الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[7] من قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الآية 44 إلى قوله تعالى: {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية 48.
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 2830
مرات الإستماع: 3486

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة هود:44].

يخبر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، وَغِيضَ الْمَاءُ أي: شرع في النقص، وَقُضِيَ الأَمْرُ أي: فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم ديّار، وَاسْتَوَتْ: واستوت السفينة بمن فيها، عَلَى الْجُودِيِّ، قال مجاهد: وهو جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت، وتواضع هو لله فلم يغرق، وأرست عليه سفينة نوح .

وقال قتادة: استوت عليه شهراً حتى نزلوا منها.

قال قتادة: قد أبقى الله سفينة نوح على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت رماداً.

وقوله: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: هلاكاً وخساراً لهم وبعداً من رحمة الله، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ بدأ بالأرض؛ لأن الماء والنبع بدأ منها، كما قال الله : فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ [سورة المؤمنون:27]، فكان ابتداء الطوفان من الأرض، ربما يقال هذا -والله أعلم، والتعبير بالبلع يدل على أنه لم يكن تنشيف الأرض بالطريقة المعهودة التي يحصل بها ذهاب الماء بالتبخر، وما يغيض في الأرض منها، وإنما كان ذلك سريعاً، بطريقة غير معهودة.

ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي تقول: أقلع المطر إذا أمسك، يعني: أمسكي عن المطر، وَغِيضَ الْمَاءُ قال: "شرع في النقص".

وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، يقول مجاهد عن الجودي: "إنه جبل في الجزيرة"، والمقصود بالجزيرة التي بين الشام والعراق، وليست جزيرة العرب، ويقول: "تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت، وتواضع هو لله فلم يغرق"، وهذا الكلام ليس عليه دليل، والله ذكر هذا بعد قوله: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فبعد أن غيض الماء، وأوقفت السماء إمطارها، والأرض بلعت ماءها استوت على الجودي، فهذا ليس فيه ما يدل على أنه لم يغرق، وقول قتادة بأنها استوت عليه شهراً حتى نزلوا، لا دليل عليه، وإنما هو مأخوذ عن بني إسرائيل، والروايات عنهم في هذا كثيرة، بعضهم يوصل ذلك إلى سنة، في تفاصيل لا دليل عليها.

ويقول: "وقد أبقى الله سفينة نوح على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى رآها أوائل هذه الأمة"، وهذا لا دليل عليه، ولا يعرف عن أحد برواية ثابتة من أوائل هذه الأمة أنه رآها، وإذا كان الله أبقاها هذه القرون المتطاولة جداً فأين تذهب من أوائل هذه الأمة إلى عهد قتادة؟ لو صح عن قتادة -رحمه الله، فقتادة من التابعين يقول: "وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت رماداً"، ويوجد من يُعنَى بالآثار ويُعرض عن البحث عن الحقائق عن هذه السفينة، وينقبون ويبحثون عن جبل الجودي أين هو، وهل يوجد بقايا من هذه السفينة أو لا؟

والعبرة العظيمة من إغراق أهل الأرض من أجل الكفر بالله ، هذا تجدهم بمنأى عنه، فالله أخبرنا أنها استوت على الجودي، بعضهم يقول: هو جبل معيّن، وبعضهم يقول: هو كل جبل، يعني أن كل جبل يقال له: الجودي، فليس ذلك يختص بجبل معيّن اسمه الجودي، كل جبل يقال له: الجودي، وأما قضية السفينة وبقايا السفينة فهذا لا فائدة فيه، ولا يدل على أنها بقيت نفس السفينة أو بقاياها، أخذاً من قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [سورة القمر:15]، أي: القصة والعبرة جعلها الله آية، وهذه السفن التي نشاهدها تذكّر بهذا الأمر الذي امتن الله به على عباده المؤمنين حيث حملهم على الفلك، فالشاهد أنه ليس فيه ما يدل على أنها بقيت.

وقوله: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يحتمل أن يكون هذا من كلام الله ، ويحتمل أن يكون من كلام نوح، فالله تعالى أعلم، لكن هذه الآية من الآيات التي جمعت صنوف البلاغة، هذه آية بالغة في الفصاحة والبلاغة مبلغاً عظيماً؛ ولذلك فإن العلماء الذين يُعنَون بالإعجاز القرآني البلاغي اللغوي يطيلون في الحديث عن هذه الآية.

وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ۝ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ۝ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [سورة هود:45-47].

هذا سؤال استعلام وكشف من نوح عن حال ولده الذي غرق، فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أي: وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعْدك الحق الذي لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي: الذين وعدت إنجاءهم؛ لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [سورة المؤمنون:27]، فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحاً ، وقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي: الذين وعدتك نجاتهم.

وروى عبد الرزاق عن ابن عباس -ا- قال: هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية.

قال عكرمة في بعض الحروف: إنه عَمِل عملاً غير صالح.

نادى نوح ﷺ ربه، دعاه فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أخذاً من العموم في قوله: وَأَهْلَكَ، و"أهل" أضيف إلى المعرفة -كاف الخطاب- فأكسبه العموم، فنوح -عليه الصلاة والسلام- احتج بهذا، فبيّن الله له أن هذه اللفظة لا تدل على العموم، فقال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، أي: ليس من أهلك الموعود بنجاتهم؛ وذلك أنه لم يكن على دينه.

وليس معنى ذلك قطعاً أنه ليس ولداً له، وأنه كان مولوداً على فراشه، وأن امرأته خانته، فالله لا يختار للأنبياء امرأة تخون، فالمرأة امرأة النبي ولو كانت كافرة إلا أن الله يحفظ العرض؛ لأن ذلك يدنس شرف الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقع إطلاقاً، ولا يجوز لأحد أن يورد في التفسير قولاً يشتمل على مثل هذه القبائح، وللأسف يوجد في بعض كتب التفسير من يورد مثل هذا، ولو كان يذكره من جملة الأقوال ولا يعتمده، لكن إيراده بمجرده رزية وخطأ، ولا يليق بحال، ومثل هذا يعرض عنه.

قال: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، عمل هذا الولد غير صالح، يمكن أن يكون هذا على سبيل المبالغة، كأنه جعله نفس العمل مبالغةً في ذمه، والله أعلم، هذا على قراءة الجمهور، وابن جرير يفسر هذه القراءة -قراءة الجمهور- إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ: أن ذلك لا يرجع إلى الولد، وإنما يرجع إلى السؤال، سؤال نوح قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، فالله قال له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ: يعني هذا السؤال، فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، هذا اختيار ابن جرير: أن سؤالك في غير محله.

فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، وربما يحتج لهذا بأنه عقبه بالفاء فَلا تَسْأَلْنِي؛ لأنها لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والأول أشهر، وعليه عامة أهل العلم، وهو الأقرب، إِنَّهُ عَمَلٌ أي: الولد، غَيْرُ صَالِحٍ، وعلى قراءة الكسائي وهي متواترة: إِنَّهُ عَمِلَ: يعني الولد، أي أنه كفر بالله فعمله سيئ وشر لا يحبه الله .

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة هود:48].

يخبر تعالى عما قيل لنوح حين أرست السفينة على الجودي من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين، وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة، كما قال محمد بن كعب: دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.

قوله -تبارك وتعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ، قاله الله ، والفعل وإن بني للذي لم يسم فاعله إلا أن هذا القول يدل على قائله: اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ [سورة هود:48)، وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ، بعض أهل العلم يقول: أي ناشئة ممن معك، أمم توجد وتولد وتتفرع ممن معك، وأمم ممن معك تنشأ؛ لأن ذرية نوح ﷺ هم الباقون كما أخبر الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء الأمم الناشئة هم المتشعبون من ذريته -عليه الصلاة والسلام، الذين كانوا معه.

وبعض أهل العلم يقول: وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ: الذين كانوا مع نوح -عليه الصلاة والسلام- أمم، فبنو آدم أمة، والطير أمة، وهكذا، وكل نوع من الطيور أمة، أو كل جنس من الوحش، أو غيره؛ ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38]، فكلها أمم، ويمكن أن يكون وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ يعني: هذه الطيور والحيوانات وألوان الدواب، إضافة إلى الآدميين، وبعض أهل العلم يقول: وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ يعني: من كان مؤمناً من ذريتهم، مِّمَّن مَّعَكَ، فتكون (من) تبعيضية.

وقال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أن يكف الطوفان أرسل ريحاً على وجه الأرض، فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض الغوط الأكبر، وأبواب السماء، يقول الله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ الآية، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر، وكان استواء الفلك على الجودي فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه.

وفي أول يوم من الشهر العاشر رُئي رءوس الجبال، فلما مضى بعد ذلك أربعون يوماً فتح نوح كوة الفلك التي ركب فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما صنع الماء فلم يرجع إليه، فأرسل الحمامة فرجعت إليه، لم تجد لرجليها موضعاً، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها، ثم مضى سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له، فرجعت حين أمست وفي فِيها ورق زيتون، فعلم نوح أن الماء قد قلَّ عن وجه الأرض، ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع، فعلم نوح أن الأرض قد برزت، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة، ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين برز وجه الأرض وظهر البر، وكشف نوح غطاء الفلك، وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه قيل: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا الآية.

هذه من الروايات الإسرائيلية التي لا تصدق ولا تكذب، وليس وراء العلم بها فائدة، وكان الأولى أنها لا تذكر في مثل هذا المختصر.

مواد ذات صلة