بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- حول الحروف المقطعة:
ومن هاهنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلامًا، فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها عبثًا ولا سدى؛ ومن قال من الجهلة: إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية، فقد أخطأ خطأً كبيرًا، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر، فإن صحَّ لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا، وقلنا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [سورة آل عمران: 7].
ولم يُجمِع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا الخلاف الكثير في هذه الحروف المقطعة، والأقوال التي قيلت في ذلك ليس في ذلك كله شيء عن رسول الله ﷺ وليس فيه إجماع، ومن ثَمَّ فإنه لا يمكن القطع بشيء من هذه التفسيرات، وأما ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن بعضهم من أنه لا بد أن تكون هذه وضعت لمعنى وأنه لا يمكن أن يكون في القرآن شيء من الألفاظ لمجرد التعبد، وليس له معنىً في نفسه أصلاً، فلا شك أن القرآن ليس فيه حشو، وقد سبق الكلام على هذا في درس أصول الفقه، قول صاحب المراقي:
................................. | ولم يكن في الوحي حشو يقع |
ولكن هذه المعاني عموماً إنما تكون في الألفاظ من حروف المعاني والكلمات، سواءً كانت من الأسماء أو من الأفعال، وأما الحروف –أعني المباني- فإنه ليس لها معنىً أصلاً في لغة العرب، فإذا عبر بها فإن هذا التعبير إنما يكون لأمر ما، أي: جيء بها لإيصال معنىً أراد المتكلم أن يصل إلى عباده.
فهذا الذي ذكره بعض أهل العلم -وهو قول كثير من المحققين- من أنها تشير إلى قضية الإعجاز، فهي لم تسق عبثاً، لكن ليس لها معنى في نفسها إلا أنها تشير إلى قضية الإعجاز، فهذا القول ليس فيه نسبة الحشو ِإلى القرآن، ولكن كلام أهل العلم على كل حال هو في الألفاظ التي وصفت من الأسماء والأفعال وحروف المعاني، وهذا هو كلام العرب، الكلام عند العرب: هو اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، وأما حروف التهجي فليست من هذه القسمة الثلاثة، وإنما هي حروف يركب منها كلام العرب الذي له معنى، فالعين (ع) إذا ركبت مع اللام (ل) مع الألف المقصورة (ى) صارت على، فصار لها معنى.
والزاي (ز) تركب مع الياء (ي) مع الدال (د) فتكون زيد، أي صارت اسماً، وهكذا، هذا هو المراد والله تعالى أعلم.
ولذلك حتى التشابه المطلق -كما أشرت بالأمس- لا يوجد في القرآن شيء من المتشابه المطلق من جهة المعاني، كل ما في القرآن فالأمة تعرف معناه ولو بعض الأمة وإن خفي على بعضهم، والتشابه في هذا الباب -أعني من جهة المعاني والتفسير- إنما هو تشابه نسبي، وليس تشابهاً مطلقاً، ومعنى تشابه نسبي أي أنه متشابه بالنسبة لبعض الأمة، لذا قال الله : فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج: 4]، وفي موضع آخر يقول: أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة السجدة: 5]، فهذا قد يلتبس على بعض الناس، ولكن من عرف معناه ولم يشكل عليه، لا يكون بالنسبة إليه من المتشابه، فهذا التفصيل في هذا المقام ينفي هذه الإشكالية، والله تعالى أعلم، وبالتالي نقول: لا يوجد في القرآن شيء لمجرد التعبد فقط أبداً، بل كل ما فيه من كلام فهو لمعنى.
من أهل العلم من يرى أن الحروف المقطعة لها معنىً في نفسها، إضافة إلى كونها تشير إلى قضية الإعجاز، فالذين قالوا: إنها تشير إلى قضية الإعجاز، منهم من قال: ليس لها معنى في نفسها، ومنهم من ذكر لها معنى.
فقيل: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكره فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.
وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه، ونصره أتمَّ نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المِّزِّي، وحكاه لي عن ابن تيمية.
قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن.
قال: وجاء منها على حرف واحد كقوله: ص [سورة ص: 1]، نَ [سورة القلم: 1]، ق [سورة ق: 1]، وحرفين مثل: حم [سورة غافر: 1]، وثلاثة مثل: ...
السور التي بُدئت بحرف واحد هي هذه الثلاث فقط، في سور، ن، وص، وق، والتي بدئت بحرفين هي قوله: حمفي عشر سور، والذي جاء على ثلاثة أحرف اثنا عشر سورة.
نحن حينما نلتمس العلة التي سيقت من أجلها الحروف المقطعة، نجد بعض الأمور التي لربما يستشف منها بعض العلل، فلا تكاد تذكر غالباً إلا ويذكر بعدها القرآن: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة: 1-2]، وفي آل عمران: الم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [سورة آل عمران: 1-3]، هذا في عامة المواضع، إلا أنه يشكل على ذلك بعض السور، وقد ذكرناها، فمن ذلك سورة مريم: كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [سورة مريم: 1-2]، فبعض أهل العلم حاول أن يربط ذلك بالكتاب فقال: ذكرت هنا الرحمة، ولا شك أن الرحمة تشمل الوحي، فإن الوحي رحمة من الله للخلق.
والسورة الثانية العنكبوت: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [سورة العنكبوت: 1-2]، فذكر في سورة العنكبوت قصصاً، وقالوا: القصص هو من خصائص القرآن، ومن الموضوعات التي تدور فيه التوحيد والأحكام والقصص، فالحاصل أن هذه القصص إنما هي من قبيل الوحي كما قال في سورة يوسف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [سورة يوسف: 3]، فالحاصل أنهم التمسوا هذا التوجيه.
والسورة الثالثة سورة الروم الم غُلِبَتِ الرُّومُ [سورة الروم: 1-2]، فقالوا: هذا فيه إخبار عن الأمور الغيبية، فهو أخبر عن أمر من الغيب النسبي وهو الهزيمة التي وقعت للروم في مواجهتهم مع الفرس ولم يعلم بها المسلمون بعد في مكة، وأخبرهم عن غيب مطلق مستقبل وهو أنها ستكون الكرة لهم، وسينتصرون في بضع سنين، فقالوا: هذا الإخبار عن غيبيات ولا شك أنه من الوحي، وبالتالي فالقرآن أو الوحي مذكور بعد جميع الحروف المقطعة، ولكن هذا فيه ما فيه، ويكفي أن الغالب في هذه المواضع إنما يذكر فيه القرآن، فهذا قد يستشف منه ما ذكر من قضية التحدي بهذه الحروف، أي التحدي بهذا القرآن، فهذا القرآن مكون من هذه الحروف التي تركبون منها الكلام، ومن ثم فأتوا بقرآن مثل هذا.
على كل حال هناك أقوال شاذة يقطع تماماً ببطلانها مثل الذين قالوا بأن هذه الحروف تفسير بحساب الجُمَّل، وكذلك قول من قال بأن هذه الحروف ترمز إلى أشياء تتعلق بالسورة، وبدؤوا يتكلفون في تركيب السورة بناءً على هذه الحروف في أولها، وأبعد من هذا كله، وأكثر هذه الأقوال شذوذاً وانحرافاً هو قول بعض الجهلة: إن هذه تفسر على أنها من الحروف الهيكروليفية -هذه باللغة المصرية- يقول: أصلاً اللغة المصرية هي أصل اللغة العربية، فيفسر القرآن بهذه اللغة القديمة المنقرضة -إن صحت- فيأتي بمعان عجيبة غاية العجب، إذ لا يعقل ولا يمكن أن القرآن يخاطب الناس بهذا الغموض بلغة أخرى.
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة: 2] الكتاب: القرآن، والريب: الشك.
قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس -ا، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود -، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ: لاَ رَيْبَ فِيهِ: لا شك فيه.
على كل حال السلف يفسرون اللفظة بما يقرِّب المعنى، فلا تكاد تجد في تفسيرات السلف التدقيق والتنقير بالعناية بذكر المعاني التكميلية، والاشتغال بالفروق بين الألفاظ بناءً على ذلك، وإنما يفسرونها تفسيراً يقرِّب معناها فحسب، ولهذا فهم يفسرون الريب بالشك.
وعلى قول من يقول بوجود الترادف في اللغة وفي القرآن يمكن أن يكون هذا منه، والذين يفرقون ويقولون: لا يوجد في القرآن مترادف، يقولون: الريب غير الشك، وإن كان يشترك معه في المعنى الأصلي وهو وجود التردد، لكن الفرق بين الريب وبين الشك هو أن الريب شكٌّ مع قلق، وبعضهم يقول: شكٌّ مع وجود تهمة.
وابن القيم -رحمه الله- يذكر بين الشك والريب سبعة أوجه من الفروقات، في المعنى وفي الاستعمال، ما تقول: أنا والله مرتاب هل الشمس خرجت الآن وإلا ما خرجت، لكن تقول: أنا أشك الآن في خروج الشمس، فلو أن إنساناً دخل في مكان فهذا الدخول قد يكون مريباً فيبعث على القلق أو التهمة، إذ هو ليس مجرد شك.
فعلى كل حال إذا أردنا أن نبحث عن المعاني الزائدة عن المعنى الأصلي، يمكن أن نقول: إن ثمة فرقاً بين الريب والشك، فالله يقول: لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة: 2]، يعني ليس فيه شك أو لا يلحقه شك أو تهمة، أو لا يبعث على القلق هل هو حق أو ليس بحق.
المقصود أن قوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك أنه موحى من الله ، هذا هو المعنى المتبادر، ومما يؤخذ من هذه الآية وما تحتمله أيضاً، ويمكن أن يجتمع ذلك جميعاً فتفسر به أنه ليس فيه ريب أنه من عند الله، ولا يتضمن أموراً تبعث على الريب من وجود تناقضات كما في كتب المتقدمين التي حرفت، فالقرآن ليس فيه شيء يبعث على الريب لا في ألفاظه ولا في معانيه.
وأيضاً قوله -تبارك وتعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ هذا نفي، ومثل هذا النفي إذا ورد في أوصاف الله أو أوصاف الرسول ﷺ أو أصاف القرآن فإن القاعدة أنه يتضمن ثبوت كمال ضده، فإذا قال: لا ريب فيه فهذا يتضمن ثبوت معنىً وهو أنه مشتمل أو متضمن لكمال اليقين.
وفي قوله -تبارك وتعالى: لَا رَيْبَ فِيهِ نفي الريب عنه هذا لا شك أنه واقع موقعه، وأن ريب من ارتاب إنما جاءه إما لفساد قصده، أو لقصور فهمه، وإلا فالقرآن من حيث هو ليس فيه ما يبعث على الريب، ولا ريب أيضاً أنه من عند الله موحى، وأدلة ذلك كثيرة جداً، ويكفي الإعجاز.
وليس معنى هذا أنه لا يرتاب فيه أحد، فالله قال: لاَ رَيْبَ فِيهِ، والذين ارتابوا إنما أتوا من فساد قصدهم، أو من فساد تصورهم، وقصور فهمهم وعلمهم، فهو لا ريب فيه وإن ارتاب فيه بعض الناس.
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد، وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا.
ومعنى الكلام: أن هذا الكتاب -وهو القرآن- لا شك فيه أنه نزل من عند الله، كما قال تعالى في السجدة: الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [سورة السجدة: 1-2].
هذه الآية في سورة السجدة ترجح أحد الموضعين في الوقف في الآية، فمن المعلوم أن قوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة، إما أن يكون الوقف على رَيْبَ فتقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وإما أن تقف على فِيهِ هكذا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، ويختلف المعنى بهذا الاعتبار.
فهذه الآية في سورة السجدة لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ المعنى واضح جداً فيها حيث نفى عنه الريب، فيكون الوقف على قوله: فِيهِ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ، فنفى عنه الريب، ثم وصفه بأنه هدى للمتقين، وهذا أبلغ من الوقوف على قوله: لاَ رَيْبَ، فكأنه يقول: ذلك الكتاب لا ريب ولا شك، فيه هدى للمتقين، فإن وصف القرآن بأنه هدى أبلغ من قولك: في القرآن هدى؛ لأن القرآن كله هدى، فهذا أبلغ من الأول، وبالتالي يكون الوقف على قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ أحسن من الوقف على قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ، لكن لا يقال: إن الوقف على الثانية منكر وينكر على صاحبه وأنه أفسد المعنى، بل هو محتمل، ومعلوم أن كثيراً من قضايا الوقف هذه إنما مرجعها إلى النظر والاجتهاد بحسب ما يلوح من المعنى.
على كل حال هو خبر لا ريب فيه يمكن أن يقال: إنه يتضمن النهي، أي لا ترتابوا فيه، مثل قوله تعالى: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] هذا خبر يتضمن الأمر، بمعنى أن الله يعلمهم كيف يحمدونه، قال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ [سورة النمل:59]، فالحاصل أن الله علمهم بذلك من أجل أن يحمدوه، وقل مثل هذا أيضاً في مواضع أخرى في كتاب الله كقوله في سورة البقرة أيضاً: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ [سورة البقرة:272]، فلا شك أن الصيغة صيغة خبر، وهو مع هذا يتضمن طلب الإخلاص، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الآية تدل على اشتراط الإخلاص وطلبه، فهي على سبيل الشرط، وإن لم تكن الصيغة صيغة طلب لذلك.
ومن القراء من يقف على قوله تعالى: لاَ رَيْبَ ويبتدئ بقوله تعالى: فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] والوقف على قوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]، أولى للآية التي ذكرناها؛ ولأنه يصير قوله تعالى: هُدًى صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: فِيهِ هُدًى.
وهُدًى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.
طبعاً المرفوع لا تظهر علامة الرفع عليه هنا؛ لأن آخره حرف علة، فالألف من حروف العلة لا تظهر عليه الضمة، ولا الفتحة، ولا الكسرة، لا تظهر عليه حركات الإعراب للتعذر.
هذا جواب لسؤال هو: لماذا خص الله الهدى بالمتقين مع أن القرآن هدىً عام للأحمر والأسود، فلماذا خصه بالمتقين كما قال الله : يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة المائدة:16]، فالقاعدة في هذا الباب أن الشيء قد يكون عاماً فيصح أن يخص ببعض أفراده لكونهم المنتفعين به، حيث يصح في كلام العرب أن يخص الشيء العام في بعض الأفراد؛ لأنهم هم المنتفعين به مع أنه عام، فالقرآن هدى لجميع الخلق.
وعلى كل حال جاء وصف القرآن بهذا، ووصف القرآن بهذا، وجاء فيه التفصيل بأنه هدىً للمتقين، وأن الذين لا يؤمنون يكون سبباً لعماهم، فإذا أنزلت السورة وقع لهم التخبط والعمى فيقولون: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [سورة المدثر:31]، ويقولون: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [سورة التوبة:124]، ويقولون: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16]، إذا خرجوا من عند النبي ﷺ فهؤلاء أهل النفاق لا يفهمون، ويكون ذلك سبباً لمزيد من غوايتهم فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:125] نسأل الله العافية.
يعني أن القرآن موعظة للجميع وشفاء لما في الصدور، وهو هدىً أيضاً، ولكن لما كان الذي يهتدي به هم أهل الإيمان خصهم بذلك، وإلا فهو عين الهدى، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ، ومن ثَمَّ فإن وصفه بالهدى بهذا الأسلوب لا شك أنه يدل على أن القرآن مشتمل على حقيقة الهدى في ألفاظه ومعانيه بكل ما يمكن أن تحتمله لفظة هُدًى.
قول الله : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ: ما قال: ننزل من القرآن ما هو دواء؛ لأن الدواء قد يتخلف معه البرء وقد يحصل عكس المقصود من تعاطيه، لكن الله قال: شفاء، وكذلك في العسل والنحل قال الله عنه: يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ [سورة النحل: 69]، ما قال: فيه دواء للناس.
على كل حال هدىً يعني نوراً وغير ذلك من المعاني التي يقرب بها هذا، والهدى لا يخفى، لكن هل هذا الهدى هنا المراد به هداية التوفيق، أو هداية الإرشاد، أو أنه مشتمل، أو أن المراد بذلك الأمران؟ كل ذلك محتمل، فبعض أهل العلم يقولون: هدىً للمتقين، المراد هنا هداية التوفيق، وذلك أنه خصهم به، فهم الذين تحققت لهم الهداية، وبعضهم يقول: المراد به هداية الإرشاد، لكن لما انتفعوا به خصوا بذلك، وعلى كل حال كل هذا يصح في تفسير الآية، فيقال: القرآن هدى للمتقين، فهو يبصرهم بالحق وبكل ما يحتاجون إليه مما تكون به سعادتهم ويرشدهم إلى كل خير، فهو إرشاد ودلالة بهذا الاعتبار كما أنه هداية بمعنى الإرشاد ودلالة يدل على الله لعموم الخلق، يعرفهم بالله وبأسمائه وصفاته، وما يليق به، يأمرهم بتوحيده، فهذا كله من هداية الإرشاد والدلالة، وهو هدى للمتقين الذين آمنوا بالله ، واهتدوا بالقرآن وانتفعوا به، ولا شك أن هذه الهداية التوفيقية حصلت لمثل هؤلاء.
لكن يبقى سؤال آخر، وهو أن الله قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] هذا وصف للقرآن كله أنه هدى للمتقين، فهل معنى هذا أنه قبل أن ينزل عليهم كانوا متقين؟
قال الله عن الكتاب: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، فهو وصف هذا الكتاب بكامله أنه هدى قبل أن ينزل، ولما نزل كان هدى للمتحققين بالتقوى المتصفين بها.
بعض أهل العلم قالوا: إن الكتاب المقصود به التوراة أو الإنجيل، حيث قالوا الله يقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ وذلك إشارة للبعيد والإشارة للقريب تكون بـ(هؤلاء) إذن: ليس المقصود بهم الذين نزل عليهم القرآن وإنما المقصود بالكتاب التوراة أو الإنجيل هدىً للمتقين، لكن هذا القول بعيد جداً، بل هو وصف لهذا القرآن.
والذي جعلهم يقولون هذا القول –وهو موجود في كتب التفسير- أمور:
الأول: أن الكتاب يطلق على جميع القرآن ويصح أن يطلق على بعضه مما نزل منه، كما يصح أيضاً أن ينزل ما لم ينزل منزلة ما نزل بأنه متحقق الوقوع والنزول، فيسمى الجميع -ما نزل وما لم ينزل- بهذا الاعتبار يسمى الكتاب.
الثاني: أن الله عليم حكيم، يعلم حال الخلق، فهؤلاء الذين وصفوا بالتقوى في قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] يوفقهم الله ويهديهم لما علم من صلاح قلوبهم وصحة مقاصدهم، فيهديهم، وهان عليه تعالى أقوام وعلم فساد حالهم وقلوبهم وما انطوت عليه نفوسهم فأذلهم، فلم ينتفعوا بهذا القرآن، ولم يدخلوا في الإسلام أصلاً.
ونجد أيضاً أن هذه القرآن يشتمل على ألوان الهدايات مما فصله الله في بيان الأحكام التي نزلت تباعاً وبيان حقائق الإيمان وما إلى ذلك، فهذا كله لا شك أنه هدايات لمن دخلوا في الإسلام، وهم الذين يستحقون الوصف المذكور وهو التقوى، والمقصود من تحقق التقوى هنا هو الدخول في الإسلام وإلا فالتقوى تعرفون معناها وما جاء فيها.
عن ابن عباس -ا- قال: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ قال: هم المؤمنون الذين يتَّقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي.
وعنه للمتقين قال: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.
وقال قتادة لِّلْمُتَّقِينَ هم الذين نعتهم الله بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [سورة البقرة:3] الآية والتي بعدها، واختيار ابن جرير: أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال.
على كل حال هو ذكر شيئاً من أبرز صفاتهم بعده الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3]، كما يقول الله في صفات أهل الإيمان، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63] وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[سورة المؤمنون:1، 2] إلى آخره مع أن هذا ليس حصراً لأوصافهم، وإنما يذكر طرفاً من أوصافهم أو قد يذكر أبرز وأهم الأوصاف وهكذا، وهذا لا يشكل على كل حال؛ فكل هذه الأقوال التي قيلت لا منافاة بينها ولا نحتاج إلى شيء من الترجيح، فنقول: هي أقوال صحيحة، ولا شك أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وهم الموصوفون بكل ما ذكر.
على كل حال هذه الرواية معروف ما فيها من الضعف، وقضايا التصحيح والتضعيف هي من القضايا الاجتهادية، وبالتالي لا تضيق ذرعاً إذا قال لك أحد: بأنه يشترط أن لا يضع في الكتاب إلا روايات صحيحة، ثم تجد بعض الروايات يقال عنها: إنها ضعيفة؛ لأن هذا كله من قبيل الاجتهاد، فالناس يجتهدون، وقد يختلفون في بعض أصول وقواعد الجرح والتعديل، أو بعض قضايا المصطلح ويقع بينهم التفاوت حتى في تطبيقها.
فعلى كل حال المعنى الذي ذكر في قوله: لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لا شك أن هذه من أرفع مراتب التقوى، وهي الورع عن الأمور المشتبهة، والورع عن الأمور المكروهة، والورع عن التوسع في الدنيا مما يقعده عن بلوغ المقامات العالية في منازل العبودية، كل هذه الأنواع الثلاثة في الورع -يعني غير ترك الحرام- لا شك أنها إذا تحققت توصل العبد إلى درجة عالية في التقوى، يترك ما لا بأس به من التوسع في المآكل ونحو ذلك، وكان هذا هو مذهب عمر وكان يتأول قوله -تبارك وتعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [سورة الأحقاف:20] وتعلمون تنزه بعض الصحابة عن بعض الأشياء من اللباس الفاخر جداً، وكل إنسان في هذا الباب بحسبه.
ولذلك لا يليق بالعالم أن يسكن القصور، لكن هذا قد يصلح لبعض العامة من أهل السعة والغنى أما العالم لا يصلح له هذا، وقد لا يصلح له أن يركب المراكب الفخمة جداً التي تنشد إليها أنظار الناس؛ لأن هذا قد يكون نقصاً في حقه، مع أن العامة يترفعون بمثل هذه الأمور ويكملون نقصهم بمثل هذا البهرج، أما العالم فلا، وكذلك قد لا يصلح للعالم أن يلبس فاخر الثياب ونفيس الثياب ذا الثمن الغالي جداً، لكنه يلبس اللباس النظيف المعتدل الذي يليق بمثله، وهكذا، لكل أحد ما يلائمه ويناسبه، فقد يكون هذا زيناً في حق أحد، وشيناً في حق آخرين.
ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله ، قال الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [سورة القصص:56]، وقال: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [سورة البقرة:272]، وقال: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ [سورة الأعراف:186]، وقال: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [سورة الكهف:17]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52]، وقال: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [سورة الرعد:7]، وقال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [سورة فصلت:17].
وجه الاستشهاد بهذه الآية: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ على أنها هداية إرشاد؛ لأنها لو كانت هداية توفيق لكان لا بد أن يكونوا قد دخلوا في الإيمان؛ لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، لكنهم ما اهتدوا، بل استحبوا العمى على الهدى فبقوا على الكفر فهي هداية إرشاد، فمعنى هديناهم أي بينا لهم الحق من الباطل، فآثروا الباطل.
وهنا مسألة وهي أن كل هداية مثبتة للنبي ﷺ فهي هداية إرشاد، وكل هداية منفية عنه فهي هداية التوفيق.
بل هذا هو قول عامة أهل العلم من السلف والخلف، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ: أي بينا له طريق الخير من طريق الشر، وأما القول الآخر في الآية أي: هديناه الثديين حينما يخرج من بطن أمه فيلتقم الثدي فهذا القول في الآية بعيد ولا يتبادر، وإن كان الله قد هدى الرضيع إلى هذا، لكن هذه الهداية وهداية المخلوقات عموماً لما تقوم به معائشها ومصالحها كلها تسمى هداية فطرية.
التقوى على وزن فعلى، وأصل مادة التقوى من الناحية التصريفية وقي، فقول الحافظ ابن كثير: وقوى لأنها أحد أطوار التصريف، فالتصريف يمر بأكثر من طور فيما يعللون به في الإبدال، فهي وقي فأولها حرف علة، وآخرها حرف علة، فهي معتلة الأول، ومعتلة الآخر، فأبدل حرف العلة الأول، وأبدل حرف العلة الأخير فصارت بهذا الاعتبار تقوى، يعني تستطيع أن تقول: إن المراحل وقي فأبدل الأول تاء، وصارت تقي، وحتى تعرف أن ابن كثير -رحمه الله- ما أخطا فبدلاً من أن تقول: أبدل الأول قل: أبدل الأخير، أي أبدلت الواو ألفاً، فالذي ذكره ابن كثير يمكن أن تكون المرحلة الوسطى في أطوار التصريف.
وقد قيل: إن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال بلى، قال: فما عملت قال: شمرت واجتهدت قال: فذلك التقوى.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3] قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الإيمان التصديق.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس -ا: يُؤْمِنُونَ: يصدقون وقال معمر عن الزهري: الإيمان العمل وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: يُؤْمِنُونَ: يخشون.
هذه ثلاثة أقوال في تفسير الإيمان، الأول فسره بالتصديق، وهذا تجده في كثير من عبارات السلف، ومقصودهم بذلك هو بيان معنى الإيمان إذا ذكر مع العمل، أو إذا ربط بأمر يتعلق بالاعتقاد فقط.
فمثلاً قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: هل يتأتى فيها العمل هنا؟ يعني هل يعمل بالغيب؟ وبمعنى آخر: هل الإيمان بالغيب هنا يكون عملاً؟ لا يكون عملاً وإنما يكون مجرد التصديق.
نحن ذكرنا من قبل أن السلف في التفسير يقربون المعنى، أي يذكر عبارة قريبة تقرب لك المعنى، فإذا جئت على طريقة التدقيق في التفسير وأردت أن تبين المعاني التكميلية في كل لفظة وأنه لا يوجد ترادف فستقول: لا يصح تفسير الإيمان بالتصديق، كما يقول بعض أهل العلم من أهل اللغة ومن بعض المتأخرين، ومنهم شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في كتابه الإيمان الكبير حيث ذكر سبعة فروق بين الإيمان والتصديق، ومثل ما قال: ابن القيم في الريب والشك حيث ذكر سبعة فروق بينهما في اللغة، وقال: لا يصح تفسير الإيمان بالتصديق، مع أن المقصود هنا تعريفه لغة لا شرعاً.
المهم أن السلف يقربون المعنى فيعبرون بعبارة قريبة، كما فسروا الريب بالشك، وهنا الإيمان لغة هو التصديق، فلا يشكل عليكم هذا مع كلام شيخ الإسلام فليس بينها تعارض، وهكذا من فهم طريقة السلف يقول: ليس هناك تعارض؛ لأنهم لا يعمدون إلى هذه التدقيقات في التفسير بمراعاة المعاني التكميلية، وإنما يقرب لك المعنى فقط.
على كل حال الإيمان إذا ذكر معناه في اللغة فإنهم يفسرونه في بعض الأحيان بالتصديق، وإذا أردت أن تدقق أكثر يمكن أن تقول: هو الإقرار أو هو التصديق الانقيادي، وهذا ما يتعلق بالقلب، فإنه إذا قيل: الإيمان هو تصديق الجنان، فتصديق الجنان معناه إقرار القلب وانقياده، وإلا فمجرد التصديق لا يكفي، بل لا بد من الإضافة إلى ذلك الإيمان في حقيقته الشرعية وأنه قول وعمل، فهنا القضية تعلقت بالغيب، فـيُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3] يعني يصدقون به.
المعنى الثاني: فسر الإيمان بالعمل، ويكون ذلك من تفسيره ببعض ما تركب منه الإيمان وهو العمل، ولا شك أن العمل ركن من أركان الإيمان، فهو يتركب من تصديق اللسان والجنان والعمل بالجوارح، وكونه فسره بذكر أحد أركانه منها فلا بأس أن يعبر عن الشيء بأحد أركانه كما سبق في الصلاة أنها قراءة والحج عرفة، وما أشبه ذلك، فهذا لا إشكال.
وفسر بعض السلف الإيمان بالغيب بأنه الخشية، لكن المعنى المتبادر والمشهور والذي قاله عامة أهل العلم من السلف والخلف في قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يؤمنون بالأمور الغيبية من الإيمان بالله والملائكة والجن، وغير ذلك سواءً كان من الغيب المطلق أو الغيب النسبي.
النبي ﷺ بالنسبة لنا غيب؛ فنحن لم نر النبي ﷺ لكنه بالنسبة للصحابة ليس من أمور الغيب، فالمؤمن بالغيب هو الذي يؤمن بهذه الحقائق التي لم يشاهدها، جيد، وهذا هو المعنى المشهور ابتداءً من الإيمان بالله.
والمعنى الثاني: لـيُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أن ذلك يراد به الذي يؤمن في حال الغيب، أي في حال خلوته وانفراده، كما أنه أظهر الإيمان جلوة أمام الناس، فهو في الظاهر مؤمن، فكذلك أيضاً في حال الغيب مؤمن، وليس ممن قال الله عنهم: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ [سورة البقرة:14، فهؤلاء ليسوا على الإيمان في حال الخفاء حينما يغيبون على الأنظار، فيكون على هذا التفسير يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي: في حال غيابهم عن أنظار الناس، وهذا المعنى كما قلنا ذكره بعض السلف، لكن الأول أرجح وهو المتبادر، وسواءً فسرناه بهذا أو بالمعنى الأول المشهور فإن الإيمان بالغيب كالإيمان بالله واليوم يورث الخشية؛ لأن من مقتضياته ولوازمه الخشية، وإذا فسرناه بالمعنى الآخر فهو يستحضر رقابة الله عليه، وأن الله يراه ويشاهده ويطلع على أحواله فهذا يورث الخشية، ويكون هذا من قبيل التفسير باللازم، والسلف قد يفسرون باللازم، وهذا مثال عليه، فالتفسير هذا ليس بخطأ، وإنما يقال: هو من قبيل التفسير باللازم، والكلام قد يفسر بالمطابق، أو بالتضمن أو باللازم، أو بالإشارة التي هي من أنواع الدلالة المعروفة.
إذن: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ كما قال ابن مسعود -: "العلم الخشية" فهو فسر العلم بالخشية، مع أن العلم هو إدراك المعلوم على ما هو به على حقيقته؛ لأن العلم ما أورث الخشية، وكفى بخشية الله علماً.
توجيه ابن كثير هنا يختلف عما ذكرت بعض الشيء، فلا شك أن الخشية هي جزء من عمل القلب؛ لأن الإيمان قول القلب وهو تصديقه وانقياده وإقراره، وعمل القلب مثل الخشية والتوكل والمحبة والرجاء، وما أشبه ذلك، فهي جزء من الإيمان، فهو هنا فسر الإيمان بجزء منه.
يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: على هذا التفسير يُؤْمِنُ بِاللّهِ يعني يصدق بالله، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: يصدقهم، وعداه باللام هنا، تقول: صدق له ويعدى بنفسه فتقول: صدقه، وهل آمن يعدى بنفسه فتقول: آمنه؟ لا، بل تقول: آمن له كما قال تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [سورة يوسف:17]، فتقول: آمن به، وصدق به، وصدقه، فهذه من الفروقات في الاستعمال بين الإيمان والتصديق.
ومن الفروقات أن الإيمان فيه معنى الأمن، ولا يوجد هذا في معنى التصديق، والإيمان لا يستعمل في كل حال كما يستعمل به التصديق، فلا تقول مثلاً أنا مؤمن الآن أن الشمس طالعة، لكن تقول: أنا مصدق أن الشمس طالعة؛ والسبب في ذك أن الإيمان يكون في الأمور التي من شأنها أن تخفى وتكون غائبة.
هذا هو الصواب، وأما من يفسرون الإيمان بأنه مجرد الإقرار أو التصديق كالجهمية فإن مثل هذا لم يقل به أحد من السلف إطلاقاً، وإنما غاية ما قالوا في معناه اللغوي أو حينما يذكر معه العمل، فيكون الإيمان المقصود به ما يرجع إلى القلب من الإقرار والتصديق، فأما تفسير الإيمان الشرعي بأنه الإقرار أو التصديق أو نحو هذا فهذا لم يقل به أحد من السلف.
وهو يزيد وينقص، وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ [سورة الملك:12] وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [سورة ق:33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [سورة فاطر:28]، وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد.
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3]، قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث فهذا غيب كله وكذا قال قتادة بن دعامة.
وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي ﷺ وما سبقونا به فقال عبد الله: "إن أمر محمد ﷺ كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب".
يقصد ابن مسعود أن الذين جاؤوا من بعد يكون النبي ﷺ بالنسبة لهم من أمور الغيب، فيدخل في قوله بالنسبة لنا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الإيمان بالنبي ﷺ، ولذلك الغيب فيه غيب ماض، وفيه غيب حاضر مما لم نطلع عليه، وهناك غيب مستقبل، فلو قلت لك الآن في هذه اللحظة: ما الذي يدور خارج هذا المكان، أو ماذا يوجد خلف هذا المبنى ستقول: لا أدري؛ لأن هذه من أمور الغيب، وكذلك لو قيل لك: ما الذي يجري في البلد الفلاني؟ ستقول: الله أعلم، وبالنسبة للغيب المطلق فهو المستقبل.
الرواية هذه ثابتة معروفة مشهورة عن ابن مسعود وجاء في هذا المعنى أيضاً بعض المرويات عن غير ابن مسعود.
أبو جمعة من الصحابة اسمه حبيب بن سباع، وهذا الحديث جاء من حديث أبي جمعة وجاء أيضاً عن غيره، وهو ثابت عن النبي ﷺ سواءً كان ذلك في حديث أبي جمعة هذا الذي أقل أحواله أنه حسن، أو في غيره مما هو أصح منه، وهذا الحديث مع حديث: إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم[3] فيهما سؤال معروف وهو: هل هذا يدل على أن أحداً بعد أصحاب النبي ﷺ يمكن أن يكون فوقهم؟
هذه مسألة معروفة، الجمهور على أن هذا لا يمكن ولا يتأتى، ويحتجون بأدلة منها: قوله ﷺ: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه[4] ومنها قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [سورة التوبة:100].
وبعض أهل العلم يرى أن ذلك ممكن في غير أهل السبق، والفضل من الصحابة كأهل بدر وبيعة الرضوان، لكن مثل بعض مسلمة الفتح ومن جاء بعضهم، أو الأعراب أو غيرهم ممن أسلم في زمن النبي ﷺ يقولون: هذا يمكن، وهذا قول معروف لابن عبد البر، ويحتجون لهذا القول بأدلة منها هذان الحديثان.
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: بأن كبار الصحابة وأهل بدر وبيعة الرضوان لا يبلغ أحد مرتبتهم، وأما من عدا هؤلاء فيمكن أن يأتي بعض الأفراد ممن بعدهم من هو أفضل منهم، لكنه يبقى شيء واحد لا يبلغهم فيه وهو مرتبة شرف الصحبة، فهذا لا يمكن أن يدرك، وأما القرب من الله أو العلم، أو العبادة والبذل والنصح لله ولرسوله ﷺ وما أشبه ذلك فيرى أنه يمكن أن يأتي بعض الأفراد ممن جاء بعدهم ممن يفوق آحاد الصحابة من مسلمة الفتح أو الأعراب أو غيرهم.
وهذا كله فيه قاعدة معروفة ذكرها القرافي في الفروق، وذكرها غيره تحل شيئاً من الإشكال في هذا الباب وفي غيره من الأبواب وهي أن المزية لا تقتضي الأفضلية، إلا أن هذه القاعدة يستعملها كل طرف هنا في المسألة فالذين يقولون: يمكن أن يأتي بعض الأفراد أفضل، يقولون: الصحابة لهم شرف الصحبة، والمزية لا تقتضي الأفضلية يعني بإطلاق، فهذا لا يلحقهم أحد فيها، لكن يمكن يكون أفضل منهم في الأشياء الأخرى، فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
والذين يقولون: لا يمكن أن يلحقهم أحد مطلقاً فقد حصلوا هذا الشرف العظيم، ولا يمكن أن يكون أحد بعدهم أفضل منهم بحال من الأحوال، وإن جاء بعض الناس بعدهم وهو في غاية الاجتهاد أو العبادة ممن قال النبي ﷺ أن لهم أجر خمسين، أو كما ورد هنا في حديث أبي جمعة يقولون: هذه مزية للمتأخرين، والمزية لا تقتضي الأفضلية.
ولا شك أن ذكر الأجرين لا يقتضي الأفضلية مطلقاً، وذلك مثل حديث: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران[5]، فالذي يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجر على القراءة وأجر على التتعتع لكنه ليس أفضل من الماهر الذي مع السفرة الكرام البررة، مع أن ذاك لم يذكر له أجران.
كذلك ما ورد من الذين يؤتون أجرهم مرتين في قوله ﷺ: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي ﷺ فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران..[6]الحديث، فالرجل الذي كان على دين أهل الكتاب ثم أسلم له أجران لكن لا يمكن أن يكون أفضل من أبي بكر الصديق الذي لم يكن على دين أهل الكتاب أبداً، فالمزية لا تقتضي الأفضلية، ولا تقتضي الفضل مطلقاً، فأجر أبي بكر الصديق أعظم منه، فقد يكون الشيء أعظم، وقد يكون الشيء كما سبق على أجرين أو ثلاثة أو نحو هذا.
ومثل هذا أيضاً الرجل الذي أدى حق الله وحق سيده، وأشباه ذلك، فهؤلاء يقال أنهم يؤتون أجرهم مضاعفاً أو نحو هذا لكن لا يعني ذلك أنهم أفضل من غيرهم مطلقاً؛ فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
كذلك نقول: إنّ عليَّ بن أبي طالب هو زوج فاطمة الزهراء –ا- وقال فيه النبي -عليه الصلاة والسلام: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي؟[7]، وقال عنه النبي ﷺ يوم خيبر: لأعطين الراية غدا أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله ورسوله[8]إلى غير ذلك من مزاياه لكن مع ذلك هو ليس أفضل من أبي بكر وعمر – أجمعين؛ فالمزية لا تقتضي الأفضلية، وهكذا في أبواب كثيرة، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب: ما جاء في صفة أواني الحوض (2451) (ج 4/ص 634)، وابن ماجه في كتاب: الزهد - باب: الزهد في الدنيا (4215) (ج 2/ص 1409)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6320)
- أخرجه أحمد (17017) (ج 4/ص 106)، والدارمي (2744) (ج 2/ص 398)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (6282).
- أخرجه أبو داود في كتاب: الملاحم- باب: الأمر والنهي (4341) (ج 2/ص 526)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ (3058) (ج 5/ص 257)، وابن ماجه في كتاب: الفتن – باب: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ105 سورة المائدة(4014) (ج 2/ص 1330)، والطبراني في الكبير (289) (ج 17/117)، وفي الأوسط (3121) (ج 3/ص 272)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (494).
- أخرجه أبو داود في كتاب: السنة- باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله ﷺ (4658) (ج 2/ص 626)، والطبراني في الأوسط (687) (ج 1/ص 212)، وصححه الألباني في ظلال الجنة برقم (988).
- أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة عبس (4653) (ج 4/ص 1882)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها – باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (798) (ج 1/ص549) واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير- باب: فضل من أسلم من أهل الكتابين (2849) (ج 3/ص 1096)، ومسلم في كتاب: الإيمان – باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (154) (ج 1/ص 134)، واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب: المغازي- باب: غزوة تبوك وهي غزوة العسرة (4154) (ج 4/ص 1602)، ومسلم في كتاب: فضائل الصحابة - باب: من فضائل علي بن أبي طالب (2404) (ج 4/ص 1870).
- أخرجه البخاري في كتاب: المغازي- باب: باب غزوة خيبر (3972) (ج 4/ص 1542)، ومسلم في كتاب: فضائل الصحابة - باب: من فضائل علي بن أبي طالب (2407) (ج 4/ص 1872)، وهذا لفظ البخاري.