الأربعاء 18 / جمادى الأولى / 1446 - 20 / نوفمبر 2024
[26] من قوله تعالى "وإذ استسقى موسى لقومه" الآية 60 إلى قوله تعالى "إن الذين آمنوا والذين هادوا" الآية 62.
تاريخ النشر: ٢٩ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 4871
مرات الإستماع: 4333

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة:63-64].

يقول تعالى مذكراً بني إسرائيل ما أخد عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤوسهم ليُقروا بما عوهدوا عليه ويأخذوه بقوة وجزم وهمَّة وامتثال.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله تبارك تعالى هنا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ يعني واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم، والميثاق سبق الكلام عليه وأنه العهد الموثق، فالعهد الموثق يقال له: ميثاق.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ هذا الميثاق إما أن يكون للعمل بالتوراة، قال تعالى: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:63]، وذلك أن يأخذها آخذاً جاداً من غير تشهٍ ولا تذوق، ومن غير إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعض، قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] فمن لم يلتزم أحكام شرع الله وكان مضيعاً مفرطاً أو آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه لا يكون ممن أخذ به بقوة، وقد قال تعالى آمراً بأخذ الدين بقوة: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [سورة مريم:12] يعني بعزم وجد، والمراد الأمر بالاستقامة على أمر الله والتلقي عنه تلقياً كاملاً، والعمل بمرضاته من غير تضييع شيء من ذلك، فهذا هون الميثاق، والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: قد يكون هذا الميثاق الذي أخذ عنهم كان على أمر معين لم يذكر هنا. 

وعلى كل حال فالله أخذ عليهم الميثاق وأمرهم أن يأخذوا ما آتاهم بقوة، ومما يذكر من الأخبار في هذا ما يذكره المفسرون من أنهم أبوا أن يأخذوا التوراة وأن يعملوا بها، وطلبوا من موسى ﷺ أن يكلموا الله وأن يكلمهم مباشرة كما كلم موسى، يخاطبهم بالتوراة مباشرة وإلا فإنهم لا يؤمنون، فأخذتهم الصاعقة، ثم لما بعثوا تأبَّوا فرفع فوقهم الطور الجبل من أجل أخذها.

 كما قال تعالى: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأعراف:171].

يعني أنهم تأبَّوا عن أخذها فرفع فوقهم جبل الطور من أجل أن يتلقوها ويقبلوها ويأخذوها، فهم لم يؤمنوا إلا بهذه الطريقة، وعلى كل حال فالطور هو الجبل.

وبعضهم يقول: هو بالسريانية الجبل مطلقاً.

وبعضهم يقول: الطور هو الجبل الذي فيه شجر.

وبعضهم يقول: الطور المقصود به جبل معين، وهو الجبل الذي كلم الله عنده موسى، فتكون (أل) عهدية، أي الطور المعهود، وإن كان الطور يطلق على الجبل مطلقاً، لكن (أل) تكون للعهد لجبل معين، وبعضهم يقول: (أل) هنا ليست للعهد، وإنما هي المعرفة، و(أل) المعرفة هي التي تكون دالة على الجنس فحسب دون أن تعود إلى جبل دون جبل، وهذا أمر لا طائل تحته. 

فالمقصود أنهم لم يؤمنوا إلا برفع جبل فوق رؤوسهم، وما هو هذا الجبل هذا أمر ليس تحته طائل ولا يفيد، ولا يترتب عليه عمل، والعلم به لا ينفع، وبالتالي فالخوض في مثل هذه القضايا ينبغي الإعراض عنها، والله أعلم.

فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف، ونص على ذلك ابن عباس -ا- ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس وغير واحد، وهذا ظاهر.

وفي رواية عن ابن عباس -ا- الطور ما أنبت من الجبال وما لم ينبت فليس بطور، وقال الحسن في قوله: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:63]: يعني التوراة، وقال مجاهد: بِقُوَّةٍ بعمل ما فيه، وقال أبو العالية والربيع: وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ يقول: اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به.

قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ يعني أن يكون ذلك مذكوراً عندكم بقلوبكم فلا تحصل الغفلة، وبألسنتكم بتلاوتها وما أشبه ذلك، ويكون أيضاً مذكوراً لكم بأعمالكم وجوارحكم، فاذكر هنا يشمل هذه الأمور الثلاثة، يعني أن يقوموا بما ألزمهم الله به وبما ينبغي أن يقوموا به من هذه الجهة، فكل ذلك يطالبون به، بطرد الغفلة والعمل والتلاوة، اذكروا ما فيه ولا تضيعوه وتعرضوا عنه وتكونوا من الغافلين.

وقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ [سورة البقرة:64] يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه، فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [سورة البقرة:64] أي: بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة:64] بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.

وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:63] أي: من أجل أن تتحقق التقوى لكم، وإنما يكون ذلك بالعمل بالتوراة والإيمان بها قبل ذلك، وأن تكون أحكام الله وأوامره ونواهيه حاضرة في قلوبهم، وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني ما في الكتاب من أجل أن تحصل التقوى في قلوبكم، و(لعل) للتعليل إلا في موضع واحد.

يقول: ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ [سورة البقرة:64] أي من بعد هذا الميثاق، وأصل التولي أن يكون بالبدن، أي يدير الإنسان ظهره للشيء ويعرض عنه ببدنه، ولكنه يستعمل في هذا وفي غيره، فكل من ترك شيئاً وأعرض عنه ولم يتمسك به فإنه يكون قد تولى عنه.

ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ أي أعرضتم عن العمل بها والتزام أحكامها، وضيعتموها، جعلتموها وراءكم ظهرياً من بعد لك، والله تعالى أعلم.

فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [سورة البقرة:64] أي رحمة الله واقعة موجودة بأن لم يعجل لكم العقوبة، وكانت رحمته واسعة، وأصل الفضل هو الإفضال ولا شك أن رحمة الله بعباده هي من فضله، وفضل الله واسع، فهو لا يعاجل الناس بالعقاب، وإنما يرسل إليهم الرسل، وينزل إليهم الكتب، فكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يتتابعون على بني إسرائيل يسوسونهم.

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينََ ۝  فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:65-66].

يقول تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله، وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت، والقيام بأمره إذ كان مشروعاً لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت.

الشصوص هي تلك السُّنَّارات الحديدية المنثنية المدببة الرأس التي يصطاد فيها السمك.

والحبائل يعني الشباك.

والبرك بأن يحفر حفرة قريبة من الشاطئ يصل إليها الماء فتتساقط فيها الأسماك، فإذا سقط السمك بفعل الأمواج لا يستطيع أن يرجع مرة أخرى، وهذه البرك معروفة إلى اليوم إذ تجعل بطريقة معينة بحيث يسقط السمك ولا يستطيع الخروج منها، فيأتون وقد اجتمع في هذه الحفرة فيكون قريب المأخذ.

فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر، وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر، ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم، وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163] القصة بكمالها.

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] هؤلاء احتالوا بهذه الحيلة، حيث كان يحرم عليهم العمل في يوم السبت أياً كان، فابتلاهم الله بهذا الطمع، حيث صارت الحيتان في سائر أيام الأسبوع تغور في البحر وتبعد فيه فلا يصلون إليها، فإذا كان يوم السبت جاءت شُرَّعاً قريبةً منهم تتراءى لهم، سهلة الأخذ فذلك جعلهم يحتالون بهذه الحيلة، فوضعوا الشباك في يوم الجمعة فوقعت فيها الحيتان في يوم السبت، فهذه حيلة وهم يقولون: يوم السبت نحن وضعنا يداً على يد، ورجلاً على رجل، ولم نحرك ساكناً، ولم نصطد حوتاً، ولم نفعل شيئاً، أخذناها يوم الأحد، فكان ذلك من الحيلة، فالله يعلم ولا يخفى عليه شيء، فعاقبهم بهذه العقوبة الشديدة بأن مسخهم قردة فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فكانوا قردة، وهو مسخ حقيقي أي صاروا قردة حقيقيين.

وقوله: قِرَدَةً خَاسِئِينَ أي: صاغرين، فالخاسئ هو الصاغر المبعد، فالإبعاد والصغار يقال لصاحبه: خاسئ.

فهذا أصل في ذم الحيل، والرد على أصحابها أياً كانت هذه الحيل، وللأسف صار هذا كثيراً في زماننا هذا لا سيما في ما يسمى بالمعاملات المالية التي يسمون كثيرا ًمنها إسلامية، وهي لا تعدو أن تكون كما فعل هؤلاء أصحاب السبت حيث احتالوا على الله  بهذه الحيلة وسموا هذه المعاملات القرض الحسن أو القرض المبارك والتمويل المبارك، ومن صور ذلك أن يأتي إنسان يحتاج إلى مليون، فيقولون له: نحن نبيع لك حديد ويسجلون عليه حديد، ثم يقولون: بعناه لك بثمانمائة ألف وهو عليك أقساط بمليون، كل هذه اللفة الطويلة وهو لا يريد حديداً، ولا يفكر بالحديد، ولم يخطر في حياته أن يشتري حديداً، ولم ير الحديد..الخ.

وعلى كل حال فمثل هذا من الحيل.

ومن صور الحيل أن يقول له: أؤجر لك هذه السيارة تأجيراً منتهياً بالتمليك، فيحتالون على الناس بهذه الطريقة وهذا كله من هذا الباب.

 قوله تعالى: الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ [سورة البقرة:65] السبت المقصود به يوم السبت المعروف، وقيل له ذلك؛ لأن السبت يأتي بمعنى القطع وبعضهم يقول الراحة، ولا فرق بينهما؛ لأنه يوم ينقطعون فيه عن أعمالهم يستريحون فيه، فلا يجوز لهم العمل بشيء من أعمالهم الدنيوية في يوم السبت، يوم القطع ويوم الراحة.

ومن معاني يوم السبت أنه الفرس الذي لا يسبق، وعلى كل حال هو يوم انقطاعهم عن أعمالهم فهم يستريحون فيه، قال تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163]، فقوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ يعني يوم لا يتوقفون ولا ينقطعون عن عملهم يوم إجازتهم.

وقال العوفي في تفسيره: عن ابن عباس -ا: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] فجعل الله منهم القردة والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن المشيخة صاروا خنازير.

الله قال: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ لماذا يقال: إن البعض صاروا خنازير والبعض صاروا قردة؟ فما دام ظاهر القرآن أنهم صاروا قردة فمثل هذا الكلام لا يلتفت إليه، فالذي دل عليه القرآن أنهم صاروا قردة، فلا يؤتى بمثل هذه الأشياء، ولا تقبل، ما دامت لا دليل عليها..

كذلك قول من قال -وهو منقول عن أحد السلف وهو قول معروف مشهور لمجاهد- أن المسخ كان معنوياً ولم يكن حقيقياً، وهذا أبعد ما يكون، فالله قال لهم: كُونُواْ قِرَدَةً فكانوا قردة.

وأخبار بني إسرائيل في هذا كثيرة منها أن هذه القرية انقسمت إلى ثلاثة أقسام منهم الذين لم يخرجوا في صبيحة ذلك اليوم من مدينتهم، فبقيت أبوابها مقفلة، فتسوروا عليهم الذين أنكروا فنظروا فإذا هم قردة، ويزعمون أن الواحد منهم كان يعرف ابن عمه وقريبه فيأتي إليه ويشمه ويبكي، إلى غير ذلك مما ذكر من أخبار بني إسرائيل التي لا يعول عليها. 

فالمقصود أنهم كانوا قردة، وأخبر الله عن مصير الذين أنكروا، وسكت عن الذين لم ينكروا هل نجوا أم لم ينجوا كما سيأتي في سورة الأعراف إن شاء الله.

فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فصار القوم قردة تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالاً ونساء.

 وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قال: إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً ثم هلكوا.

معنى فواقاً أي المدة اليسيرة، كما تقول: فواق ناقة، يعني مقدار مدة حلب الناقة، أي مدة قصيرة، ولذلك يقولن: إنهم لم يعيشوا مدة طويلة، ويقولون: إن الذي يمسح لا يعيش مدة طويلة، وفي بعض الآثار أنه لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وأنه لا يأكل ولا يشرب ثم يموت، هكذا يقولون، وهذا الكلام لا دليل عليه لا في الكتاب ولا في السنة.

الذي ثبت عن النبي ﷺ أنه في أول الأمر -فيما يظهر والله أعلم- لم يطلعه الله على حقيقة تتعلق بالمسخ وأن أن الذين مسخوا لا نسل لهم، فلما رأى ﷺ الضب جعل يعد أصابعه بعود معه ولم يأكل منه، وذكر النبي ﷺ أنه يخشى أنه مما مسخ فهذا بالنسبة للضب، وكذلك الفأرة، لما ذكر النبي ﷺ أن أمة من بني إسرائيل فقدت لا يُعرف أين هي، قال: لا أراها إلا الفأر [1] وذكر أنها تقع على السمن ولا تقرب الحليب، لكن النبي ﷺ أطلعه الله بعد ذلك أنه لم يجعل لمسخ نسلاً، أي أنهم ينقرضون، لكن هل يبقون ثلاثة أيام فقط، وهل لا يأكلون ولا يشربون أم أنهم يعيشون حتى تنتهي أعمارهم التي جعلها الله لهم ثم يموتون بعد ذلك وينتهون؟

الله أعلم بهذا، لكن لا يتناسلون، ونحن نعرف أن الفأرة الآن ليست من ذرية أولئك اليهود الذين فقدوا، ونعرف أن هذا الضب ليس أجداده بشر، وأن القردة الموجودة الآن والخنازير ليست هذه أحفاد لليهود، إنما هي قردة حقيقية، فالقردة كانت موجودة قبل مسخ بني إسرائيل، وكذلك الخنازير.

إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً، ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل، وقال الضحاك عن ابن عباس -ا: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسلوا، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء.

وقوله تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً [سورة البقرة:66] أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم نَكَالاً.

جعل الله هذه القرية، وبعضهم يقول: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً أي القردة، يمسخ أهل الاعتداء إلى قردة، وهذا بعيد، وبعضهم يقول: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً يعني الحيتان جعلت سبباً للنكال بها وهذا أيضاً بعيد، وبعضهم يقول: الأمة التي مسخت جعلها الله نكالاً يعني عبرة وبعضهم يقول: القرية، وبعضهم يقول: العقوبة.

وعلى كل حال فالضمير في قوله: فَجَعَلْنَاهَا يمكن أن يرجع إلى القرية، ويمكن أن يرجع إلى العقوبة التي نزلت بها، ويمكن أن يرجع إلى تلك الأمة، وهذه الأمور الثلاثة بينها ملازمة، فالعقوبة نزلت بتلك الأمة فمن نظر في حالها اعتبر حيث جعلها الله عبرة، وكذلك أيضاً تلك العقوبة كانت عبرة.

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً [سورة البقرة:66] أي ما حل بتلك القرية أي ساكنيها من العقاب، والله تعالى أعلم.

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً يعني عقوبة، فالنكال هو الرجز، وأصله من النكل، والنكل هو القيد، كالقيد يكون في الدابة يمنعها من الانفلات، ونكالاً يعني عقوبة رادعة يعتبر بها الناس.

نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:66] يعني بعضهم يقول: نكالاً يعني للناس الذين عاصروها، وموعظة لمن جاء بعدهم ممن بلغهم الخبر، لكن الله يقول: نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فهي عبرة للجميع، ويقول: وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ فهي موعظة لأهل الإيمان.

نَكَالاً أي: عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [سورة النازعات:25].

وقوله تعالى: لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [سورة البقرة:66] أي: من القرى، قال ابن عباس -ا: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لمن حولها من القرى، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأحقاف:27]، فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم. 

ولهذا قال: وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ​​​​المراد بالموعظة ههنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل فليحذر المتقون صنيعهم؛ لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما روى الإمام أبو عبد الله بن بطة عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل[2] [وهذا إسناد جيد والله أعلم].

الموعظة هي بمعنى الأمر والنهي، وبعضهم يقول: الأمر والنهي المقرون بالترغيب أو الترهيب، وليس ذلك بلازم في كل الحالات، ولكنه غالباً يكون مقروناً بالترغيب والترهيب ولربما كان هذا هو الغالب في عرف الاستعمال للموعظة.

وقد تكون الموعظة بغير أمر ولا نهي فتكون بشيء يحصل ويحدث كما في هذه القصة التي أوردها الله لتكون موعظة.

وأنت تقول لغيرك فيما حصل له أو حصل لغيره: لعل في ذلك الموعظة، ويقال: العاقل من وعظ بغيره، يعني بما يحصل لغيره، وما يراه في غيره مما يحصل به العبرة، والله أعلم.

  1. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: خبير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال (3129) (ج 3 / ص 1203) ومسلم في  كتاب: الزهد والرقائق - باب: في الفأر وأنه مسخ (2997) (ج 4 / ص 2294).
  2. أخرجه ابن بطة كما قال السيوطي في الدر المنثور(ج 3/ص 592) وضعفه الألباني في غاية المرام برقم (11).

مواد ذات صلة