الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(17-16) مسألة "هل تعليم الله عز وجل لآدم سبق سجود الملائكة أم كان بعده؟" - ومن قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ} الآية .
تاريخ النشر: ١٧ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 5858
مرات الإستماع: 4759

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي ما يتعلق بمسألة: تعليم الله لآدم ﷺ الأسماء كلها، هل كان ذلك بعد سجود الملائكة أو كان قبله حينما خلقه الله ؟

فقد نظرت في جملة من كتب التفسير فرأيت كثيراً منها لا ينوه بالقضية ولا يقف عندها، ويفسر كأنه يرى أن الأمر على هذا الترتيب، خلق آدم، وعلمه الأسماء وأخبر الملائكة أنه سيجعله خليفة، ثم أمرهم بالسجود بعد ذلك، فهم لا يصرحون بهذا، ولكن يفسرونه على هذا الترتيب، مما يشعر بأنهم لا يرون أن المسألة فيها تقديم وتأخير، وبعضهم صرح برأيه في ذلك ولم أتتبع كل التفاسير، ولكن هذه جمله منها.

هذا مثلاً تفسير القاسمي يقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة البقرة:34]: "لما أنبأهم بأسماء وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له على وجه التحية والتكرمة، تعظيماً له واعترافاً بفضله واعتذاراً عما قالوا فيه"، فهذا الكلام صريح في أن الأمر بالسجود كان بعد أن علمه الأسماء، فيكون على نفس الترتيب الوارد في القرآن.

وهذا تفسير الخازن -وهو عبارة عن اختصار للبغوي مع بعض الزيادات- يقول:وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] يقول: ولما خلق الله آدم وتم خلقه علمه أسماء الأشياء كلها وذلك أن الملائكة قالوا...الخ، والبغوي يقول: فلما خلقه الله علمه أسماء الأشياء وذلك أن الملائكة لما قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا...الخ.

فالخازن زاد عبارة أصرح من عبارة البغوي حيث قال: خلق الله آدم وتم خلقه علمه الأشياء..

فهو زاد هذه الزيادة قصداً؛ لأن هناك من يقول: إن قوله تعالى:إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا [سورة الحجر:28] إنه قبل أن يخلقه أخبرهم بخلقة، وقالوا: إن معنى علمه أسماء الأشياء أي: جعل فيه القوة التي تمكنه من معرفة هذه الأشياء حينما أراد خلقه، وهذا القول كله بناءً على عقائد فاسدة عندهم فهو يشير هنا إلى رد هذا القول.

 وفي التفسير الكبير يقول: الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله تعالى خلقه آدم - - بدليل قوله:إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [سورة ص:71، 72].

يقول: وظاهر هذه الآية يدل على أنه لما صار حياً صار مسجود الملائكة؛ لأن الفاء في قوله: فَقَعُواْ [سورة الحجر:29] للتعقيب، وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد أن صار مسجود الملائكة، وهذا بناء على قوله: فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [سورة الحجر:29] أي: مباشرة بمجرد نفخ الروح، فالفاء هذه للتعقيب المباشر، وعلى كل حال له عبارات وكلام طويل، لكن هذه الخلاصة.

وهذه جمل مما جاء في تفسير أبي السعود، حيث يقول: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] شروع في تفصيل ما جرى بعد الجواب الإجمالي –يعني قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ تحقيقاً لمضمونه وتفسيراً لإبهامه، وهو عطف على قال -يعني وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30]، والابتداء بحكاية التعليم يدل بظاهره على أن ما مرَّ من المقاولة –أي: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ المحكية، إنما جرت بعد خلقه بمحضر منه -من آدم بعد نفخ الروح- وهو الأنسب بوقوف الملائكة على أحواله بأن قيل إثر نفخ الروح فيه: إني جاعل إياه خليفة، فقيل ما قيل كما أشير إليه، وإيراده باسمه... الخ.

وفي موضع آخر يذكر الأقوال والاحتمالات ويحاول يجمع بين الأقوال فيقول: فالذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الأنيق بعد التصفح في مستودعات الكتاب المكنون والتفحص عن ما فيه من السر المخزون، أن سجودهم له إنما ترتب على الأمر التنجيزي المتفرع على ظهور فضله رضي الله عنهالمبني على المحاورة المسبوقة.

هو هنا أراد أن يحل الإشكال الوارد في ترتيب هذه الأمور، يعنى أن الفاء للتتعقيب المباشر، وقَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا..الخ، كل ذلك كان بعد أن خلق آدم، فكيف الترتيب بين هذه الأمور أو كيف يكون ذلك التحاور بهذه الصيغة بعد أن خلقه؟

يقول جواباً عن هذا: إن الأمر التنجيزي المتفرع عن بيان فضل آدم ﷺ بمعنى أنه أمرهم بالسجود ويتفرع عن هذا الأمر بيان منزلة آدم ﷺ وفضله، بأن علمه الأسماء كلها.

وله عبارات أخرى يقول في بعضها: والذي يحسم مادة الاشتباه أن ما في سورة ص من قوله تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ [سورة ص:71] الخ بدلٌ من قوله تعالى: إِذْ يَخْتَصِمُونَ [سورة ص:69] فيما قبله من قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ [سورة ص:69]... الخ.

وهذا أنوار التنزيل للبيضاوي يقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة البقرة:34] لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعملوا أمرهم بالسجود له اعترافاً بفضله وأداءً لحقه واعتذارا عما قالوا فيه، وقيل أمرهم به قبل أن يسوى خلقه؛ لقوله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [سورة الحجر:29] امتحاناً لهم وإظهاراً لفضله.

وهذا التحرير والتنوير لابن عاشور يقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ عطف على جملة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30]، يقول عطف القصة على القصة، وإعادة إذ بعد حرف العطف المغنى عن إعادة ظرف تنبيه على أن الجملة مقصودة بذاتها؛ لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام.

يقول: فإن أمرهم بالسجود لآدم ما كان إلى لأجل ظهور مزيته عليهم؛ إذ علم ما لم يعلموه وذلك ما اقتضاه ترتيب ذكر هذه القصص بعضها بعد بعض ابتداء من خلق السماوات والأرض وما طرأ بعده من أطوار أصول العامرين الأرض وما بينها وبين السماء...الخ.

فهو يقول: إن هذا الترتيب مقصود وأن الأمر بالسجود بعد ما بان لهم فضل آدم -عليه الصلاة والسلام.

ثم تكلم على قوله تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [سورة الحجر:28-29]، يقول لأن تلك حكت القصة بإجمال فطوت أنباءها طياً جاء تبيينه في ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها آية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن فضيلة آدم لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماء وعرضها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها وأنهم كانوا فبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم بآدم...الخ، وهذا كلام واضح وصريح في أن السجود كان بعد تعليم آدم.

وعلى كل حال فالإشكال عندهم في قوله تعالى: فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [سورة الحجر:29] مع قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ [سورة البقرة:34]، فالله أخبرهم عن خلقه أولاً أنه سيخلقه وأنه إذا سواه ونفخ فيه من روحه فعليهم أن يسجدوا له.

وقلنا: إن الفاء تدل على التعقيب المباشر ولكن ذلك كل شيء بحسبه، كما مثلنا بقوله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [سورة الرعد:17]، وقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [سورة الحـج:63]، وكقوله: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [سورة المؤمنون:14] ومعلوم أن هذا يحتاج إلى وقت، فهي في كل شيء بحسبه، والأمثلة على هذا كثيرة جداً، والمسألة تحتمل، لكن الأصل بقاء السياق القرآني على حاله وظاهره، ولا يدعى فيه تقديم وتأخير من غير دليل يجب الرجوع إليه.

ابن القيم -رحمه الله- استخرج من قصه آدم -عليه الصلاة والسلام- أكثر من أربعين فائدة، وغيره يتكلمون عن مسائل في اللغة وهل اللغات توقيفية أم لا، مع أن المسألة لا يترتب عليها عمل أصلاً، وليست مما يحتاج إليه وليس لها أثر، ومثل ذلك ما الذي علمه من الأسماء، وكذا الاشتقاق والقياس على اللغات، وكذلك لما أمرهم أن يخبروه عن أسماء هذه الأشياء هل هم لا يعرفونها، وهل يمكن التكليف بما لا يطاق أم لا، وهي مسألة أصولية جدلية جاء بها المتكلمون، فلهم مرتع عند تفسير هذه الآيات.

قال المفسر في تفسير قوله تعالى: قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:33]، قال زيد ابن أسلم: قال: أنت جبرائيل أنت ميكائيل أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب.

قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ [سورة البقرة:33] وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ [سورة البقرة:31] تأمل في العبارات، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا هذا للعموم صريح من جهة الأسماء، وذلك لدخول (أل) وكذلك للتأكيد بـ(كل).

قوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ: عرضهم هذه تستعمل للعقلاء، وأما لغير العقلاء فيقال: عرضها.

ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فهو عرض الأسماء أم المسميات؟

الظاهر أنه عرض المسميات، وبعضهم يقول: عرض الأسماء والمسميات، وبعضهم يقول: عرض الأسماء، لكن يبعد أن يكون عرض الأسماء؛ لأنه قال: عَرَضَهُمْ وهذا للعقلاء، فكيف عبر بما يصلح للعقلاء مع أن القصعة والكأس والغراب مثلاً ليست من العقلاء؟

أنت إذا كان لديك سيارات عرضت للبيع مثلاً فإنك تقول: زيد عرضها للبيع، ولا تقول: عرضهم للبيع، كذلك البيوت، تقول: عرضها للبيع ولا تقول: عرضهم للبيع؛ لأن عرضهم من الصيغ التي تستعمل للعقلاء.

وهذا هو الذي ألجاً كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- ومن قال بقوله بأن المقصود الملائكة وذرية آدم؛ لأن أللفضة عرضهم استعمل معها الضمير الذي يصلح للعقلاء  وهو (الهاء ثم الميم)، لذلك قالوا الذي يوصف بأنه يعقل أو يعلم هم الملائكة والبشر فهي أسماء الملائكة وأسماء البشر.

العلماء في التعبير عن الملائكة بلفظة يعقل والعقلاء عندهم تحرز من هذا؛ لأنه لم يرد هذا، ولذلك تجدهم يقولون: إن (ما) لغير العالم، و(من) للعالم، ويقولون ذلك على أساس أنه يدخل فيه الملائكة، وفهم موصوفون بالعلم وأما البشر فهم موصفون بالعلم وبالعقل، فيقولون: (ما) لغير العالم و(من) للعالم.

ابن جرير يقول عن لفظة عَرَضَهُمْ: هذا الأسلوب استعمل مع من يوصفون بالعلم ولا يوصف به الغراب والبعير والقصعة وما إلى ذلك، والجواب عن هذا واضح جداً، ولا يخفى على كبير المفسرين، وقد أشار إليه ورده، وهو أن ذلك التعبير يستعمل كثيراً بما يصلح للعقلاء من الضمائر والصيغ لسبب، وهو إما لاشتراك العقلاء معهم فيكون راعى الأشرف، أو راعى الأكثر أحياناً لأن العقلاء أكثر مثلاً في بعض الاستعمالات أو أنه أراد أمراً أخر كأن يكون نزل غير العقلاء منزلة العقلاء، مثل: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4] الأصل أن يقول: رأيتها لي ساجدة، لكنه قال: رَأَيْتُهُمْ وقال: سَاجِدِينَ؛ لماذا؟ لأنها فعلت فعل من أفعال العقلاء وهو السجود فنزلها منزلة العقلاء.

وقال تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا [سورة الأعراف:195] أي: الأصنام، فالأصل أن يقال: ألها أرجل تمشي بها، لكن ليش قال: أَلَهُمْويَمْشُونَ...الخ؛ لأنهم جعلوها آلهة، وليس فقط عقلاء بل آلهة تدبر أمر العالم، فلذلك جرى الخطاب بحسب اعتقادهم، وهذا كثير في القرآن.

إذن: في قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ [سورة البقرة:31] من باب التغليب، أو من باب مراعاة الأشرف على الملائكة.

فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء [سورة البقرة:31] يعني عرض المسميات فسألهم عنها: أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:31].

وقال مجاهد في قول الله: قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ: قال: اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء، وروي عن سعيد ابن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك، فلما ظهر آدم على الملائكة -عليهم السلام- في سرده ما علَّمه الله تعالى من أسماء الأشياء قال الله تعالى للملائكة: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:33] أي ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال تعالى: وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [سورة طـه:7]، وكما قال إخباراً عن الهدد أنه قال لسليمان -أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۝ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة النمل:25-26].

وقيل في قوله تعالى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَغير ما ذكرناه، فروى الضحاك عن ابن عباس -ا-  وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ، قال: يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ، فكان الذي أبدوه وقولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء [سورة البقرة:30] وكان الذي كتموه بينهم هو قولهم: لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم.

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:31-32]، أي: ننزهك، لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ: فوضوا الأمر إلى الله .

قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ [سورة البقرة:33] يعني بأسماء المسميات، قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:33].

وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ أي: كل ما تظهرون وفي أي شأن، ومن ذلك: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة:30]، فهذا من ما أظهروه، والآية عامة.

وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أي: كل ما كتموه، وكل ما تنطوي عليه النفوس ويتلجلج فيها فإن الله يعلمه، فقد يكون من ما كتموا أنهم استشعروا أنهم أفضل من آدم، وأن هذا المخلوق لن يكون أفضل منهم، أو غير ذلك من ما يقع في النفوس، فالله يعلم ذلك جميعاً ولا حاجة للتنحل والتكلف في تحديد هذا الذي كتموه فإن الله قد عم علمه للمظهر والمكتوم.

وأما قول من قال بأن المقصود بـمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ هو ما كان ينطوي عليه إبليس من الكبر الذي ظهر بعد أن أُمر بالسجود لآدم، فإن النفوس قد تكون منطوية على أشياء لا تظهر، ولكنها تظهر في بعض المقامات التي تُبرز خبايا النفس؛ لأنها منطوية على الكبر أو العجلة أو الحسد أو غير ذلك، ففي بعض المقامات تتبين عجلة الإنسان أو صبره، أو يتبين حسده أو تتبين غيرته أو تتبين أمور أخرى.

المقصود أن بعضهم قال: إن هذا المكتوم إنما هو ما كان ينطوي عليه إبليس، وهذا إن كان بناء قول الذين قالوا: إن إبليس من الملائكة فهو واضح، حيث قالوا: إن إبليس من الملائكة وكان ينطوي على كبر، وما ظهر هذا إلا بعد الأمر بالسجود لآدم.

لكن قيل لهم: أين أنتم من قوله: أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة ص:76]، والملائكة خلقوا من نور؟

قالوا: لا يلزم أن يكون كل الملائكة خلقوا من نور؛ إذ لا دليل على أن كل الملائكة خلقوا من نور، فيمكن أن يكون بعضهم خلقوا من نار؟

وهكذا لو أردنا الجدال في كل حرف ماذا يقال فيه، وكيف يرد عليه، وكيف يرد على الرد، فلن ينتهي المقام، فالجدل بحر لا ساحل له، ولكن فوت بعض الأمور.

وإلا فقد قيل: بعض الملائكة خلقوا من نار، فقيل لهم: من مارج من نار صفته الخفة والطيش؟ قالوا: لا مانع أن يكون بعض الملائكة خلقوا من مارج من نار، قيل: والكبر والامتناع من السجود ماذا تقولون عنه والله يقول: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6]، فهم ملائكة معصومون، قيل: ومن قال لك أنهم معصومون، فالملائكة مركبة فيهم الشهوات، لكن الأصل فيهم الطاعة والمعصية شذوذ، ومثال ذلك هاروت وماروت، فهم كانوا ملائكة، ومع ذلك عصوا الله وفعلوا ما فعلوا، وإبليس كان ملك وأبى من السجود وكان مستكبراً وكان فيه كل هذه الأخلاق السيئة، فهو مخلوق من مارج من نار، وأمر بالسجود وعصى الله وامتنع، فالملائكة الأصل فيهم الطاعة وتقع منهم المعصية، بخلاف الآدميين فالغالب فيهم العصيان وغلبة الشهوات، والطاعة تحتاج إلى تكلف منهم عكس الملائكة.

قيل لهم: إبليس يقول عنه الله: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف:50]، فهذه صريحة أنه كان من الجن.

قالوا الجواب عن هذا بعدة أجوبه، منها أن الجن هو كل ما أجتن وخفي مما لا يظهر أي من الإجتنان يقال له: جن، فالملائكة لا يظهرون.

ومنها: أن المقصود بأنه كان في قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وهذا معنى قول المشركين كما حكى الله عنهم، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [سورة الصافات:158]، قالوا: هذا بطن من الملائكة أو قبيلة منهم يقال لهم: الجن كما قال الله  وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [سورة الزخرف:19]، قالوا بين الجنة وبين الله  نسب، والجنة هم الملائكة وليسوا هم الجن...الخ.

 ولهم جواب آخر وهو أنه يمكن أن يكون الأمر أصلاً متوجه للجميع للجن وللملائكة، وممكن يكون إبليس من الجن وجلس مع الملائكة فشمله الخطاب، وشمله قوله: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:33]، ويصح أن يشمل الخطاب من كان معهم وإن لم يكن منهم...وهكذا.

وهكذا يكون الجدل بحراً لا ساحل له، وبالتالي كل شيء يمكن أن تجادل فيه، الذي يريد يجادل لن يقف عند حد، إذ ستقول له: الآيات واضحة وصريحة، فيقول لك: ومن قال: إنها واضحة وصريحة، إنما هي واضحة وصريحة عندك..

وعلى كل حال فالمقصود أن الله أمر الملائكة بالسجود وكان معهم إبليس، وظاهر القرآن أنه ليس منهم، بل هو من الجن وهو مخلوق من نار كما هو صريح في القرآن، فشمله الخطاب معهم بالأمر بالسجود وأبى وامتنع واستكبر، وبالتالي يكفي هذا القدر من الكلام في هذه القضية.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..


 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

 وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:34]، وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم.

وقد دل على ذلك أحاديث أيضا-كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى، رَبِّ أرني آدم الذي أخرجنا ونفسَه من الجنة فلما اجتمع به قال: أنت آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته[1] الحديث.

ولما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم؛ لأنه وإن لم يكن من عُنْصرهم إلا أنه كان قد تشَبَّه بهم وتوسم بأفعالهم؛ فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفة الأمر.

وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف:50].

ولذا روى محمد بن إسحاق، عن ابن عباس -ا- قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمونه جِنًّا.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فالمقصود أن إبليس الذي دل عليه ظاهر القرآن هو من الجن، وإنما كان مشمولاً بهذا الخطاب مع الملائكة؛ لكونه كان معهم أو غير ذلك مما الله أعلم به، ولكن النصوص صريحة وواضحة فيما ذكرت، وهذه المسألة لا تحتاج إلى تطويل، مع عدا ذلك مما يذكر في هذا اسمه عزازيل، وأنه عبَد الله كذا سنة، أو أنه كان مسؤولاً عن الجنة الفلانية أو كان مسؤولاً عما بين السماء والأرض أو غير ذلك فهذا كله من الإسرائيليات ولا يثبت به شيء، ولا ينبغي أن يبنى عليه أو يفسر به القرآن.

وقال قتادة في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة البقرة:34] فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته.

وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف:100] وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا.

هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو الذي ينبغي أن يقال عند تفسير هذه الآية وأشباهها كما في سورة يوسف، وهو أن ذلك كان جائزاً قبل هذه الأمة، ثم بعد ذلك نسخ في شريعة محمد ﷺ فهو سجود تكريم وليس سجود عبادة، ومع هذا نجد كلام المفسرين كثيراً جداً في توجيه هذا السجود، فمنهم من يقول: السجود هنا ليس على حقيقته وإنما أصله يأتي بمعنى الخضوع والذل في اللغة فيكون المعنى أن الملائكة خضعت لآدم فقط ولم تسجد له؛ لأن السجود لا يجوز إلا لله، ومنهم من يقول: إن السجود إنما يحصل بالانحناء –مع أن الانحناء لغير الله لا يجوز- وبعضهم يقول: إن آدم جعله الله قبلة والسجود لله، وهؤلاء فهموا أن السجود لله فكيف يسجدون لآدم، فلهذا قالوا: جعله قبلة كما أن الكعبة قبلة يسجد الناس تجاهها فصارت قبلة السجود، وقالوا غير ذلك مما لا حاجة إليه، والصحيح أن هذا السجود هو سجود تعظيم وكان جائزاً كما حصل من إخوة يوسف وأبويه.

وبالنسبة لقول ابن كثير: "وقال بعض الناس": فهذا أسلوب يستعمله بعض أهل العلم منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الذي يفعل هذا في كثير من الأحيان، ويفعله غيره، حيث يقولون: قال بعضهم، قال بعض أهل العلم.

والبخاري يذكر بعض الغريب ويقول: قال بعضهم وزعم بعضهم، وأحياناً يأتي بالتفسير الغريب دون أن يقول: قال بعضهم وهو في كثير من الأحيان من كلام أبي عبيدة معمر بن المثنى صاحب مجاز القرآن.

المقصود أن هذا الأسلوب موجود، وهم بهذا لا يذكرون الشخص الذين نقلوا منه لسبب أو لآخر، إما لأنهم لا يريدون أن مثل هذا يصلح أن يكون في محل قدوة، لكن يستفيدون مما ذكر دون أن ينسبوا ذلك لأنفسهم ولا يريدون التنويه بذكره كالزمخشري مثلاً؛ لأنه رأس في البدعة، وتارة يذكرون هذا الأسلوب لسبب آخر كأن يقتضي الحال ذلك، كأن يكون من سمع ذلك بحضرتهم ممن كان في زمانهم لربما ترك الكتاب مثلاً وزهد فيه، فيقول: قال بعضهم.
وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا، قال معاذ -: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: لا، لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها [2] ورجحه الرازي.

تفسير ابن كثير -رحمه الله- أكبر وأجلّ من أن يحتاج إلى ترجيحات الرازي، ونقولات ابن كثير -رحمه الله- عن الرازي في التفسير كثيرة، وكذلك عن الزمخشري، وهذا على الطريقة المعروفة عند أهل العلم أنهم ينقلون من كتب التفسير وغيرها مما يصلح ويستفاد منه، فما كانوا يهجرون الكتب لوجود بعض الأخطاء فيها، فهذا أمر لا يعرف عند أهل العلم، لا سيما إذا كان بطريقة انتقائية في كتب دون كتب، أما أن يعمم الإنسان ويطرد في قاعدة واحدة في الجميع بحيث كل كتاب فيه انحراف يحرق، فهذا لا قائل به، أما أن يخصص بعض الكتب دون كتب فإن هذا التخصيص ليس له موجب إلا اتباع الهوى.

فعلى كل حال تفسير ابن كثير له طبعات كثيرة، كتابه طار في الآفاق، وهذه النسخ متفاوتة تفاوتاً ظاهراً، وهذا التفاوت يمكن أن يجعل على نوعين: نوع من تصرف النساخ أو الأخطاء التي تقع من بعضهم، وهذا علاجه التحقيق، أي: تحقيق الكتاب بمقابلته على نسخ جيدة صحيحة.

والأمر الثاني وهو التفاوت الواقع بسبب تصرف المؤلف يوجد -وهذا هو المهم جداً- وهذا موجود في تفسير ابن كثير، وهذا لا علاج له إلا بمعرفة تواريخ النسخ، وستبقى إشكالات؛ لأن بعض النسخ ما وصلت إلينا أصلاً، وفيها بعض التعديلات والتغييرات بناء على نسخ كتبها المؤلف أو قرئت عليه، أو قرأها فعدل عليها، أو نحو ذلك، ولذلك تجد زيادات مثل: رجحه الرازي، أو تجد بعض الأشياء التي قد لا تجدها في بعض النسخ، فبعض النقولات عن الرازي قد لا تجدها في بعض النسخ، فيكون إما حذفها بعد أن نبه أنه ليس بحاجة إلى ترجيحات الرازي؛ لأن كتاب الرازي في التفسير كتاب يعني لا يشرف ابن كثير في النقل منه، ونقل ترجيحاته لما في هذا الكتاب من أشياء غير مناسبة.

أو أنه أضاف وهذه عادة موجودة عند العلماء، وكل من يؤلف غالباً فإنه يعدل ويزيد على مر الأيام، والعادة أن أهل العلم إذا كتبوا كتاباً يبقونه عندهم مدة ليعيدون النظر فيه حتى لربما تركه الإنسان حتى ينسى أفكاره التي كتب؛ لأنه إذا قرأه مباشرة قد لا ما يتبين له حتى الخطأ في اسمه هو، فقد يلوح أمام عينيه خطأ ولا يراه، فهو إنما يحتاج إلى فترة ينسى فيها ما كتب، فإذا قرأ قرأه كأنه شخص آخر فيعرف ما فيه من العيوب والنقص، ثم إن العالم تمر عليه فوائد وتمر عليه كتب جديدة، فهذا موجود في تفسير ابن كثير، فيه زيادات من تصرف المؤلف، فمن الخطأ في التحقيق أن يجمع ذلك جميعاً بما في ذلك الأخطاء المطبعية، ويقابل على نسخ مطبوعة ويجمع ما في ذلك من الزيادة والنقص في نسخة ملفقة واحدة.

الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره أعاد صياغة بعض تفسير السور في أول القرآن من جديد، فهذا أمر يقع، فنحتاج إلى مثل هذا الكلام خاصة في تفسير ابن كثير للاختلاف الواقع بين الطبعات وبين النسخ الخطية.

وقال قتادة في قوله تعالى: فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:34]: حسد عدو الله إبليسُ آدمَ، ، ما أعطاه الله من الكرامة، وقال: أنا ناريٌّ وهذا طينيٌّ، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدوُّ الله أن يسجد لآدم -.

قلت: وقد ثبت في الصحيح: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر [3]، وقد كان في قلب إبليس من الكبر والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس.

في قوله: قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة الأعراف:12]، يتكلم العلماء هنا كثيراً على مسألة القياس الفاسد، ويسمونه فاسد الاعتبار، كما قال في المراقي:

وكل ما خالف النص والإجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى

عني أن كل قياس يصادم النص أو يخالف الإجماع فهو فاسد الاعتبار، يعني أنه لا يلتفت إليه، فقياس إبليس هنا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة النص: اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11]، فهو قال: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ، فنظر إلى أصله وقال: الطين أدنى وأحط من النار، فرد كثير من العلماء عليه من وجوه كثيرة، منهم الشنقيطي الذي رد عليه -رحمه الله- في تفسير أضواء البيان، وفي دروسه في المسجد النبوي عند تفسير آية الأعراف في قوله تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ [سورة ص:75] في درس كامل، حتى إنه لما كتبه بعض تلامذته وعرضه عليه بعد ذلك، وأسمعه كلامه في شريط سجل له قال: لولا أنك أسمعتني بصوتي وإلا ما ظننت أني أقول هذا الكلام، يعني مما فتح الله عليه في هذا الدرس.

كما رد عليه جمع كثير من أهل العلم، والرد موجود في كتب التفسير عند هذه الآية، أو عند آية الأعراف عموماً وغالباً ما يكون عند هذه الآية، وكذلك ممن رد على ذلك ابن القيم، حيث رد عليه من وجوه كثيرة.

ومما قال العلماء في الرد على هذا القياس الفاسد أنهم قالوا: إن هذا القياس غير صحيح؛ لأنه يقابل النص، ثم أيضاً هو من حيث المعنى والحقيقة باطل؛ لأن الطين أفضل من النار؛ وذلك أن النار من طبيعتها الخفة والطين من طبيعته الرزانة، كما أن النار من طبيعتها الإحراق والإتلاف، فإذا وضعت فيها الشيء أحرقته، وأما الطين فإنك تضع فيه الحبة فتكون سنبلة، وتضع فيه النواة فتكون نخلة، بخلاف النار.

وقالوا: إن الطين إذا وضع فيه الشيء حفظه وأما النار إذا وضع فيها الشيء أضاعته، والطين يمكن أن يصنع منه ما نراه ونشاهده مما يحتاجه الناس من الأواني والمساكن وما إلى ذلك، وأما النار فإنه لا يصنع منها شيء إطلاقاً، بل هي محل الإتلاف، فإذا أرادوا أن يتلفوا شيئاً وضعوه في النار.

وقالوا كذلك: الطين يحتاجه الإنسان في كل أحيانه وأحواله حياً وميتاً، وأما النار فإنه لا يحتاج إليها إلا في بعض الوقت، فالطين لا يمكن أن يُستغنى عنه، ويكفي أنه يُمشى عليه ويُجلس عليه، ويُبنى منه، وأما النار فقد يُستغنى عنها الأسابيع بحيث لا توقد ويأكل المرء من غير الحاجة إليها، بل من الناس من لا يوقِد ناراً ويقتصر على النباتات وما أشبه ذلك، فالحاصل أنهم ردوا عليه من وجوه كهذه وغيرها.

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ۝ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:35-36].

يقول الله تعالى إخباراً عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس: إنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء، ويأكل منها ما شاء رَغَدًا، أي: هنيئًا واسعًا طيبًا.

وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه عن أبي ذر: قال: قلت: يا رسول الله؛ أريت آدم، أنبيًّا كان؟ قال: نعم، نبياً رسولاً كلمه الله قِبَلاً[4] يعني عياناً فقال: اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة البقرة:35].

الثابت أن آدم ﷺ نبي، وما ورد من أنه رسول يضعفه بعض أهل العلم من جهة الرواية، ولكن نبوته ثابتة عن النبي ﷺ وحديث أبي ذر هذا بعض أهل العلم ضعفه، ولكن لا شك أنه نبي، والمشهور عند أهل العلم أن أول نبي هو آدم ﷺ وأن أول رسول هو نوح -عليه الصلاة والسلام- ومن حسن حديث أبي ذر قال: إن آدم ﷺ أرسل إلى حواء، ويمكن أن يقال: وإلى بنيه، وعلى كل حال فالمشهور أنه نبي وأن أول رسول هو نوح، وبهذا يطرد النبي الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول يكون قد أرسل إلى قوم كافرين، يدعوهم إلى الإسلام، يدعوهم إلى دين الله ، والنبي هو من أوحي إليه بوحي، فهو مقرر لشريعة نبي قبله.

وما ذكره الله تعالى هنا يدل في ظاهره بأن حواء خلقت قبل دخول الجنة، فهذا هو ظاهر القرآن، لأنه قال: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة البقرة:35-36].

وقد جاء في بعض الروايات المأخوذة عن بني إسرائيل مما يذكر في كتب التفسير أن حواء خلقت حينما كان في الجنة، وهذا لا دليل عليه، بل يخالف ظاهر القرآن.

يقولون: خلقها الله له ثم عرفه كيف يغشاها فغشيها، فقالت: يا آدم هذا طيب فزدنا منه، وهذا كله من كلام بني إسرائيل أو مما أخذ منهم، وإن كان ظاهر الآية ليس بقاطع أنها خلقت قبل دخول الجنة؛ لأن ذلك يمكن أن يقال لمن كان في الجنة، وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة الأعراف:19]، فيمكن أن يقال له ذلك تقريراً له في سكناه الجنة، بمعنى أنه من الممكن أن تدخل إنساناً في بيت وتقول له: اسكن في هذا البيت وانتفع به، فهذا أسلوب لا إشكال فيه.

وعلى كل حال فظاهر القرآن يدل دلالة ظاهرة على أن الله خلق حواء قبل إدخال آدم الجنة، وإن كان هذا ليس بقاطع، والله تعالى أعلم، لكن لا يعتمد على الإسرائيليات التي تخالف ذلك.

وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق، حيث قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد عَلَّمه الأسماء كلها فقال: يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ [سورة البقرة:33] إلى قوله: إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:32]، قال: ثم ألقيت السِّنَةُ على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس –ا- وغيره.

الحافظ ابن كثير –رحمه الله- يحاول أن يتحرز من الإسرائيليات، وغيره صرح في مقدمة التفسير بأنه إنما ألف التفسير ليخلصه مما وقع فيه كثير من المفسرين من إدخال الإسرائيليات ومع ذلك لما تقرأ تجد الإسرائيليات موجودة، فهذه الأمور يصعب التخلص منها؛ إذ قد كثرت البلوى بها وانتشرت ودخلت في عامة كتب التفسير إما بطريق النقل عن بني إسرائيل مباشرة، أو بطريق بعض الآثار المنقولة عن بعض السلف ممن أخذ عن بني إسرائيل وإن لم يصرح فيه، فتارة يصرحون، وتارة لا يصرحون.

 ثم أخذ ضِلعًا من أضلاعه من شِقه الأيسر ولأم مكانه لحماً وآدم نائم لم يهب من نومه، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كُشِفَ عنه السِّنَة وهبَّ من نومه، رآها إلى جنبه فقال -فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي. فسكن إليها، فلما زوَّجَه الله وجعل له سكناً من نفسه، قال له قُبَلاً يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ [سورة البقرة:35].

وهذا صريح في أن الله كلم آدم مباشرة ولا حاجة للتمحل في البحث عن محامل بعيدة لتوجيه مثل هذا النص الصريح الواضح، ولهذا جاء في الحديث أنه كلمه الله مباشرة.

وأما قوله: وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم، وقد اختلف في هذه الشجرة: ما هي؟ فقيل: الكَرْم وقيل الحنطة.

الكرم يعني العنب، وعلى كل حال فهذه المبهمات في القرآن يشتغلون كثيراً في البحث عن مثلها، وهذا مما لا فائدة فيه، فالله أبهمها لأنه لا فائدة فيها فلا داعي لتطلبها، فهي شجرة غير محددة لنا، ولكن الله عرَّفها آدم ونهاه عنها.

وقيل: النخلة وقيل: التينة.

وقيل: التينة وقيل: السنبلة، وقيل غير ذلك، وهذا يدل على أن هذه الأقوال لا تبنى على شي، وإلا لما اختلفت هذا الاختلاف، فالحنطة أو العنب أو التينة أو السنبلة، هي أشياء متفاوتة مختلفة غاية الاختلاف.

وقيل: شجرة من أكل منها أحدث، وقيل: شجرة تأكل ثمرها الملائكة لخلدهم.

 الملائكة أصلاً لا يأكلون وهذا من كذب بني إسرائيل، وأما القول بأنها شجرة الخلد فهذا كان هذا من تزيين إبليس: قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى [سورة طـه:120].

قال الإمام أبو جعفر بن جرير -رحمه الله تعالى: والصواب في ذلك أن يقال: إن الله ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة.

وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلْمٌ إذا علم ينفع العالمَ به علمُه، وإن جهله جاهلٌ لم يضرَّه جهله به والله أعلم.

وكذلك رجح الإمام الرازي في تفسيره وغيره وهو الصواب.

وقوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [سورة البقرة:36] يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا عائداً إلى الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بَهْدلَة -وهو ابن أبي النَّجُود- فأزالهما، أي: فنحاهما.

ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورَيْن وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها.

يقول: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا....إلى آخره: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، أي بمعنى صرفهما عن طاعة الله فأوقعهما في الزلة من الزلل، فالزلة تقال على الخطيئة والذنب والإساءة، يقال: فلان زلَّ زلة، وهذه زلة، ويقال: لا يستزلنك الشيطان، وما أشبه ذلك، فيكون بمعنى صرفهما عن طاعة الله  في أمره: وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة:35]، فحيث نهاهما فأكلا منها فكان ذلك زلة من آدم ﷺ وحواء، فيكون هذا الأكل ووسوسة إبليس أو إغواء إبليس كان سبباً لهذه الزلة التي كانت سبباً لزواله عن الجنة.

إذا قلنا ذلك نكون قد جمعنا بين القراءتين المشار إليهما -قراءة حمزة وقراءة الجمهور- فقراءة الجمهور: فَأَزَلَّهُمَا، وقراءة حمزة: فَأَزَالهُمَا، فيكون بهذا الاعتبار معنى أزالهما من الإزالة، كقولك: أزلت هذا.

كيف نجمع بين القراءتين؟

بعض العلماء يقول: معنى القراءتين واحد، وإذا قلنا بهذا فلا إشكال، ولكن المتبادر أن المعنى مختلف، فأزلهما من الزلة، أي الزلل المعروف، وهي الخطيئة والذنب والمخالفة، وأزالهما بمعنى نحاهما وأبعدهما عن النعيم الذي كانا يتمتعان به، فهذا معنى وذاك معنى آخر، والقاعدة أن القراءتين إن كان لكل واحدة معنى يخصها فإنهما بمنـزلة الآيتين، أي كأن عندنا آيتين إحداهما تقول: فأزلهما، والثانية تقول: فأزالهما

وعلى هذا هل نستطيع أن نجمع بين القراءتين؟

الوجه الذي ذكرته قبل قليل هو طريق للجمع، فيمكن أن يقال: أزلهما بمعنى أنه تسبب في إيقاعهما في الزلة التي أدت إلى الإزالة والتنحية عن الجنة، والله تعالى أعلم.

يقول: يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا عائداً إلى الجنة":يعني أزلهما عن الجنة، أي: نحاهما وأخرجهما وأبعدهما عن الجنة.

يقول: "ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورَيْن وهو الشجرة": إذا قلنا: إنه يعود إلى الشجرة، فيكون معنى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا بسببها، أي أبعدهما عن الجنة ونعيمها بسبب الشجرة.

مسألة:

كيف يكون معنى "عنها" بسببها؟!

معلوم أن "عن" تأتي بمعنى السببية، كما تقول: هذا الجزاء إنما هو عن قولك كذا، يعني بسبب قولك كذا، ويكون معنى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها.

وعلى أساس ما يسمى تضمين الفعل معنى الفعل تقول: أزلهما نتضمن معنى الفعل أصدر، أي: أصدر الشيطان زلتهما عنها، بمعنى أصدر الزلة عن الشجرة، أي: من ناحيتها ومن جهتها، وفعل أصدر يصلح أن يُعدَّى بـ"عن"، فتقول: هذه الوثيقة صادرة عن مكتب كذا، يعني من جهة مكتب كذا، وبالتالي يكون معنى أزلهما الشيطان استطاع أن يدخل على آدم وحواء من ناحية الإغراء بأكل هذه الشجرة.

كذلك إن قلنا: الضمير يعود على الجنة يكون أزلهما مضمن معنى أبعد، يعني عن الجنة، أي: فأبعدهما عن الجنة، حيث إن الفعل أزل مضمن معنى فعل آخر هو أبعد، وأبعد يصح أن يعدى بـ"عن"، فتقول: أبعدته عن المسجد، أبعدته عن منـزله وهكذا، وهذا توجيه للتعدية بـ"عن" على القول بتضمين الفعل الذي هو أزل بمعنى فعل آخر.

وخلاصة هذا أنه إذا قلنا: إن الضمير يعود إلى الشجرة، فيكون أزلَّ مضمن معنى فعل آخر وهو أصدر، وبالتالي فالمعنى أصدر الشيطان زلة آدم وحواء عن الشجرة، وإذا قلنا: الضمير يعود إلى الجنة، فيكون أزلَّ مضمن معنى أبعد، فالمعنى أبعدهما عن الجنة.

يقول: "فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بَهْدلَة وهو ابن أبي النَّجُود": الصواب أن هذه قراءة حمزة، وليست قراءة عاصم، فليتنبه لذلك؛ إذ أن قراءة عاصم موافقة لقراءة الجمهور.

يقول: فأزالهما، أي: فنحاهما: يمكن أزالهما هذه أن ترجع إلى قراءة الجمهور من حيث المعنى؛ لأنه يقال: زل عن المكان أي تنحى عنه، فتكون من الزوال، وعلى قراءة الجمهور فَأَزَلَّهُمَا يمكن أيضاً أن تكون من زلل القدم.

وعلى كل حال هذه وجوه في محاولة الجمع بين القراءتين بحيث إعادة القراءتين إلى معنى متحد، ولكن الأقرب أن كل قراءة لها معنى يخصها هنا، وهو ما ذكرت والله تعالى أعلم.

يقول:"قال الحسن وقتادةُ: فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل: من قِبَل الزلل يعني من ناحية الزلل.

 فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها": هذا كما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [سورة الذاريات:9]، وهذا مثال على تفسير أسلوب قرآني بأسلوب آخر، وإلا فإن قوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ليس له علاقة بقوله: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا لكن أحياناً يشكل عليك التركيب فتنظر إلى تركيب آخر واضح، يشبه هذا، فقوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ليس فيه إشكال، فيفسر هذا بهذا ليتضح المراد.

فقوله: يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال:فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36]، أي: من اللباس والمنـزل الرحب والراحة والرزق الهنيء المريح الواسع الذي لا كلفة فيه ولا تعب ولا معاناةوَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36].

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه أبو داود في كتاب: السنة - باب: في القدر (4702) (ج 2/ص 638) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2238).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب: الرضاع - باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159) (ج3/ص 465)، وابن ماجه في كتاب: النكاح – باب: حق الزوج على المرأة (1852) (ج 1/ص 595)، وأحمد (12635) (ج 3/ص 158)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5294).
  3. أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: تحريم الكبر وبيانه (91) (ج 1/ص 93) بلفظ:(من كبرياء).
  4. أخرجه الطبراني في الأوسط (7335) (ج  7/ص 224)، وفيه المسعودي وقد اختلط كما قال الهيثمي في المجمع (ج 8/ص 364).

مواد ذات صلة