بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17، 18] "تقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنس بها، فبينا هو كذلك، إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشَد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقوله تعالى: ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ أي: ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان، وتركهم في ظلمات، وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق.
لاَّ يُبْصِرُونَ: لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك صم لا يسمعون خيراً، بكم لا يتكلمون بما ينفعهم، عميٌ في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحـج:46]، فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة".
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا المثل ضربه الله للمنافقين، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] والسين والتاء للطلب، ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك يشعر بأن هذا مستعار، فهذا الإيمان أو هذا الذي حصل لهم مما انتفعوا به في الدنيا بحقن الدماء وإحراز الأموال لم يكن نابعاً من داخل نفوسهم، وإنما هو شيء استقدموه واستفادوه من غيرهم، وذلك أنهم أظهروا الإيمان للمؤمنين، ودخلوا معهم في الإيمان ظاهراً، فحصلوا هذه الغنيمة البائسة، وهي أنه لم يكن لهم من ذلك إلا إحراز الأموال وحقن الدماء، دون أن يكون ذلك مؤثراً فيهم في انشراح الصدر ونور البصيرة، والانتفاع بالحق الذي يسمعونه صباح مساء عند رسول الله ﷺ، وكان نتيجة ذلك أنهم أبعد ما يكونون عن الهدى والحق، فلا يتكلمون به ولا يصدر عنهم، ثم ما يلبث ذلك أن يتلاشى جميعاً، كما ينطفئ نورهم في الآخرة عند الصراط ويبقون في ظلمات فكذلك هذا النور الذي استعاروه واقتبسوه ما يلبث أن يذهب ثم بعد ذلك يعرفون الحقائق، وتنجلي لهم الأمور وتنكشف، ويذهب ذلك الضياء الذي استضاؤوا به مؤقتاً، ثم بعد ذلك تبقى حرارة النار التي أوقدوها وإحراقها ودخانها، وهذا يصور حال هؤلاء المنافقينكَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ هذا دخوله في الإيمان ظاهراً، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: هذا يدل على أنهم دخلوا في الإيمان ثم رجعوا عنه، على قول هؤلاء الذين ذكرنا لا يكون لازماً أنهم دخلوا في الإيمان، إنما دخلوا فيه ظاهراً فاستفادوا هذه الفوائد الدنيوية، ولهذا فإن الله يقول في مثل هؤلاء: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:66]، فهم لم يكونوا مؤمنين في حقيقة الأمر، وإنما المقصود -والله تعالى أعلم- قد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه.
فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ: فهذا المنافق ادعى الدخول في الإسلام فاستفاد، مثل صاحب النار الذي أوقدها، أضاءت له المنطقة المحيطة القريبة منه، ثم بعد ذلك ما تلبث أن تنطفئ.
ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17]: ذهب النور وبقيت الحرارة.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18] لا يتكلمون بالحق ولا يبصرونه مهما كانت دلائله ظاهرة، -نسأل الله العافية- يحضر مع النبي ﷺ، وتنزل الآيات ويسمعها فإذا خرج قال: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16]، إلى هذا الحد، مَاذَا قَالَ آنِفًا!!
حاضر مع الحاضرين عند رسول الله ﷺ وتظن أنه استفاد وأنه تأثر مع الآخرين بالآيات التي تليت عليهم، فإذا خرج إذا به يسأل: ماذا كان يقول النبي -عليه الصلاة والسلام، كما حصل حينما كان يستسقي النبي ﷺ إذا أجدب الناس في أسفاره وفي حضره، فيأتي الله بالخير، فيقول أحدهم: إنما هو سحاب عارض!.
في بعض البلاد قام الدعاة واستسقوا – قبل سنوات- ثم أنزل الله المطر، فقام المنافقون من أرباب الصحف والكتاب والمحاربين لله ورسوله، وبدؤوا يتهكمون ويقولون: هؤلاء درسوا الأحوال الجوية، وعرفوا أنه يوجد منخفض أو مرتفع جوي، ووقتوا صلاتهم في هذا الوقت من أجل أن يضحكوا على الناس، ويقولون: استسقينا فنزل المطر.
مثل هؤلاء مهما جاء من الآيات لا تزيدهم إلا كفراً وإعراضاً، والذي جعلهم كذلك هو الله تبارك وتعالى؛ لأنهم هانوا عليه فأذلهم، لذلك تجد الواحد منهم لا ينتفع بما يسمع فهو أصم، ولا ينطق بالحق فهو أبكم لا ينطق إلا بالباطل ولا يكتب إلا الباطل، ولا يدعو إلا إلى الباطل، فهو شر محض، وجندي من جند الشيطان، وكل ما قرأت له مقالة أصابك ما يصيبك من الغم والحزن ولا حول ولا قوة إلا بالله.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة:18]: لا يرون الحق ولا يرون دلائله أبداً، فهم لا يرجعون إليه؛ لأن المنافذ قد سدت.
أحياناً ترى عبراً فيقول: هذه كافية لمن كان له قلب، أو ترى إنساناً يموت من يموت له، فيذهب في جنازته، وتقول: لعله يرجع ويتأثر، لكن أنَّى له بهذا وقد قفل عليه كل شيء.
فمثل هؤلاء لا يؤسف عليهم، فالله لو شاء لما كانوا كذلك، فله حكمة بالغة في ذلك، قال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [سورة يونس:99].
إن ما نشاهده هذه الأيام من حرب الله ورسوله عن طريق هؤلاء الكتاب، حيث أظهروا كل المستور، وأعلنوا عن عداوتهم للإسلام، بكل مناسبة وبدون مناسبة، فمثل هؤلاء هانوا على الله فأذلهم وأهانهم، ولن يضروا الله شيئاً وإنما يضرون أنفسهم.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:19-20].
هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيِّب، والصيب: المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي، وعطاء الخرساني، والسدي والربيع بن أنس.
وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق.
ورَعْدٌ: وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4]، وقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [سورة التوبة:56-57].
والبرق: وهو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ19 سورة البقرة، أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً؛ لأن الله محيط بقدرته وهي تحت مشيئته وإرادته، كما قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ [سورة البروج:17-20]، بهم.
ثم قال: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ: أي لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ: يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ: يقول: كلما أصاب المنافقين من عزِّ الإسلام اطمأنوا إليه، وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [سورة الحـج:11].
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس -ا: كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20]، أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا، أي متحيرين، وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر والله أعلم.
وهكذا يكونوا يوم القيامة عندما يعطى الناس النور، بحسب إيمانهم فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك، وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية، وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [سورة الحديد:13].
وقال في حق المؤمنين: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الآية [سورة الحديد:12]، وقال تعالى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة التحريم:8].
ذكر الحديث الوارد في ذلك:
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود -: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس -ا- قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا.
وقال الضحاك بن مزاحم: يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً، فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون، أشفقوا فقالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا.
هذا المثل الثاني كما يقول ابن كثير: هذا مثل آخر ضربه الله لضرب آخر: بمعنى أن المثل الأول لطائفة من المنافقين، والمثل الثاني لطائفة أخرى من المنافقين.
بطبيعة الحال فإن المثل الثاني على قول ابن كثير ومن وافقه لحال المنافقين أحسن من أصحاب المثل الأول؛ لأن صاحب المثل الأول استوقد ناراً استفاد منها فترة ثم بعد ذلك انطفأ النور وانتهى كل شيء، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18].
أما صاحب المثل الثاني فنوره يتقطع أي: يضيء له تارة ثم ينطفئ، ثم يضيء ثم ينطفئ وهكذا، فصاحبه يسير سيراً متعثراً.
وعلى كل حال فإن منشأ ذلك الكلام في "أو" أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء إضافة إلى ما تضمنه هذا المثل من الفروقات عن المثل الأول.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءفـ "أو" كما هو معلوم، تأتي لمعان متعددة، فتأتي للشك -وهذا غير مراد هنا- فأنت تقول: سافر زيد الليلة أو قبلها، فهنا أتت "أو" للشك، وتأتي للتخيير، فتقول: خذ هذا أو هذا، كما أنها تأتي أيضاً للتسوية بين الأمرين، تقول مثلاً صاحب زيداً أو عمراً، فهذه تفيد التسوية، بمعنى أنك لا تشك في هذا، وتأتي عاطفة بمعنى الواو تماماً، كما قال القائل:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر | نفسي تقاها أو عليها فجورها |
يعني وعليها فجورهاً.
ومثل ذلك قول القائل:
نال الخلافةَ أو كانت له قَدَراً | كما أَتَى ربَّه موسى على قَدَر |
فـ"أو" بمعنى الواو، أي: نال الخلافةَ وكانت له قدراً، كما أتى ربه موسى على قدر.
فهذا المثل الذي ذكره الله تعالى -الأقرب والله تعالى أعلم- أن ذلك جميعاً في صفة المنافقين، وليس في طائفة أخرى منهم، فضرب الله لهم المثل الأول بالذي استوقد ناراً ثم انطفأت، فهم انتفعوا بعض الانتفاع مدة مؤقتة في الدنيا ثم ذهب ذلك جميعاً عنهم وأبصروا الحقائق، وعرفوا ما هم فيه، ولم ينفعهم ذلك الإيمان.
والمثل الثاني لحالهم مع حجج القرآن وبراهينه وبيِّناته، قال تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء الصيب: المطر، من صاب يصوب إذا نزل، والله مثل القرآن والوحي بالمطر النازل من السماء، ويسمى ذلك بالمثل المائي، قال تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [سورة الرعد:17]، وذلك مثل لقلوب العباد، يأخذ منهم وينتفع كل بحسبه.
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا: سالت أودية بقدرها، هذا وادٍ كبير، وهذا وادٍ صغير، وهذا إخاذ، وهذا لا يجتمع فيه الماء إطلاقاً، هذه أرض سبخة، وهذه غيرها، فهكذا قلوب العباد أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا [سورة الرعد:17]: وهذا هو الغثاء.
ثم ذكر بعد المثلِ المائي المثلَ الناري، فقال تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [سورة الرعد:17]: فالذهب مثلاً الذي يدخل في النار، يذهب شوبه ويبقى خالصه، وهكذا الأمر في هذه الحياة الدنيا الله يقلب العباد وينقيهم ويصفيهم فلا يبقى إلا الصحيح الخالص، ويذهب الغثاء والشوائب كالزبد الذي يحمله الماء، فالله –جل وعلا- في مواضع كثيرة يشبه الوحي بالمطر النازل من السماء، فهنا قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء أي: المطر، فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة:19]: الرعد زواجر القرآن، والبرق: حجج القرآن وبراهينه تكاد تخطف أبصار هؤلاء المنافقين العمي، فهي حجج بيِّنة واضحة وساطعة وباهرة لا خفاء فيها.
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20]": كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ": هذا هو حال المنافق، فإذا جاءت الأمور على وئام وسعة وغنائم وانتصارات فخذ من هذا الكلام الجميل، حيث يقوم عبد الله بن أبي عند المنبر يوم الجمعة، أيها الناس: لقد من الله عليكم بهذا النبي، فاتبعوه وأطيعوه، يقول هذا قبل أن يصعد النبي ﷺ المنبر وذلك كل جمعة، وفي السفر وفي وقت الشدة يقول: أوَ قد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال: لقد أبلغتكم وأنذرتكم أنتم آويتموه وأطعمتموه فكاثروكم في بلادكم -يعني المهاجرين كانوا أكثر من الأنصار- فلو تركتموهم لطلبوا بلاداً أخرى، قاطعوهم لا تعطوهم لا تسكنوهم لا تعطوهم شيء، دعوهم يبحثون عن بلد آخر ينتقلون إليها، ويشهد لهذا فضح القرآن لهم مقولتهم: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7]، يعني من أجل أن ينفضوا عنه، فهذا حل طرحه لهم، وهو أن يتخلصوا من هؤلاء المهاجرين، لكن وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة المنافقون:7]، فهو كان يظن بهذا أنه سينهي الإسلام والدعوة.
فنحن حينما نريد أن نعرف صورة هذا وأمثاله، نأتي بمقاطع السور جميعاً من هنا وهناك ونركبها مع بعض فيتضح لنا من هو عبد الله بن أبي بن سلول وأتباعه.
فهذا مثل لطائفة واحدة وهي طائفة المنافقين، هناك ذكر ما يحصل لهم الانتفاع في الدنيا، بادعاء الإسلام، وهنا ذكر حالهم في سيرهم في هذه الحياة، فحينما يسمعون القرآن، وما فيه من الزواجر فهذه كالصواعق، إذا بالتصرف الأحمق يصدر منهم بأن يجعلوا أصابعهم في آذانهم، كالإنسان الذي يخاف من الصاعقة أو من صوت الرعد، فيجعل إصبعه في أذنه، فيا ترى هل إذا وضع أصبعه في أذنه ترد الصاعقة عنه إذا جاءت؟ لا تردها لكنه يتصرف مثل هذا التصرف الأحمق ليخفف عن نفسه.
في الأمس القريب حدثني ولدي الذي هو في ثاني ابتدائي عن زميل له -أكرمكم الله- تبول على نفسه، فجلس زملاؤه تعلو أصواتهم يعيرونه ويعيبونه فماذا صنع المسكين؟
وضع أصابعه في أذنيه وجلس يصدر أصوات من فمه من أجل أن لا يسمع!! يا ترى هل هذا سيغير من الحال شيئاً؟
مثل هذا بعض العجائز إذا ركبت في السيارة وشعرت أن السيارة مسرعة فهي طول الوقت متمسكة بها بقوة، وتهدد أنه إذا ما خففتم السرعة فإني سأتركها!! يا ترى هل إمساكها لها ينهي شيئاً من الموضوع؟
كذلك هؤلاء يجعلون أصابعهم في آذانهم -والمقصود رؤوس الأصابع- من أجل خوفهم من السماع.
فهذه زواجر القرآن، والبرق: هو حجج القرآن وبراهين الحق، تكاد تخطف أبصار هؤلاء، حذر الموت، واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [سورة البقرة:19].
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ20 سورة البقرة:إذا جاءت الأمور السهلة فهم ما شاء الله، و إذا جاءت الشدة انتكسوا، كما حصل في الأحزاب، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا12-14 سورة الأحزاب: لو دخل الأحزاب المدينة وطلب منهم أن يكفروا مباشرة سيرتدون وسيتسابقون إلى ذلك، وهكذا هم إذا غلبوا تهافتوا على الكفر.
فتبصروا لمعرفة مثل هذه الأمور؛ فإن ذلك يخفف على الإنسان كثيراً من الهم، مما يراه من تساقط وتسارع وضلال إذا غَلب الكفار، وهذا ليس بشيء جديد بل هذا أمر قديم، ولله في هذا حكمة.
فالحاصل أن المثَلين -والله تعالى أعلم- كلاهما في المنافقين، وليس هذا في طائفة وهذا في طائفة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.