الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[18] من قوله تعالى: "وإذ قلنا للملائكة" الآية 33 إلى قوله تعالى: "فأزلهما الشيطان عنها" الآية 36
تاريخ النشر: ١٩ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 5699
مرات الإستماع: 3713

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [سورة البقرة:36] يصح أن يكون الضمير في قوله: عَنْهَا عائداً إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قرأ حمزة: فأزالهما، أي: فنجَّاهما. ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين، وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ: فَأَزَلَّهُمَا أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي: بسببها، كما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [سورة الذاريات:9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [سورة البقرة:36] أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.

وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36] أي: قرار وأرزاق وآجال.

إِلَى حِينٍ أي: إلى وقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ هذا الخطاب جاء بصيغة الجمع وَقُلْنَا اهْبِطُواْ، وجاء أيضاً بصيغة التثنية في قوله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا [سورة طـه:123]، وجاء أيضاً بصيغة الإفراد مخاطباً به إبليس، فيحمل ما جاء بصيغة الجمع كما هنا وَقُلْنَا اهْبِطُواْ على أن المخاطب بذلك الثلاثة، آدم وحواء وإبليس.

وقوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي أن الآدميين يمثلهم أبواهم آدم وحواء أعداء لإبليس وإبليس عدو لهم.

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ: هذا عدو لهذا، وهذا عدو لهذا، فهي عداوة من الطرفين مشتركة، وليست من طرف واحد، ليس إبليس هو الذي يعادي الآدميين فقط، بل نحن نعاديه، فهو أشد الأعداء لنا وإنما نعادي غيره؛ لأنهم يتفرعون منه، وينضوون تحت لوائه بين مقل ومكثر.

وما جاء بصيغة التثنية اهْبِطَا مِنْهَا فبعض أهل العلم يقولون: المراد به آدم وحواء.

وقوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أنكما أعداء لإبليس، فالهبوط يكون لآدم وحواء والعداوة مع إبليس.

وبعض أهل العلم يقولون: قوله: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة طـه:123] المراد بذلك هو آدم وإبليس، فإن قيل: وأين حواء؟ يقال: هي تبع لآدم، ولذلك نجد أن الله  يخاطب آدم ﷺ فيقول: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة الأعراف:19]، فجعلها تبعاً له.

وكذلك حينما عاتبه على الأكل من الشجرة خاطبه هو، وقال أيضاً في توبته: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37]، مع أن الله تاب على آدم وحواء فهي تبع له.

وعلى كل حال فالمعنى الآخر في قوله: اهْبِطَا مِنْهَا أي آدم وإبليس، وحواء تبع لآدم، وبالنسبة للعداوة فهي بين الآدميين وبين إبليس وحزبه.

قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36]: المراد بقوله: إِلَى حِينٍإما أن يكون إلى الموت، أي: لهم في الأرض مستقر ومتاع إلى أن يموتوا، أو إلى قيام الساعة.

وعلى كل حال إذا نظر إلى الأفراد كآدم بشخصه فإن ذلك المتاع ينقضي بالموت، وإذا نظر إلى جنس الآدميين فإن ذلك يكون إلى قيام الساعة، فالأرض مستقر لهم وفيها يتمتعون.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله خلق آدم رجلاً طُوَالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سَحُوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد في الجنة، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ، فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم، مني تَفِرُّ! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب، لا، ولكن استحياء [1].

هذا الحديث لا يخلو من ضعف، حتى إن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في الأصل أشار إلى ضعفه، والذين اختصروا الكتاب كأنهم حسنوا الحديث باعتبار أن له شاهداً آخر ينجبر به هذا الضعف.

وعلى كل حال فمسألة التصحيح والتضعيف مسألة اجتهادية، فهذا يصحح حديثاً وهذا يضعفه، فهم أدخلوه في هذا الكتاب بناء على أنه يتقوى بذلك الشاهد ويكون من قبيل الحسن، والله تعالى أعلم.

وروى الحاكم عن ابن عباس -ا، قال: "ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

هذا الأثر يفيد أن آدم -عليه الصلاة والسلام- ما أسكن الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وجاء في بعض الآثار الأخرى وهي آثار ترجع في أصلها إلى الإسرائيليات، وهذا الوقت الذي مكثه آدم في الجنة ما بين العصر إلى غروب الشمس يقدرونه بمدد طويلة باعتبار أن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، فيقدرون المدة لآدم في الجنة بمائة وثلاثين سنة، وهذا على قول الحسن، وبعضهم قال أكثر من هذا.

ولكن هذا كله لا يثبت به شيء، والإسرائيليات وما له حكم الإسرائيليات في هذا كثيرة جداً، فلا يعتد بها، فالله تعالى هو أعلم كم بقي آدم في الجنة، ونحن إنما علمنا من الله تعالى خلق آدم في يوم الجمعة، وأن الله أخرجه من الجنة في يوم الجمعة أيضاً، فهل كان ذلك في نفس اليوم الذي خلقه فيه أدخله فيه الجنة ثم أخرجه منها، أو كان ذلك في جمعة أخرى، الله تعالى أعلم.

والاشتغال في مثل هذا لا يعنينا شيئاً ولا يترتب عليه لا علم ولا عمل، فهذا من فضول العلم الذي لا يمكن الوصول إليه؛ لأنه ليس هناك طريق يصح ويوثق به عن رسول الله ﷺ، ولا تترتب على العلم به فائدة.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قال: أهبط آدم إلى أرض يقال لها: دَحْنا بين مكة والطائف.

وعن الحسن البصري قال: "أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدَسْتُمِيسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان" [رواه ابن أبي حاتم].

هذا كله يرجع إلى الإسرائيليات، ومما يدلك على أن هذا الكلام لا يوثق به هذا التناقض الموجود بحيث أنه لا يمكن أن يصح الجمع بين هذه الأقوال، فقول: إنه اهبط في الهند وآخر: إنه أهبط في جدة، فأين الهند من جدة؟

وأما هذه الحية التي يشيرون إليها فيزعمون أن إبليس توصل إلى آدم في الجنة عن طريق الحية، ويصفون هذه الحية بأنها مخلوق عظيم له أرجل طويلة كالجمل، وأن إبليس دخل في الحية من أجل أن يدخل الجنة، وأن ذلك خفي على الملائكة الذين هم خزان الجنة؛ لأنه تخفى في وسط الحية، فدخل فوسوس إلى آدم من الحية.

ويفترضون في هذا قضايا، منها كيف استطاع الوصول إلى آدم، فبعضهم يقول عن طريق الوسوسة التي تقع في النفس، مع أن ظاهر القرآن يرد على هذا، حيث جاء التصريح بالوسوسة أنها من الشيطان حيث قال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى  [سورة طـه:120]، وكذلك في قوله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ  [سورة الأعراف:21]. 

فهل هذا يكون هذا الحلف من الوسوسة التي في النفس؟ لا يمكن أن يكون هذا من الوسوسة التي في النفس، وإنما يدل ذلك على أنه خطاب صريح، وأما كيف توصل فهذا لا يعنينا، وهذا من الفضول والاشتغال بما لم نكلف به، وإنما المهم هو أنه خطابهما بهذا، فقد يكون وهو خارج الجنة، كما يقول بعض أهل العلم- وقد يكون دخل الجنة من أجل هذا الابتلاء والامتحان لآدم ﷺ أو غير ذلك، فهذا كله مما لم نكلف علمه، فلا ينبغي للإنسان أن يتشاغل بمثل هذه الأمور، ويضيع الوقت من غير طائل، خاصة وأنه لا يستطيع أن يخرج معها بنتيجة حاسمة.

وروى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها[2]، فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء -كما يقوله الجمهور من العلماء- فكيف تمكَّن إبليس من دخول الجنة، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا، والقدري لا يخالف ولا يمانع؟!

العلماء يتكلمون عن هذه الجنة هل هي في الأرض أو الجنة المعروفة في السماء؟ وظاهره أنها الجنة التي فيه السماء؛ إذ الأصل أن الجنة إذا أطلقت ليس ثمة إلا الجنة المعروفة.

ويدل على ذلك قوله -تبارك وتعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا [سورة طـه: 123]، وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [سورة البقرة:36]، فالهبوط يدل على أن ذلك نزول في الأصل من أعلى إلى أسفل.

والذين يخالفون في هذا يقولون: إن الجنة كانت في الأرض، وليس عندهم دليل أبداً، ويفسرون الهبوط الوارد في الآيات بأنه بمعنى الانتقال من بلد إلى بلد كما قال الله  لبني إسرائيل، لما أرادوا الأكل مما تخرج الأرض من بقلها وغثائها: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61]، أي بلداً أو قرية من القرى، أي: مصراً من الأمصار تجدون فيه بغيتكم، وليس المقصود بمصر البلد المعروفة اليوم.

فالأصل حمل القرآن على ظاهره المتبادر إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وظاهره المتبادر إنما هي الجنة المعروفة، وهؤلاء الذين قالوا غير ذلك يشوش عليهم ويلجؤهم إلى القول بغيره بعض الأمور مثل هذا التساؤل: كيف يدخل إبليس هذه الجنة -إذا كانت الجنة التي في السماء- وهو طريد لعين؟ وهذا يمكن أن يجاب عنه بمثل ما ذكرت آنفاً.

 فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء، كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية.

وأجاب الجمهور بأجوبة:

أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع؛ ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التوراة: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء، ذكرها الزمخشري وغيره.

من أراد أن يعرف منهج الحافظ ابن كثير في التفسير يدون هذه الأشياء مثل نقل بعض الإسرائيليات، النقل عن الزمخشري، النقل عن الرازي، التصريح مثلاً بنقل ترجيحات الرازي، ذكر الخلاف في المسألة والأقوال فيها، والترجيح بعد ذلك، ومناقشة الأقوال، فالقراءة تختلف اختلافاً كبيراً كما بين السماء والأرض، فقراءة تختلف عن قراءة، لكن هذا ينفع الإنسان كثيراً في المستقبل.

فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:37] قيل: إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23].

وروي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القُرَظي، وخالد بن مَعْدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال السدي عمَّن حدثه عن ابن عباس -ا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ، قال: قال آدم -: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى، ونفخت فيَّ من روحك؟ قيل له: بلى، وعطست فقلت: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت علي أن اعمل هذا؟ قيل له: بلى، قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم، وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير، وسعيد بن معبد عن ابن عباس -ا- بنحوه.

ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس -ا- وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه [3].

يقولون إن هذه الكلمات هي مثل ما جاء في هذا الأثر، وهذا الأثر كما ترون: قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: ومثل هذا الإسناد لا يصح بحال من الأحوال إلا إذا جاء ما يقويه، وهم يستشهدون أو يقوونه بمثل الشواهد التي أشار إليها بعده، ولا يخلو في منهج إيراد الروايات في مثل هذا الكتاب من شيء من التساهل، والذي يظهر أيضاً أن الآثار المنقولة عن السلف من التابعين في التفسير لم يدققوا فيها ويراجعوا هذه المرويات وينتقوا الصحيح منها -وهذا أمر يحتاج إلى جهد كبير- وإنما نظروا في الأحاديث المرفوعة، واختاروا منها ما يصح.

والتفسير يحتاج إلى عناية وإلى مراجعة هذه الروايات التي تنسب إلى قائليها، كقال ابن عباس، وقال فلان، مع أنه لا يصح من ذلك إلا القليل، مع أن هذه المعاني التي تنسب إليهم تبقى معانٍ جيدة، وتفتح آفاقاً، لكن الإشكال في نسبتها إلى هؤلاء، مع أن الكثير منها لا يصح عنهم، وقد بذلت جهود كبيرة في التفسير في محاولة استخراج ما يصح منه، لكن لا زالت العناية بالآثار غير المرفوعة تحتاج إلى جهد ومراجعة.

قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ [سورة البقرة:37]: معنى تلقي آدم للكلمات أنه أخذها عن الله حيث علمه إياها، أو ألهمه إياها، أو أوحى بها إليه، وقد يفهم منها القبول أيضاً ولا بد؛ لأن مجرد الأخذ لا يكفي، بل لا بد من القبول، فتلقيه لهذه الكلمات هي أخذه لها وقبوله لها وانقياده وإذعانه، فأقر على نفسه بالخطأ والذنب ورجع إلى ربه -تبارك وتعالى- وتاب وعمل بما أمره الله فصرح بذلك وقال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23]، مع فهمه لهذه الجملة التي كانت توبة له -عليه الصلاة والسلام، ومن ثم فلا حاجة لأن يقال: إن هذا التلقي هو فهمه للكلمات فقط، أو كما قال بعضهم: قبوله لها،  فليس  ذلك فهماً فقط  بل لا بد من إقرار لها وقبول، فكل ذلك داخل في تلقي هذه الكلمات، فهو تلقاها عن الله وفهمها وأقر بمقتضاها وأذعن ورجع إلى الله قائلاً: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا.
وأحسن ما تفسر به هذه الكلمات، هي هذه الآية: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23]، وبعضهم يذكر غير هذا لكن هذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن، والله تعالى أعلم، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ [سورة البقرة:37]، وهي قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23].

قوله تعالى: فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37]: التوبة تكون من العبد لربه بمعنى الرجوع عن الذنب، فالتوبة أصلها الرجوع، وتكون من الرب للعبد فتفسر بالرجوع عليه بالرحمة والقبول والمغفرة بدلاً من السخط والإبعاد، تاب الله على عبده، أي رجع عليه بالرحمة، ويمكن أن تفسر بأن الله وفقه للتوبة وقبلها منه فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة].

وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:37] أي: إنه يتوب على من تاب إليه وأناب، كقوله: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [سورة التوبة:104] وقوله: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ الآية [سورة النساء:110]، وقوله: وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سورة الفرقان:71] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده لا إله إلا هو التواب الرحيم.

قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:38-39].

يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية: إنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل؛ كما قال أبو العالية: الهُدَى: الأنبياء والرسل والبينات والبيان.

في الآية الأولى يقول تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة: 36].

وفي هذه الآية يقول سبحانه: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ  [سورة البقرة:38].

يُلاحظ أنه كرر الأمر بالهبوط في الآيتين، ففي الآية الأولى مع الأمر بالهبوط ذكر العداوة بين آدم وإبليس، وذكر أن الأرض صارت مستقراً لهم وفيها يتمتعون، وفي الآية الثانية ذكر مع الأمر بالهبوط مجيء الهدى، فهل الهبوط المذكور في الآية الثانية هو نفسه الهبوط المذكور في الآية الأولى، بحيث إن الأول تعلق بمعنى هي العداوة مع إبليس والاستقرار في الأرض، وكرره هنا من قبيل التأكيد، إضافة إلى تعلق معنى يختص به هنا وهو: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى الآية، أم أن الهبوط المذكور في الآية الثانية غير الهبوط المذكور في الآية الأولى؟

بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: إن الهبوط الأول غير الهبوط الثاني، فالهبوط الأول كان من الجنة، والهبوط الثاني كان من السماء إلى الأرض، مع أن الهبوط الأول قال الله فيه: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [سورة البقرة:36]، وفي الهبوط الثاني قال: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى [سورة البقرة:38].

فابن القيم -رحمه الله- بهذا القول جرى على القاعدة المعروفة وهي: أن التأسيس مقدم على التوكيد، بمعنى أنه مهما أمكن أن يحمل اللفظ الآخر المرادف أو المشابه أو المطابق على معنى جديد، فإن ذلك أولى من حمله على نفس المعنى الأول بناء على التأكيد.

فالتأسيس يعني أنك تؤسس معنى جديداً، ولا شك أن ذلك يكثر المعاني القرآنية ودلالتها أكثر من أن يقال: إن ذلك لمجرد التوكيد، فيكون لكل لفظة معنى جديداً يخصها غير المعنى الأول، وهذا هو معنى قاعدة التأسيس مقدم على التوكيد، فابن القيم سار على هذا وإن لم يصرح بالقاعدة.

وعامة أهل العلم لا يتعرضون لمثل هذا في الغالب، وكأنهم يجرون على أن الأمر بالهبوط في الأول هو نفس الأمر بالهبوط في الثاني، أي كله أمر بالهبوط من الجنة، ولربما دل على ذلك ظاهر القرآن، وذلك في قوله: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا [سورة البقرة:38]، فقوله: مِنْهَا يعني من الجنة؛ حيث هي المذكورة في ثنايا الآيات، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [سورة البقرة:35]، ثم أمرهم بالهبوط منها، فيكون ذلك عائداً إلى الجنة؛ لأنها المذكورة المصرح بها.

وابن القيم -رحمه الله- ومن وافقه بماذا يعلل قوله، وكيف يرد على هذا الإشكال؟

هو وإن لم يصرح لكنه يستطيع أن يقول: إن الضمير يصح أن يرجع إلى غير مذكور، وإنما يفهم ذلك من السياق، ومثال رجوع الضمير إلى غير مذكور قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1]. 

فالضمير في قوله: أَنزَلْنَاهُ يعود إلى القرآن ولم يرد له ذكر في السابق لكنه يفهم من السياق، وأمثلة ذلك كثيرة جداً في القرآن، وهذا يدل على أنه لا شك أن الضمير يرجع إلى غير مذكور، لكن هل هذا هو المراد هنا في قوله تعالى:قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً [سورة البقرة:38]؟

الأصل أن الضمير في قوله: اهْبِطُواْ مِنْهَا يرجع إلى ما سبق من ذكر الجنة وسكنى آدم فيها دون السماء، وإن كان القول بأنه الجنة أيضاً يتضمن ما ذكره ابن القيم وزيادة، لأن الجنة هي أصلاً في السماء، فيكون: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا أي من الجنة التي هي في السماء، لكن ابن القيم -رحمه الله- يريد ما هو أكثر من هذا، وهو أنه تم إخراجه من الجنة –كما في الجملة الأولى- وبقي في السماء وأنه الآن يؤمر بالهبوط من السماء إلى الأرض وليس من الجنة، إلا أن ظاهر الآيات يدل على أن الضمير يعود إلى الجنة في الآيتين، والله أعلم.

قوله: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً [سورة البقرة:38]: يعني آدم وإبليس وحواء، هذا هو الراجح من أقوال المفسرين.

وقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:38-39]، هذا الخطاب موجه لآدم وحواء وما دام آدم نبياً فالأصل أن يكون ذلك الخطاب متوجهاً للذرية، حيث بعث الله لهم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأنزل عليهم الكتب، وهذا له نظائر في القرآن، حيث يكون الحديث في بدايته عن شخص أو عن معنى أو عن جهة، ثم بعد ذلك تجد طرفه الآخر متحدثاً به عن قضية أخرى، وهذا يسمونه: الموصول لفظاً المفصول معنىً، وله أمثلة، وهو أنواع، فتارة يكون ذلك من قول أكثر من واحد.

ومن أمثلة ذلك: قول الله في مناظرة إبراهيم المذكورة في سورة الأنعام، لما خوفوه بآلهتهم قال لهم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۝ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [سورة الأنعام:81-83]، فقوله: الَّذِينَ آمَنُواْهل هو من قول إبراهيم –- أو من قول الله تعالى؟

ظاهر الكلام في تتابعه أنه من كلام إبراهيم، لكن من أهل العلم من يقول: انتهى كلام إبراهيم، فهذا كلام الله يقرر فيه ما ذكره إبراهيم، وهو أن الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82].

ويقول الله تعالى في قصة يوسف: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ۝ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:51-52]، فقوله تعالى: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِهل هذا من كلام امرأة العزيز، أم هو من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام؟

الكلام متصل، وامرأة العزيز هي التي تتحدث، فهل انقطع الكلام وصار الكلام الآن ليوسف: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52]؟

خذ مثالاً آخر: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [سورة النمل:34]، هذا كلام بلقيس ملكة اليمن، لكن آخر الآية: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَمع أنه متصل لكنه ليس من كلامها وإنما هو من كلام الله يقرر ما ذكرَته ويثبته.

المقصود أن هذه صور أو أمثلة للكلام المتصل الذي يكون ظاهره لقائل واحد وهو في الواقع لأكثر من قائل.

وهناك صور وأمثلة يكون فيها المُتَحدَّث عنه أكثر من موضوع، أو أكثر من معنى،  أو أكثر من جهة، أو أكثر من شخص.

ومن أمثلة ذلك آية الأعراف التي يقول الله فيها: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ هذا الجزء من الآية الكلام فيه عن آدم وحواء.

ثم يقول الله تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [سورة الأعراف:189].

ثم انظر ماذا يقول بعد ذلك: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [سورة الأعراف:190-191]، هل هذا الكلام عن آدم وحواء، أيصح أن يكون آدم نبياً ويشرك بالله؟

جاءت آثار أنه سمى ولده عبد الحارث، وأن الشيطان جاءهم، وقال لحواء: يخرج له قرن أيل ويشق بطنك، إلى آخر ذلك الكلام الذي لا يظن بآدم ﷺ، وإنما هذا الأسلوب في الكلام هو من المتصل لفظاً المفصول معنىً، وهو من النوع الثاني، حيث بدأ الحديث في الآية الأولى عن آدم وحواء، ثم انتقل الحديث عن الذرية في قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا أي: الأب والأم من الآدميين يقع فيهم من الإشراك أن يجعلا لله شركاء فيما يؤتيهما الله تعالى.

ومما يدل على أن المقصود بذلك ذرية آدم أنه ختم الآية بصيغة الجمع عند تنزيهه لنفسه حيث قال: فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة الأعراف:190]، ثم أرجع ضمير الجمع في استنكاره عليهم فقال:أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [سورة الأعراف:191].

إذن: ليس المقصود في هذا الكلام المتصل آدم وحواء، وإنما هذا الاتصال هو نوع آخر من الكلام المتصل لفظاً المنفصل معنىً، ومثل هذا قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:38].

فالأمر بالهبوط إلى الأرض لآدم وإبليس، وحواء تبع لآدم، وقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ خطاب لذرية آدم على ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. أخرجه الحاكم (3038) (ج 2 / ص 288) وابن أبي شيبة (31807) (ج 6 / ص 328) وصححه الذهبي في التلخيص.
  2. أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة - باب: فضل يوم الجمعة (854) (ج 2 / ص 585).
  3. أخرجه الحاكم (4002) (ج 2 / ص 594) وصححه الذهبي.

مواد ذات صلة