بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [سورة هود:40].
هذه موعدة من الله تعالى لنوح إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة والهتان الذي لا يقلع ولا يفتر، بل هو كما قال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ [سورة القمر:11-14].
وأما قوله: وَفَارَ التَّنُّورُ فعن ابن عباس -ا: التنور وجه الأرض، أي: صارت الأرض عيوناً تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءاً، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف، فحينئذ أمر الله نوحاً أن يحمل معه في السفينة من كلٍ زوجين اثنين من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح، قيل: وغيرها من النباتات اثنين ذكراً وأنثى، فقيل: كان أول من أدخل من الدواب الذرة، وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار، فتعلق إبليس بذنبه، وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه، فجعل يقول له نوح : مالك ويحك ادخل، فينهض ولا يقدر، فقال: ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قوله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ، [سورة هود:40] حتى ابتدائية، دخلت على الجملة الشرطية إِذَا جَاء أَمْرُنَا، فصارت غاية لقوله: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [سورة هود:37]، ومعنى قول ابن كثير –رحمه الله: ”والهتان الذي لا يقلع ولا يفتر“، أي: المتتابع الكثير.
قوله –تبارك وتعالى: وَفَارَ التَّنُّورُ اختلف العلماء في معنى التنور المذكور في هذه الآية، فقال ابن عباس أن التنور هو وجه الأرض.
وقال ابن جرير –رحمه الله: إن التنور هو الذي يخبز عليه، بدليل أنه هو الظاهر المتبادر عند الإطلاق، وجمع الحافظ ابن كثير –رحمه الله- بين هذين القولين فقال: ”أي: صارت الأرض عيوناً تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءاً، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف“، وهناك أقوال كثيرة في تفسير التنور ولكنها في غاية الغرابة والبعد، فقيل: التنور هو المكان الذي يجتمع فيه الماء في السفينة، وقيل: بأن التنور هو مكان معيّن عند مسجد الكوفة، وقيل: التنور مكان عند الموصل، وقيل: مكان في الهند، وقيل: التنور هو طلوع الفجر، وهذه الأقوال في غاية الغرابة والبعد، والأشهر هو اختيار ابن جرير –رحمه الله.
قوله: وَأَهْلَكَ أي: واحمل فيها أهلك وهم أهل بيته وقرابته، إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ممن لم يؤمن، وإذا حملنا قوله: إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ على عموم الكفار فيكون المستثنى منه قوله: احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
وإذا قلنا: إن قوله: وَأَهْلَكَ عام باقي على عمومه يدخل فيه المؤمن والكافر في اللفظ، فإن قوله: إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ يكون من قبيل الاستثناء المتصل، وإذا قلنا: إن قوله: وَأَهْلَكَ عام مراد به الخصوص، الذين هم أهل الإيمان، فإن قوله: إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ من قبيل الاستثناء المنقطع، أي أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.
وقول ابن كثير: ”فقيل: كان أول من أدخل من الدواب الذرة، وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار، فتعلق إبليس بذنبه، وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه، فجعل يقول له نوح : مالك ويحك ادخل، فينهض ولا يقدر، فقال: ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة“ من الروايات الإسرائيليات، والأصل ألا يثبت مثل هذه الروايات في كتب التفاسير.
كان عدد الذين كانوا في السفينة مع نوح قليل بدليل قول الله –تبارك وتعالى: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [سورة هود:40]، وهذا الحدث فيه عبرة عظيمة، فقد أغرق الله جميع من في الأرض من الآدميين والحيوانات والهوام؛ من أجل كفر بني آدم، وأنقذ الله من كان على الإيمان، ثم بعد ذلك نسي الناس هذه الآية ووقع الكفر من جديد في ذرية نوح .
قوله: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ [سورة هود:41-43].
يقول تعالى إخبارًا عن نوح أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة: ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا أي: باسم الله يكون جريها على وجه الماء، وباسم الله يكون منتهى سيرها، وهو رسوها.
قرأ حمزة والكسائي وحفص، بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْراها، أي: يجريها باسم الله، كائن باسم الله، وهذه القراءة من اختارها يحتج لها بقوله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، وقرأ بعضهم مَجْراها باعتبار أن الله -تبارك وتعالى- هو مجريها.
وقد قرأ بها أيضًا مجاهد وعاصم الجحدري.
وقال الله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [سورة المؤمنون:28، 29]، ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور عند الركوب على السفينة وعلى الدابة، كما قال تعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [سورة الزخرف:12، 13] الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه كما سيأتي في سورة الزخرف إن شاء الله وبه الثقة.
وقوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة هود:41]، مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين، فذكر أنه غفور رحيم، كقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأعراف:167]، وقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الرعد:6]، إلى غير ذلك من الآيات التي يقرن فيها بين رحمته وانتقامه.
وقوله: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ [سورة هود:42] أي: السفينة سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبّق جميع الأرض حتى طفت على رؤوس الجبال وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعًا، وقيل: بثمانين ميلًا، وهذه السفينة جارية على وجه الماء سائرة بإذن الله وتحت كنفه وعنايته وحراسته وامتنانه، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [سورة الحاقة:11-12]، وقال تعالى: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [سورة القمر:13-15].
وقوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ [سورة هود:42] الآية، هذا هو الابن الرابع واسمه يام، وكان كافرًا، دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم ولا يغرق مثلما يغرق الكافرون، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء [سورة هود:43]، اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رؤوس الجبال، وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجاه ذلك من الغرق، فقال له أبوه نوح : لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ أي: ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله، وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
قوله -تبارك وتعالى: وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ [سورة هود:42]، قال بعضهم: يعني في مكان لم يبلغه قول نوح ﷺ حينما فار التنور: ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ، وقال بعضهم: أي بعيدًا عن نوح ﷺ ومن معه في السفينة، لم يركب معهم، لم يكن معهم، كان في معزل.
وقال بعضهم: فِي مَعْزِلٍ عن دين أبيه، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن يحمل على المعنى المتبادر، وهو أنه كان منعزلًا عن نوح ولم يركب معه.
وقوله -تبارك وتعالى: لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ [سورة هود:43]، أي: ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله، إِلاَّ مَن رَّحِمَ، أي: لكن من -رحمه الله- أن أنجا المؤمنين، وعلى هذا فالاستثناء منقطع، فلا يكون إِلاَّ مَن رَّحِمَ مستثنى من عاصم.
ويكون الاستثناء متصلًا إذا فسر عاصم بمعنى معصوم، فإذا قلت لا معصوم إلا من رحم فيكون الاستثناء متصلًا، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- وضعفه ابن القيم.