بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله:
ثم بيّن تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. [سورة هود:106، 107].
يقول تعالى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، قال ابن عباس -ا: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، أي: تنفسهم زفير وأخذهم النفس شهيق؛ لما هم فيه من العذاب عياذاً بالله من ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فأورد المصنف –رحمه الله- قول ابن عباس –ا- في قول الله –تبارك وتعالى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، قال: "الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، أي: تنفسهم زفير وأخذهم النفس شهيق"، يعني: الذي يدخل يقال له: شهيق، والذي يخرج يقال له: زفير، وهذا معنى تنفسهم، فليست الجملتان معناهما واحد، بل إحداهما عكس الأخرى.
وقال بعض أهل العلم: الزفير هو الصوت الشديد المرتفع، وهذا القول وإن قال به بعض أهل اللغة إلا أنه لا يخلو من بعد، وقال بعضهم: الزفير هو ابتداء صوت الحمار، والشهيق هو آخر صوته، وهذا القول اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وقال بعضهم: الزفير هو إخراج النفس، والشهيق إدخاله، وهذا هو المشهور المعروف.
وقال بعضهم: الزفير من الصدر، والشهيق من الحلق، وقيل: الزفير هو تردد النفس بسبب الخوف، وعند التأمل نجد أن بعض هذه الأقوال لا منافاة بينها.
هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو جواب على سؤال معروف، وهو أن السماوات والأرض ليست دائمة ومستمرة باقية، والله يقول: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة إبراهيم:48]، والله قال عن أهل الجنة وأهل النار من جهة خلودهم: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، فيرد سؤال: أن السماوات والأرض يحصل لهما الزوال، فكيف علّق خلودهم بأمر زائل؟ والجواب: هو أن العرب قد تعلق الأمر بزائل وتقصد بذلك التأبيد،
كما يقولون: هذا باقٍ بقاء السماوات، هذا باقٍ ما غرد الطير، وهبت الريح، وتتابع الليل والنهار، وما أشبه هذا، ويقصدون به الدوام والاستمرار، والقرآن نزل بلغة العرب وبأساليبهم، فنعيم أهل الجنة لا يزول، وعذاب أهل النار لا يزول.
قلت: ويحتمل أن المراد بـ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الجنس؛ لأنه لا بد في عالم الآخرة من سماوات وأرض كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [سورة إبراهيم:48]؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله: مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ قال: يقول سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.
وقوله: إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، كقوله: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ [سورة الأنعام:128]، قيل: إن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين.
بعد أن انتهى من السؤال الأول وهو: كيف علق خلود أهل الجنة أو أهل النار ببقاء السماوات والأرض؟ وأجاب عنه بجوابين، جاء السؤال الثاني، وهو أن الله علق الخلود بالمشيئة، فقال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107]، وللعلماء في هذه المشيئة أقوال مختلفة.
هذا المعنى وجه جيد في الجواب، وهو اختيار ابن جرير، وهناك أقوال أخرى في توجيه هذه الآية، فمن أهل العلم من قال: إن الاستثناء في قوله -تبارك وتعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107] يرجع إلى قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [سورة هود:106]، إذا كانت هذه الآية تعم المسلمين والكافرين فالذين شقوا يكونون في النار إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ويكون المعنى: الذين شقوا في النار إلا من شاء الله، فلا يدخل النار بسبب رحمة الله، أو بشفاعة أحد الشافعين، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك من الموانع.
وقال بعض أهل العلم: الاستثناء في قوله: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يرجع إلى الزفير والشهيق، أي: لهم أنواع من العذاب غير الزفير والشهيق، وهذا لا يخلو من بعد.
وقال بعضهم: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ، يرجع إلى قوله: خَالِدِينَ، وهذا الذي مشى عليه المصنف -رحمه الله- وسبقه إليه طائفة من السلف، وقال به ابن جرير الطبري –رحمه الله- فيخلد الكفار ويخرج أهل الإيمان، كما جاء في الأحاديث، أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان[1].
وقال بعضهم: إن الاستثناء في قوله –تبارك وتعالى: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يرجع إلى قوله: خَالِدِينَ فِيهَا، وهم الكفار، قالوا: إن الكفار يفنون، تفنيهم النار ثم يتجدد خلقهم، ثم تفنيهم ويتجدد خلقهم وهكذا.
ومنهم من قال: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ دليل على أن النار تفنى، وهذا القول منسوب إلى طائفة من السلف، واحتجوا ببعض الآثار الواردة في ذلك، ولكن لا يصح من هذه الآثار شيء، واحتجوا بقوله –تبارك وتعالى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [سورة النبأ:23]، وهذا القول وإن قال به بعض السلف إلا أنه قول باطل، والنصوص والآيات واضحة في بقاء العذاب ودوامه، وأنه لا ينقطع ولا يفتر ولا يخفف عنهم، كما قال الله في آيات كثيرة: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
وقال بعض أهل العلم: الاستثناء في قوله: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ بمعنى سوى، وهذا بعيد.
وأرجح الأقوال في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107] أن التعليق فيها بالمشيئة كالتعليق في قول الله –تبارك وتعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [سورة الفتح:27]، فدخولهم المسجد الحرام حاصل قطعاً، فقد قضاه الله وقدره، وإنما ذكر المشيئة؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله فكذلك التعليق في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ.
قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108]، يقول تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ وهم أتباع الرسل، فَفِي الْجَنَّةِ أي: فمأواهم الجنة، خَالِدِينَ فِيهَا أي: ماكثين فيها أبداً، مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمراً واجباً بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم دائماً، ولهذا يُلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفَس.
وقال الضحاك والحسن البصري: هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار ثم أخرجوا منها. وعقّب ذلك بقوله: عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي: غير مقطوع، قاله مجاهد وابن عباس -ا- وأبو العالية وغير واحد؛ لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثَمّ انقطاعاً أو لبساً أو شيئاًَ، بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع، كما بيّن هناك أن عذاب أهل النار في النار دائماً مردود إلى مشيئته، وأنه بعدله وحكمته عذبهم؛ ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107] كما قال: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [سورة الأنبياء:23].
قول الحافظ ابن كثير –رحمه الله: "معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمراً واجباً بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى" هو القول الراجح في هذه المسألة، وقد قال أهل البدع والأهواء بانقضاء نعيم الجنة وقد رد عليهم ابن القيم –رحمه الله- في النونية، والشنقيطي في العذب المنير، وفي دفع إيهام الاضطراب في تفسير سورة عم، وغيرهم من أهل العلم.
من أسماء الله الأول والآخر، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، بقاء الجنة وأهلها بإبقاء الله تعالى، والله هو قائم بنفسه.
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. [سورة هود:109، 110].
يقول تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ المشركون، إنه باطل وجهل وضلال، فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات، وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء، فيعذبهم عذاباً لا يعذبه أحداً، وإن كان لهم حسنات فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة.
وقوله: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص، ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة فلا يغيظنك تكذيبهم لك، ولا يهيدنّك ذلك.
قوله: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ قال بعض أهل العلم: التوفية لا تستلزم الكمال؛ ولهذا قال: غَيْرَ مَنقُوصٍ، وقال عبد الرحمن بن زيد: لموفوهم من العذاب نصيبهم، وقيل: لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي: ما قدره الله وكتبه لهم من الخير والشر، يحصل لهم في الدنيا، فينالهم ما كتبه الله -تبارك وتعالى- لهم منذ الأزل لا ينقص منه شيء، ولا يفوت شيء من هذا الذي قضاه الله وقدره، وهذا قال به كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.
قوله: وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [سورة هود:110]، قال ابن جرير: لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم لقضى الله بينهم، ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه.
كما قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، فإنه قد قال في الآية الأخرى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى فاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [سورة طـه:129، 130].
ويحتمل أن تكون الكلمة هي: أن رحمته سبقت غضبه، ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة: ما قضاه الله وقدره أنه لا يعذبهم بعذاب الاستئصال، والقول بأن المراد بالكلمة أنه قد جعل لهم وقتاً معلوماً لا يتقدم ولا يتأخر أقرب هذه الأقوال، وهو قول ابن جرير –رحمه الله.
والضمير في قوله: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يحتمل أن يرجع إلى قوم موسى؛ لأن الله قال في بداية الآية: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وقال بعضهم: يرجع الضمير إلى المكذبين بالنبي ﷺ، والأول أقرب.
قوله: وَإِنَّ كُلاًّ قرأ الجمهور بالتشديد، وقرأ نافع وابن كثير بالتخفيف وإنْ كلاً، وليست "إنْ" المخففة نافية؛ لأنها لو كانت كذلك لصار الذي بعدها مرفوعاً، وقرأ عاصم وحمزة ونافع: لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ بالتشديد، وقرأ الجمهور بالتخفيف لَمَا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ.
وقد قال بعض أهل العلم: لَّمَّا بمعنى "إلا" التي تدل على الاستثناء، وهذا القول قال به جميع نحاة البصرة، وهو قول الخليل بن أحمد وسيبويه، وهو من أحسن الأقوال وأقواها، وقال بعض أهل العلم: إن لَّمَّا بمعنى "مَن" وهو اختيار ابن جرير الطبري –رحمه الله.
الطغيان يأتي بمعنى تجاوز الحد، ويكون بمعنى الغلو والزيادة على ما شرعه الله .
وقوله: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ [سورة هود:113] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: لا تداهنوا.
وقال ابن جرير عن ابن عباس -ا: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا، وهذا القول حسن، أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم.
القول بأن الركون: هو الميل، قول معروف عند أهل اللغة وبه قال كثير من المفسرين، وعلى كل حال هذا لا ينافي قول من قال: لا تداهنوا؛ فإن مداهنة هؤلاء الكفار لا تجوز، وهي لون من الركون إليهم، وهكذا قول من قال: لا تستعينوا بالظلمة، أو لا تميلوا إلى الظلمة، وهذه الأقوال ترجع إلى معنىً واحد.
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [سورة هود:113] أي: ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم ولا ناصر يخلصكم من عذابه.
وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سورة هود:114، 115].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ قال: يعني الصبح والمغرب، وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال الحسن في رواية قتادة والضحاك وغيرهم: هي الصبح والعصر.
وقال مجاهد: هي الصبح في أول النهار، والظهر والعصر من آخره.
وكذا قال محمد بن كعب القرظي والضحاك في رواية عنه.
عامة أهل العلم يتفقون على أن الطرف الأول هو الفجر، وإن وجد من قال: إنه الظهر، لكنهم اختلفوا كثيراً في الطرف الثاني، فبعضهم يقول: العصر، وبعضهم يقول: الظهر، وبعضهم يقول: الظهر والعصر، وبعضهم يقول: المغرب، فالذين قالوا: إن طرف النهار الأول هو الظهر قالوا: إن النهار يبدأ من طلوع الشمس، فالفجر ليس بطرف للنهار، وإنما هو أول اليوم، والنهار لا يكون إلا بعد طلوع الشمس، والقول بأن الطرف الأول هو الفجر والطرف الثاني هو المغرب هو قول ابن جرير، وليس ببعيد.
القول الذي قال به الحسن في رواية ابن المبارك قال به مجاهد وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ يعني: المغرب والعشاء، ولو صح الحديث الذي أورده المصنف هما زُلْفَتا الليل: المغرب والعشاء لكان رافعاً للخلاف؛ لأن التفسير إذا صح عن النبي ﷺ لم يُلتفت إلى غيره.
والزُّلَف جمع زلفة، وفسره بعضهم بالساعات القريبة، وقال ابن جرير: وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ ساعات من الليل، وبعضهم فسر الزلف من الليل بأول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس.
هذا القول ليس بلازم، بل لا يخلو من إشكال وبعد، والسبب في هذا أن سبب النزول يدل على أن الآية نزلت في المدينة في الرجل الذي قبّل امرأة، كما ورد ذلك في الصحيحين[5]، ولو فرضنا أن قول الله –تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ يعني الفجر والمغرب، فإن هذا لا يعني أن الآية تتحدث عن الأمر الأول وأن الناس كانوا يصلون صلاة في أول اليوم، وصلاة في آخره، فإن ذكر الطرفين يتضمن ذكر ما بينهما، كما يقول الله : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: 115].
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال (1 / 16)، برقم (22)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار (1 / 172)، برقم (184).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ (4/1760)، برقم (4453) ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2188)، برقم (2849).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة (4 / 2182)، برقم (2837).
- ذكره ابن جرير في تفسيره، (15 / 508).
- رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة (1 / 196)، برقم ( 503 )، ومسلم (4 / 2115)، برقم (2763)، كتاب التوبة، باب قول الله تعالى إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، من حديث ابن مسعود : أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي ﷺ فأخبره فأنزل الله وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا ؟ قال: لجميع أمتي كلهم