلائل العقل والحس مما يخضع لها المعاند للحق غير المؤمن به، والله أعلم.

ولهذا قال: فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ أي من بلغه نهي الله عن الربا، فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة، لقوله: عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف [سورة المائدة:95]، وكما قال النبي ﷺ يوم فتح مكة: وكل رباً في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول رباً أضع ربا العباس[1].
ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف، كما قال تعالى: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ، قال سعيد بن جبير، والسدي: فَلَهُ مَا سَلَفَ ما كان أكل من الربا قبل التحريم.

هذه الآية لها نظائر في القرآن كقوله -تبارك وتعالى- في مسألة الصيد: عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف، وقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [سورة النساء:22]، وهي تدل دلالة صريحة بأن من أخذ شيئاً من أموال الربا قبل نزول الحكم فإنه لا يطالب برده، ولهذه المسألة أربع صور:

الصورة الأولى: إنسان يملك مائة مليون قبل نزول الحكم، رأس ماله منها مليون، والباقي حصله من تعامله بالربا، فلا يكلف بالتخلص من الأموال الربوية؛ لأن من شروط التكليف بلوغ الخطاب، وهو لم يبلغه خطاب الشارع للمكلفين، لكن بعد نزول الحكم يعمه الخطاب ويشمله التكليف، وما أخذه بالربا بعد ذلك فالواجب عليه أن يرده ويستبقي رؤوس أمواله.

الصورة الثانية: رجل أسلم بعد نزول الحكم وهو يملك مائة ألف، رأس ماله منها عشرة آلاف، والباقي كله من الربا، فهذا لا يطالب بالتخلص منها؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، وهذا الحكم فيمن يتعاطون الربا حال إسلامهم، ولكن لا يجوز له بحال أن يأخذ شيئاً من أموال الربا بعد إسلامه.

الصورة الثالثة: من نشأ في مكان بعيد لا يعرف شيئاً من أحكام دينه وشرعه، وتعاطى الربا وتعامل به، ولم يبلغه الحكم، فلا يطالب بالتخلص من الأموال الربوية السابقة؛ لأن من شروط التكليف بلوغ الخطاب، وهو لم يبلغه، فعفا الله عما سلف.

الصورة الرابعة: من تعامل بالربا ثم بدا له أن يتوب منه، فهؤلاء كما قال الله : فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ [سورة البقرة:279]، فلما كان هذا الإنسان متعدياً ظالماً يعرف حكم الله ولم ينتهِ، لم يحل له أخذ شيء من أموال الربا، بل لا بد له أن يتخلص من تلك الأموال الربوية جميعها، ولكن هذا ليس محل اتفاق، فبعض أهل العلم يرى أن مثله لا يجب عليه أن يرجعها، ويقولون: هذا تسهيل للتوبة، وتيسير على الناس وأنه يدخل في عموم قوله تعالى: فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ، والله أعلم.

ثم قال الله تعالى: وَمَنْ عَادَ أي إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسر العود بالفعل، لكن الآية تحتمل معنى آخر وهو الاستحلال أي عاد إلى ما ذكر من الاستحلال بعد ما بين الله حكم الربا والوعيد المنتظر لمن كان مستحلاً له متعاملاً به، فإنه من أصحاب النار يخلد فيها خلود الكفار؛ لأنه من جملتهم، قال سبحانه: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

وهنا قد يتوهم ورود إشكال إذا فسرنا قوله سبحانه: وَمَنْ عَادَ بأنه من العود للفعل، وذلك إذا كان الإنسان لم يك قد تعاطاه من قبل أو تعامل به فهل يخرج من الوعيد لهذا السبب؟

الجواب أن يقال: إنّ عاد في لغة العرب تأتي بمعنيين:

الأول: الرجوع إلى الشيء.

الثاني: بمعنى الصيرورة مطلقاً، ولو لم يكن عليه من قبل، ومن شواهده قول الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي وعاد القار كاللبن الحليب
فمعنى (عاد) هنا أي صار القار كاللبن الحليب، ومنه قولهم: حتى يعود اللبن في الضرع، عاد الشاب كهلاً، عاد الصحيح مريضاً، عاد الشجر حطباً، عاد الماء ثلجاً، عاد الخمر خلاً، وكل هذه الأمثلة أتت فيها عاد بمعنى صار.

ومنه ما حكاه الله في كتابه على لسان أهل الكفر من أقوام الرسل، يوم قالوا لرسلهم: لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13] فهل كانوا على ملتهم من قبل؟ وكذا قوله: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا [سورة الأعراف:89] وقد نوه لإتيان (عادَ) بهذين المعنيين جماعة ممن كتب في فقه اللغة كالثعالبي ونحوه، والله أعلم.

فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة، ولهذا قال: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

الصحبة: تعني الملازمة للشيء، فهم ملازمون للنار لا يخرجون منها ولا نجاة لهم من عذابها، وهذه الآية من نصوص الوعيد التي تُمرر كما جاءت ولا يتعرض لها بتأويل أو تفسير، وبعضهم قال: إن المقصود بالخلود في الآية هو البقاء مدة طويلة؛ إذ العرب تسميه خلوداً، والله أعلم.

وقد روى أبو داود عن جابر قال: لما نزلت الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ قال رسول الله ﷺ: من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله[2] ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وإنما حرمت المخابرة وهي: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي: اشتراء الرطب في رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض.

بتقدير الخارص ينظر إلى أقناء الرطب فيقدره بـ...، وعلة التحريم ترجع إلى جهالة المقدار، وذلك لأن الرطب ينقص إذا جف، والقاعدة في الربويات: أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، لكن رخص النبي ﷺ من بيع المزابنة نوعاً منه ألا وهو بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق، إذا أراده الشخص لنفسه لا لغرض التجارة، والله أعلم.

والمحاقلة وهي: اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم.

وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -: ثلاث وددت أن رسول الله ﷺ عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجَّد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا.

يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا.

أما مسألة الجد مع الأخوة فللخلاف الشديد بين الصحابة فيها، وأما الكلالة: وهو من ليس له أصل ولا فرع وارث، من تكلله النسب، بمعنى أن ورثته كلهم من الحواشي، وإن كان عمر يقول عن نفسه: ما راجعت رسول الله ﷺ في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري، فقال: يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء، وأما الربا فإنما كانت مسائله من أشكل الأبواب؛ لكثرة تشعبها، وتداخل المسائل التي ترتبط به بعضها في بعض.

والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

هناك أشياء تُمنع من باب الذريعة؛ لأنها تفضي إلى الربا، مثل مسألة العينة وعكسها مُنعتا من أجل الاحتيال على الربا، مع أن المسألتين ليستا محل اتفاق بين أهل العلم على التحريم، ومثلها مسائل أخرى كثيرة يحتال الناس بها على الربا مثل قلب الدين، وبيع الأجل...

وكذا البنوك التي تزعم أنها تتعاقد بالمعاملات الإسلامية، وهي في الحقيقة تذبح على الطريقة الإسلامية، ولذلك تجد أرباحهم من القروض أضعاف ما عند غيرهم من البنوك الربوية.

ولذلك نص العلماء على مجموعة من القواعد في مسألة الربا، مثل السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، وصورتها: أن يشتري من البائع السلعة بالأقساط، ثم يبيعها عليه نقداً، وأحياناً بينهما طرف ثالث يبيعها له، وهو يرجعها له، وهكذا تدور.

وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه [3].

وفي السنن عن الحسن بن علي -ا- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك[4].

وروى أحمد عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: مِن آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله ﷺ قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة[5].

هذه النصوص والآثار التي أوردها ابن كثير -رحمه الله- إنما قصد بها تأكيد أمر الشارع بترك المشتبهات في الدين.

وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: الربا سبعون حوباً، أيسرها أن ينكح الرجل أمه[6].

ومن هذا القبيل وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عائشة -ا­- قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله ﷺ إلى المسجد فقرأهن، فحرم التجارة في الخمر[7].

يؤخذ من الرواية أن بيان القرآن الكريم من النبي ﷺ للصحابة إنما كان لما احتاجوا إلى تفسيره مما لم يفهموه منه، وابن تيمية ومن وافقه يرى أن النبي ﷺ فسر جميع القرآن واستدل بقوله سبحانه: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل:44] ويمكن القول: إن البيان يحصل بمجرد التلاوة والتبليغ للوحي؛ لأن الصحابة كانوا عرباً أقحاحاً يفهمون المراد دون بيان.

وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي كما قال في الحديث المتفق عليه: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها، فباعوها وأكلوا أثمانها [8].

وقد ورد في حديث علي وابن مسعود -ا- وغيرهما في لعن المحلل قوله ﷺ: لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه[9].

قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي، ويكون داخله فاسداً، فالاعتبار بمعناه لا بصورته؛ لأن الأعمال بالنيات.

هذا مثل البطاقات التي يسمونها فيزا، وهي: بطاقة بنكية ربوية تأخذ عليها البنوك مقابلاً إذا ما سددت خلال فترة معينة، والبنوك إزاء ذلك ثلاثة أنواع:

الأول: لا يأخذ شيئاً مقابل القرض، لكن إذا مضت فترة محددة دون تسديد أوقفها.

الثاني: متجاوز وهو قسمان:

أحدهما: يأخذ رسوم الاشتراك على قدر التكلفة بما يسمى "أجور خدمة"، وهذا لا إشكال فيه إذا لم تتعد الحد المعقول.

ثانيهما: يأخذ أجور خدمة، لكن بما هو أكثر من العادة، فهؤلاء في الواقع يأخذون زيادة في التأخير، وإنما يحتالون بهذه الطريقة ويسمونها أجور خدمة.

الثالث: محتال،  وطريقتهم أنهم بعد أن ينتهي الرصيد من العميل ويتأخر تسديده، يلزمونه بمعاملة معينة، فيعرضون عليه شراء سلعة محددة بالأقساط لمدة سنة مثلاً، ويزيدون في سعرها الحقيقي لأجل الأقساط، فإن وافق وإلا اقترحوا عليه أن يكفونه بيعها بسعر أقل نقداً بحكم معرفتهم بالسوق والتجار، وعند مناقشتهم في أمر الزيادة في البيع بالأقساط يحتجّون بأنهم يضعونها في الأعمال الخيرية، والحقيقة أن هذه من الحيل التي غطيت بغطاء المعاملات الإسلامية أعطيت غطاء المعاملات الإسلامية.

والله المستعان.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. رواه الترمذي برقم (3087) (5/273)، وابن ماجه برقم (3074) (2/1022)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (3831).
  2. رواه أبو داود برقم (3408) (3/272)، والحاكم في مستدركه برقم (3129) (2/314)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (12613).
  3. رواه البخاري في كتاب الإيمان – باب فضل من استبرأ لدينه برقم (52) (1/28)، ومسلم في كتاب المساقاة – باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) (3/1219).
  4. رواه الترمذي برقم (2518) (4/668)، والنسائي برقم (5711) (8/327)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5690).
  5. رواه أحمد في مسنده برقم (264) (1/36)، وقال شعيب الأرنؤوط : حسن رجاله ثقات رجال الشيخين.
  6. رواه ابن ماجه برقم (2274) (2/764)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5854).
  7. رواه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة البقرة وقول الله وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] برقم (4267) (4/1651)، ومسلم في كتاب المساقاة – باب تحريم بيع الخمر برقم (1580) (3/1206) (1206)، ورواه أحمد برقم (24736).
  8. رواه البخاري في كتاب البيوع – باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه برقم (2110) (2/774)، ومسلم في كتاب المساقاة – باب تحريم بيع الخمر والميتة والحنزير والأصنام برقم (1582) (3/1207).
  9. رواه أحمد في مسنده برقم (3809) (1/402)، قال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف شريك.

 

مواد ذات صلة