بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فما ذكره ابن كثير –رحمه الله- من التفسير يجري على القراءتين في الآية آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ، وقراءة حمزة والكسائي وكتابه، فالله لما ذكر الإيمان أولاً بما أنزل إلى النبي ﷺ، وهو الكتاب الذي أنزله إليه مصدقاً لما بين يديه، إضافةً إلى سائر ما أوحى الله إلى رسوله -عليه الصلاة والسلام- قال بعده: كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وعلى القراءة الأخرى وكتابه، فالكتاب جنس يصدق على الواحد والكثير.
حمل ابن كثير -رحمه الله- السماع في هذا المقطع من الآية على معنيين:
الأول: السماع، أي سمعنا بآذاننا.
الثاني: القبول والامتثال بقلوبنا وجوارحنا، ولذلك اليهود لما قالوا سمعنا وعصينا، أرادوا أنهم سمعوا بآذانهم إلا أنهم لم ينقادوا أو يمتثلوا بقلوبهم وجوارحهم.
غفران مصدر يأتي بمعنى ستر الذنوب، ويأتي بمعنى الوقاية من شؤمها فلا يؤاخذ الإنسان بها.
هذا تصريح من ابن كثير -رحمه الله- بأن الآية منسوخة، وهو يقصد النسخ عند المتأخرين الذي يراد به رفع الحكم المتقدم بالحكم المتأخر، لا النسخ عند المتقدمين كبيان المجمل وتخصيص العام وتقييد المطلق، ولكن ليس رفع التكليف فيما يتعلق بحديث النفس منسوخاً كله قطعاً؛ لأن ما يخفيه الإنسان من الشرك والريب والنفاق أو كتمان الشهادة ونحو ذلك، يحاسَب عليه ولا يشمله النسخ في الآية.
ومع هذا فلو أمكن حمل الآية على معنىً صحيح من غير تكلف في هذا الموضع لكان حسناً؛ لأن دعوى النسخ لا تثبت بالاحتمال، ولابد فيه من دليل مرجح يجب الرجوع إليه، ولا دليل، والله أعلم.
وقوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ أي من خير، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ أي من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف، ثم قال تعالى مرشداً عباده إلى سؤاله وقد تكفل لهم بالإجابة، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا أي وإن تركنا فرضاً على جهة النسيان أو فعلنا حراماً كذلك، أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي.
وقد تقدم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال الله: نعم، ولحديث ابن عباس -ا: قال الله: قد فعلت.
أورد بعض أهل العلم استشكالاً على قوله سبحانه: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وهو إذا كانت المؤاخذة بالخطأ والنسيان مرفوعة، فكيف يسألون ربهم ذلك، ألا يعد صنيعهم هذا من صور الاعتداء في الدعاء؟
لذلك ذهب جمع من أهل العلم إلى حمل الخطأ والنسيان في الآية على معنى آخر، وقالوا: إن الخطأ تارةً يكون بعمد، وتارةً يكون من غير عمد، وحملوا المراد من الآية على الخطأ العمد؛ لكونه يؤاخذ الإنسان به، وهناك فرق بين قولك: فلان يخطئ وفلان مخطئ، وكذلك النسيان يأتي بمعنى الذهول، وزوال المعلوم، ويأتي بمعنى الترك كقوله سبحانه: نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، وقوله سبحانه: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة الأنعام:44]، وحملوا المعنى في الآية على الترك.
وقال بعضهم: إنه لا حاجة إلى التكلف في تخريج الآية، وحملوها على ظاهرها المتبادر، وهو أن الله تعبدهم بهذا الدعاء المراد به التخفيف، ورفع الآصار، والتكاليف الشاقة، ولا يكون ذلك إلا بعدم المؤاخذة بما لا يد للإنسان فيه، ورفع ما لا يدخل تحت طوقه، ووضع الأشياء التي لا يحتملها المكلف، وهذا الذي يتناسب مع السياق، فيبقى الخطأ هو الوقوع في المخالفة من غير قصد، والنسيان زوال المعلوم من الذهن، يقول الناظم:
زوال ما علم قل نسيان | والعلم في السهو له اكتنان |
ولذا كان من دعاء أهل الإيمان كما علمهم نبيهم ﷺ: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمةاللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته...[1] ومعلوم أن النبي ﷺ قد أعطاه ربه الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود، فلماذا الدعاء له وقد أعطيها؟ ونظائر هذا الدعاء في الكتاب والسنة كثيرة.
ويبعد أن يكون المراد أنهم يسألون الله ألا يؤاخذهم بالذنوب والجرائم التي وقعوا فيها عن عمد؛ لأنه جاء قوله ﷺ عن ربه: قد فعلت، فكيف يحمل الدعاء في الآية على عدم المؤاخذة على ما تعمدوه من القبائح مع أن الله قد توعد العاصين والمذنبين وخوفهم، والله أعلم.
وقوله: رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، التي بعثت نبيك محمداً ﷺ نبي الرحمة، بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول اللهﷺ قال: قال الله: نعم[2].
وعن ابن عباس -ا- عن رسول الله ﷺ قال: قال الله: قد فعلت[3].
أصل الإصر في كلام العرب هو: الحمل الثقيل الذي يحبس صاحبه مكانه لثقله، ثم أطلق على التكاليف الشاقة، والمعنى لا تكلفنا تكليفاً شاقاً يثقلنا ويرهقنا، وقد نعجز عن القيام به وحمله، ومن أهل العلم من يفسر الإصر بالعهد، كما جاء في قوله -تبارك وتعالى: وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [سورة آل عمران:81] أي عهدي، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري، ولا منافاة بين المعنيين؛ لأن العهود التي أخذها الله على بني إسرائيل لم يقوموا بكثير منها، فيكون المعنى لا تكلفنا عهداً ثقيلاً شاقاً نعجز عن القيام به، والله أعلم.
وجاء الحديث من طرق عن رسول الله ﷺ أنه قال: بعثت بالحنيفية السمحة[4].
وقوله: رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ أي من التكليف والمصائب والبلاء، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به.
وقد قال مكحول في قوله: رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال: الغربة والغُلْمَة، رواه ابن أبي حاتم، قال الله: نعم، وفي الحديث الآخر قال الله: قد فعلت.
تفسيره بالعُزْبة هو الأقرب والأنسب، والمغتلم: هو من بلغت به الشهوة غايتها، وهذا من قبيل التفسير بالمثال، وقد عهد من طريقة السلف أنهم يذكرون بعض المعاني التي تدخل تحت الآية، ويقصدون بذلك التوضيح والتقريب للسامعين فقط لا الحصر، وإلا فالأمور الشاقة كثيرة جداً، فهؤلاء التجؤوا إلى ربهم أن لا يكلفهم ما كلف به الأمم السابقة.
فاليهود حينما تابوا توبتهم العظيمة المعروفة في التاريخ من عبادتهم للعجل، قال الله لهم: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54] فأمرهم الله بقتل النفوس، بمعنى أن الواحد يقتل أباه وأخاه وقريبه، ولاشك أن هذا في غاية المشقة، وكان الواحد منهم إذا أصابته النجاسة قرض ذلك الموضع ولا يكتفي بالغسل، إلى غير هذا.
الغُلْمَة: هي شهوة..، لكنها ليست مطلق الشهوة، وإنما هي غاية الشهوة، ولذلك ذكرها بعض المفسرين من الأمور التي لا يطيقها المرء، وهذا يدل على البلاء الشديد لمن ابتلاه الله بها، فكيف إذا كان الإنسان قد تطلب البلاء بنظره وسمعه وخلطته، حتى أفضى به إلى ذلك، وقد قيل: من عرض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً إلا أن يشاء الله، والله أعلم.
هذا التفسير لهذه الدعوات الثلاث، بناءً على أصلٍ قصده ابن كثير -رحمه الله، وهو أن التأسيس مقدم على التوكيد، فأراد أن يحمل كل دعوة على معنىً جديد، ولكن العفو معناه محو أثر الذنب، والغَفْر هو الستر والوقاية، والوقاية من شؤم الذنب هو بمعنى العفو الذي قبله، ففسر الثانية بالستر لأن المعنى الثاني منها قد مضى في الذي قبله، وهذه طريقة صحيحة في التفسير.
والرحمة ليست فقط فيما يستقبل، لكنه قال: فيما يستقبل بناءً على أن الرحمة فيما مضى بالتجاوز، والحقيقة أن الرحمة بالتجاوز تحتاج أكثر من هذا، فإذا رحم الله ضعفهم وعجزهم وفّاهم أجورهم، وزادهم من فضله، ورفع درجاتهم، ولم يكلفهم تكليفاً يشق عليهم، وكل هذا من رحمته ، فالرحمة لا تقتصر على جانب الإساءة بالغَفْر والستر والتجاوز، بل تشمل كل ما يكون في جانب الإحسان من سائر الأمور، فالدعاء بالرحمة يشمل هذه المعاني جميعاً، والله أعلم.
وقوله: أَنتَ مَوْلاَنَا أي أنت ولينا وناصرنا، وعليك تَوكُّلنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.
فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة.
قال الله: نعم، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس -ا: قال الله: قد فعلت.
وروى ابن جرير عن أبي إسحاق: أن معاذاً كان إذا فرغ من هذه السورة فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال: آمين.
الآية تشمل أنواع الكفر عموماً، كالإعراض، والشك، وكذا مقارفة الأعمال التي توجب الخروج من الملة، وابن كثير اقتصر في تفسير الكفر بالجحود في الآية؛ ولعل مرد ذلك إلى أنه من أشهر معانيه، إذ أصل هذه اللفظة من الستر والتغطية، وذلك لاشك أنه يدل على الجحود دلالة أصلية أو أولية، لكنه لا يختص به شرعاً.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.
- رواه البخاري في كتاب الأذان – باب الدعاء عند النداء برقم (589) (1 / 222).
- رواه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (125) (1 / 115).
- رواه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (126) (1 / 116).
- رواه أحمد في مسنده برقم (22345) (5 / 266)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (6086).