الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
حديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان..»
تاريخ النشر: ٠٥ / جمادى الآخرة / ١٤٢٧
التحميل: 3198
مرات الإستماع: 110246

المؤمن للمؤمن كالبنيان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذا هو الحديث الأول مما أورده الإمام النووي -رحمه الله- في باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم، وهو:

حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه[1].

فهذا تبيين من النبي ﷺ يفيد الحث على معاونة المؤمن لأخيه المؤمن ونصرته وأن ذلك أمر لابد منه، فهو شيء متأكد، كما أن البناء لا يتم ولا تحصل فائدته ولا يتحقق الغرض منه إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضًا، بحيث يشد بعضه بعضًا ويقويه، وإلا تنحل أجزاؤه، وينفرط نظامه ويختل بنيانه، ولذلك تجدون أن الذين يبنون يخالفون فيما يضعونه من اللبِن ونحوه، بحيث يكون ذلك أدعى إلى قوته، حتى إنهم لربما إذا بالغوا في تقويته وضعوا الرصاص فيما بين تلك الأحجار، وهذا أحد المعاني في قوله -تبارك وتعالى: كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ [الصف:4]، قال بعض أهل العلم: كأنهم بنيان مرصوص أي: شُد بالرصاص، وبعضهم فسره بالظاهر المتبادر مرصوص أي يرص بعضه بعضًا ويقويه.

فالمؤمن كالبنيان لا يستقل بأمور دينه ولا بأمور دنياه، ولا تقوم مصالحه على الوجه المطلوب إلا بالمعاونة، والمعاضدة بينه وبين إخوانه، فإذا لم يحصل هذا وانشغل كل واحد بنفسه فإن ذلك مؤذن بتفكك الأسرة والمجتمع، وكم رأينا كثيراً من المشكلات التي تشيب لها المفارق، ولا تقوم الجبال لحملها، ولربما عجز الناس عن حلها، والسبب أن هذه الأسرة التي وقعت لها هذه المشكلة لا يعرف بعضهم بعضًا، فهذا أحدهم يصارع الهموم والأحزان والآلام ولا يجد معيناً ومساعداً من أسرته.

وفي كل يوم نسمع أشياء عجيبة من هذا الباب، تجد أحدهم فتسأله أليس لك أب، أو أخ، أو أقرباء؟، فيقول: أسرتي مفككة وممزقة، كل واحد مشغول بنفسه، فلا شك أن بعضًا من هؤلاء يرتمي في أحضان الشياطين، فيقع في المخدرات، والفتيات يكنّ فريسة للذئاب البشرية، والزوجة قد تقتل نفسها، أو تبيع عرضها ولو نكاية بأهلها الذين ضيعوها وأهملوها، ولم يسمعوا منها مشكلاتها، فهي بحاجة إلى أن تفرغ عن بعض مكنونات نفسها، فلا تجد أحداً يسمعها إلا ذئباً من هذه الذئاب البشرية، فيظهر لها الشفقة والعطف والمحبة وما أشبه ذلك حتى يوقعها في حباله، لكن إذا كانت الأسرة مترابطة مع بعضها، فيسمع الأب لأولاده البنين منهم والبنات، وكذلك الأم، والجار يتفقد جاره ويعرف حاله، حصل بذلك أمن للمجتمع، وقُطع الطريق على شياطين الإنس والجن الذين يأتون ويصطادون في مثل هذه البيئات المفككة ويجدون بغيتهم فيها.

وهذه الأيام ربما قد يأتي السارق فيسرق بيت الجار ويأخذ كل ما فيه في وضح النهار، وجيرانهم ينظرون إليه ويقولون: لا ندري أهو منهم أو لا، كل هذا سببه تفكك الآصرة بين هؤلاء الجيران وتفرقهم.

  المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، فهذا الحديث فيه تصوير وتوضيح لهذا المعنى بصورة حية ظاهرة يدركها كل أحد، فهي تقرب المعنى المعقول بالصورة المحسوسة، فينبغي للعبد أن يعرض نفسه على هذا الحديث، هل هو لإخوانه كالبنيان يشد بعضه بعضًا أو لا؟.

 فهذا يأتي وقد ألمت به حاجة يريد مساعدة من إخوانه فعليهم أن يقضوا حاجته، وهذه امرأة أرملة لا تجد أحداً يقف معها فلابد أن يقف معها الناس، وهؤلاء الأولاد ربما يضيعون ويتيهون مع أقران السوء، وأبوهم رجل كبير لا يدرك هذه الأمور، أو يعجز عن كفهم، فعلى الجيران أن يقوموا على مصالحهم إذا غاب من يرعى هذه الأسرة، لماذا تترك للضياع والتلف وقد ذكر النبي ﷺ أنه: ليس المؤمن بالذي يشبع، وجاره جائع [2]، أحياناً تقف على بعض الحالات البائسة من فقر، فتجد أولاداً لا يذهبون إلى المدرسة، والسبب أنهم لا يجدون ثياباً يلبسونها، وتفاجأ أن هؤلاء يجاورهم فلان وهو من أهل الخير، لكنه لم يعلم بحاجتهم ومسغبتهم، وهكذا في يوم عيد لا يخرجون، لأنهم ليس لديهم شيء يلبسونه ويخرجون به، فيعانون من أشياء يسيرة لا تكلف ثمناً، فأين الترافق والترابط والتراحم، حتى تغيب هذه الآلام؟. 

واعلموا أنه كلما كانت معاني الإيمان حية في النفوس كلما كانت هذه الروابط أقوى، ولذلك فإن أصحاب النبي ﷺ تركوا كل شيء لإخوانهم من المهاجرين، تصوروا لو عرضنا واقعة على مجتمعنا الحاضر، هذا عبدالرحمن بن عوف يأتي من مكة ليس معه إلا إزاره، فيؤاخي النبي ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها[3]، في مجتمعنا الذي نعيش فيه يعد هذا  نوعًا من السذاجة وضعف العقل، فلو جاء أحد يفعل مع إنسان هذه الطريقة للامه أقرب الناس إليه.

فهذه الرابطة لم تكن مجاملات ولا جاءت عن فراغ، بل كانت نتيجة لتربية إيمانية عالية.

 ولما جاء المهاجرون وهم ليسوا من مكة فقط، بل من كل القبائل المحيطة بالمدينة، وكانوا أكثر من الأنصار، ثم فتحت قريظة، فجمع النبي ﷺ، الأنصار، وفي البداية قال لهم النبي ﷺ: إن المهاجرين ليسوا بأهل زرع، وأنتم أهل زرع، فبدلاً من أن تقاسموهم الأرض والثمر ستكون هناك قسمة أخرى، تبقى الأصول لكم، والثمر بينكم، بحيث لا يشتغلون معكم، فتنفردون بالعمل أنتم  لأنكم أهل زرع، فكانت القسمة بهذه الطريقة، ثم لما فتحت النضير جمع النبي ﷺ الأنصار وخيرهم بين أمرين قال لهم: إما أن يبقى المهاجرون في أرضكم يقاسمونكم الأموال كما كانوا في السابق، وأقسمها بينكم -أي أرض النضير المليئة بالزروع والعقارات والدور، أو أنهم يخرجون من أرضكم وأقسمها بينهم خاصة، فقالوا: لا يا رسول الله، لا نقبل هذا أبداً[4].

 تصور لو عرضت علينا هذه القضية، لا شك أننا نقول: أصلاً الأرض أرضنا والمزارع مزارعنا ومع هذا نقتسم معهم!، ولكن انظر ماذا قال أصحاب النبي ﷺ قالوا: لا يا رسول الله، يبقون في أرضنا وتقسمها بينهم دوننا، من يفعل هذا؟ إنها تربية عالية، هكذا فعل الإيمان بهذه النفوس، الذين كانوا يقتتلون لربما أكثر من أربعين سنة على أشياء تافهة، وفي غاية الحسد، والبغضاء والشحناء يتحولون إلى هذا المستوى، وهذه لم تكن مجاملات، ليس أحد أعلم من الله بخبايا النفوس، وتكفي تزكية الله  لهم حيث قال: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، فهم أي الصحابة : كالبنيان يشد بعضه بعضًا لا يضيع الضعيف ولا  الفقير في مجتمعهم.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب نصر المظلوم، (3/ 129) برقم: (2446)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (4/ 1999)، برقم: (2585).
  2. المعجم الكبير للطبراني (12/ 154) برقم: (12741)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (1/ 278) برقم: (149).
  3. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، (5/ 31)، برقم: (3780).
  4. انظر: الصحيح من أحاديث السيرة النبوية (ص: 236).

مواد ذات صلة