الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين. قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أمَّ الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة[1]، وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته، قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر - إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع - أُمًّا، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ "أم الرأس"، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أُمًّا، قال: وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها، وجمعها ما سواها، وقيل: لأن الأرض دحيت منها".بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد سبق الكلام على بعض هذه المعاني في سبب تسمية سورة الفاتحة بأم القرآن، وعلى كل حال فتلك تعليلات يلتمسها العلماء في بيان وجه التسمية، ولا يقطع بشيء من ذلك، ولكن لعل أوجه الأقوال هو القول بأنها سميت بهذا؛ لأنها تجمع معانيه، ولا شك أن ما جمع ما تفرق في غيره يقال له ذلك في كلام العرب سواء كان ذلك في الذوات، أو كان في المعاني، وكذلك التقدم أيضاً فإنه يصح فيه مثل هذا، وعلى كل حال يبقى في القول بأنها سميت بذلك من أجل أنها كتبت في أول المصحف إشكال بناءً على أن ترتيب سور القرآن ليس توقيفياًً، والله أعلم.
"روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال في أم القرآن: هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم[2] وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني[3] روى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - في مسنده عن أبي سعيد بن المعلى قال: "كنت أصلي فدعاني رسول الله ﷺ فلم أجبه حتى صليت قال: فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُم [سورة الأنفال:24]"[4].هناك فائدة خارجة عن موطن الاستشهاد من هذا الحديث وهي أن هذا الحديث يستدل به في أصول التفسير وقواعده على أن الآية قد ترد لمعنى ولكن تحتمل في ظاهرها وعمومها معانِيَ أخر، وإن لم يكن ذلك المعنى الذي وردت فيه من قبيل سبب النزول، لكنه معنى متبادر، فتحمل على هذه المعاني جميعاً إن لم يوجد معارض، فالذي يدل على هذا من السنة هذا الحديث، فالأصل المتبادر من قوله تعالى: اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24] أن يستدل بها على أنها تدعو إلى طاعة الله ، وعبادته، وطاعة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وهنا استدل بها النبي ﷺ على أنه إذا ناداك باسمك فإن عمومها يشمل هذا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [سورة الكهف:54]، وذلك أنه لما جاء النبي ﷺ لعلي وفاطمة، ووجدهما نائمين، فقال: ألا تصليان؟ فقال علي : "إن أرواحنا بيد الله متى شاء أن يبعثها بعثها"، فخرج - عليه الصلاة والسلام - ورجع وهو يلطخ فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً[5] مع أن الآية إنما نزلت لبيان حال جدل الكافر بالبعث.
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى: لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ [سورة التوبة:108]، أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فقد وقع الخلاف بين الرجل الخدري والآخر الذي من بني عمرو بن عوف، فقال العوفي: إنه مسجد قباء، وقال الخدري: إنه مسجد النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: إنه مسجدي هذا.
كذلك في قوله ﷺ: يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، ثم قال: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [سورة الأنبياء:104][6].
فالآية سيقت في الاستدلال بالنشأة الأولى على البعث، فالذي خلق الخلق قادرٌ على أن يعيدهم ثانياً، فساقها النبي ﷺ في هذا المقام ليبين أنهم يبعثون كما ولدتهم أمهاتهم، فتعود إليهم أجزاؤهم التي فقدوها فقال: غرلاً، وبيَّن أيضاً أنه لا يكون معهم شيئ من اللباس والنعل، وما أشبه ذلك.
"ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد قال: فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله! إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم، الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته، وهكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه[7]، روى البخاري في فضائل القرآن عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: "إنّ سيد الحي سليم، وإنّ نفَرَنا غيب؛ فهل منكم راق؟" فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً".إن سيد الحي سليم: تعني أنه لديغ، وسمي اللديغ سليماً من باب التفاؤل؛ كما يسمون الأرض البيداء مفازة.
ما كنا نأبنه برقية: يعني ما كنَّا نعرفه برقية.
"فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ فقال: "لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب"، قلنا: "لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي، ونسأل رسول الله ﷺ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي ﷺ فقال: وما كان يدريه أنها رقية، اقسموا لي، واضربوا لي بسهم[8]".قوله: وما كان يدريه أنها رقية هذا الأقرب فيه أنه من أوصاف سورة الفاتحة، وليس من أسمائها؛ فهي توصف بأنها رقية يرقى بها، وهذا يدل على أن الرقية لا يشترط لها شخص معين يتجشم الناس الذهاب إليه، ويجتمعون عنده كما هو حاصل الآن، فمثل هذا غير صحيح، وإنما يمكن لكل أحد أن يرقي بفاتحة الكتاب.
"روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه عن ابن عباس - ا - قال: "بينا رسول الله ﷺ وعنده جبرائيل إذ سمع نقيضاً فوقه"قوله: "إذ سمع نقيضاً فوقه" يعني أنه سمع مثل صوت الباب إذا فُتح.
"فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي ﷺ فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته وهذا لفظ النسائي ولمسلم نحوه[9]"البشارة هنا لا تعني أنه نزل بسورة الفاتحة في تلك اللحظة، وإنما نزلت سورة الفاتحة قبلُ في مكة، وهذا الحدث كان في المدينة.
"روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام فقيل لأبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجَّدني عبدي - وقال مرة -: فوض إليَّ عبدي.."هذا الحديث جاء به هنا لبيان فضل سورة الفاتحة، وأخذ من هذا الحديث أيضاً تسمية سورة الفاتحة بسورة الصلاة وهذا من قوله: قسمت الصلاة...
ويمكن أن يستدل بهذا على أن البسملة ليست آية منها؛ لأنه على هذا لا تكون منقسمة على نصفين كما يفهم من هذا الحديث أن معنى الحمد غير معنى الثناء، فالحمد هو إضافة المحامد وصفات الكمال إلى المحمود، والثناء هو إعادة الحمد ثانياً أي تكرره وتثنيه من التثنية.
"فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل"
أي أن قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ يكون لله حيث يتوجه المكلف إلى الله بأعماله له سبحانه، ويتقرب إليه، وقوله: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] أي أنه يطلب منه العون.
"فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وهكذا رواه النسائي[10]، وفي لفظٍ عند مسلم والنسائي: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل[11] وهو أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة والمراد القراءة كقوله تعالى: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [سورة الإسراء:110]"قوله: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ أي بقراءتك، والمراد به قراءة الفاتحة على وجه الخصوص، فالصلاة والعبادة قد تسمى بجزئها، والنبي ﷺ قال: الحج عرفة[12] فدل ذلك على أنه ركنٌ فيها، والقاعدة في هذا الباب هي أنه إذا سميت العبادة بجزئها فإن ذلك يدل على أنه ركنٌ فيها، أو أنها لا تصح بدونه، ففي قوله - تبارك وتعالى -: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] يدل هذا على ركنية القراءة في الصلاة؛ لأن تسمية العبادة بجزءٍ منها يدل على أنه ركنٌ فيها.
"كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس - ا - وهكذا قال في هذا الحديث: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظمة القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها".هذا يدل أيضاً على أن إطلاق العبادة على جزءٍ منها يجعله من أركانها، فسورة الفاتحة ليس من أسمائها الصلاة، وإنما أطلقت الصلاة على جزءٍ منها وهي الفاتحة، فصدق عليها أن تكون ركناً في الصلاة.
"إذ أطلقت العبادة وأريد بها جزءٌ واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78]، والمراد صلاة الفجر، كما جاء مصرحاً به في الصحيحين إنه يشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، فدل هذا كله على أنه لابد من القراءة في الصلاة وهو اتفاق من العلماء، وقد دل عليه الحديث المذكور حيث قال - صلوات الله وسلامه عليه -: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج[13] والخداج: هو الناقص، كما فسر به في الحديث: غير تمام، وأيضاً قد ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت  قال: قال رسول الله ﷺ: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب[14] وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله ﷺ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن[15]. على كل حال فإن البحث في حكم قراءة الفاتحة في الصلاة مما يذكر في الفقه، لكن ذكره ابن كثير هنا، ومعلوم أن من منهجه - رحمه الله - أنه يشير إلى الأحكام الفقهية في هذا التفسير، فهو - رحمه الله - يفسر القرآن بالقرآن، ويفسر القرآن بالسنة وبالآثار، وكذلك أيضاً يذكر الأحكام لكنه لا يستطرد، ولا يتوسع فيها كما يفعل بعض من عني بمسائل الأحكام كالقرطبي - رحمه الله - في تفسيره، والشنقيطي في "أضواء البيان"، وأمثالهما، وأما ابن كثير فلا يتوسع لكنه يشير إلى الأحكام في هذا التفسير إشارة.
وقراءة سورة الفاتحة في الصلاة أظن أنها ركن لا تسقط لا خلف الإمام، ولا في حال الانفراد، ولا بحالٍ من الأحوال، فيجب على الإنسان أن يقرأها، اللهم إلا إن جاء والإمام راكع أو يهم بالركوع أو نحو هذا، فمثل هذا دل عليه حديث أبي بكرة لما جاء وركع دون الصف، فدل على أن ذلك يسقط لفوات محله، وتحتسب له هذه الركعة، وهذه مسألة فيها خلاف مشهور وكثير فيما إذا كان خلف الإمام في الصلاة الجهرية، لكن ظواهر الأدلة تدل على أنه يقرأ بفاتحة الكتاب، ولا يترك ذلك، فإن كان للإمام سكتات قرأ في سكتاته، وإن لم يكن له سكتات قرأ أثناء قراءته قراءة يسرع فيها حتى ينهي الفاتحة امتثالاً لأمر الله .
وهذه المسألة من المسائل التي لا يمكن فيها الخروج من الخلاف، لكن ينبغي العمل بالأحوط؛ لأنه إن قرأ فعند الآخرين أنه عاصٍ لله؛ لأن الله يقول: فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ [سورة الأعراف:204]، وعند من يقول بأنه يجب عليه أن يقرأ ويستدلون بمثل هذه الأحاديث، إذا ترك القراءة يقولون: لا تصح صلاته، فهو على هذا عند هؤلاء يأثم، وعند هؤلاء صلاته باطلة، لكن من اجتهد فأداه اجتهاده إلى أنها لا تقرأ خلف الإمام، أو سأل عالماً فأفتاه بهذا فلا يقال ببطلان صلاته بحالٍ من الأحوال، بل صلاته صحيحة، والله لا يكلفه بأكثر من هذا، وهذا من لطف الله .
ولذلك فالمسائل المختلف فيها مما يقْوى فيها الخلاف أو يخفَى مأخذ المسألة فإنها تعد من المسائل الاجتهادية، وإن وردت فيها الأدلة الصريحة مثل هذه المسألة، فالأدلة واضحة وصريحة لكنها متقابلة، فهذا التقابل صيّرها من مسائل الاجتهاد وليست من المسائل المقطوع بها، والله تعالى أعلم.
والله في مثل هذه المسائل لم يجعلها مما يترتب عليها النجاة، فالمسائل التي تترتب عليها النجاة بيّنها الله وحسمها مثل: وجوب الصلاة، ووجوب الصيام، والحج وما أشبه هذا، وأما باقي التفاصيل التي تحتها فهذه لا تتوقف عليها النجاة، بل يجتهد فيها العلماء ويختلفون.
"والأحاديث في هذا الباب كثيرة، فعلى المصلي أن يقرأ فاتحة الكتاب إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً في جميع الصلوات، وفي كل ركعة ولا بد قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۝ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:199-200]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ۝ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:96-98]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة فصلت:34-36]، فهذه ثلاث آيات ليس لهنَّ رابعة في معناها".هذه من اللطائف التي في تفسير ابن كثير، فهذا التفسير يشتمل على لفتات ولطائف جميلة لو أن الواحد دوَّنها مع الأشياء الأخرى التي تمر به من قواعد التفسير، والقواعد التي تتعلق بالأحكام؛ فإنه ستجتمع عنده مجموعة من تلك الفوائد، واللطائف، والأحكام قد تصل إلى أن تكون بحثاً مستقلاً، فالقواعد التي في تفسير ابن كثير تصل إلى سبعين صفحة إذا كان مختصراً.
"فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعةٌ في معناها، وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي، والإحسان إليه؛ ليردَّه عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل مصانعة، ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم؛ لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم".يعني دائماً مع العدو الإنسي ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كما في هذه الآيات الثلاث، وأما العدو من الجن فليس فيه حيلة، فإنك إن تحسن إليه فليس لذلك معنى، ولا فائدة، وإنما يزداد شراً وعتواً، بل لا تستطيع الوصول إليه أصلاً حتى تحسن إليه، ولذلك فهو إنما يدفع بالاستعاذة.
"لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ [سورة الأعراف:27]، وقال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:6]".الإنسان قد يبتلى بأضدادٍ وخصوم، وهؤلاء الأضداد والخصوم يتسلطون عليه إما بسبب زلةٍ زلها، أو سقطةٍ وقعت منه، أو ذنب أذنبه؛ فيقابله هؤلاء الأضداد والخصوم إما بإساءة فحسب، وإما بعداوة.
وتارةً يكون تسلطهم عليه من غير كسبٍ منه، ولا إساءة؛ لكنهم أعداء للمروءة، وأعداء لأهل الفضل، فإذا رأوا أحداً قد ميزه الله ، وأعطاه، وأفضل عليه؛ تحركت نفوسهم وعادوه، وطلبوا كل سبيل يوصلون الأذى فيه إليه، وهؤلاء إمامهم إبليس، فآدم لم يصنع به شيئاً أصلاً، ومع ذلك أبرم هذه العداوة، وتوعد ذريته: قَالَ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [سورة الإسراء:62] حتى إنك تجد العبارات التي توعد بها عبارات قوية، فقوله: لأَحْتَنِكَنَّ هو توعد على أعلى المستويات مع أن آدم لم يصنع شيئاً به، لكنها بلوى.
والمقصود أن العداوة إن صدرت من شياطين الجن فعلاج ذلك الاستعاذة، وإن كانت صادرة من شياطين الإنس فالبعد والسلامة، فهذه العداوة هي مثل النار التي في الهشيم لا تبقي ولا تذر، فالبعد عنها هو العافية.
"وقال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [سورة الكهف:50]، وقد أقسم للوالد آدم أنه له لمن الناصحين، وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص:83]، وقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۝ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل:98-100]، ومعنى قوله: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة النحل:98] أي إذا أردت القراءة كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ.. [سورة المائدة:6] الآية".هذا من تفسير القرآن بالقرآن بمعنى أننا إذا أخذنا بظاهر اللفظ مجرداً فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ نجد أن قرأت فعل ماضي يعني إذا فرغت من القراءة، وهكذا ربما يفهم السامع، وهكذا فهم بعضهم، فقال: إن الاستعاذة تكون بعد الفراغ من التلاوة، فهذا قاله بعض أهل العلم، لكنه قولٌ شاذ، وهذه الآية إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ لا شك أن معناها إذا أردتم القيام، إذ لا يكون الوضوء بعد الفراغ من الصلاة قطعاً؛ لأنه لا تصح الصلاة إلا بوضوء، وكذلك فعل النبي ﷺ يفسر الآية، حيث كان يستعيذ قبل القراءة، ولذلك لجأ بعض أهل العلم للجمع بين هذا وبين ما فهموا من الظاهر فقالوا: إن الاستعاذة تكون في أول القراءة وبعد الفراغ منها؛ باعتبار أن الاستعاذة في البداية تكون امتثالاً، ولطرد الشيطان عنه فلا يشغل بوساوسه، وبعد الفراغ من أجل ألا يحصل له عجبٌ والتفات إلى العمل، وغرور، وتعاظم بعد هذا العمل الطيب الذي تعبد الله به، إلا أن هذا القول غير صحيح، فالاستعاذة إنما تكون في أول القراءة.
"أي إذا أردتم القيام، والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله ﷺ بذلك، روى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه[16] رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي: هو أشهر شيء في هذا الباب".هذا يدل على أن الاستعاذة تكون قبل القراءة، وفي الصلاة تقال في الركعة الأولى قبل قراءة الفاتحة، ولا تردد في كل ركعة، كما أنها لا تقال قبل قراءة السورة التي بعد الفاتحة.
ومن هذا الحديث يستفاد أن من الصيغ المشروعة في الاستعاذة أن تقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه، وهكذا السنة تفسر القرآن، فالله أمر بالاستعاذة بقوله: فَاسْتَعِذْ، وبعض أهل العلم: فُهِم من ذلك الإطلاق، وأن المقصود أن يستعيذ، فإذا قال الإنسان مثلاً: استعذت من الشيطان الرجيم، أو استعذت بالله من الشيطان، وهكذا استحسن بعضهم صيغاً من عند أنفسهم وقالوا: هكذا يستعيذ المرء بالله من الشيطان الرجيم، وهذا كلام غير صحيح، فالله أمر بالاستعاذة كما أمر بالصلاة، وكما أمر بالحج، والنبي ﷺ علمنا كيف نصلي، وكذلك علمنا كيف نستعيذ، فنقول كما قال: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه)) وهذه أكمل صيغ الاستعاذة، ولها صيغ أخرى صحت عن رسول الله ﷺ.
والهمز هو الخنق، فالشيطان يخنق ويصرع كما قال الله : كَالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [سورة البقرة:275] أي: يخنقه فيصرعه، والنفخ يعني الكبر والتعاظم، والنفث يعني الشعر أو السحر.
"وقد فسر الهمزة بالموتة وهي الخنق، والنفخ بالكبر، والنفث بالشعر".
المقصود بالنفث الشعر السيء الذي يمدح الإنسان فيه بالباطل على سبيل التملق كما قال تعالى: وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [سورة الشعراء:224]، وقد قيل: لا تصاحب شاعراً، فإنه يمدحك بالثمن، ويهجوك مجاناً، أي أنه إذا رأى منك ما رأى تولاك بالهجاء من غير أن تدفع له ثمناً، ولكنه لا يمدحك إلا وهو يرتقب منك العوض، والمقصود بهؤلاء الشعراء هم الشعراء القدامى، أما الآن فقد مات الشعر، وتركه الناس، وصار الشاعر إذا مدح وهجا لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، ولا يقرأ شعره، أما في الماضي فقد كانت القصيدة هي لسان البيان.
"كما رواه أبو داود وابن ماجه عن جبير المطعم عن أبيه قال: رأيت رسول الله ﷺ حين دخل في الصلاة قال: الله أكبر كبيراً - ثلاثاً -، الحمد لله كثيراً - ثلاثاً -، سبحان الله بكرة وأصيلاً - ثلاثاً -، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه، قال عمرو: همزه الموتة، ونفخه الكبر، ونفثه الشعر[17]، وقال ابن ماجه: حدثنا علي بن المنذر قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه، ونفخه، ونفثه[18] قال: همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر". هذه من صيغ الاستعاذة، ومن الصيغ كما سبق: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وكذلك قول الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وله أن يتخير من هذه الصيغ ما شاء.
ولا يقال: إن قوله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه يختص بصلاة الليل، وإنما هي صيغة من صيغ الاستعاذة، وإذا اختار الإنسان الصيغة الأكمل فلا شك أن ذلك أكمل، وإذا نوَّع تارة بهذا وتارة بهذا فهو حسن أيضاً.
"وروى الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده عن أبي بن كعب قال: تلاحى رجلان عند النبي ﷺ، فتمزع أنف أحدهما غضباً، فقال رسول الله ﷺ: إني لأعلم شيئاً لو قاله لذهب عنه ما يجد؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة[19]، وروى البخاري عن سليمان بن صُرَد قال: استب رجلان عند النبي ﷺ ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي ﷺ: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله ﷺ، قال: "إني لست بمجنون"، وقد رواه أيضاً مع مسلم وأبي داود والنسائي[20]، وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا، وموطنها كتاب الأذكار، وفضائل الأعمال، والله أعلم.
وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها، وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة، واحتج الرازي لعطاء بظاهر الآية: فَاسْتَعِذْ وهو أمر ظاهره الوجوب، وبمواظبة النبي ﷺ عليها، ولأنها تدرأ شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولأن الاستعاذة أحوط، فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك".
قوله: فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك يعني يكون قد تحقق المطلوب.
قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ جاء بصيغة الأمر، والأصل أن الأمر للوجوب، فاستدل القائلون بوجوب الاستعاذة عند قراءة القرآن بدليلين من المنقول، ودليلين من النظر؛ إلا أن الأخير منهما ليس دليلاً ولكنه مما يندب إليه المكلف وهو العمل بالأحوط، والعمل بالأحوط يندب إليه في الأحوال التي تحتمل ذلك وليس في كل قضية يندب إليه، فهناك قضايا لا يتأتى فيها العمل بالأحوط.
والمقصود أن أدلة القائلين بوجوب الاستعاذة من القرآن قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة النحل:98] وذلك أنه جاء بصيغة الأمر، ومن أدلة ذلك من السنة مواظبة النبي ﷺ على ذلك، واستدل على ذلك من النظر بأن ذلك يدرأ شر الشيطان، والعبد بحاجة إلى هذا بين يدي القراءة.
وعلى كل حال فالقول بوجوب الاستعاذة عند كل قراءة فيه إشكال، وذلك أنه إما أن يقال: إنه يوجد صارف وهو أنه لم ينقل عن النبي ﷺ في صفة صلاته في كل الأحوال أنه استعاذ، وإما أن يقال: إن خطب النبي ﷺ المنقولة عنه لم يرد فيها أنه كان  يستعيذ إذا أراد أن يستشهد بآية أو آيات، وإما أن يقال: قد لا يوجد له صارف معلوم لدينا، وهذا باعتبار أن القواعد أغلبية، ويكون هذا من الأمثلة على نوع العبادات التي جاء الأمر فيها صراحةً ولكنه لا يحمل على الوجوب مع عدم وجود الصارف الظاهر، فالقواعد أغلبية بمعنى أنه إذا قيل: الأمر للوجوب فهذا يكفي أن يصدق على ثمانين في المائة، أو خمسة وسبعين في المائة، أو تسعين في المائة من الأمثلة، ويبقى قسم منها لا يعلم له صارف، ومع ذلك لا يحمل على الوجوب.
"ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث".
هذه من لطائف هذا التفسير، فالطهارة للبدن تكون بالماء وضوءاً وغسلاً، أو بما يقوم مقامه كالتيمم، فالإنسان يتهيأ للصلاة، ويتهيأ للقراءة، فيكون متوضئاً حتى تحصل له هذه الطهارة، فهذه طهارة حسية، ويشرع له إذا أراد القراءة أن يجمع بين الطهارة الحسية والطهارة المعنوية وذلك بالاستعاذة، فهو كما يطهر بدنه بالغسل أو بالوضوء تهيؤاً للصلاة مثلاً؛ فكذلك يتهيأ للقراءة بطهارةٍ معنوية هي تطهير الفم من اللغو وما أشبه ذلك، والتنزه من الشيطان وملابسته، ووسوسته وما أشبه ذلك.
"وهو لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله، واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان بخلاف العدو من نوع الإنسان، كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني، وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [سورة الإسراء:65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً، ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً أو موزوراً، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان".هذه الجملة من كلام ابن كثير فيها ثلاث لطائف:
الأولى: أن يجمع الإنسان بين الطهارة بالماء وطهارة الفم من اللغو، والتطهر المعنوي أيضاً بالتباعد عن الشيطان بهذه الاستعاذة.
الثانية: أن هذا يتضمن الاعتراف بالعجز عن دفع الشيطان، وأن المصانعة للشيطان لا حيلة للعبد فيها إلا أن يستعيذ منه.
الثالثة: أنه ذكر الفرق بين العدو الإنسي والعدو الجني، وأن الذي يغلبه عدوه من شياطين الجن يكون طريداً بخلاف ما إذا غلبه عدوه من الإنس، فالأول يكون فاجراً ضالاً بعيداً عن هدى الله قد تمكن منه الشيطان، واستحوذ عليه، وأما الثاني فهو مأجور إذا غلبه عدوه من الإنس.
ويتصل بهذه اللطيفة ما ذكره هنا من كون الشيطان يرى الإنسان ولا يراه، فحيلة الإنسان أن يستعيذ منه بالله الذي يرى الشيطان ولا يراه.
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير الاستعاذة: "والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير". فمعنى الاستعاذة أي طلب العوذ؛ لأن السين والتاء للطلب تقول: الاستغفار يعني طلب المغفرة، وتقول: الاستعطاف يعني طلب العطف، والاستعاذة أي طلب العوذ، والعوذ يأتي بمعنى الإجارة أن يمنعك، وأن يعصمك وأن يجيرك من الشيطان الرجيم، وبعض أهل العلم كما أشار الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يفرق بين العوذ واللوذ فيقول: العوذ هو طلب الإجارة من المكاره، واللوذ هو الالتجاء لأجل تحصيل المطلوبات والمحبوبات، ويذكرون في هذا قول الشاعر:

يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره

وبعض أهل العلم يقول: العوذ يكون في هذا وفي هذا، قد يكون الغالب في الاستعمال والمتبادر عند الإطلاق في الاستعاذة أنها طلب العوذ بالإجارة من المكاره أي مما يخافه الإنسان، ويطلب الخلاص منه، والله أعلم.
"ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس، ومداراته؛ بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة، ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرِّير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه.
وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199] فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:200]، وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ۝ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:96-98]، وقال تعالى في سورة حم السجدة: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة فصلت:34-36]".
هذه فائدة كان قد ذكرها قبلُ وهي في كيفية التعامل مع شياطين الإنس، والتعامل مع شياطين الجن، وهي من اللطائف التي في هذا الكتاب.
"الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط؛ لأنه مخلوق من نار". هذا الشيطان الذي نستعيذ منه المشهور أن مادته مشتقة من شطن كما ذكر أولاً، تقول: شطن بمعنى بَعُدَ، وتقول: شطنت البئر بمعنى أنها بَعُدَ قعرها حتى لا تصلها الدلاء، وتقول: شطنت ديار زيد، بمعنى بعدت، وقال الشاعر:

نأتْ بسعاد عنك نوىً شطون فبانت والفؤاد بها حزين

فقوله: نأتْ بسعاد عنك نوىً شطون يعني صارت ديارها بعيدة لا يوصل إليها إلا بمشقة، وقيل: للشيطان ذلك لأنه بعيدٌ عن الخير، وعن طاعة الله ، وبعيد عن الإيمان والهدى، وكل معروف، وبعيد عن رحمة الله ، فكل ألوان البعد هو موصوفٌ بها، وهذا المعنى الأول هو المشهور عند العلماء وهو: أنه مأخوذٌ من شطن.
والمعنى الثاني الذي ذكره هنا هو: أنه مأخوذ من شاط يشيط فهو شيطان، واللفظة دالة على الامتلاء عموماً تقول: غضبان على وزن فعلان، وظمآن وعطشان وجوعان، وما إلى ذلك من الألفاظ التي تدل على الامتلاء، فإذا قيل: إنه من شاط يشيط بمعنى عتا وتمرد، فازداد عتوه وتمرده، وخروجه عن طاعة الله ، وإفساده للخلق بما يلقيه إليهم من الوساوس، ويزين لهم من الشرور، تقول: استشاط فلانٌ غضباً أي امتلأ غضباً، وبلغ به الغضب مبلغه، وتقول: اشتط فلان في هذا الأمر، وهذا المعنى الثاني - شاط يشيط - يطلق عند العرب على كل عاتٍ متمردٍ سواء من الإنس، أو من الجن، ومنه البيت المشهور المعروف:

أيام يدعونني الشيطان من غضبٍ وكنّ يهوينني إذ كنت شيطانا

أي يوم أن كان عاتياً متمرداًفي أيام شبابه، وقال الشاعر يمدح سليمان - عليه الصلاة والسلام -:

أيما شاطنٍ عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأكبال

"وقيل مشتق من شاط؛ لأنه مخلوق من نار، ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى ولكن الأول أصح، وقال سيبويه: "العرب تقول: تشيطن فلان إذا فعل فِعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا: تشيَّط". هذا الكلام من سيبويه - رحمه الله - تعليل لماذا كان الأول أصح من جهة تصريف الكلمة، فيقول: "العرب تقول: تشيطن إذا فعل فِعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا: تشيط"، فيقال: شاط فهو متشيط، لكن شطن فهو شاطن، وشيطان للمبالغة والدلالة على الامتلاء كما سبق معنا.
"فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح، ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطاناً قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112]، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: نعم[21]، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أيضاً قال: قال رسول الله ﷺ: يقطع الصلاة َالمرأة ُ، والحمار، والكلب الأسود، فقلت: يا رسول الله! ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان[22]، وروى ابن جرير أن عمر بن الخطاب  ركب بِرْذَوْناً فجعل يتبختر به فجعل يضربه، فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: "ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي"[23] [إسناده صحيح]".إذا قال الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان، فـ "أل" هذه هل هي للعهد، فأنت تستعيذ بالله من الشيطان المعهود الذي هو إبليس مثلاً، أم أنها للجنس بمعنى أنك إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان أي من كل شيطان؟ يحتمل هذا وهذا، فبعض أهل العلم يقول: هي للجنس، فأنت تستعيذ بالله من كل الشياطين، ومعلومٌ أن الذي يوسوس ليس هو إبليس فقط وإنما إبليس وجنوده، أعوذ بالله من الشيطان أي من كل شيطان.
"والرجيم فعيل بمعنى مفعول، أي أنه مرجوم مطرود عن الخير كله".
باعتبار أن رجيم مصدر، فأصل المادة إذا أرجعناها إلى الفعل من رجم، وتقول: رجماً فهو رجيم، والمصدر يطلق ويراد به الفاعل تارةً، ويراد به المفعول تارةً أخرى، وبهذا فإن لفظة رجيم يمكن أن تكون بمعنى مرجوم، والمعنى الذي ذكره هنا فعيل بمعنى مفعول يعني مرجوم، فإن شئت فقل: هو مرجومٌ بالشهب كما قال تعالى: وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ۝ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [سورة الصافات:8-10]، والله أخبر عن النجوم أنه جعلها رجوماً للشياطين، فالشيطان يرجم بالشهب، ويرجم أيضاً بالذم، والسب، واللعن وما أشبه ذلك من كل قبيح يوصف به ويضاف إليه، وأيضاً هو مرجوم بمعنى مبعد ومطرود عن رحمة الله ، وقد يكون بمعنى فاعل أي رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجُم الناس بالوساوس والخواطر السيئة، ويرجمهم بما يزين لهم من المنكر والباطل، لكن المعنى الأول هو المشهور، ولو قال قائل: إنه يحمل على المعنيين جميعاً فليس ذلك ببعيد والله أعلم، فهو مرجوم بالاعتبار الأول، وهو راجمٌ بالاعتبار الثاني، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والقاعدة أن اللفظ إذا احتمل معنيين فأكثر من غير ممانعة من حمله على أحدها فإنه يحمل على الجميع، والله أعلم.
"والرجيم فعيل بمعنى مفعول، أي أنه مرجوم مطرود عن الخير كله كما قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [سورة الملك:5] وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ۝ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ۝ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [سورة الصافات:6-10]، وقال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ۝ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ۝ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [سورة الحجر:16-18] إلى غير ذلك من الآيات وقيل: رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث، والأول أشهر وأصح.بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:1] افتتح بها الصحابة كتاب الله، واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أو من أول كل سورة كتبت في أولها، أو أنها بعض آية من كل سورة".المذاهب التي أشار إليها هي:
الأول:
أنها أول آية من كل سورة -إضافة إلى كونها بعض آية من سورة النمل- سوى سورة براءة.
الثاني: أنها ليست آية من كل سورة وإنما تكون في بداية كل سورة لا على أنها من آيات السورة وإنما تكون للفصل بين السور.
وبعضهم يقول: هي آيةٌ من سورة الفاتحة فحسب.
وبعضهم يقول: لا هذا ولا هذا، أي أنها ليست آية مستقلةً أصلاً، لا للفصل بين السور، ولا من الفاتحة، وليست بآية من كل سورة، وإنما هي بعض آية من سورة النمل التي قال الله فيها: إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل:30].
والبحث في هذا طويل ومعروف ومشهور، ومن طلبه وجده في الكتب المطولة، وهناك مصنفات خاصة بالبسملة مستقلة، وبعضها مخطوط، وتجدون هذا في كتب التفسير، لا سيما كتب أحكام القرآن، وبعضهم يطيل فيه جداً، وتجدونه في شروح الحديث، والفقه، فالمسألة ليست خفية على أحد وإنما هي من المسائل المشهورة، والخلاف فيها كبير وكثير ومشهور، ومذاهب الأئمة فيها معروفة، وإن كانت هذه المذاهب تحتاج إلى تحرير سواء فيها أو في غيرها من كثير من المسائل، إلا أن هذه المسألة من أبرز المسائل التي إذا نظرت فيها عرفت أن هذه المذاهب لا ينبغي أن تؤخذ إلا من كتب أصحابها، وإلا فإنك تجد أشياء تنسب إلى الأئمة لم يقولوا بها في مثل هذه المسألة وفي غيرها وذلك إذا أخذت ذلك من الكتب الأخرى.
وأما المنقول عن الصحابة والتابعين فهو يحتاج أيضاً إلى تحرير، وإلى مراجعة في صحته وثبوته، ذلك أنه من أعجب الأشياء المنتشرة أنك تجد المسألة ينسب فيها أحد الأقوال إلى الخلفاء الأربعة وينسب القول الآخر الذي يخالفه تماماً إلى الخلفاء الأربعة كذلك!
فالحاصل أن هذه المسألة نموذج على ما ذكرت من شدة الحاجة إلى التحقق من نسبة الأقوال إلى قائليها سواء من الصحابة أو من غيرهم ممن جاء بعدهم من أصحاب المذاهب أو غيرهم أجمعين.
"وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة: ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلي . ومن التابعين: عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري، وبه يقول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام - رحمهم الله -".هذا هو القول الأول وهو أنها آية من كل سورة إلا براءة، أي أنها معدودة من كل سورة وليست للفصل بين السور.
وهؤلاء يستدلون بأدلة، لكن ليس هنا مقام ذكر الأدلة والجواب عنها وإلا فلن ننتهي، لكن من أشهر أدلتهم حديث أنس في سورة الكوثر: "بينما رسول الله ﷺ بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءةً، ثم أفاق وهو يضحك، فقال: أنزلت علي آنفاً سورة، ثم قرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [سورة الكوثر:1][24]

وكذلك ما جاء في وصف قراءته ﷺ كما في حديث أم سلمة[25]، وكذلك في حديث أنس من أن قراءته ﷺ كانت مداً يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم[26].
هذه من أدلتهم الصحيحة الثابتة لكنها ليست صريحة في الدلالة على أن البسملة آية من كل سورة، فحديث أنس في سورة الكوثر مثلاً يبين أنه قرأ النبي ﷺ البسملة كما نبسمل في أوائل السور، فقد تكون مستقلةً تقال بين يدي قراءة السورة للفصل بين السور، فالمقصود أن هذا الدليل ليس بقاطع على أن البسملة آية من كل سورة، بل يوجد ما يدل على خلاف ذلك، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1] يقول العلماء: إنها بالإجماع أربع آيات من غير البسملة، وسورة الكوثر يقولون بالإجماع: إنها ثلاث آيات، فالبسملة تكون رابعة على هذا، ويقولون: إنها أقصر سورة، والإعجاز يتحقق بأقصر سورة هي ثلاث آيات.
ثم إن أثر ابن عباس الثابت عنه صريح في أنها ليست آية في كل سورة حيث قال: كان النبي ﷺ لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم[27].
وأصرح من هذا كله قول النبي ﷺ في سورة تبارك: إن سورةً ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له[28] وسورة تبارك ثلاثون آية من غير البسملة.
ومما يدل على أنها ليست آية في كل سورة ما ثبت عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة أنه كان يفتتح القراءة بـ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2][29].
فالمقصود أن هذه الأدلة وغيرها تدل على أن ما فهمه أصحاب هذا القول من مثل حديث أنس لما قرأ النبي ﷺ سورة الكوثر، وقرأ البسملة أن هذا الفهم ليس بقاطع أنها منها أبداً، كما أنه توجد أدلة أخرى يفهم منها خلاف ذلك، وإنما غاية ما في الأمر أن النبي ﷺ قرأ البسملة عند قراءته لسورة الكوثر، ولا يلزم أنه قرأها بناءً على أنها الآية الأولى من سورة الكوثر إطلاقاً، وعلى كل حال هذا هو القول الأول.
"وقال مالكٌ وأبو حنيفة وأصحابهما: "ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور"
مالك وأبو حنيفة يقولان ليست البسملة آيةً من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وهذا يضيفونه إلى طائفة كثيرةٍ من القُرَّاء، من قراء مكة والمدينة والشام، وهو منسوب إلى الأوزاعي ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -، ويقولون إنها ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها مع إقرارهم أنها جزء من آية من سورة النمل.
ويلاحظ أن هذا قول لطائفة من القراء، كما أن القول الأول أيضاً منسوب إلى طائفة من القراء، ولذلك فإن مثل هذا أظنه يرجع إلى القراءة فهي ثابتة على أنها آية من كل سورة سوى براءة في بعض القراءات، وفي بعضها ليست كذلك لا في الفاتحة ولا في غيرها، ولذلك كما هو معلوم أن من أوجُه القراءات الصحيحة الثابتة المتواترة إسقاط البسملة أصلاً، فيصلون السورة بالسورة من غير بسملة، فلو أعيد هذا إلى القراءة أظن أن هذا سيحل الإشكال من أصله، فمن قرأ بقراءةٍ البسملةُ آيةٌ فيها من كل سورة سوى براءة فإنه لا يتركها أبداً، وتكون في عداد آيات السورة، ومن قرأ بقراءة فيها الإسقاط فله أن يسقط ويصل السور من غير بسملة، ويترك ذلك عند قراءته للسور في الأذكار كالمعوذات وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، وكذلك إذا قرأ في الصلاة لا يبسمل، بمعنى أنه لا يجب عليه أن يبسمل إذا قرأ بقراءة أخرى في الصلاة، وهذا يُحلُّ به الإشكال.
قال صاحب المراقي:

وبعضهم إلى القراءة نظر وذاك للوفاق رأيٌ معتبر

والخلاف شهرته أكثر في سورة الفاتحة، هل البسملة آية منها أم لا؟ وليست شهرة الخلاف في السور الأخرى بقدر ما هي بسورة الفاتحة، مع أنه خلاف موجود في هذا وفي هذا كما هو مشاهد، وكما قلت آنفاً: يمكن أن يرجع هذا إلى القراءة، لكن الذين يختلفون لا يلزم أنهم يقولون: إن هذا يرجع إلى القراءة وإلا لكان الموضوع قد انتهى، ولصار الاختلاف اختلاف تنوع أما الآن فالخلاف خلاف تضاد.
وأما لماذا أسقطت البسملة من سورة براءة؟ فالعلماء يتكلمون عنه، ويلتمسون فيه بعض التعليلات لكن لا يقطع بشيء منها، فبعضهم يقول: لأنها نزلت بالبراءة فلا يحسن أن تُبتدأ بـ بسم الله الرحمن الرحيم، وبعضهم يقول: إن الصحابة وقع عندهم تردد هل هي سورة مستقلة أم هي من الأنفال؛ لأنها تشبهها إلى حدٍ كبير، وبعضهم يقول غير هذا، والله أعلم.
"وقال داود: هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل"
هذا القول قول داود الظاهري، يقول فيه: "وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل"، بل هو مذهب الإمام، بل هو المنصوص عنه صراحة أنها كما قال هنا: آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، أي أنها تنزل للفصل فقط بين السور وليست في عداد السورة، وهذا هو مذهب عبد الله بن المبارك - رحمه الله - واختاره جمعٌ من الأئمة من المتقدمين والمتأخرين كابن قدامة صاحب المغني، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وتلميذه ابن القيم، وحتى ابن جرير هذا ظاهر المنقول عنه، وكذلك الإمام ابن خزيمة.
لكنه لم يذكر القول المشهور الذي هو من أشهر ما يذكر عند ذكر الخلاف في البسملة، وهو: هل هي آية من الفاتحة أم لا؟ فهذا مذهب ومن أشهر المذاهب في هذه المسألة لم يذكره هنا، فالقول بأنها آية من الفاتحة وليست آية من كل سورة هذا منسوب إلى كثير من القراء، بل نسبه بعضهم إلى أكثر القراء، وينسب إلى جمعٍ من الأئمة من السلف وهذا يحتاج إلى تحرير أيضاً في نسبته وصحته عنهم، وقد نُسب إلى سعيد بن جبير، والشافعي - رحمه الله -، وهي قراءة نافع أصلاً - قراءة أهل مكة -، والشافعي - رحمه الله - كان من أهل مكة، ورواية عن أحمد، وهو قول ينسب لإسحاق بن راهويه - رحمه الله -، ولأبي عبيد القاسم بن سلام، ولأبي ثور، وجمع كثير جداً.
"فأما الجهر بها في الصلاة فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال: إنها آية في أولها، وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا".مسألة الجهر بالبسملة في الصلاة:
من رأى أنها ليست من الفاتحة ولا من غير الفاتحة فهذا قطعاً لا يجهر بها، لكن يبقى الكلام في من قال: إنها آية من الفاتحة أو أنها آية من كل سورة، فمن يقول: إنها آية للفصل بين السور، أو أنها آية من كل سورة أو غير ذلك لا يلزم منه القول بالجهر؛ لأننا إذا رجعنا إلى الأدلة المنقولة عن النبي ﷺ فنجد أن الثابت عنه ﷺ وعن خلفائه الراشدين هو ترك الجهر بالبسملة، يعني لو كان الإنسان يتخير القول بأنها آية من الفاتحة أو آية من كل سورة بناءً على ما ثبت في بعض أوجه القراءات فهل نقول: السنة له أن يجهر؟
قد لا يقال له ذلك؛ لأن النبي ﷺ لم يكن يجهر بقراءة البسملة.
قوله: "فأما الجهر بها في الصلاة فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال: إنها آية في أولها" في ظني أن هذه العبارة تحتاج إلى تحرير ومراجعة وضبط؛ لأنها عبارة فيها إشكال، والله أعلم.
"وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا، فذهب الشافعي - رحمه الله - إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً".إذا كانت القضية تتعلق بالقراءة خارج الصلاة فالأمر في هذا واسع، واختار كثيرٌ من القراء أنه يجهر بها إن جهر بالقراءة، ويسر بها إن أسرَّ، وهذا واضح ولا إشكال فيه، والنبي ﷺ لما قرأ سورة الكوثر قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فهذا الكلام خارج الصلاة.
لكن حينما نقول: الجهر بها في الصلاة فهذه قضية عبادة، والنبي ﷺ كان يصلي بأصحابه، فالذين يقولون: إنه يجهر بها في الصلاة يستدلون بأدلة ومنها قراءة النبي ﷺ سورة الكوثر، حيث قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فأسمع أصحابه، فيقال: هذا يستدل به للقراءة خارج الصلاة بحيث إذا جهر بالقراءة جهر بالبسملة، وإن أسر بالقراءة أسر بالبسملة، بل لا إشكال حتى إن جهر بالقراءة أن يسر بالبسملة إنما الإشكال في القراءة في الصلاة؛ لأن هذه قضية تتعلق بصفة الصلاة.
فالذين يقولون يجهر يستدلون بمثل حديث أنس[30]، ويستدلون بحديث أنس الآخر في وصف قراءة النبي ﷺ "كانت قراءته مداً يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم"[31]، وبحديث أم سلمة: "كان يقطع قراءته.."[32].
والحاصل أن هذا الوصف لقراءة النبي ﷺ لا يلزم منه أن يكون الجهر بالبسملة داخل الصلاة، أي أن ذلك ليس بقاطعٍ على أن النبي ﷺ كان يجهر بقراءة البسملة في الصلاة، وإذا وصلنا إلى هذا القدر فعندئذٍ نحتاج إلى دليلٍ آخر أوضح من هذا وأقوى منه في الدلالة على أنه يجهر بها، والحقيقة أنه توجد أدلة واضحة وصريحة في الجهر بها لكن لا يصح من هذه الأدلة شيء، فجميع الأدلة الصريحة الواردة في الجهر بالبسملة لا يصح منها شيء.
والعلماء أطالوا في الكلام عليها، وفي بيان عللها ووجوه ضعفها، فهي لم يصح منها شيء، ولو كانت صحيحة لارتفع بها الخلاف، أو كان سيقال على الأقل: إن النبي ﷺ كان أحياناً يجهر وأحياناً لا يجهر مثلاً، فأقول: لو صحت تلك الأدلة لقيل بهذا أو هذا، لكنه لم يصح منها شيء، مع وجود أدلةٍ أخرى تدل على أنه لم يكن يجهر، وهي أدلة صحيحة صريحة مثل حديث أنس في الصحيحين: "صليت خلف النبي ﷺ وأبي بكر، وعمر، فما كانوا يجهرون بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"[33]، وكذلك حديث عبد الله بن مغفل [34].
فالمقصود أن عندنا أدلة صحيحة ثابتة صريحة في عدم الجهر، وأما في الجهر فأدلة صحيحة غير صريحة، أو أدلة صريحة غير صحيحة، ولذلك كان الأقرب في هذه المسألة هو أنه لا يسن الجهر بها، لكنه لو فعل ذلك ليعلّم الناس، أو لدفع مفسدة كأن يكون بين أناسٍ يرون الجهر بها ولا يفهمون، وإذا لم يجهر ربما أعاد بعضهم صلاته، أو شك في صحتها، وربما أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، ففي هذه الحالة يجهر بها دفعاً لهذه المفسدة، فجمع القلوب وتأليفها في هذا معتبر.
"فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية ".
طبعاً هذا يحتاج إلى تحرير يعني مثل ما نقل عن معاوية أنه لما جاء إلى المدينة صلى، ولم يجهر بها، فأنكر عليه المهاجرون والأنصار، فصلى بهم بعد ذلك وجهر، فقالوا: كيف ينكر عليه المهاجرون والأنصار في مسجد رسول الله ﷺ وهم الذين تلقوا قراءته عنه، وعرفوا الصلاة منه، فيدل على أن النبي ﷺ كان يجهر، فنقول هذا الحديث أصلاً لا يصح، فهو لم يثبت عن معاوية، كما أن هناك أدلة أخرى صريحة لكنها في غاية الضعف، وبالمناسبة فإن الشيعة والرافضة يرون الجهر بالبسملة، وبعض ما دخل في هذا من الأحاديث هو بسبب كذب هؤلاء فهم أكذب الطوائف.
لكن يبقى أن القائل: إن السنة هي الجهر بالبسملة لا يشك في صحة صلاة من أسر بها، والقائل: إن السنة هي الإسرار لا يشك في صحة صلاة من جهر بها، فغاية ما في الأمر هو: ما السنة في ذلك؟، لكن المسألة تكون أكثر تأثيراً في إسقاط قراءتها بالكلية على أنها ليست من الفاتحة، فالإشكال هاهنا.
"وحكاه ابن عبد البر والبيهقي عن عمر وعلي - ا - ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة".
هذا كله لا يثبت لا عن عمر ولا عن الخلفاء الأربعة .
"ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي  وهو غريب".

طالب العلم إذا رأى مثل هذا في مسألة فإنه يتوقف ويهاب، إذ كيف يقول الخلفاء الأربعة بهذا، والنبي ﷺ يقول: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين[35] ثم يأتي من يقول: الجهر بها ليس من السنة؟! فالجواب أن يقال: إن هذا لا يثبت عنهم أصلاً، ولذلك حتى في التفسير تجد من يقول: قال ابن عباس ومجاهد وفلان وفلان، وأكثر هذا لا يثبت عنهم.
"ومن التابعين عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري وعلي بن الحسن وابنه محمد وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد بن كعب القرظي وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وأبي الشعثاء ومكحول وعبد الله بن معقل بن مقرن، زاد البيهقي: وعبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية، زاد ابن عبد البر: وعمرو بن دينار، والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة، فيجهر بها كسائر أبعاضها". يقول: "والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة"، وقال قبلُ: "فأما الجهر بها في الصلاة فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها وكذا من قال: إنها آية في أولها" وقد سبق أن قلت: إن هذه العبارة تحتاج إلى تحرير، وعلى كل حال حتى على القول بأنها من الفاتحة فالمرجع في ذلك هو رسول الله ﷺ، فقد كان يقرأ ولا يجهر، والله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [سورة الأحزاب:21].
"وأيضاً فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة : أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ"[36]وضعفه جمع من أهل العلم، وعلى فرض صحته قالوا: ربما فعل ذلك أبو هريرة تعليماً لهم فقط، لا أن النبي ﷺ كان يجهر، وربما سمع النبي ﷺ يقرؤها يُسمع أصحابه كما كان يُسمعهم في الصلاة السرية بعض الآيات أي أن ذلك كان للتعليم، ففهِم أن السنة في ذلك الجهر، فيكون فهماً من أبي هريرة ، فالمقصود أن قوله: "إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ" لا يلزم منه أن النبي ﷺ كان يجهر بالبسملة، وهذا على فرض صحته.
"وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبي ﷺ فقال: كانت قراءته مداً، ثم قرأ بـ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم"[37]وهذا يستدل به من يقول بالجهر، ويستدل به من يقول: إن البسملة آية من الفاتحة، مع أن هذا ليس فيه دليل على أنها آية من الفاتحة كما هو واضح وإلا فالحديث ثابت وصحيح، وفيه وصفٌ لقراءته ﷺ ولا يعني أنه كان يجهر بها في الصلاة؛ فالحديث ليس فيه ما يدل على أن النبي ﷺ كان يفعل ذلك في صلاته.
"وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة - ا - قالت: كان رسول الله ﷺ يقطِّع قراءته: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[سورة الفاتحة1 : 4] وقال الدارقطني: إسناده صحيح"[38]هذا الحديث ثابت من حديث أم سلمة، لكنه لا يعني أن النبي ﷺ كان يجهر بها في الصلاة فليس فيه ذكر للصلاة أبداً، وهكذا نجد أن الأدلة الصحيحة غير صريحة، وهذا يستدل به من يقول: إن البسملة آية من الفاتحة، وهذا أيضاً ليس صريحاً.
"وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مستدركه عن أنس أن معاوية صلى بالمدينة فترك البسملة، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك، فلما صلى المرة الثانية بسمل"[39]قوله: "فلما صلى المرة الثانية بسمل" يعني جهر، لكن هذا لا يصح.
"وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها فأما المعارضات والروايات الغريبة وتطريقها وتعليلها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر.
وذهب آخرون إلى أنه لا يُجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل".
في كتابٍ واحد بل في صفحة واحدة ينسب إلى الخلفاء الراشدين أولاً أنهم يرون الجهر بالبسملة، أو أنهم كانوا يجهرون بها، ثم في نفس الصفحة يأتي القول الآخر، وهو مضاد ومناقض للقول الأول تماماً وهو أنهم ما كانوا يجهرون بها.
"وعند الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهراً ولا سراً".
هذا بناءً على مذهبه من أنها ليست آية مستقلة أصلاً لا من السورة ولا من غير السورة، لكن هذا القول يبقى فيه إشكال، وإن كان يمكن أن يقال به على بعض الأوجه في القراءة، أما أن يقال: إنها ليست آية بإطلاق فهذا فيه إشكال كبير؛ لأن الأدلة على أنها آية واضحة.
"واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة - ا - قالت: "كان رسول الله ﷺ يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ الحمد لله رب العالمين"[40] هذا يستدل به على أن النبي ﷺ لم يكن يجهر بالبسملة، لكن لا يلزم من ذلك أن النبي ﷺ لم يكن يبسمل سراً، إنما فيما يُسمعهم كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين.ويلاحظ أنه إذا جمعت هذه الأدلة جميعاً فإننا نخرج منها بنتيجة وهي: أن ا
نبي ﷺ لم يكن يجهر لكن لا يعني هذا أنه لا يبسمل، فالبسملة ثابتة وعدم الجهر بها هو السنة، ومن أسقطها فهذا يصح على بعض أوجه القراءة المتواترة، والقول بالجهر بها في الصلاة يحتاج إلى دليل آخر.
"وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك  قال: صليت خلف النبي ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يفتتحون بـ الحمد لله رب العالمين"[41]، ولمسلم: ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا في آخرها"[42] ونحوه في السنن عن عبد الله بن مغفل "هذه أدلة صريحة وصحيحة في عدم الجهر لا يوجد مثلها عند القائلين بالجهر.
"فهذه مآخذ الأئمة - رحمهم الله - في هذه المسألة، وهي قريبة؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر، ولله الحمد والمنة.قوله: "وهي قريبة" يعني أن ذلك لا يترتب عليه كبير أثر من صحة الصلاة وعدم ذلك، فالقضية في العمل المسنون هل هو الجهر أو الإسرار؟
وبعض أهل العلم لما رأى أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء قال: إن الإنسان مخير بالجهر وعدم الجهر، وهذا قول ابن حزم الذي خالف فيه شيخه داود.
"وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن رديف النبي ﷺ قال: "عثر بالنبي ﷺ فقلت: تعس الشيطان، فقال النبي ﷺ: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت: تعس الشيطان تعاظم وقال: بقوتي صرعته وإذا قلت: بسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب.[43] وقد روى النسائي في اليوم والليلة وابن مردويه في تفسيره عن أسامة بن عمير  قال: كنت رديف النبي ﷺ فذكره، وقال: لا تقل هكذا فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، ولكن قل: بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة[44]، فهذا من تأثير بركة بسم الله، ولهذا تستحب في أول كل عمل، وقول، فتستحب في أول الخطبة لما جاء، وتستحب البسملة عند دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك[45]، وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن من رواية أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبي سعيد مرفوعاً: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"[46] وهو حديث حسن.
وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال لربيبه عمر بن أبي سلمة : قل بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك[47].
عمر بن أبي سلمة هذا هو ولد أم سلمة؛ وذلك أنه لما مات زوجها وتزوجها النبي ﷺ كان معها هذا الولد.
"ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه".
على كل حال قراءة البسملة أو قول البسملة في افتتاح كل أمر عند الأكل ثبت فيه هذا الحديث: سم الله يا غلام ومسألة الوضوء: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه.
والخلاف في هذا مشهور ومعروف، ومن أهل العلم من يضعف الحديث، ومنهم من حسَّنه، فيقولها الإنسان من باب الاحتياط على الأقل؛ لقوة الخلاف في هذا، والحديث محتمل، فيحرص الإنسان ألا يترك البسملة، وأما حديث: كل أمرٍ لا يبدأ فيه بـ بسم الله، فمثل هذا الحديث لا يصح.
"وكذلك تستحب عند الجماع؛ لما في الصحيحين عن ابن عباس - ا - أن رسول الله ﷺ قال: لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً[48]، ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بـ الباء في قولك: بسم الله.."قوله: "ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بـ الباء في قولك: بسم الله" هنا يبدو أنه يوجد اختصار في الكلام بمعنى أنه حذف منه شيئاً، ثم قال بعده هذا، والخلاصة أنه ذكر أشياء متعددة كحديث: سم الله يا غلام، ولا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه بمعنى أنه يريد أن يقول: إن البسملة يصح أن يكون المتعلق فيها كوناً عاماً، ويصح أن يكون خاصاً في كل شيء بحسبه، ويصح أن يكون اسماً ويصح أن يكون فعلاً، فعندنا أشياء معينة مخصوصة مثل قوله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْراهَا [سورة هود:41] فهنا اسم مصدر خاص أي أن جريها كائنٌ وواقعٌ بسم الله.
ومثل قول النبي ﷺ: يا غلام سم الله، وكل بيمينك يصح أن يقال في قوله: سم الله: إن التقدير فيه بسم الله آكل، أو بسم الله أبدأ، فهو لم يحدد فيه شيئاً وإنما أمره أن يقول البسملة في بداية الأكل.
وجاء أيضاً قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [سورة العلق:1] فذكر الفعل وقدمه، وكل هذا لا إشكال فيه، فالتنقير في مثل هذا أظنه لا يجدي كثيراً، فيمكن أن يكون المتعلق أو المقدر اسماً فتقول: بسم الله أي: أكلي بسم الله، أو بسم الله قراءتي، أو بسم الله ابتدائي، أو ابتدائي بسم الله، ويمكن أن يكون مقدماً أو مؤخراً، ويمكن أن يكون فعلاً خاصاً أو عاماً نحو: أقرأ بسم الله، آكل بسم الله، أمشي بسم الله، أدخل بسم الله، أو بسم الله أدخل، أو دخولي بسم الله، أو تجعله فعلاً عاماً فتقول: أبدأ بسم الله، أي أبدأ في الأكل، أو الشرب، أو الدخول، أو النوم ... الخ.
وبعض أهل العلم يستحسن أن يكون التقدير خاصاً؛ لأنه أعلق وألصق بالمراد، وبعضهم يستحسن أن يكون عاماً لتصلح البسملة في كل شيء، وبعضهم يقول: الأفضل أن يكون اسماً؛ لأن الاسم أدل على الثبوت، وبعضهم يقول: أن يكون فعلاً؛ لأن الفعل يدل على التجدد، وبعضهم يقول: يؤخر؛ لئلا يتقدم شيء على اسم الله ولأن ذلك أبرك، وعلى كل حال فأمر هذه المسألة سهل، فالمطلوب منك أن تقول: بسم الله، ودع عنك هذه التقديرات يقدرها من شاء كيف شاء.
إنه لمن المؤسف أن ننقّر عن أمور لا داعي ولا حاجة لتنقيرها لوضوحها ففي حديث النبي ﷺ مثلاً: لا يدخل الجنة قاطع[49] تجد إنساناً له رحم لا يعرفونه ولا يعرفهم ومع ذلك ينقِّرفي هذه المسألة، ويتكلف غاية التكلف في معرفة هل المقدر اسم أم فعل، وهل هو مؤخر أم مقدم؟ حتى ينوي هذا أو هذا، والله سبحانه لم يكلفه بهذا أصلاً وإنما حذره من قطع رحمه، فليصل أرحامه، وليقل: بسم الله إذا أراد فعل شيءٍ وانتهى الأمر، وليس معنى هذا أن الإنسان يترك مسائل العلم، وإنما المقصود أن ينزل الأمور كما ينبغي.
"وكلٌ قد ورد به القرآن، أما من قدره باسمٍ تقديره بسم الله ابتدائي، فلقوله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة هود:41]".يقصد هنا أن هذا نظير هذه الآية باعتبار أنه اسم لكنْهنا في الآية خاص بخلاف تقدير ابتدائي، فإنه عام.
"ومن قدره بالفعل أمراً أو خبراً نحو: ابدأ بسم الله، أو ابتدأت بسم الله فلقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وكلاهما صحيح، فإن الفعل لا بد له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله إن كان قياماً أو قعوداً، أو أكلاً أو شرباً، أو قراءة، أو وضوءًا، أو صلاة، فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً، واستعانة على الإتمام والتقبل، والله أعلم".قوله: "ومن قدره بالفعل أمراً أو خبراً" كان الأدق أن يقال: قدره بالفعل سواءكان ماضياً أو مضارعاً، فـ: "أبدأ بسم الله" هذا فعل مضارع، و"ابتدأت أو ابتُدئ بـ بسم الله، هذا في الماضي.
وعلى كل حال الكتاب له نسخ كثيرة جداً، وهذه النسخ يوجد بينها كثير من الفروقات، ومن هذه الفروقات ما هو بسبب تصحيف النُّساخ، ومنها بسبب أن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - كان يعيد النظر في الكتاب مرةً بعد مرة، ويغير فيه كعادة المؤلفين، وسابقاً لم تكن توجد مطابع بحيث تأتي طبعة وتكتب أخرى بحيث تكون الأخيرة مصححة منقحة، وانتهى الأمر، وإنما الذي حدث أن النُّسخ ليس فيها تاريخ، فانتشرت النسخ الأولى بين العلماء، فبعضهم يعدل في النسخة التي بحوزته باعتبار أنها في ملكه، ثم تصير هذه النسخة لمن بعده، فيظن من بعده أن هذه التعديلات من تصحيحات المؤلف، وقد تكون هذه التعديلات فيها تصحيف فهو يعتمد هذا التعديل الذي في الهامش ويلغي ما هو في أصل النسخة، فالمقصود أن هذه الأخطاء بعضها وجدت بسبب التصحيفات، وبعضها من فعل المؤلف نفسه، وبعضها من فعل غيره، وهذه المشكلة موجودة في عدد من الكتب، بل إن بعضهم يتصرف فيكتب صفحات من عنده، فتفسير السعدي مثلاً توجد له طبعة سابقة فيها صفحات مكتوبة في الداخل وليست للسعدي.
وأحياناً المؤلف نفسه يعيد النظر لما في بعض النسخ التي كتبها فيقوم بإعادة الصياغة في بعض أوائل السور، بمعنى أنه يصوغها صياغة جديدة، وهذا شيء ليس فيه غرابة؛ لأن الإنسان إذا كتب وأعاد النظر فيما كتب مرةً بعد مرة يجد أنه قد فاتته بعض الأشياء التي تلوح واضحة؛ لأن الإنسان حينما يؤلف ويقرأ ما كتب فإنه يقرأ أفكاره، فلا تستغرب أن تفوت عليه أشياء واضحة أحياناً، والناقد بصير، وليس في هذا عيب.
ولذلك يحسن بالإنسان إذا كتب أو ألَّف أن يترك هذا الكتاب الذي كتبه مدة حتى ينساه، ثم يقرؤه بعد ذلك وسيستغرب كيف كتب بعض الأشياء، سيستغرب من ركاكة بعض العبارات، والتراكيب، وسينتقدها ويغيرها، وهكذا، بل ربما لو مضى عليه زمن يكفي في النمو فإنه سيغير كثيراً من الكتاب، ويحمد الله أنه لم يخرج هذا الكتاب، لكن الإنسان ما يرى عيوبه، فربما إذا ألف يظن من أول وهلة أن هذا الكتاب مخيوط، وأنه لا يوجد مثله، وأنه قد حقق فيه المسائل بأحسن عبارةٍ، ولكن غيره قد يرى أنه لا تبرأ به الذمة.
قال المفسر: "الله: علمٌ على الرب - تبارك وتعالى - يقال إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الحشر:22-24]، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفاتٍ له كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [سورة الأعراف:180]، وقال تعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً؛ من أحصاها دخل الجنة[50]
وفي قوله هنا: "الله: علمٌ على الرب - تبارك وتعالى -" أي أنه لا يسمى به غيره، فهو من الأسماء المختصة، وهذا الاسم لا يعرف أحد تسمى به لا في الجاهلية، ولا في الإسلام، وهو يختص بالله لفظاً ومعنى، فلفظاً بمعنى أن هذا اللفظ لا يصح أن يسمى به أحد غيره، ومعنى بمعنى أن الصفة التي تضمنها - وهي صفة الإلهية - لا يصلح شيءٌ منها للمخلوق لا جملةً ولا تفصيلاً.
قال: يقال إنه الاسم الأعظم معلوم أن من أسماء الله الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وهذا الاسم فيه خلافٌ معروف، وأشهر الأقاويل أن هذا الاسم الأعظم هو "الله".
والذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا هو دليل من النظر، وذلك أن سائر الأسماء الحسنى جميعاً ترجع إليه لفظاً ومعنى، وكون الأسماء الحسنى ترجع إليه لفظاً؛ أي أنها تأتي بعده، ولا يأتي بعدَ شيءٍ منها كما في الآيات التي ذكرها هنا كقوله: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [سورة الحشر22 - 23] إلى آخر ما ذكر الله ، فلفظ "الله" تأتي الأسماء الأخرى بعده، ولا يأتي هو بعد شيء منها.
هذا في اللفظ، وأما في المعنى فإن هذا الاسم الكريم "الله" يتضمن صفة الإلهية وهي أوسع الصفات، وهذه الصفة ترجع إليها جميع الصفات، فإن الإله يجب أن يكون هو الرب، العليم، الحكيم، الخالق، البارئ، المصور؛ لأن الرب لا يمكن أن يكون عاجزاً جاهلاً فقيراً، أو متصفاً بشيء من صفات النقص، ولهذا يقال: إن صفة الإلهية متضمنة لصفة الربوبية، وصفة الربوبية من أوسع الصفات، فإن الرب هو السيد والمالك، والمدبر المتصرف، والمربي لخلقه بالنعم الظاهرة والباطنة، وهكذا تصور كم يدخل تحت هذا الاسم من المعاني التي هي صفات الكمال؟، فهذه الربوبية داخلة في معنى الألوهية، وهذا معنى كون الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فالذي تقول عنه: إنه هو الرب الخالق الرازق المصور يجب أن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، فلا تصرف العبادة لأحدٍ سواه، فهذا الدليل هو الذي أشار إليه ابن كثير - رحمه الله - هنا وهو أن الأسماء الحسنى تعود إليه لفظاً ومعنى.
وأما الأدلة من المنقول على أنه الاسم الأعظم فهي ثلاثة أحاديث:
الأول: الحديث الذي ذكر فيه النبي ﷺ أن الاسم الأعظم في ثلاث سور، والاسم المتكرر في هذه السور الثلاث هو: "الله"، و"الحي القيوم" في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة طه قال تعالى في سورة البقرة: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255]، وقال في سورة آل عمران: آلم ۝ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة آل عمران1-2]، وقال في سورة طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [سورة طه:111].
فالمقصود أن هذه الأسماء الثلاثة متكررة في هذه السور الثلاث، ولهذا كان القول الثاني في القوة هو أن الاسم الأعظم هو "الحي القيوم" بعد القول الأول بأنه لفظ الجلالة "الله" بمعنى أن أقوى الأقوال في الاسم الأعظم أنه "الله"، ثم يليه في القوة "الحي القيوم".
والذي يدل على أن الاسم الأعظم هو "الله" الحديثان الآخران في الرجلين حينما دعوا الله بدعاءٍ يشتمل على ذكر بعض الأسماء الحسنى، فكان النبي ﷺ يقول: لقد دعا الله باسمه العظيم[51]، فإذا نظرنا في الأسماء المذكورة نجد أن المتكرر في الجميع هو "الله" وليس "الحي القيوم".
يقول: "فأجرى الأسماء الباقية كلها صفاتٍ له كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الأعراف:180]" هذا وجه الاستشهاد، فهو لا زال في الدليل النظري الذي ذكره وهو أن الأسماء الحسنى تعود إليه لفظاً ومعنى - أي لفظ "الله" - قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الأعراف:180] فلم يقل: وللعزيز الأسماء الحسنى، أو وللرزاق الأسماء الحسنى، وإنما أضافها إلى هذا الاسم الكريم فقال: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فيكون محدَّثاً عنه ومخبَراً عنه، وتضاف إليه سائر الصفات كما قال في الآية الأخرى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]، فقوله: فَلَهُ الأَسْمَاء أي لله.
ومن ذلك قول النبي ﷺ: إن لله تسعةً وتسعين اسماً[52]، فما قال: إن للرزاق وإنما قال: إن لله تسعةً وتسعين اسماً فهذا الاسم هو أعظمها، والله تعالى أعلم.
"الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم".
وجه المبالغة هو أن الرحمن على وزن فعلان، فعدل به عن نظرائه حيث يقال: رحم يرحم فهو راحم ورحيم، فهنا قال: رحمن على وزن فعلان، والغالب أن يقال: على وزن فعيل أي رحم فهو رحيم، فهنا قال: رحمن، وهذا يدل على الامتلاء، كما تقول: ظمآن، وعطشان، وجوعان، وغضبان وما إلى ذلك، فهذا يدل على المبالغة.
وكذلك الرحيم على وزن فعيل، فهذا يدل على المبالغة، وحينما نقول: المبالغة لا يفهم منها المبالغة التي تكون من قبيل الخروج عن الحقيقة بتجاوزها، فليس هذا هو المقصود حينما يعبر بهذا عند شرح ألفاظ الكتاب والسنة، لذلك سألني أحد الشباب مرةً ونحن في درس من دروس التفسير فقال: كيف تقول بأن هذه صيغة مبالغة، وهل يقال عما في القرآن إنه مبالغة؟ قلت له: المبالغة التي يتحدث عنها العلماء ويذكرها البلاغيون وأهل اللغة ليست هي ما تعارف الناس عليه من أنه تجاوز الحقيقة، وتعديها بزيادة وإنما المقصود بالمبالغة ما يدل على الكثرة والتعاظم، وما أشبه ذلك من المعاني في كل موضع بحسبه.
يقول: "الرحمن الرحيم" اسمان مشتقان من الرحمة"، و"الله" إما مشتقٌ من أله يأله - بمعنى عبد يعبد - إلهةً أي عبادةً، والله مألوه أي معبود، أو من الإله، أو مشتقٌ من الإلهية، وقيل غير ذلك، لكن هذه أشهر الأقوال في هذا.
وعلى كل حال فـ"الله" اسمٌ مشتق على الراجح، ولا أدري هل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - حينما قال: "الله علمٌ على الرب تبارك وتعالى" ولم يذكر مادة الاشتقاق، هل هو ممن يقول بأن هذا الاسم الكريم غير مشتق، وإنما هو علم على الذات الإلهية، وهذا قول لبعض العلماء، لكن الراجح أن هذا الاسم مشتق كما قلت، والأسماء المشتقة أبلغ من الأسماء الجامدة؛ لأن الأسماء المشتقة تتضمن أوصافاً، والاسم الجامد لا يتضمن صفةً، فأسماء الله أعلام وأوصاف، ولا يتأتى أن تكون أوصافاً إلا إذا كانت مشتقةً، بمعنى أنها تتضمن صفةً، أما إذا كان الاسم علماً جامداً فإنه لن يتضمن صفةً، فهذا الاسم الكريم مشتقٌ، ويتضمن صفة الإلهية، وكل أسماء الله مشتقة وليس فيها شيءٌ جامد.
وهنا يقول: "الرحمن الرحيم" اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة" فالقدر الذي يدل عليه كل واحد منهما من جهة الصفة التي تضمنها هي صفة الرحمة، فكلاهما يدل على صفة الرحمة، إلا أن ثمة فرقاً بين هذين الاسمين من جهة اللفظ ومن جهة المعنى التكميلي، وأما المعنى الأصلي فإنه يدل على صفة الرحمة، لكن المعنى الزائد على المعنى الأصلي هو أن الرحمن أكثر مبالغةً من الرحيم، ومن هنا فرق العلماء بينهما، أو فرق كثيرٌ منهم بين الرحمن والرحيم، واختلفت أقوالهم في هذا، ولعل من أحسنها أن الرحمن يدل على الصفة الذاتية العائدة على الله من الرحمة، والرحيم يدل على تعلقها بالمرحوم، يعني القدر المتعدي من صفة الرحمة، يعني أن المعنى في الرحمن يكون صفة لازمة، وفي الرحيم يدل على القدر المتعدي إلى المخلوق، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، ولعله أوجه هذه الأقوال، وأحسنها، والله أعلم، وإن كان بعضهم يقول غير ذلك، كمن يفرق من جهة سعة الرحمة وخصوصها، وهي إما في الدنيا أو في الآخرة، أو للمؤمنين أولغير المؤمنين، وهذا عند التأمل فيه إشكال.
"وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا".
حينما يقال: إن الرحمن أشد مبالغةً من الرحيم؛ فيمكن أن نقول: إن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن زيادة المبنى لزيادة المعنى.
والوجه الثاني: أنه عدل به عن نظرائه، تقول: رحمن من رحم يرحم فهو رحيم على وزن فعِل يفعَل فهو فعيل، فعدل به فقيل: فعِل يفعَل فهو فعلان، وما عدل به عن زنة نظرائه فإنه يكون أبلغ في المدح أو الذم، وكما قلت قبلُ أن مثل هذا الوزن يدل على الامتلاء، فهو أبلغ من رحيم، لكن على كل حال إذا ذكر الرحمن وحده فإنه يؤدي معنى الرحيم، أي أنه يدل على إثبات صفة الرحمة لله ، لكن إذا ذكر مع الرحيم كان الرحمن يدل على ما يتعلق بالرب من هذه الصفة، ويعود إليه، والرحيم يدل على ما يتصل بالمخلوق.
"وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي.."هذا دليل واضح وصريح في أن الرحمن اسم مشتق، وهذا يدل على أنه عربيٌ أصيل، وهذا خلافاً لمن قال: إنه عبراني مثلاً، وأن أصله الرخمن، فهذا وإن نقل عن بعض الأئمة لكنه لا يصح إطلاقاً، بل هو اسمٌ عربي، وهو مشتق ليس بجامد، ومما يدل على ذلك هذا الحديث.
"قال الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته[53]".
هذا يدل على أن الصفة تشتق من الاسم، والأسماء تتضمن أوصافاً، ولكننا نأخذ الصفات من الأسماء - بالنسبة لأسماء الله -، فالقاعدة فيما يطلق على الله من الأسماء ليس في كون الأسماء تؤخذ من الصفات، وإنما العكس أي نأخذ الصفات من الأسماء، فالله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه، لكن عند الكلام على المعنى اللغوي نقول: الرحمن مشتقٌ من الرحمة، والعزيز مشتقٌ من العزة وما أشبه ذلك، لكن الكلام في التسمية، لا يقال فيها: إن الأسماء تؤخذ من الصفات، وإنما نقول: الصفات تؤخذ من الأسماء.
"قال: وهذا نص في الاشتقاق، وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له".
يعني في مثل قولهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [سورة الفرقان:60]، فابن كثير - رحمه الله - هنا صرح بأنهم قالوا ذلك جهلاً، ففي قصة الحديبية لما قال النبي ﷺ: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: "لا نعرف الرحمن، وإنما اكتب باسمك اللهم"[54]، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أنهم قالوا ذلك بسبب جهلهم، وكثيرٌ من أهل العلم يرون أنهم قالوا ذلك على سبيل المكابرة، والدليل على أنهم قالوا ذلك على سبيل المكابرة أنهم سموا بعض الناس في الجاهلية بـ عبد الرحمن، وبدليل أن هذا الاسم جاء في أشعارهم، لكن على كل حال حتى لو سمي به البعض، أو جاء في أشعارهم؛ فإنه يمكن أن يجهله بعض العرب؛ فهم أهل جاهلية أصلاً، وبالتالي لا يستبعد عليهم مثل هذا، وعلى كل حال سواء قالوا ذلك على سبيل المكابرة أو الجهل فإنه قد أقر به بعضهم، وثبت في تسميتهم أو في بعض شعرهم "الرحمن".
وهذا الاسم أيضاً هو مختصٌ بالله لا يسمى به غيره، والعلماء يقولون: لم يعرف أحد تسمى بالرحمن غير مسيلمة الكذاب لقب نفسه بذلك، فعاقبه الله بأن قرن اسمه بالكذب، فلا يعرف إلا بمسيلمة الكذاب، ولذلك هم كانوا يقولون للنبي ﷺ: لا نعرف إلا رحمن اليمامة، وأعجب ما سمعت في هذا الصيف أن رجلاً في بعض نواحي هذه البلاد التي يكثر فيها الجهل اسمه "الرحمن"، وقد قلنا: إن العلماء يصرحون بأنه لا يعرف أحد تسمى به لا في الجاهلية، ولا في الإسلام؛ غير مسيلمة، والله المستعان.
"قال القرطبي: ثم قيل هما بمعنى واحد كندمان ونديم، قاله أبو عبيد، وقيل ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك رجل غضبان للرجل الممتلئ غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول".المراد بهذا ذكر الوجوه التي تدل على أن الرحمن أبلغ من الرحيم، فيقول: فعيل يأتي بمعنى فاعل، ومعنى مفعول، وفعيل مصدر، والمصدر يأتي بمعنى الفاعل، وبمعنى المفعول، وما كان على وزن فعيل فهو بمعنى فاعل أو مفعول، مثل: رجيم فهو بمعنى راجم أو مرجوم، وقد يكون بمعنى الفاعل والمفعول.
وعلى كلٍّ فهذا أحد الوجوه في التفريق بين الرحمن والرحيم.
"قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسمٌ عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى".
أبو علي الفارسي من أئمة اللغة، وهو من المعتزلة.
"والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [سورة الأحزاب:43]".
قوله: والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين" هذا قول فيه نظر؛ والاستدلال بقوله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ليس في محله؛ لأن هذا إنما هو من باب تقديم الجار والمجرور، فأصلها: وكان رحيماً بالمؤمنين، فلما قدم دل على الحصر أو الاختصاص أو نحو هذا، وإلا فالرحمة عامة وخاصة، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143] فهذا عام، وبالتالي فالقول بأن الرحمن يدل على الرحمة العامة، والرحيم يختص بالمؤمنين؛ قولٌ فيه نظر، وفيه إشكال، لوجود أمثلة كثيرة تخالف ذلك، والله أعلم.
"وقال ابن عباس - ا -: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة، وقال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي، حدثنا عثمان بن زفر، سمعت العرزميَّ يقول: الرحمن الرحيم، قال: الرحمن لجميع الخلق، الرحيم قال: بالمؤمنين، قالوا: ولهذا قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [سورة الفرقان:59]، وقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [سورة طه:5]، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته".هذا الكلام ليس لازماً، وإنما هو من الوجوه التي تلتمس في مثل هذا الاقتران، وإلا فلماذا حينما ذكر الاستواء ذكر معه اسم الرحمن؟ يوضحه أن العرش أوسع المخلوقات فيقولون: استوى عليه بأوسع الصفات، فرحمن أي رحمته واسعة كما قال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [سورة الأعراف:156]، لكن هذا الاقتران لا يلزم منه أن يكون الرحمن يدل على الرحمة العامة، والرحيم يدل على الرحمة الخاصة، وإنما يمكن أن نقول: الرحمة صفة متعدية، أما إذا قلنا: إن الرحمن يدل على ما يعود إلى الرب منها، فنقول: يدل على إثبات الصفة الذاتية بهذا القيد، وليس معنى ذلك أن صفة الرحمة صفة ذاتية، ولا يوجد أحد يقول بهذا، وإنما هي صفة متعدية، لكن إذا فرقت هذا التفريق بين الرحمن والرحيم، فقلت: إنه يدل على ما يعود إلى الرب منها، فيكون الرحمن دالاً على الصفة الذاتية، والرحيم دالاً على الصفة الفعلية والمتعدية.
"وقال: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [سورة الأحزاب:43]، فخصهم باسمه الرحيم، قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه".لكن هذا ليس صريحاً في الدلالة أبداً.
"والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما[55]".
على كل حال هذا الدعاء بغض النظر عن صحته فالعلماء تكلموا عليه وضعّفه من ضعّفه منهم؛ لكن توجد نصوص واضحة صريحة كقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143] فهذا وأمثاله يدل على أن الرحيم ليس بمختص بالمؤمنين، أو مختص بدارٍ دون الأخرى، وعلى كل حال إذا أثبت الإنسان صفة الرحمة، وأن الاسمين متضمنان لهذه الصفة؛ فبعد ذلك مثل هذه الأمور، والتفصيلات الخطب فيها يسير.
"واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسمَّ به غيره، كما قال تعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]".سبق أّن ذكرنا أن اسم "الله" مختص بالله تعالى لفظاً ومعنى، وقلنا: إن معنى قولنا: مختص لفظاً أي: أنه لا يصلح أن يسمى به غيره، ومختص معنىً أن صفة الإلهية التي تضمنها هذا الاسم لا يصلح شيء منها للمخلوق لا جملةً ولا تفصيلاً، وبالنسبة لاسمه "الرحمن" يقال فيه: هو مختصٌ بالله تعالى لفظاً لكنه ليس مختصاً به معنى؛ لأن المخلوق يوصف بالرحمة.
"وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف:45]".
يعني أن قوله تعالى: أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ، وقوله: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ [سورة الإسراء:110] ذكر فيهما اسمه الرحمن مع اسمه "الله" الذي هو أشهر الأسماء، وأعظمها، وأوسعها؛ من جهة المعنى، وهذا الاقتران لا تكاد تجده في غير لفظ الجلالة "الله" إلا في الرحمن.
"ولما تجهرم مسيلمة الكذاب، وتسمَّى برحمن اليمامة؛ كساه الله جلباب الكذب، وشهر به، فلا يقال إلا "مسيلمة الكذاب"، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب، وعلى هذا فيكون تقديم اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولاً بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره كما قال تعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]، وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به، ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة".الذين كانوا مع مسيلمة تابعوه وهم يعلمون أنه كذاب، والحاصل أن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يشير إلى وجه تقديم "الله" على "الرحمن"، فيمكن أن يقال: إن لفظ "الله" قُدِّم لأنه أعظم هذه الأسماء، وهي تعود إليه لفظاً ومعنى، وتأتي معطوفةً عليه، ويخبر بها عنه، ثم جاء بعده "الرحمن" الذي يختص بالله من جهة اللفظ دون المعنى، ثم جاء "الرحيم" وهو اسمٌ غير مختص من جهة اللفظ وإنما يسمى به المخلوق كما أنه يوصف بصفة الرحمة، فإذا أردت أن ترتب هذه الأسماء الثلاثة فالذي يأتي في المرتبة الأولى هو "الله"؛ لأنه مختص لفظاً ومعنى، ثم "الرحمن" فهو مختص باللفظ دون المعنى، ثم "الرحيم" فهو ليس مختصاً لا لفظاً ولا معنى.
"وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره، قال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128]، كما وصف غيره بذلك من أسمائه كما قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [سورة الإنسان:2]، والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم الله، والرحمن، والخالق، والرازق ونحو ذلك، فلهذا بدأ باسم الله ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخصُّ وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولاً إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص، وقد جاء في حديث أم سلمة - ا - أن رسول الله ﷺ كان يقطع قراءته حرفاً حرفاً: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:1-4] فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة، ومنهم من وصلها بقوله: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2]".من قوله: "وقد جاء في حديث أم سلمة.." هذا كلام جديد، وقضية جديدة لا أدري لماذا لم يضع لها عنواناً كعادة المختصر؟، والمقصود أنه بدأ يتكلم عن قضية ثانية، حيث انتهى من الكلام عن معاني هذه الأسماء الحسنى.
وقوله في آخر الكلام: إنه بدأ بالأشرف وهو اسم الله، أو أن الرحمن هو أشرف من الرحيم، أو حينما يقال: هذا أبلغ في التسمية أو نحو هذا فهذا لا إشكال فيه، وليس المقصود بهذا أن ما سواه غير موصوف بهذه الصفة، وإنما يقال ذلك في الأشياء الكاملة دون أن يكون المقصود غمط الأسماء الأخرى، وهذا يقال في القراءات كما في كثير من كتب التفسير حيث تجده يقول: هذه القراءة أبلغ من هذه القراءة وليس المقصود غمط القراءة الأخرى.
وأما ما يفعله بعض أصحاب الكلام على تفسير معاني القرآن، وأصحاب توجيه القراءات مما يحدو بهم إلى ترجيح إحدى القراءتين ترجيحاً يشعر بغمط الأخرى أو توهينها وهي ثابتة متواترة فهذا أمرٌ لا يليق مع القرآن، وإلا فإن سور القرآن تتفاوت وتتفاضل، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، وهذا معروف، وأهل السنة يقررونه خلافاً لبعض من أنكر ذلك وقال: إن هذه المفاضلة لا تقال، وإنها تشعر بغمط غير المخبر عنه، أو غير الموصوف بذلك، وأنه لا يقال ذلك في أسماء الله .
والجواب عمن قال بمنع ذلك أن يقال: بل إنها تتفاضل، وقد بلغت الغاية في الكمال، فالتفاضل إنما هو في الكمالات وليس في الكمال والنقص، ومراتب الكمال متفاوتة، ولهذا قال إبراهيم : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [سورة البقرة:260]، فلم يكن متردداً في هذه القضية بحيث يقال: إنه كان يشك في قدرة الله على إحياء الموتى والبعث، ولكنه أراد أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال وهي علم اليقين إلى مرتبة أعلى منها وهي عين اليقين، فبعضهم يسمي المسافة بين هذين الأمرين شكاً، ولهذا قال النبي ﷺ: نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه الصلاة والسلام[56] فالمقصود أن إبراهيم أراد أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال إلى مرتبة أعلى منها.
وقل مثل ذلك حينما نتكلم عن أسماء الله الحسنى، أو عن سور القرآن، فنقول: هذه السورة أفضل من هذه السورة، أو هذه الآية أعظم في كتاب الله ، فهذا دلت عليه الأدلة، وإلا فما معنى الاسم الأعظم، وما معنى كون آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، وسورة الفاتحة أعظم سور القرآن؟ إنما أطلق ذلك بهذا الاعتبار.
وفي قول ابن كثير: "وقد جاء في حديث أم سلمة" هذا بداية الكلام على مسألة أخرى هي وصل البسملة بأول السورة، فهذا أحد الوجوه المعروفة، ولك أن تقطع بأن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم تقف، ثم تأتي بالحمد لله رب العالمين، وهكذا.

  1. صحيح البخاري (ج 4 / ص 1621).
  2. أخرجه أحمد (9787) (ج 2 / ص 448) وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج 2 / ص 45) وفي السنن الصغرى (ج 1 / ص 124).
  4. سيأتي تخريجه.
  5. أخرجه البخاري في أبواب التهجد - باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب (1075) (ج 1 / ص 379).
  6. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة المائدة (4349) (ج 4 / ص 1691) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (7380) (ج 8 / ص 157).
  7. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب ما جاء في فاتحة الكتاب (4204) (ج 4 / ص 1623).
  8. أخرجه البخاري في  كتاب فضائل القرآن - باب فضل فاتحة الكتاب (4721) (ج 4 / ص 1913).
  9. أخرجه البخاري في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة (806) (ج 1 / ص 554) والنسائي واللفظ له في كتاب صفة الصلاة - باب  فضل فاتحة الكتاب (912) (ج 2 / ص 138).
  10. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (904) (ج 2 / ص 10)، والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب (909) (ج 2 / ص 135).
  11. صحيح مسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (906) (ج 2 / ص 9)، والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب (909) (ج 2 / ص 135).
  12. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ (1951) (ج 2 / ص 141) والترمذي في كتاب الحج عن رسول الله ﷺ - باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889) (ج 3 / ص 237) والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة (3044) (ج 5 / ص 264) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015) (ج 2 / ص 1003) وصححه العلامة الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2714 ).
  13. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة – باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (395) (ج 1 / ص 296).
  14. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت (723) (ج 1 / ص 263) ومسلم في كتاب الصلاة – باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها  (394) (ج 1 / ص 295).
  15. أخرجه ابن حبان (ج 5 / ص 91) وابن خزيمة (ج 1 / ص 248) وعدّه الألباني من الأحاديث الصحيحة كما في حاشية كتابه "أصل صفة صلاة النبي ﷺ".
  16. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك (775) (ج 1 / ص 281) والترمذي في أبواب الصلاة - باب ما يقول عند افتتاح الصلاة (242) (ج 2 / ص 9) والدارمي (1239) (ج 1 / ص 310) وأحمد (11491) (ج 3 / ص 50) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (1217).
  17. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة – باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء (764) (ج 1 / ص 279) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب الاستعاذة في الصلاة (807) (ج 1 / ص 265) وضعفه الألباني في المشكاة برقم (817).
  18. أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب الاستعاذة في الصلاة (808) (ج 1 / ص 266) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (ج 2 / ص 380).
  19. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (ج 7 / ص 94) وفي مسنده (ج 2 / ص 357) والنسائي في عمل اليوم والليلة (ج 6 / ص 104) وأصله في البخاري كما سيأتي.
  20. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب الحذر من الغضب (5764) (ج 5 / ص 2267).
  21. أخرجه أحمد (21592) (ج 5 / ص 179) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف.
  22. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب قدر ما يستر المصلي (510) (ج 1 / ص 365).
  23. انظر تفسير الطبري (ج 1 / ص 111).
  24. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (400) (ج 1 / ص 400).
  25. سيأتي تخريجه.
  26. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن - باب مد القراءة (4759) (ج 4 / ص 1925).
  27. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة – باب من جهر بالبسملة (788) (ج 1 / ص 288).
  28. أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب – باب ثواب القرآن (3786) (ج 2 / ص 1244) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2153).
  29. أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب افتتاح القراءة (814) (ج 1 / ص 267) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (814).
  30. سبق تخريجه في الحاشية رقم 1.
  31. سبق تخريجه في الحاشية رقم 3.
  32. سيأتي تخريجه.
  33. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب ما يقول بعد التكبير (710) (ج 1 / ص 259) ومسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) (ج 1 / ص 299).
  34. أخرجه ابن ماجه في  كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب افتتاح القراءة (815) (ج 1 / ص 267) وأحمد (16833) (ج 4 / ص 85) وقال الأرنؤوط: إسناده حسن في الشواهد.
  35. أخرجه أبو داود في كتاب السنة - باب في لزوم السنة (4609) (ج 4 / ص 329) والترمذي في كتاب العلم - باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676) (ج 5 / ص 44) وابن ماجه في سننه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (42) (ج 1 / ص 15) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (165) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2735).
  36. أخرجه النسائي في كتاب صفة الصلاة - باب قراءة {بسم الله الرحمن الرحيم} (905) (ج 2 / ص 134) وضعف إسناده الألباني في ضعيف النسائي برقم (905).
  37. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن - باب مد القراءة (4759) (ج 4 / ص 1925)
  38. أخرجه أبو داود في كتاب العتق - باب الحروف والقراءات (4003) (ج 4/ ص 65) والترمذي في كتاب القراءات - باب في فاتحة الكتاب (2927) (ج 5 /ص 185) وأحمد (26625) (ج 6 / ص 302) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (4001).
  39. مسند الشافعي (ص 250).
  40. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب من لم ير الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم ) (783) (ج 1 / ص 285) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (783).
  41. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب ما يقول بعد التكبير (710) (ج 1 / ص 259) ومسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) (ج 1 / ص 299).
  42. صحيح مسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) (ج 1 / ص 299)
  43. أخرجه أحمد (20611) (ج 5 / ص 59) والنسائي في السنن الكبرى (10388) (ج 6 / ص 142) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7401).
  44. أخرجه النسائي في اليوم والليلة (ج 1 / ص 373) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3128).
  45. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (2803) (ج 3 / ص 161) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4714).
  46. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب التسمية على الوضوء (102) (ج1 / ص 37) والترمذي في أبواب الطهارة -  باب ما جاء في التسمية عند الوضوء (25) (ج1 / ص 37) وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها - باب ما جاء في التسمية في الوضوء (397) (ج 1 / ص 139) وأحمد (11388) (ج 3 / ص 41) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7514).
  47. أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة - باب التسمية على الطعام والأكل باليمين (5061) (ج 5 / ص 2056) ومسلم في كتاب الأشربة - باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2022) (ج 3 / ص 1599).
  48. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب ما يقول إذا أتى أهله (6025) (ج 5 / ص 2347) ومسلم في كتاب النكاح -  باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (1434) (ج 2 / ص 1058).
  49. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب إثم القاطع (5638) (ج 5 / ص 2231) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2556) (ج 4 / ص 1981).
  50. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب إن لله مائة اسم إلا واحداً (6957) (ج 6 / ص 2691) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677) (ج 4 / ص 2062).
  51. أخرجه أبو داود في كتاب الوتر - باب الدعاء (1497) (ج 1 / ص 554) والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب الدعاء بعد الذكر (1300) (ج 3 / ص 52) والترمذي في كتاب الدعوات – باب جامع الدعوات عن النبي ﷺ (3475) (ج 5 / ص 515) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1495).
  52. سبق تخريجه.
  53. أخرجه أحمد (1680) (ج 1 / ص 194) والطبراني في الكبير (2497) (ج 2 / ص 355) وفي الأوسط (3339) (ج 3 / ص 340) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2528).
  54. أخرجه البخاري في كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581) (ج 2 / ص 974).
  55. أخرجه الطبراني في الكبير (17080) (ج 20 / ص 154) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1821).
  56. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء –  باب قوله :{وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ} [سورة الحجر:51] (3192) (ج 3 / ص 1233) ومسلم في كتاب الفضائل - باب من فضائل إبراهيم الخليل ﷺ (151) (ج 4 / 1839).

مرات الإستماع: 0

يقول الإمام ابن جُزي الكلبي: "الكلام على الاستعاذة فيه عشر فوائد من فنون مختلفة: 

الأولى: لفظ التعوذ على خمسة أوجه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو المروي عن النبي ﷺ، والمختار عند القُراء، وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وهو مروي عن النبي ﷺ، وأعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي، وأعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد، وهي مُحدثة".

الكلام على الاستعاذة فيما ذكره المؤلف - رحمه الله  - جاء في هذه المسائل العشر، وهذه أولاها، وهي ما يتعلق بلفظ الاستعاذة، وحاصل هذه الصيغ التي تُذكر في الاستعاذة منها ما يرجع إلى المروي عن رسول الله - صلى الله عليه، وآله، وسلم -، ومنها ما يُنقل عن بعض السلف فالمنقول عن النبي ﷺ يرجع إلى أربع صيغ، وهناك صيغتان ترجعان إلى ذلك من جهة الأصل، يعني: أن أصحابهما كأنهم ركبوا من بعض الروايات الواردة عن النبي ﷺ صيغة، وأما باقي الصيغ فهي مما نُقل عن بعض السلف، ومنشأ ذلك أنهم فهموا من الأمر بالاستعاذة: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200]، أن المقصود هو تحقيق الاستعاذة، يعني: بأي صيغة كان، فجاءوا بمثل هذه الصيغ.

وأما الصيغ المنقولة بنصها عن رسول الله ﷺ فأول ذلك هي الصيغة الأشهر، وهي أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا الذي عليه أكثر القُراء[1] كأبي عمرو، وعاصم، وابن كثير[2]، وهو المنقول عن عامة السلف من الصحابة فمن بعدهم، جاء ذلك عن عمر [3]، وعن ابن عمر[4]، ومن الأئمة جاء ذلك عن أبي حنيفة[5]، والشافعي[6]، وأحمد[7]، هذه الصيغة المشهورة، وهي المُختارة عند عامة القُراء.

أما الصيغة الثانية: وهي مروية عن النبي ﷺ، وهي التي جاءت في دعائه ﷺ في صلاة الليل، فقد كان ﷺ يدعو بدعاء الاستفتاح، ثم بعد ذلك يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم"، فهذا منقول بحروفه عن رسول الله ﷺ لكن في صلاة الليل، فكأن هذا هو الذي حمل الجمهور على اختيار الصيغة الأولى؛ باعتبار أن هذه جاءت بمناسبة خاصة، وهي قيام الليل.

كذلك الذين اختاروا هذه الصيغة الثانية نظروا إلى قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36]، وفي الآية الأخرى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200].

أولئك نظروا إلى قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، وقالوا: هذا في خصوص القراءة، وأما هنا فإن ذلك لم يرد في خصوص التلاوة، وإنما جاء في نزغ الشيطان.

وأما ما جاء عن رسول الله ﷺ فذلك في صلاة الليل، فكأن ذلك كان سبباً للعدول عن هذه الصيغة إلى قول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".

على كل حال، هذه الصيغة الثانية اختيار جماعة من القُراء، وهي مروية عن حمزة[8]، وقد نُقلت أيضاً عن جماعة من السلف، كالحسن[9]، وابن سيرين[10]، وهي منقولة عن الشافعي[11]، وأحمد في رواية عنه[12]، وقد ذكر أبو عمرو الداني - رحمه الله - أن هذه الصيغة أنه على استعمالها عامة أهل الأداء من أهل الحرمين، والعراقيين، والشام[13].

الصيغة الثالثة: أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، لكن مع زيادة: "من همزه، ونفخه، ونفثه، وهذا أيضاً جاء في حديث أبي سعيد الخُدري أيضاً في صلاته صلاة الليل، وفيه هذه الزيادة بعد دعاء الاستفتاح المعروف: سبحانك اللهم، وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك[14]، فيقول ذلك، فهذه على كل حال خصها بعض أهل العلم بقيام الليل، قالوا: لما يُنقل ذلك عن النبي ﷺ في تلاوته. 

الصيغة الرابعة: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه، ونفخه، ونفثه"، يعني: من غير أن يقول السميع العليم، وفي مبدئها يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهذا جاء في حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه، ونفخه، ونفثه[15]، وهذه الروايات الصحيحة الروايات الأربع ثابتة عن رسول الله عليه الصلاة، والسلام، وقد اختار هذه الصيغة الأخيرة هي مروية عن الحسن البصري[16]، اختارها إسحاق بن راهويه - رحمه الله - [17].

فهذه الصيغ الأربع لقائل أن يقول إن الأكمل أن يختار أكمل هذه الصيغ، ومن نظر إلى ما يتعلق بالقراءة، وأن الله - تبارك، وتعالى - - قال: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، فهذه بها أعلق مما يتصل بموضع خاص، أو بموطن خاص كنزغ الشيطان، أو ما جاء عنه ﷺ في صلاة الليل، ويمكن أن يقال: بأن القارئ مثلاً مُخير، وينوع بين هذه الصيغة، وأن ذلك جميعاً من الصائغ بما أنه قد صح عن رسول الله عليه الصلاة، والسلام، فإن قوله - تبارك، وتعالى -: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، لم يُحدد الصيغة، وهذه جميعاً من صيغ الاستعاذة المنقولة عن النبي ﷺ، فهو مُخير يختار أي هذه الصيغ شاء، هذا لا إشكال فيه إن شاء الله، فلو اختار أكمل هذه الصيغ، أو أنه نوع بين هذه الصيغ، أو أنه اقتصر على الأولى باعتبار أن ذلك هو الأقرب إلى قوله: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، مع أن قوله: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، - كما سبق - لا يُحدد صيغة، فيكون القارئ مُخيراً بين هذه الصيغ، يختار من أيها شاء.

وهناك صيغتان ترجعان إلى شيء من هذا؛ وذلك باعتبار أن هؤلاء كأنهم أخذوا من هذا، وهذا، كقول بعضهم: بأنه يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم"، فهذه الصيغة بهذا اللفظ ليست مروية عن النبي ﷺ، ولكنهم أرادوا أن يجمعوا بين الصيغة الأولى: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وما جاء في بعض تلك الروايات، وما جاء في الآيتين من ذكر السميع العليم في نزغ الشيطان، وهذا جاء عن نافع، وابن عامر، والكسائي[18] من القُراء، وهو مروي عن حمزة، وأبي عمرو، وقد روي عن بعض السلف كعمر ، وابن سيرين[19]

وممن قال به من أهل العلم: سفيان الثوري[20]، والأوزاعي[21]، وهو رواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه[22].

وهناك صيغة أخرى أيضاً أن يقول: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم"، هذا مبناه على ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - عن النبي ﷺ أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم [23].

أما الصيغ المنقولة عن السلف فهذه كثيرة جداً، وكما قلت بأنهم لم يفهموا تحديد الصيغة لفظاً من الإطلاق المذكور في قوله - تبارك، وتعالى -: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، أن المطلوب هو الاستعاذة، ولكن يمكن أن يُقال: بأن هذه الاستعاذة التي أمر الله بها هي مُبينة بمن تشرح سُنته القرآن، فعلمنا النبي ﷺ كيف نستعيذ، فمن هذه الصيغ: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم"، و "أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم"، "أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم"، "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم"، "أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم" أو: "نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم"، "أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي"، و "أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد"، "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واستفتح الله، وهو خير الفاتحين"، "أعوذ بالله السميع الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم"، و "أعوذ بك رب أن يحضرون، أو يدخل بيتي الذي يؤويني".

هذه أيضاً صيغة منقولة عن بعض السلف.

و "ربي أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربي أن يحضرون"، "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم".

و"أعوذ بالله السميع العليم من همزات الشياطين"، و"أعوذ بالله أن يحضرون"، لكن مثل هذه الصيغ يمكن أن يقال بأن ذلك لا يكون مُختاراً بحال من الأحوال، وقد جاءنا عن رسول الله ﷺ هذه الصيغ الثابتة الأربع، فيكون القارئ مُخيراً بين الصيغ الأربع، والأمر في ذلك يسير.

"الثانية: يؤمر القارئ بالاستعاذة قبل القراءة، سواء ابتدئ أول سورة، أو جزء سورة، والأمر بذلك على الندب".

الاستعاذة تكون قبل القراءة؛ لقوله الله - تبارك، وتعالى -: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98].

وظاهر هذا قد يُفهم منه أن الاستعاذة تكون بعد القراءة، وهذا نُقل عن جماعة من أهل العلم، نُقل عن حمزة[24] من القُراء، ونُقل عن آخرين، وأبو حاتم السجستاني[25]، وأبي هريرة من الصحابة[26]، ونُقل عن جماعة من السلف كابن سيرين[27]، وإبراهيم النخعي[28]، ونُقل عن داود الظاهري من الفقهاء[29] وهو محكي عن الإمام مالك[30]، وإن كان هذا قد استغربه بعض المالكية[31]، ولكن هذا النقل عن هؤلاء يرده بعض أهل العلم، ويقولون: إن ذلك لا يثبت عن أحد منهم كما سيأتي.

هؤلاء الذين يروى عنهم ذلك، وقد لا يثبت، ما مبنى هذا القول؟ مبناه ظاهر الآية، ومن جهة التوجيه أن هذه الاستعاذة التي تكون بعد القراءة تكون دافعة للعُجب، أن القارئ قد قام بعمل صالح، فهذه الاستعاذة تدفع عنه العُجب، وتبقى معه ثمرة القراءة. 

لكن الذي عليه عامة أهل العلم، بل نقل عليه بعض أهل العلم الإجماع أن ذلك، إنما يكون قبل القراءة، وأن هذه الآية ليس محملها ما ذُكر من إن المطلوب أن يستعيذ بعد القراءة، فقالوا: إن هذه نظير ما جاء في قوله - تبارك، وتعالى -: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: 6]، يعني: أردتم القيام فالوضوء يكون قبل الصلاة، فكذلك إذا أردتم قراءة القُرآن إذا أردت القراءة؛ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وكما في قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام: 152]، يعني: إذا أردتم القول، وكقوله:  وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب: 53]، يعني: إذا أردتم سؤالهن فسألوهن من وراء حِجاب، وكقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12]، يعني: إذا أردتم المُناجاة، وليست الصدقة بعد المُناجاة؛ لأنه كان المقصود بهذه الصدقة كما هو معلوم التخفيف عن رسول الله ﷺ من كثرة النجوى.

فأوقع الماضي يعني: إذا قرأت أوقع الماضي مكان المُستقبل، وقد دلت السنة على أن الاستعاذة قبل القراءة، كما في حديث أبي سعيد الذي أشرت إليه آنفاً، وهذا أنها تكون بعد القراءة، قول لا يعول عليه، وقد نص بعض أهل العلم على شذوذه، وإنما المقصود أن تكون الاستعاذة قبل القراءة من أجل أن القارئ بحاجة إلى ذلك؛ ليدفع عنه خواطر الشيطان يدفع وسواسه، ليتهيأ للقراءة، ليتطهر لسانه، كما قد تطهر قبل ذلك بالوضوء، فيجمع بين الطهارتين، والله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52]، وقد فُسر ذلك بالقراءة، يعني: في قراءته، والمخرج من ذلك بالاعتصام بالله - تبارك، وتعالى - من الشيطان، فلا يُفسد عليه قراءته، ولا يُلقي في قلبه الخواطر، والوساوس، فيكون القلب محلاً صالحاً للقرآن، وينتفع به، وقد حكى الإجماع على ذلك أنها قبل القراءة جمع من أهل العلم، كالإمام مكي بن أبي طالب[32]، وخاتمة المُقرئين ابن الجزري[33]، قالوا: إن هذا بالإجماع، وضعفوا ما نُقل عن هؤلاء من السلف، وغيرهم، وأن ذلك لا يثبت عن أحد منهم، ولا يصح عنهم شيء من ذلك.

فكذلك أيضاً تكون هذه الاستعاذة قبل البسملة بلا شك، وتكون في ابتداء السور بلا مرية، لكن إذا ابتدأ القارئ من وسط السورة، فهل يتعوذ أو يُبسمل، أو يتعوذ، ويُبسمل؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم في وسط السورة، والأقرب - والله أعلم - أنه يتعوذ، ثم يقرأ بعد أن يقف، وله أن يصل الاستعاذة بالقراءة، وإن كان بعض أهل العلم استثنى بعض المواضع من جهة المعنى، يعني: كأنهم قالوا يقبُح الوصل بين الاستعاذة، والابتداء ببعض الآيات كقوله مثلاً: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255]، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الله لا إله إلا هو، قالوا: كأن المعنى ليس بذاك، هكذا قالوا قد يتوهم مع أن هذه الرجيم مجرورة، والله مرفوعة، يعني: لا يقال: إن هذا من الأوصاف التابعة تعالى الله، وتقدس عن ذلك؛ ولهذا لو أنه،وصل، فإن ذلك لا يلتبس مثل هذه المواضع التي ذكروها، يعني: ما كان مبدأه بذكر اسم الله - تبارك، وتعالى - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الروم: 40]، أو إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت: 47]، يعني: لو أنه قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت: 47]، يقال: قد يُتوهم أن ذلك يرجع إلى الشيطان، لكن لو أنه وقف سكت سكتة فهذا حسن؛ لأن الاستعاذة الوقف عليها يكون تاماً، والوقف على ما كان من هذا القبيل يكون أولى، لكن هؤلاء يقولون: في مثل هذه المواضع يستعيذ، ثم يُبسمل، وهذا لا دليل عليه، لكن أهل العلم قد يذكرون الاستحباب على ما لم يرد فيه دليل، لكنهم لا يعبرون عن ذلك بأنه يُسن فيُفرق بين هذا، وهذا من جهة أن الاستحباب عند كثير منهم يمكن أن يرجع إلى معنى من النظر، يعني: مثلاً تجد أهل العلم يقولون: بأنه يُستحب له في الختم إذا كان في الشتاء أن يختم آخر النهار، وإذا كان في الصيف أن يختم في أول النهار، هذا لا يوجد دليل يدل عليه، فكيف أطلقوا الاستحباب؟ أطلقوا ذلك باعتبار النظر، يعني: ليس بدليل من النقل، وإنما بدليل من النظر.

والأدلة - كما هو معلوم - منها ما يكون من قبيل النقل، والرواية، ومنها ما يكون من قبيل النظر، فقالوا: إنه في الشتاء يستقبل ليلاً طويلاً فيبتدئ بعد الختم بختمة جديدة يقطع فيها شوطاً صالحاً، الليل طويل، وفي الصيف لما كان النهار طويلاً فإنه يبتدئ بختمة جديدة يقطع بها أيضاً شوطاً صالحاً.

المقصود الشاهد من هذا بصرف النظر أنهم ذكروا الاستحباب، وهذا يذكرونه في مسائل تتعلق بالطهارة، وقضايا تتعلق بأنواع أخرى من العبادات بناء على النظر، فإذا رأيت مثل هذا فلا تعجل، وتقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21]، كيف أطلقوا الاستحباب، والاستحباب حكم شرعي من غير دليل، لا لا، هم لا يقصدون هذا، وهم علماء، وجبال، وفقهاء، وأئمة كبِار يعرفون هذا، ويعرفون أكثر منه، لكنهم هم يفرقون بين هذا، وهذا، فإذا قالوا: هذا يُسن يقصدون عن رسول الله ﷺ، وإذا قالوا يُستحب فيكون ذلك أحياناً ليس دائماً، يكون لمُراعاة أمر يحسُن مراعاته.

فإذا قالوا: يُستحب أن يُبسمل مثلاً بعد الاستعاذة في هذه المواضع، قالوا: نظراً لهذا المعنى لئلا يُفهم المعنى الآخر السيء فقط، قبلت هذا، أو لم تقبل، لا تظن أن هؤلاء العلماء يقولون عن الله بلا علم، وأنهم يشرعون من عند أنفسهم، إنما يقصدون مثل هذا المعنى الذي ذكرته، والله تعالى أعلم، لكن الأرجح - كما سيأتي - أن البسملة لا تكون في أوساط السور، وإن نُقل ذلك عن بعض أهل العلم، لكنه يستعيذ، فإذا كان المعنى قد يوهم مثل: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت: 47]، فيسكت هُنيهة، ثم بعد ذلك يقرأ.

"الثالثة: يجهر بالاستعاذة عند الجمهور، وهو المُختار، وروي الإخفاء عن حمزة، ونافع".

الاستعاذة، والجهر بها هذا يُنظر إليه باعتبارين:

الاعتبار الأول: وهو ما إذا كان في الصلاة.

الاعتبار الآخر: ما إذا كان خارج الصلاة.

فإذا كان في غير الصلاة، فالذي عليه عامة القُراء أنه يجهر بالاستعاذة، وهذا بطبيعة الحال ما إذا كانت قراءته جهراً، أما إذا كانت قراءته سراً فلا معنى لتقييد الاستعاذة بالجهر، إذا كان يقرأ جهراً لنفسه، أو يقرأ لغيره، فهل يجهر بالاستعاذة أو لا يجهر؟ فالذي عليه عامة القُراء أنه يجهر بذلك، بل نقل الإمام مكي بن أبي طالب - رحمه الله - [34]، وهو من القُراء كما هو معروف من أئمة القراءة، وهو أيضاً مُفسر، وأن ذلك هو المُختار لجميع القُراء، يعني: نسبه إلى الجميع، وأنه هو المعول عليه أن يجهر بها، لكن الواقع أنه وجِد من يقول: بأنه يُسر بالاستعاذة، يعني: ولو كانت قراءته جهراً، وهذا منقول عن حمزة، ونافع[35].

بل قال بعضهم: بأن الإمام نافع لم يكن يتعوذ[36]؛ لئلا يظن ظان أو يتوهم متوهم أن الاستعاذة من القرآن، أو أنها، واجبة.

وقد كان بعض السلف يتركون بعض العمل المشروع دفعاً لوهم فاسد، كما نُقل عن بعضهم: أنه كان يترك الأضحية، وقد جاء عن ابن عباس - ا -: أنه يشتري اللحم أمام الناس في يوم الأضحى؛ من الجزار من أجل أن يراه الناس، يعني: أنه لم يُضحي؛ لئلا يُفهم أنها واجبة.

لكن هنا الله - تبارك، وتعالى - أمر بالاستعاذة فلا تتُرك من أجل هذا، غاية ما هُنالك أنه يُسر بها إذا خشي هذا الوهم.

ومن المعلوم أن الاستعاذة ليست من القرآن؛ ولذلك يقول أهل العلم - وهم السواد الأعظم الذين قالوا بأنه يجهر بها - قالوا: بأن هذا الوهم غير وارد، وإذا جهر بها؛ فإن ذلك يكون أدعى لدفع الشيطان، ولدفع وساوسه، وفيها تعليم أيضاً للجاهل، وتذكير للغافل، وما إلى ذلك، والشيء إذا كان يقوله الإنسان بلسانه، ويطرق سمعه؛ فإن ذلك أدعى لوعيه، فإذا تتابع اللسان، ثم بعد ذلك طرق السمع، فهذا أقرب إلى أن يعيه المرء -  والله أعلم -.

وإذا كان الإنسان في صلاة فالذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة، والتابعين فمن بعدهم من القُراء، والفقهاء إلى أنه يُسر بالاستعاذة، وهذا منقول عن الخلفاء الأربعة [37]، ونُقل عن جماعة من الصحابة كابن عمر[38]، وابن مسعود[39]، ونُقل عن جماعة من التابعين، وبهذا قال جمع من الأئمة الفقهاء كأبي حنيفة[40]، وأحمد[41]، وهو أيضاً، وجه في مذهب الشافعي[42]، وهو قول الإمام مالك - رحمه الله - في قيام الليل[43].

ونُقل عن بعضهم أنه يجهر بها في الصلاة، وهذا مروي عن أبي هريرة [44]، وذكر بعض أهل العلم أن ذلك هو اختيار الإمام الشافعي، يجهر بالاستعاذة، فإن أسر فلا يضر[45]، وبعضهم يقول: يكون مُخيراً بين الجهر، والإسرار، وهذا أيضاً وجه في مذهب الشافعي[46].

لكن الذي عامة أهل العلم، وهو الذي تدل عليه سنة النبي ﷺ: أنه لا يجهر بالاستعاذة في الصلاة، وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله  - أن الجهر بالتعوذ أحياناً للتعليم لا بأس به، يعني: إذا كان يريد أن يُعلم الناس أنه يستعيذ في الصلاة، وأنها تُشرع قبل القراءة، كما كان عمر يجهر بدعاء الاستفتاح مدة[47]، يعني: لتعليم الناس، مع أنه لا يُشرع الجهر به.

يقول: وأما المداومة على الجهر بذلك يعني الاستعاذة فبدعة مُخالفة لسنة ﷺ، وخلفائه الراشدين، فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائماً، بل لم يُنقل ذلك عن رسول الله ﷺ أنه جهر بها[48].

لكن إذا جهر الإمام، ولم يسكت، فهل يستعيذ المأموم، أو يكتفي باستعاذة الإمام؟

هذا فيه روايتان عن الإمام أحمد - رحمه الله -: الأولى: أنه يستعيذ ؛لأنه مأمور بذلك قبل القراءة، والرواية الثانية أنه لا يستعيذ[49]، وهذا الذي قال عنه شيخ الإسلام  - رحمه الله - أصح - وهو قول أكثر أهل العلم كالشافعي، وأبي حنيفة[50].

"الرابعة: لا يتعوذ في الصلاة عند مالك، ويتعوذ في أول ركعة عند الشافعي، وأبي حنيفة، وفي كل ركعة عند قوم، فحُجة مالك عمل أهل المدينة، وحُجة قول غيره قول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، وذلك يعم الصلاة، وغيرها". 

الاستعاذة عند قراءة القرآن في الصلاة أو خارج الصلاة ذكر فيه ابن جُزي - رحمه الله - هذه الأقوال الثلاثة، يعني: إن كان يتعوذ في الصلاة هل يتعوذ أيضاً في كل ركعة أو لا؟ فبعض أهل العلم يقولون: إن الاستعاذة واجبة في الصلاة، وخارج الصلاة، وهذا منقول عن بعض السلف كعطاء[51]، واختاره ابن حزم الظاهري[52]، أخذاً من الأمر في قوله - تبارك، وتعالى -: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، هذا أمر يقتضي الوجوب، وأنه لا صارف له.

واستدلوا بأن النبي ﷺ كان يواظب على الاستعاذة، ويُعلمها لأصحابه، قالوا: أيضاً من جهة النظر فإن شر الشيطان يجب دفعه بكل مُستطاع، وأعظم ما يُدفع به هو اللجوء إلى الله - تبارك، وتعالى - والاستعاذة به من شره، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يعني: دفع الشيطان واجب، ولا يتم إلا بالاستعاذة؛ إذاً الاستعاذة واجبة.

فاستدلوا بالنقل، وبالنظر، وعند هؤلاء باعتبار أنها واجبة أنه إذا نسي في أول القراءة قطع، ثم استعاذ، ثم يبتدئ من حيث، وقف.

وأما الذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم فهو أن الاستعاذة مستحبة قبل كل قراءة للقران، سواء كان ذلك في الصلاة، أو خارج الصلاة، وهذا منقول عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح أيضاً، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، ومن الفقهاء الأوزاعي، والثوري[53]، وهو قول أبي حنيفة[54]، وأحمد، وإسحاق بن راهويه[55]، وهو الذي اختاره أكثر الشافعية، وصححه عن الإمام الشافعي رحم الله الجميع[56].

وحملوا قوله - تبارك، وتعالى -: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98]، على الندب، وليس للوجوب، قالوا كقوله - تبارك، وتعالى -: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وكقوله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، فهذه أوامر، والأمر فيها للندب، وقالوا: إن الصارف له من الوجوب إلى الندب هو أن النبي ﷺ نُقل عنه أنه قرأ آيات، ولم يكن يتعوذ قبلها في هذه المرويات، فهذا صارف عندهم من الوجوب إلى الاستحباب، بل نقل كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - الإجماع على أنها ليست بواجبة، أنها مُستحبة[57]، ونقل الإجماع يكون صارفاً من الوجوب إلى الاستحباب.

ولكن هذا المروي عن بعض أهل العلم من أنها واجبة قال عنه بعض أهل العلم بأن ذلك مُخالف لإجماع السلف، حيث أجمعوا على أنها سُنة، لكن نحن نعلم أن ابن جرير - رحمه الله - إذا نقل الإجماع؛ فإنه يقصد به ليس إطباق الكافة إطباق جميع أهل العلم، وإنما يقصد به قول عامة أهل العلم، وهذا كثير في كلام ابن جرير - رحمه الله - يقول: ولسنا نستجيز كذا، لسنا نستجيز مُخالفة هذا القول لإجماع أهل العلم على خلافه مثلاً، ثم يذكر بعده بسطر قولاً يُخالفه.

فالذي لا يعرف مُراده بالإجماع، يقول: إنه سرعان ما يتناقض، والواقع أنه لا يتناقض، ولكنه يقصد بالإجماع قول عامة أهل العلم، قول أكثر أهل العلم يسميه إجماعاً، وهذا اصطلاح، وقد مشى عليه - رحمه الله -.

ونقل الإجماع أيضاً بعض المفسرين، وبعض الفقهاء كابن عطية من المالكية[58]، وابن هُبيرة من الحنابلة، قال: "إنهم قد اتفقوا على أن التعوذ في الصلاة على الإطلاق قبل القراءة سُنة إلا مالكاً فإنه قال: لا يتعوذ في المكتوبة، أنه لا يتعوذ فيها أصلاً"[59].

فإذا قطع القراءة في غير الصلاة، هل يعيد الاستعاذة أو لا يُعيد؟ فرقوا في ذلك بينما إذا كان القطع لعارض طبيعي كالعُطاس، والسُعال، ونحو ذلك، أو لكلام يتعلق بالقراءة، أو ما يكون من قبيل الذكر، كأن يُصلي على النبي ﷺ، أو يذكر ربه، أو إذا كان يسأل في موضع سؤال، أو يستعيذ في موضع استعاذة، يعني: مما يتعلق بالقراءة، فقالوا: لا يُعيد الاستعاذة في هذه الحال، وكذلك فيما لو رد السلام.

أما إذا قطعها بأجنبي كأن يتحدث الهاتف - مثلاً - أو يتحدث مع صاحبه، أو يأمره، أو ينهاه، أو نحو هذا إعراضاً عن القراءة أصلاً، أو لاشتغاله بغيرها؛ فإنه يُعيد الاستعاذة استحباباً[60].

لكن هذه الاستعاذة المشروعة في الصلاة هل يتعوذ في كل ركعة، أو يكفي أنه يستعيذ في الركعة الأولى؟

الذي عليه عامة أهل العلم: أن الاستعاذة تكون في الركعة الأولى قبل القراءة؛ وذلك أن جميع الصلاة من أولها إلى آخرها كقراءة واحدة، يكفي فيها الاستعاذة في مبدئها، وهذا القطع الذي يحصل بالتكبير، والتسبيح، ونحو ذلك من الذكر ليس بقطع بشيء أجنبي عن القراءة، وإنما قطع ذلك بذكر الله - تبارك، وتعالى - ومن ثَم فإنه لا حاجة إلى أن يستعيذ في كل ركعة.

وهذا منقول عن جماعة من السلف كعطاء[61]، والحسن[62]، والنخعي[63]، والثوري[64]، وابن سيرين، وطاووس[65]، ومن الفقهاء منقول عن أبي حنيفة[66]، والشافعي[67]، وأحمد في رواية عنه[68].

فإذا نسي أن يتعوذ في الركعة الأولى تعوذ في الركعة الثانية عند الشافعي[69]، وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: إن نسي التعوذ حتى شرع في القراءة لم يعد إليه لذلك[70]، هذا إذا شرع في القراءة، يعني: تذكر، وهو في أثناء الفاتحة مثلاً، أو في أثناء السورة، لكن لو أنه تذكر في الركعة الثانية، وهو يريد أن يقرأ الفاتحة، فإن المشروع أن يستعيذ، والله تعالى أعلم؛ لأن الله - تبارك، وتعالى - قد أمر بذلك، ولكنه إن استعاذ في أول الصلاة فلا حاجة لأن يُعيدها في الركعة الثانية.

وجاء في حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله ﷺ إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة، ولم يسكت [71]، هذا أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، ولم يسكت، فدل على أنه لا يستعيذ، وإنما تكفيه الاستعاذة الأولى؛ لأنه لم يتخلل القراءتين انقطاع يوجب الاستعاذة، بل حصل بين القراءتين الاشتغال بالذكر، فالصلاة كلها كالقراءة الواحدة لو تخللها تسبيح، وتهليل، وتحميد، ونحو ذلك، أو تكبير، أو صلاة على النبي ﷺ فإن ذلك لا يضر، وهذا الذي مشى عليه أيضاً الحافظ ابن القيم - رحمه الله - [72].

إذاً: الحاصل أن الاستعاذة تكون في أول القراءة في الصلاة، ولا يستعيذ في كل ركعة، وإن قال بعض أهل العلم أن ذلك يُكرر، لكن الأقرب هو ما سبق، والقول بتكرارها كما سبق مروي عن بعض أهل العلم، كالنخعي، وابن سيرين[73].

كذلك أيضاً هو أحد الوجهين عند الشافعية[74]، وهو رواية عن الإمام أحمد[75]، وهو الذي ذهب إليه ابن حزم[76]، أما الإمام مالك - رحمه الله - ؛ فإنه يرى أنه لا يتعوذ أصلاً لا في أولها، ولا في كل ركعة، هذا في المكتوبة، ولكنه يتعوذ في قيام الليل؛ لأن ذلك قد نُقل عن رسول الله ﷺ، وفي رواية عن مالك أنه يتعوذ في النافلة، وليس في الفريضة[77].

أيضاً مما قد لا يحتاج إلى الوقوف، والشرح، والتدليل أن الاستعاذة ليست من القرآن، وهذا بالإجماع، هذه الاستعاذة مما لم يذكره ابن جُزي - رحمه الله - تدور على أركان كما هو معلوم أربعة: المُستعيذ، والمُستعاذ به، والمُستعاذ منه، والاستعاذة يعني نفس الاستعاذة، فعندنا استعاذة، ومُستعيذ، ومُستعاذ منه، ومُستعاذ به، هذه أركان الاستعاذة، وهذا أمر معلوم لا يخفى.

وأما المواضع التي تُشرع فيها فما نحن بصدده من أن ذلك يكون قبل قراءة القرآن، وهناك مواضع أخرى كما جاء في الآيتين في أول الكلام في قوله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ [الأعراف: 200]، فهنا يستعيذ، وقد قال النبي ﷺ: يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ريك، فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته[78].

وكذلك عندما يُلبس الشيطان عليه صلاته، فعن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني، وبين صلاتي، وقراءتي، يلبسها علي فقال رسول الله ﷺ: ذاك شيطان، يقال له خنزب، فإذا أحسسته، فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني [79]، والحديث في صحيح مسلم.

وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان، وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء، أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء في نفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى[80].

وكذلك يستعيذ في حال الغضب، كما جاء في حديث سليمان بن صرد قال: استبَّ رجلان عند النبي ﷺ، ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضبًا قد احمر، وجهه، فقال النبي ﷺ: إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي ﷺ فقال: إني لست بمجنون [81].

وكذلك إذا رأى الرؤيا التي يكرهها، فعن أبي قتادة  قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئًا يكرهه، فلينفث عن يساره ثلاثًا، ويتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره[82].

وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ أنه قال: إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليبصق عن يساره، وليتعوذ بالله من الشيطان، ويتحول عن جنبه الذي كان عليه[83].

وكذلك يتعوذ بالله من الشيطان عند دخول المسجد فعن عبد الله بن عمره بن العاص عن النبي ﷺ أنه: كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم [84].

وكذلك عند نهيق الحمار، ونُباح الكلاب، وقد جاء ذلك مُقيداً في بعض الروايات، فعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله، فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانًا[85].

وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: إذا سمعتم نباح الكلاب، ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله فإنهن يرين مالا ترون[86].

كذلك إذا نزل منزلاً فإنه كما جاء عن النبي ﷺ يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[87]، فيدخل بذلك الشيطان، وغير الشيطان.

كذلك عند دخول الخلاء: اللهم إني أعوذ بك من الخُبث، والخبائث[88].

وكذلك أيضاً إذا وجد ألماً في جسده فكما قال النبي ﷺ: ضع يدك على الذي يألم من جسدك، وقل بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات أعوذ بالله، وقدرته من شر ما أجد، وأُحاذر[89].

وهكذا جاء في مواضع أخرى عند الصباح، والمساء، وعند النوم، وعند الفزع من النوم كل هذا قد جاء عن رسول الله ﷺ، وصحت به الأحاديث.

"الخامسة إنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلا بالمستقبل لأنها كالدعاء، وإنما جاء بهمزة المُتكلم وحده مُشاكلة للأمر به في قوله: فاستعذ".

الشيخ: يقول: "إنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلا بالمستقبل لأنها كالدعاء"، إلى آخر ما ذكر، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله يعني أعتصم، وألتجأ إلى الله - تبارك، وتعالى - وقد مضى في الكلام على المُفردات في الكلام على العوذ بأنه عند ابن جُزي - رحمه الله - بمعنى الالتجاء إلى الشيء في أصل معناه، يعني: أستجير بالله، وأتحرز به، وأمتنع به من المكروه، ألوذ به، بعض أهل العلم يُفرق بين العوذ، واللوذ، يقولون: العوذ يكون بالالتجاء من المكروه، واللوذ في المرغوب، والمحبوب، ويذكرون قول المتنبي المشهور:

يا من ألوذ به فيما أُمله ومن أعوذ به ممن أُحاذره

ففرق بين هذا، وهذا، ولهذا قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "بأن العياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب الخير[90].

لكن هذا ليس محل اتفاق على كل حال فبعض أهل العلم يقول إنهما بمعنى واحد، أعوذ بالله، والباء هذه للاستعانة، يعني: مستعيناً بالله، وقيل غير ذلك، وأما لفظ الجلالة فالله هو المألوه كما هو معلوم المعبود محبة، وتعظيماً تأله القلوب - وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله - وهذه الجملة أعوذ بالله هي جملة خبرية تُعبر بالماضي كما ذكر ابن جُزي - رحمه الله - لكن معناها الطلب؛ لأنه يريد أمراً مستقبلاً أن يُعيذه الله - تبارك، وتعالى - من الشيطان الرجيم.

إذاً: هي صيغة خبرية أعوذ بالله هو مُخبر أنه يستعيذ بالله لكنه من جهة المعنى طالب من الله - تبارك، وتعالى - أن يُعيذه، مثل هذا الطلب يكون معناه المستقبل لا يتعلق إلا بالمستقبل، قال: لأنها كالدعاء، وإنما جاء بهمزة المتكلم وحده يعني ما قال نعوذ مشاكلة للأمر به في قوله فاستعذ، فيقول: أعوذ، ما يقول نستعيذ، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يعني لماذا جاء بصيغة الإفراد أعوذ فاستعذ يقول أعوذ.

"السادسة الشيطان يحتمل أن يُراد به الجنس فتكون الاستعاذة من جميع الشياطين، أو العهد فتكون الاستعاذة من إبليس، وهو مشتق من شطن إذا بعُد فالنون أصلية، والياء زائدة، ووزنه فيعال، وقيل من شاط إذا هاج فالنون زائدة، والياء أصلية، ووزنه فعلان، وإنما سُميت به لم ينصرف على الثاني لزيادة الألف، والنون، وانصرف على الأول، وإن سُميت به لم ينصرف على الثاني لزيادة الألف، والنون، وانصرف على الأول".

إن سُمي به أو سميت به، يعني: قُصد التسمية، هكذا، والله أعلم، وإن سميت به لم ينصرف على الثاني لزيادة الألف، والنون، وانصرف على الأول، انصرف على الأول، وأعوذ بالله من الشيطان، طبعاً من هذه للابتداء الغاية كما يقوله بعض أهل العلم من الشيطان.

فهذا الشيطان عند عامة أهل العلم عند الجمهور من أهل اللغة أنه مأخوذ من شطن، بمعنى بعُد، وهذا الذي ذهب إليه عامة المفسرين أنه من شطن بمعنى بعُد.

نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت، والفؤاد بها رهين

يعني: بعُدت، ويقال: بئر شطون يعني بعيدة القعر، وقد قال ابن فارس - رحمه الله -: "بأن الشين، والطاء، والنون أصل مطرد، ويدل على البُعد"[91].

ما ذكرنا في الكلام على الغريب، يدل على البُعد، الشيطان على وزن فيعال للدلالة على أنه بلغ الغاية في البُعد، هذا هو المشهور أنه من بُعد، أنه بعيد عن الخير بعيد عن رحمة الله - تبارك، وتعالى -.

وبعضهم يقول: إنه مأخوذ من شاط يشيط إذا هاج، واشتد غضباً، يقال: استشاط فلان غضباً، شاط يشيط، وهكذا إذا احترق، وهلك.

كما يقوله أُمية بن أبي الصلت، يمدح نبي الله سليمان - عليه الصلاة، والسلام -:

أي ما شاطن عصاه عكاه ثم يُلقى في السجن، والأكبال

أي: ما شاطن عصاه عكاه، فالمشهور هو الأول شطن، يعني: بُعد، هذا الذي عليه عامة أهل اللغة، وعامة المفسرين.

و"أل" هذه التي في الشيطان للجنس فهو يشمل كل مُتبرد، عاتٍ، خارج عن طاعة الله من الجن، والإنس، والدواب أيضاً، هو كل شيء يصدق عليه أنه شيطان، النبي ﷺ قال: الكلب الأسود شيطان[92].

ولهذا جاء الجمع في قوله - تبارك، وتعالى -: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ [المؤمنون: 97]، وبعضهم يقول: بأن أل للعهد، أعوذ بالله من الشيطان، يعني: للعهد أنه مثلاً الشيطان الأكبر، الذي هو إبليس، أو الشيطان المُختص بالصلاة خِنزب مثلاً، لكن الأقرب أن هذا للجنس، وهو يستعيذ من كل شيطان، وهو الشياطين، كما ذكر النبي ﷺ، وذكر حالهم بأنهم يتخللون المصلين في الصف، وهذا الشيطان يُطلق ذلك على الإنس، والجن، كما قال الله - تبارك، وتعالى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112].

وهكذا أيضاً قد جاء ذلك في قوله - تبارك، وتعالى -: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ۝ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ۝ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: 4 - 6]، وذكرنا الاحتمالين في الآية.

وعلى كل حال الإنس فيهم شياطين، والجن فيهم شياطين، وليس كل الجن شياطين، ولكن منهم شياطين، وهم يتفاوتون في مرتبتهم في ذلك، والله قال: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة: 14]، هنا المقصود شياطين الإنس، فكما أن الجن لهم شياطين، أو فيهم شياطين كذلك الإنس فيهم شياطين، فيقال: شيطان، وكذلك أيضاً يقال: مارد، وهذا أعلى مرتبة من المرتبة الأولى التي هي مرتبة الشيطان، وأعلى منه كما ذكر بعضهم قالوا: العفريت أعلى من المارد، وأقدر، وأقوى، فيقول جرير الشاعر:

أيما يدعونني الشيطان من غزل وهن يهويني إذ كنت شيطان

يعني: يتحدث عن النساء، والشواب من النساء، كيف يُعجبن به، كُن يُعجبن به أيام الشباب، ويقلن عنه بأنه شيطان، ويهوينه لنشاطه، وطاقته، وفرط قوته، ثم بعد ذلك لما ضعُف، وشاب أعرضن عنه، كما يكون ذلك أيضاً في الحيوانات؛ فإن النبي ﷺ لما سُأل ما بال الكلب الأسود فيما يقطع الصلاة، فقال: الكلب الأسود شيطان، وهذا الذي يتمرد عن نظائره من بني جنسه، سواء كانوا من الجن، أو من الحيوانات، أو من الآدميين، أو غير ذلك، هذا التمرد يؤهله؛ لأن يُقال له ذلك أنه شيطان؛ لأنه قد فارق نظائره، أو فارق بني جنسه في أخلاقه، وأفعاله، وأوصافه، وطباعه، وباعدهم، فهؤلاء الشاطين من الإنس، والجن، لما كانوا في حال من العتو، والفجور، والفِسق، والإعواء، والبُعد عن الخير، وعن رحمة الله - تبارك، وتعالى - قيل لهم ذلك، هذا الشيطان.

"السابعة: الرجيم فعيل بمعنى مفعول، ويحتمل معنيين: أن يكون بمعنى لعين، وطريد، وهذا يُناسب إبليس لقوله: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34]، وأن يكون من الرجم بالنجوم، وهذا يُناسب الجنس لقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك: 5]، والأول أظهر".

فعيل يكون بمعنى مفعول، ويأتي بمعنى فاعل، فهنا إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هل المعنى أنه بمعنى مفعول؟ يعني: مرجوم كما يقال مثلاً سعير، بمعنى مسعور، وقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وأسير بمعنى مأسور، فيكون هنا رجيم بمعنى أنه يُرجم بالقول، وبالفعل مرجوم، فالرجم يكون بالشُهب، هذا الرجم الحسي وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك: 5]، ويكون بالقول، وهو أحد القولين في قوله - تبارك، وتعالى - عن قول آزر لإبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم: 46]، قيل: بالقول، يعني: بالشتم، ونحو ذلك، والسب، وسيء القول، وقيل: بالحجارة، يعني: يكون الرجم بالفعل، فالشيطان مرجوم بالفعل، والقول معاً، فهو مرجوم حساً، ومعنى، فقد طرده الله - تبارك، وتعالى - من رحمته، قلنا: هذه المادة تدل على البُعد، فهو بعيد عن رحمة الله - تبارك، وتعالى - طرده الله من الملأ الأعلى، وقال الله - تبارك، وتعالى -: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف: 13]، وقال: اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [الأعراف: 18]، وقال: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ۝ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [الحجر: 34 - 35]، وإلى غير ذلك من الآيات، فهذا كله من الرجم، وهو بمعنى الإبعاد، والطرد، ونحو ذلك.

كذلك هو مرجوم حساً، قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك: 5].

وقال: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ۝ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ۝ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 6 - 10]، فهذا رجم حسي، وهكذا ما جاء في الآيات الأخرى إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 18]، فكل ذلك يكون قد اجتمع له.

وبعضهم يقول: إن رجيم هنا فعيل بمعنى فاعل بمعنى أنه هو الذي يرجم الناس، يرجمهم بماذا؟ يرجمهم بالوساوس، والخواطر السيئة، وما إلى ذلك مما يُزين لهم به المنكر، لكن الذي عليه عامة أهل العلم أن رجيم فعيل بمعنى مفعول، بمعنى مرجوم - والله تعالى أعلم -.

إذا كان هذا معنى الاستعاذة "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، الزيادات التي وردت في بعضها السميع العليم، السميع العليم: اسمان من أسماء الله - تبارك، وتعالى - السميع مُشتق من صفة السمع، صيغة مبالغة على وزن فعيل، بمعنى فاعل، أي: أنه سامع شديد السمع للمسموعات.

وكذلك أيضاً العليم هذا اسم من أسمائه - تبارك، وتعالى - مشتق من العلم، والعلم معروف، وهذه صيغة مُبالغة، فهو ذو العلم التام المُحيط، الشامل، الواسع لا يفوته شيء، يعلم الماضي، والحاضر، والمستقبل.

وكذلك أيضاً جاء في الصيغة الأخرى: "من همزه، ونفثه، ونفخه"، فهمز الشيطان فُسر بالموتة، وهي الخنق نوع من الجنون، والصرع، وقيل غير ذلك، والنفخ فُسر بالكِبر، والنفث فُسر بالشِعر؛ لأنه يُنفث من الفم، وفسره بعضهم بالسحر، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق: 4]، فالساحر يعقد العقدة، ويُنفث فيها.

وعلى كل حال، فنفث الشيطان يحتمل أن يكون هو الشعر، ويحتمل أن يكون بمعنى السحر، والمقصود بالشعر بطبيعة الحال الشعر المذموم.

فهذا المُستعيذ يلجأ إلى الله - تبارك، وتعالى - ويعتصم به من شر الشيطان، ووساوسه، وكيده، وخواطره، وإضلاله، ويسأل ربه العِصمة منه.

"الثامنة: من استعاذ بالله صادقاً أعاذه، فعليك بالصدق، ألا ترى امرأة عمران لما أعاذت مريم، وذريتها عصمها الله، ففي الحديث الصحيح: أن رسول الله ﷺ قال: ما من مولود إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخاً إلا ابن مريم، وأمه[93]".

هو الآن انتهى إلى نهاية المسألة السابعة من الكلام على المسائل العلمية المتعلقة بالاستعاذة، وكذلك ما يتصل بتفسير بعض ألفاظ الاستعاذة.

والآن بدأ يتحدث عن قضايا أخرى يذكرها، ويطرقها في هذا الكتاب مما يُنبه القارئ إلى بعض المعاني، والملاحظ التي يحسن التنبيه عليها بعض هذه الأشياء تتعلق بجوانب تربوية، وبعض هذه الأشياء يتعلق بقضايا تتصل بأعمال قلبية، وبعض هذه القضايا تتصل بأمور وعظية، يعني أن ذلك يكون خارجاً عن التفسير.

فهذه الاستعاذة على كل حال كما يقول هنا: "من استعاذ بالله صادقاً أعاذه" هذا نوح ﷺ قال: أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود: 47]، فكما يقول بعض أهل العلم بأن الله أعطاه لما استعاذ خلعتين السلام، والبركات اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ [هود: 48].

ويوسف ﷺ لما قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي [يوسف: 23]، أن الله أعطاه أيضاً خلعتين صرف عنه السوء، والفحشاء، وقال أيضاً: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف: 79].

حينما قال لإخوته، قالوا: فأعطاه الله خلعتين رفع أبويه على العرش، وخروا له سُجدا.

وكذلك ما قاله موسى - عليه الصلاة، والسلام -: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67]، لما قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة: 67]. في قصة القتيل الذي أمرهم بضربه ببعض البقرة، فأعطاه الله خلعتين إزالة التُهمة، وإحياء القتيل، وهكذا حينما قال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان:20]، لما قاله لفرعون، وفي الآية الأخرى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر: 27]، فأعطاه الله خلعتين أفنى عدوه، وأورثهم أرضهم، وديارهم.

وكذلك أيضاً امرأة عمران حينما قال: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36]، فأعطاها الله خلعتين فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [آل عمران:37]، وكذلك مريم لما رأت جبريل ﷺ - في صورة بشر قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم: 18].

فحصل لها نعمتان هذا الولد من غير أب، وبرأها الله - تبارك، وتعالى - بلسان هذا الولد عن السوء قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، الآية.

هكذا ذكر بعض أهل العلم على كل حال، وبعض هذه المواضع التي استشهد بها الواقع أن الله أعطى فيها هذا المستعيذ أكثر من ذلك، لكن هذا من جملة اللطائف بناء على ما أشار إليه ابن جُزي - رحمه الله -.

"التاسعة: الشيطان عدو، وحذر الله منه؛ إذ لا مطمع في زوال علة عداوته، ولفظة علة هذا زائدة في النُسخ الخطية، إذ لا مطمع في زوال عداوته، وفي نُسختين إذ لا مطمع في زوال عاديته، وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيأمره أولاً بالكفر، ويُشككه في الإيمان، فإن قدِر عليه، وإلا أمره بالمعاصي، فإن أطاعه، وإلا ثبطه عن الطاعة، فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء، والعُجب".

عداوة الشيطان معروفة، وقد توعد آدم ﷺ، وذريته، ولا شك أن شياطين الجن أعظم عداوة، وأشد ضراوة من شياطين الإنس، وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في الكلام على الاستعاذة بأنها استعانة بالله، واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف، والعجز عن مقاومة هذا العدو المُبين الباطني، الذي لا يقدر على منعه، ودفعه إلا الله - تبارك، وتعالى - الذي خلقه، وهو لا يقبل مصانعة، ولا يُدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دل على ذلك الآيات من القرآن في ثلاث من المثاني كما في قوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 65].

وقد نزلت الملائكة كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، يعني: صرعى إبليس شياطين الجن يكون ذلك بالغواية، فيكون صاحبه يكون القتيل المصروع بالغواية يكون طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً، ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً، أو موزوراً.

ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه، ولا يراه الشيطان.

وذكر أيضاً بأن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر ربنا - تبارك، وتعالى - بمصانعة شيطان الإنس، وبمداراته، وإسداء الجميل إليه، يقول: ليرده طبعه عن ما هو فيه من الأذى، يعني: أصله طيب هذا شيطان الإنسان، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة، ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في الآيات الثلاث التي أشار إليها يقول: لا أعلم لهن رابعة:

الأولى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]، فهذا مما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، الإحسان خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

ثم قال: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]، وقال أيضاً: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون: 96]، هذا في العدو من الإنس، وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 97 - 98].

وقال: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34]، هذا مع العدو من الإنس فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34 - 36][94].

فهذا لا طب فيه بل هو أعظم ضرراً على الإنسان من النفس الأمارة بالسوء، والنفس الأمارة بالسوء يدفعها الشيطان، ويحركها، ويُغريها بالمنكر، ويوسوس لها فهي مركب الشيطان، هي الأداة التي يُحركها الشيطان من أجل فعل الشر، والمنكر، والمعصية.

ولذلك تجدون كثيراً في القرآن ذكر الشيطان، ولكن النفس الأمارة بالسوء لا تكاد تُذكر في القرآن إلا قليلاً بالنظر إلى كثرة ما جاء من ذكر الشيطان، والتحذير منه، وبيان ضرره، وشدة خطره، أما النفس ففي ثلاثة مواضع: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]، في قول امرأة العزيز، وهكذا في القسم الذي أقسم الله به: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: 2]، وفي قوله: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات: 40]، فكثرة ذكر الشيطان يدل على أنه أخطر بلا شك، أخطر بكثير، ولم يؤمر بالاستعاذة من النفس بشيء من القرآن، وإنما جاء ذلك في حديث أبي هُريرة في الكلمات التي علمها النبي ﷺ لأبي بكر أن يقولها إذا أصبح، وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه أن يقول: أعوذ بالله من شر نفسي[95]، إلى آخره، وفي خطبة الحاجة: ونعوذ بالله من شرور أنفسنا[96].

"العاشرة القواطع عن الله أربعة: الشيطان، والنفس، والدنيا، والخلق، فعلاج الشيطان الاستعاذة، والمخالفة له، وفي نسخة خطية فعلاج الشيطان بالاستعاذة، والمخالفة له، وعلاج النفس بالقهر، وعلاج الدنيا بالزهد، وعلاج الخلق بالانقباض، والعُزلة".

الشيخ: هنا الشاهد ما يتعلق بالشيطان أنه يستعيذ بالله، ويُخالف الشيطان، ويتخلص من فتنة الشيطان بالاستعاذة، وكذلك أيضاً بالإيمان، والعمل الصالح طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء: 65]، والنبي ﷺ يقول: من صلى الصبح فهو في ذمة الله[97].

وهكذا أيضاً البُعد عن القبائح، والمنكرات، والمعاصي؛ فإن ذلك يكون أعني مواقعة هذه الأمور تكون سبباً لتسلط الشيطان، والله يقول: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء: 64]، وصوته مزامير الشيطان، وكل قول باطل، ودعوة إلى الباطل، والضلال.

وهكذا أيضاً هناك ما يطرد الملائكة من الصور، والتماثيل، وكذلك أيضاً الكلب فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، ولا صورة، فإذا ذهبت الملائكة فإن ذلك يكون موضعاً للشياطين، هذا بالإضافة إلى ملازمة قراءة القرآن، والأذكار، ونحو ذلك، وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 46]، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36].

وهكذا في قول النبي ﷺ: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً؛ فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة[98].

وهكذا ملازمة الأذكار، والأوراد في الصباح، والمساء، ونحو ذلك، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201].

وحديث أبي هريرة في قراءة آية الكُرسي: إذا أويت إلى فراشك فقرأ آية الكُرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تُصبح[99].

وقال رسول الله ﷺ: من قرأ الآيتين، من آخر سورة البقرة كفتاه[100]، وهذه الكفاية تكون من الشيطان.

وكذلك الأذان كيف ينفر الشيطان منه، وحضور مجالس الذكر، وهذا شيء مُشاهد، حضور مجالس الذكر، والعلم، ونحو هذا يكون الإنسان في حال أقوى بدفع الشيطان، سواء من جهة المعاصي، وتزيين المنكر، وقوة الإيمان، أو كان ذلك أيضاً بدفع تسلطه بالأذى بأنواعه، فقد يكون ذلك التسلط بالمس، ونحو هذا؛ فإن هذا يضُعف بهذه الأمور التي من جُملتها حضور مجالس الذكر، وبعض الإخوان الذين يحضرون معنا يُحدثني بهذا أن جلوسه في مجالس العلم، ومجالس الذكر يجد أثره في ضعف ما يُعانيه، ويُكابده من المس الذي لربما يتسلط، ويقوى معه، حتى إنه لا يكاد يستطيع الدخول إلى المسجد، ويُغريه إغراءً شديداً بالفاحشة، والمُنكر.

وكذلك أيضاً الصلاة صلاة النوافل في البيوت، كما في الحديث: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً[101].

فإذا كانت هذه البيوت بمثابة القبور، فالشياطين تكون ترتع فيها.

وكذلك أيضاً ترك الفضول من الأكل، والنوم، والخُلطة، ونحو ذلك النظر فإن الشيطان حينما يشبع البطن هو يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، فتتوسع مجاريه، وإنما يُضيق مجراه بالصوم.

أما ما يتعلق بالنفس فبالقهر تحتاج إلى مُجاهدة، وأما ما يتعلق بالدنيا فالحل هو الزُهد فيها، والزُهد إنما يكون بالقلب، ويظهر أثره على سلوك الإنسان، فإذا كان القلب فقيراً مُتعلقاً بالدنيا فلو أُعطي ما فيها، فإنه لن يشبع، ويوقعه ذلك في قطيعة الرحم، وطلب المال من الحرام. 

وأما الخلق فالانقباض، والعُزلة يقصد إذا كانت الخُلطة تضره، وهو لابد له من خُلطة، ومُعاشرة، فيكون ذلك بالمعروف، وكما قال ابن الجوزي - رحمه الله -: أنه يجعل صُحبته، وخُلطته، وعلائقه على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى، وهم خاصة الخاصة هؤلاء أفراد ممن إذا رآهم ذكروه بالله ممن يتصفون بالعقل، والدين، والحكمة، والأوصاف الكاملة، فيتخذ هؤلاء أصفياء، والدائرة الثانية: وهم أولئك الذين يربطهم به رابط من عمل، ونحوه يؤدونه، أو يشتركون في برنامج، أو نحو هذا فيؤدي معهم ذلك، والدائرة الثالثة: وهم عموم الناس، فيؤدي لهم حقوق المسلمين، فإذا وجد في من اصطفاهم من لا يصلح لهذا، يعني: أنه أخطأ في الاختيار، أو أن أحدهم قد طرأ له ما غيره؛ فإنه يتلطف كما يقول ابن الجوزي في إبعاده إلى الدائرة التي تليق به.

لكن لا تسمح لأحد أن يفرض عليك علاقة، أنت الذي تختار الخواص الذين تُخالطهم، فهؤلاء الذين تُخالطهم تنظر في ما تحتاج إليه، فمن هؤلاء من يكون مُعيناً على العلم، ومنهم من يكون مُذكراً بالله ومنهم من يكون حكيماً راشداً في رأيه، وحُسن نظره، وتدبيره، ومنهم من يكون النظر إليه يذكرك بالله ويُغريك بطاعته، والاستقامة على أمره، إلى غير هذا من المعاني المطلوبة، فهؤلاء هم الذين تُصاحبهم، وقد يكون ذلك لأمور أخرى يتخيرها المرء، كأن يكون بعض هؤلاء مثلاً ممن يحمل قلباً نظيفاً صافياً، قلباً أبيضاً لا يحمل الغل، والحقد، ونحو ذلك، فهؤلاء أكثر من مجالستهم، ومُخالطتهم، ومُصاحبتهم، والسفر معهم؛ لأن ذلك مما يُعين على سلامة الصدر للمسلمين، وسلامة الصدر للقريب، والبعيد، وهذا من أعظم المطالب، والله يقول: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 89]، فإن استطعت أن يكون هذا القلب سليماً لإخوانك المسلمين فافعل ما استطعت، فهذه من الأمور التي تُعين عليه، فمن الناس من يكون قد جُبل على هذا خِلقة، ومن الناس من يحصل له هذا بالمجاهدات، وترك حظوظ النفس، وما إلى ذلك، ومن الناس من يكون قلبه كقلب جمل - نسأل الله العافية - يحقد، ويتحامل، ويحمل الغِل مثل هذا صُحبته لا شك أنها داء، ويحتاج إلى ألوان من المدارة، والدفع بالتي هي أحسن.

"الكلام على البسملة فيه عشر فوائد: الأولى: ليست البسملة عند مالك آية من الفاتحة، ولا من غيرها إلا في النمل خاصة، وهي عند الشافعي آية من الفاتحة، وعند ابن عباس آية من أول كل سورة، فحُجة مالك ما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: أُنزلت عليّ سورة ليست في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، ثم قال: الحمد لله رب العالمين[102]، ولم يذكر البسملة، وكذلك ما، ورد في الحديث الصحيح: إن الله يقول: قسمت بيني، وبين عبدي نصفين، يقول: الحمد لله رب العالمين[103]، فبدأ بها دون البسملة، وفي نُسخة خطية فبدأ بهذا دون البسملة، وحُجة الشافعي ما ورد في الحديث أن رسول الله ﷺ كان يقرأ باسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وحجة ابن عباس ثبوت البسملة مع كل سورة في المصحف".

البسملة هي مصدر بسمل، يعني: قال باسم الله، وهذا الذي يُسمى بالنحت في اللغة، أو ما يُشبه النحت، يقولون: حوقل، يعني: قال لا حول، ولا قوة إلا بالله، وهيلل قال لا إله إلا الله، وحمدل قال الحمد لله، وحيعل قال حي على الصلاة، وحسبل قال حسبنا الله، والسبحلة يقول سبحان الله، الجعفلة يقول جُعلت فداك، الطلبقة، والدمعزة، يعني: حكاية قول القائل أطال الله بقاءك طلبقة، والدمعزة أدام عزك.

فهذا على كل حال يأخذون من اسمين مثلاً فينحتون منهما لفظاً واحداً فينسبون إليه، كما في الِنسبة حينما يقول: فلان عبشمي، يعني: نسبة إلى عبد شمس، نسبه يرجع إلى هذا فيُنسب إليهم، وكذلك في البلدان أيضاً حضرمي، وما شابه ذلك.

في النسب يقولون: مثلاً عقبسي، يعني: نسبة إلى عبد قيس، عبشمي نسبة إلى عبد شمس، وهكذا، فالنسبة إليه تكون بذلك، وهذا معروف عند العرب، وقد جاء في شِعر عمر بن أبي ربيعة:

لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المُبسملُ

بسملت، يعني قالت باسم الله.

وما ذكره ابن جُزي - رحمه الله - فيما يتصل بالبسملة، هل هي آية مستقلة من القرآن، أو من سورة الفاتحة، أو من كل سورة سوى سورة براءة، أو أنها ليست بآية، هذا فيه خلاف بين أهل العلم، فهم مُجمعون على أنها بعض آية من سورة النمل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30].

واختلفوا فيما وراء ذلك، فبعضهم يقول بأن البسملة ليست آية من القرآن مطلقاً إلا في سورة النمل فهي بعض آية، وإنما كُتبت البسملة في بعض أوائل السور لاستفتاح بها، والابتداء، والتبرك، والتيمن، والفصل بين السور، وهذا يروى عن قُراء المدينة، والبصرة، والشام، وهو منقول عن الإمام مالك - رحمه الله - [104]، وعن جماعة، وذلك أيضاً يُعزى لأبي حنيفة، ولبعض أصحابه[105]، وكذلك الأوزاعي[106]، وهو رواية محكية عن الإمام أحمد - رحمه الله -[107]، لكن قال شيخ الإسلام بأن هذا لا يصح عنه، وإن كان قولاً في مذهبه.

ومثل هذا القول قد يستدل أصحابه ببعض ظواهر من الأحاديث التي جاء فيها أن النبي ﷺ، وأن أصحابه كالخلفاء الراشدين كانوا يستفتحون القراءة أو الصلاة بالحمد لله رب العالمين كما ذكر، وأشار ابن جُزي - رحمه الله - وهذه لا تدل على أنهم ما كانوا يُبسملون سراً، أنهم كانوا يتركون البسملة مثلاً، فيحمل ذلك أصحاب هذا القول على أنها ليست بآية مُستقلة للفصل بين السور، وليست بآية من السورة.

وهكذا قالوا بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، أنه لا يوجد تواتر هنا، ورد على هؤلاء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بإعادة، وقلب ذلك الدليل عليهم، بأن الصحابة قد كتبوها في المصاحف، ومثل هذا منقول بالتواتر، وأن الصحابة ما كانوا ليُدخلوا شيئاً في المصاحف يكون خارجاً عن القرآن لمجرد التيمن، ونحو ذلك، فهذا الذي مكتوب بين اللوحين كله من القرآن، وأن الصحابة كانوا يُدققون في ذلك، ويتحرون غاية التحري، فذلك يدل على أن البسملة آية من القرآن[108].

وقد ذكر بعض أهل العلم مثل الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - فيما نُسب إلى الإمام مالك - رحمه الله - بأنها ليست آية أصلاً أن هذا القول لا يوافق قاعدة أصولية ثابتة، ولا قراءة صحيحة[109]

القول الثاني: أنها آية من سورة الفاتحة فقط، وأن هذا القول عن طائفة من أهل العلم فمن بعدهم، كسعيد بن جُبير[110]، ونُقل عن أكثر القُراء، والفقهاء من أهل مكة[111]، والكوفة[112]، وهو قول الشافعي[113]، وبالمناسبة فإن قول الشافعي في الأصل من أهل مكة، وأهل مكة يقرأون بقراءة ابن كثير - رحمه الله - وقراءة ابن كثير على أن البسملة من الفاتحة، ولذلك فإن مذهب الشافعي - رحمه الله - أنها من الفاتحة، وهذه رواية عن الإمام أحمد[114]، ومروي ذلك عن إسحاق بن راهويه[115]، وقبله هو مروي أيضاً عن أبي عُبيد القاسم بن سلام، وكذلك جاء هذا عن جماعة من التابعين، أو من صغار التابعين كالزُهري، وقبله أيضاً روي عن جماعة من التابعين كعطاء، ومحمد بن كعب القُرضي[116] هؤلاء يستدلون بإثباتها في المصاحف مع الفاتحة.

وكذلك يستدلون بحديث أُم سلمة - ا -: أنها سُألت عن قراءة النبي ﷺ؟ فقالت: كان يُقطع قراءته آية آية بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم[117].

فهكذا استدلوا مع أنه لا يلزم من قراءتها مع الفاتحة أن تكون منها، يعني: كأنها أرادت أن تُمثل، أو أن القراءة تُفتتح بالبسملة فهي تُقرأ مع كل سورة.

كذلك احتجوا بحديث أنس : أنه سُأل عن قراءة النبي ﷺ؟ قال: كانت مداً، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد باسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم[118]، وهو مُخرج في الصحيح، فهذا يمكن أن يُستدل به، ويُحتج به على الذين يقولون بأنها ليست بآية من القرآن مطلقاً.

لكن لا يلزم من ذلك أن النبي ﷺ حينما كان يمُد القراءة في ذلك أن تكون آية من الفاتحة، ولا أيضاً من غير الفاتحة يعني من السور الأخرى، فهذا غاية ما هنالك أن هذا يدل على أنها كانت تُقرأ، كان النبي ﷺ يقرأ البسملة، لكن ليس بالضرورة أنها آية من الفاتحة، أو من غيرها من السور.

كذلك يحتجون بحديث نُعيم بن المُجمر، قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين، فقال: آمين، فقال الناس آمين، إلى آخر ما ذكر في صفة صلاته، فلما سلّم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ[119].

قالوا: قرأ البسملة، هذا الحديث ضعفه جماعة من أهل العلم، وعلى فرض صحته فليس فيه ما ينص على أنها آية من الفاتحة، غاية ما هنالك أن أبا هريرة قرأ البسملة مع الفاتحة بصرف النظر عن الإسرار، أو الجهر بها، لكن قراءتها مع الفاتحة لا يلزم أنها آية منها.

ويحتجون بحديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: إذا قرأتم الحمد فاقرءوا: بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها [120].

لكن هذا لا يصح رفعه إلى النبي ﷺ، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه موقوف من كلام أبي هريرة ولا يقال: إن هذا له حكم الرفع، فقد يكون أبو هريرة فهم ذلك استنباطاً، ولم يسمعه من رسول الله ﷺ، فلا يكون ذلك عن توقيف، وإنما سمع النبي ﷺ يقرأ البسملة فظن أنها من الفاتحة، وذكر هذا الزيلعي - رحمه الله - وقال: "بأن المحفوظ الثابت عن سعيد الراوي عن أبي هريرة في هذا الحديث عدم ذكر البسملة، كما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد عن أبي هريرة فقال: قال رسول الله ﷺ: الحمد لله هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم[121].

القول الثالث: أنها آية أو بعض آية من كل سورة سوى سورة براءة، وهذا يُنسب - أيضاً - بقراء مكة، والكوفة، وللفقهاء في مكة، والكوفة[122]، هذا مروي عن ابن عباس - ا - وابن عمر، وابن الزبير، وأبي هريرة من الصحابة  ومنقول عن جماعة من التابعين كعطاء، وطاووس، وكذلك سعيد بن جُبير، وعن مكحول، والزُهري[123].

وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي[124]، ورواية عن الإمام أحمد[125]، وهو أيضاً مما يُعزى لأبي حنيفة[126]، وممن أيضاً نُسب إليه ذلك سفيان الثوري، وابن المبارك[127]، وإسحاق بن راهويه، ويُعزى لأبي عُبيد القاسم بن سلام[128]، والأوزاعي[129].

ويحتجون بأدلة منها ثبوت البسملة في المصاحف بخط المصاحف مع كل سورة سوى براءة، مما يدل على أنها آية، أو بعض آية من كل سورة، وهذا ليس بلازم، فعدد الآيات باتفاق العادين في بعض السور كان باعتبار أن البسملة ليست بآية منها، وسيأتي أيضاً ما يدل على هذا.

كذلك ما جاء عن أنس بن مالك قال: أغفى النبي ﷺ إغفاءة، ثم تبسم ضاحكاً فقال: أُنزل عليّ آنفاً سورة، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1][130]، إلى آخر السورة، وهو في صحيح مسلم.

وهذا كما يظهر - والله تعالى أعلم - أنه كون النبي ﷺ قرأها لا يلزم أن تكون آية من السورة، ولهذا اتفق العادون على أن سورة الكوثر ثلاث آيات بدون البسملة.

وقد ذكرت في الكلام على الهدايات التي تُستخرج من القرآن في التحدي في الكلام على قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]، قلنا أن هذا التحدي بالاتفاق أنه يصدق على أقصر سورة، وذلك في ثلاث آيات، وذلك في ثلاث سور من القرآن، فهذه باعتبار أن البسملة ليست منها، وإلا كانت أربع آيات مع البسملة.

وكذلك أيضاً استدلوا بحديث أم سلمة - ا - السابق: أن النبي ﷺ كان يُقطع قراءته آية آية بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، إلى آخره، والجواب عنه ما تقدم، كون النبي ﷺ يقرأ البسملة مع الفاتحة لا يدل على أنها آية منها، فكيف تكون آية من غيرها؟

كذلك احتجوا بحديث أنس لما سأل - كما مضى - عن قراءة النبي ﷺ قال: كانت مداً يمد باسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم، فإذا تبين مما مضى أن ذلك لا يدل على أنها من الفاتحة، فكذلك من باب أولى أنها ليست من غيرها.

كذلك أيضاً يحتجون بحديث ابن عباس - ا - قال: كان النبي ﷺ لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم[131]، يعني: أنها كانت تنزل مع السورة الجديدة، ففهموا من ذلك أنها منها، وهذا ليس بالضرورة، كونها تنزل للفصل بين السور، هذا وارد.

القول الرابع: أن البسملة آية مستقلة من القرآن، وليست من السور، لا الفاتحة، ولا غير الفاتحة، إنما تنزل مع كل سورة للفصل بينها، وبين التي قبلها، هذا قول ذهب إليه جماعة من أهل العلم كالإمام أحمد، وهو المنصوص الصريح عنه[132]، وهو أيضاً منقول عن ابن المبارك[133]، ومحمد بن الحسن الشيباني[134]، وعن جماعة من الفقهاء، وعن داود الظاهري[135]، واختاره أبو جعفر ابن جرير الطبري[136]، وإمام الأئمة ابن خُزيمة[137]، وذهب إليه جماعة من المتأخرين كابن قدامة - رحمه الله - [138]، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[139].

واستدلوا بإجماع الصحابة -  - على إثباتها في المصاحف كتبوها بخطه، وقلمه، ونُقلت كما نُقل القرآن، وأنه لا يجوز الخروج عن إجماعهم؛ وذلك أنهم جردوا المصاحف عن غير القرآن.

وكذلك ما جاء في الحديث السابق عن أنس : بينا رسول الله ﷺ بين أظهُرنا إذا أغفى إغفاءة، فلما سُأل قرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر.

مع أن سورة الكوثر بالإجماع ثلاث آيات، فقرأ البسملة، فدل على أنها للفصل بين السور.

وكذلك حديث ابن عباس - ا -: كان النبي ﷺ لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: كون البسملة تنزل يدل على أنها آية من القرآن، وهي فصل بين السور، وليست من السورة، وإنما هي آية مستقلة.

كذلك حديث أبي هريرة قال النبي ﷺ: إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفر له، وهي سورة تبارك الذي بيده الملك[140]، فهذا الحديث يدل على أن البسملة ليست من السورة.

أول شيء أن النبي ﷺ قال: تبارك الذي بيده الملك، ولم يبدأ بالبسملة، والأمر الآخر أنه قال ثلاثون آية، وسورة الملك بالإجماع - إجماع العادين - هي ثلاثون آية من غير البسملة، وهذا دليل قوي كما ترون.

كذلك حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج ثلاثاً غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون، وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني، وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي...[141]، إلى آخر الحديث.

فابتدأ بالحمد، ولم يبدأ بالبسملة، إلى أن يقول: فإذا قال: إياك نعبد، وإياك نستعين، قال: هذا بيني، وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6 - 7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل، الحديث مُخرج في صحيح مسلم.

فهذا الحديث يدل على أنها ليست من الفاتحة فضلاً أن تكون من سائر السور؛ لأنه ابتدأ بالحمد، وأيضاً القسمة المذكورة في هذا الحديث كونها على نصفين بين الرب - تبارك، وتعالى - والعبد، فهي سبع آيات باتفاق أهل العلم، فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هذا الذي يكون بين الرب، وبين عبده، فهذا منتصف السورة، فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وما قبله ثلاث آيات، ونصف، يعني: من غير البسملة، حمد، وثناء، وتجميد، وعبادة لله - تبارك، وتعالى - وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وما بعده ثلاثة آيات، ونصف للعبد، دعاء، ومسألة، فيكون اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، هو الآية السادسة، وقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، هي الآية السابعة، وبهذا تكون الفاتحة مُنصفة، ثلاث، ونص، وثلاث، ونصف، وذلك كما في قوله ﷺ فيما يرويه عن ربه: حينما يقرأ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، يقول: هذه بيني، وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، لكن لو قيل لو كانت البسملة آية من الفاتحة لن يتحقق هذا التنصيف، فيكون إياك نعبد، وما قبله أربع آيات، ونصف، ويكون إياك نستعين، وما بعده في آيتين، ونصف.

فما صارت مُنصفة، والحديث يدل على أنها على نصفين.

وقد قال حافظ المغرب ابن عبد البر - رحمه الله -: "بأن القُراء أجمعوا كذلك الفقهاء على أنها سبع آيات، لكن اختلفوا فمن جعل بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة لم يعد أنعمت عليهم آية، ومن لم يجعل بسم الله الرحمن الرحيم آية عد أنعمت عليهم آية، وهو عدد أهل المدينة، وأهل الشام، وأهل البصرة، وأما أهل مكة، وأهل الكوفة من القُراء، والفقهاء فإنهم عدوا بسم الله الرحمن الرحيم آية، ولم يعدوا أنعمت عليهم، يقول: وهذا الحديث أبين ما يروى عن النبي ﷺ: قسمت الصلاة بيني، وبين عبدي نصفين، يعني: في سقوط بسم الله الرحمن الرحيم من آي فاتحة الكتاب، وهو قاطع لموضع الخلاف[142].

وكذلك ذكر شيخ الإسلام بأن هذا الحديث صحيح صريح بأنها ليست من الفاتحة، ولم يُعارضه حديث صريح صحيح[143]، طبعاً إذا كانت ليست من الفاتحة فمن باب أولى أنها ليست من غيرها.

كذلك احتجوا بحديث عائشة - ا - في قصة بدء الوحي، وفيه: أنه لما جاءه الملك قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1][144] مُخرج في الصحيحين متفق عليه.

فشيخ الإسلام - رحمه الله - يقول: هذا أول ما نزل لم ينزل قبل ذلك بسم الله الرحمن الرحيم[145].

قال أيضاً أعني شيخ الإسلام: الذين قالوا ليست من السورة قالوا إن جبريل ما أتى النبي ﷺ يأمره بقراءتها، بل أمره أن يقرأ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، ولو كانت أول السورة يعني منها لأمره بها[146].

كذلك احتجوا بحديث أنس : صليت خلف النبي ﷺ، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، لا في أول قراءة، ولا في آخرها[147] وهو في صحيح مسلم.

هذا طبعاً ليس كالذي قبله بصراحته، وقوته؛ لأنهم يمكن أن يكونوا قرأوها بل يقرؤونها سراً، وهناك فرق بين أن قول إنها من السورة، أو من الفاتحة، وبين مسألة الجهر، لا مُلازمة بين الأمرين، وهذا ينبغي أن يُدركه طالب العلم.

كذلك احتجوا بحديث عائشة - ا -: كان النبي ﷺ يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين[148].

كذلك حديث أبي هريرة : كان النبي ﷺ إذا نهض من الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين[149]، يعني: ما قرأ البسملة، وقال: ولم يسكت، وهو مُخرج في صحيح مسلم.

لكن كان النبي ﷺ يقرأها سراً، يعني: هذه تدل على عدم الجهر، وقوة هذه الأدلة في الدلالة على أنها ليست من السورة، أو ليست من الفاتحة تتفاوت كما هو ظاهر، لكن وجه الدلالة في هذه الأحاديث على أن البسملة آية مستقلة، وذلك باعتبار أنهم لم يجهروا بها كبقية آيات الفاتحة، وكذلك السور ففرقوا بين السورة، وبين البسملة، فكانوا يُسرون بها، يدل على أنها لم تكن آية منها، هكذا يمكن أن يقول، أو يستدل بعض أهل العلم.

كذلك أيضاً فإن قوله - تبارك، وتعالى -: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أخذوا منه على أن البسملة ليست أيضاً من الفاتحة من أجل أن لا يكون ذلك من قبيل التكرار، بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ۝ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فيكون قد كرر ذلك.

وهكذا أيضاً فإن قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، أن هذه آية واحدة بهذا الطول، قالوا: هذا غير مُناسب لبقية الآيات في مقاديرها، يعني: آيات سورة الفاتحة، فهذا يكون أطول منها، وغالب السور تكون آياتها متناسبة في الطول، والقِصر. 

والجمهور على أن قراءتها مستحبة قالوا، وهذا يدل على أنها ليست منها، قول عامة أهل العلم، وشيخ الإسلام يقول: هذا قول سائر من حقق القول في هذه المسألة، وتوسط فيها، وجمع بين مقتضى الأدلة، وأن كتابتها هكذا في سطر مُنفصل عن هذه السورة[150] يدل على هذا، وأن هذا هو أعدل الأقوال[151].

لكن حينما يروى ذلك عن بعض القُراء، والقراءة إنما هي بالتلقي، والرواية، فإن هذا يمكن أن يُقال معه - والله تعالى أعلم -: بأن ذلك يمكن أن يرجع إلى القراءة، فمن قرأ بقراءة تكون البسملة آية من الفاتحة مثلاً أو من السورة فإنه لا يترك البسملة، ومن قرأ بقراءة ليست البسملة من السورة، أو من الفاتحة، فإنه إذا أسقطها فإن ذلك لا يكون خللاً في صلاته، أو في قراءته، لكن يستحب له أن يقرأها، وأيضاً خروجاً من الخلاف لاسيما في الفاتحة باعتبار أنها رُكن في الصلاة.

لكن من نسي الفاتحة هل تصح صلاته، أو لا؟ الذين يقولون أنها آية منها، وأن الفاتحة رُكن معنى ذلك أنه أسقط آية من الفاتحة، فهذا القول المتوسط الذي جمع فيه بين بعض هذه الأقوال أن من قرأ بقراءة هي منها لم يدع قراءة الفاتحة، وأنها تُعتبر آية من السورة على بعض القراءات، وليست بآية على بعض القراءات، وهذا الذي قال فيه صاحب المراقي:

وبعضهم إلى القراءة نظر وذاك للوفاق رأي معتبر[152]

الوفاق يعني الجمع بين الأقوال، وهذا ذهب إليه خاتمة المُقرئين ابن الجزري - رحمه الله - وكذلك ابن حزم قبله، ومن المتأخرين السيوطي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أن ذلك يرجع إلى اختلاف القراء بحسب الرواية، وأن ذلك من جُملة الحروف التي يقرؤون بها فتتنوع قراءتهم، فمن قرأ بحرف نزلت فيه عدها آية، وهذا عند قالون، وابن كثير، وعاصم، والكسائي، وأبي جعفر[153].

ومن قرأ بغير ذلك فإنه لا يعُد البسملة آية، وهذا عند الباقين كورش، وأبي عمرو، وابن عامر، وحمزة، وخلف، ويعقوب[154].

هذا قول وسط يجمع بين هذه الأقوال.

لكن لماذا تُركت قبل سورة براءة؟ لماذا أُسقطت البسملة، وذلك في جميع المصاحف في كل نُسخ المصاحف؟ وإذا ابتدئ بسورة براءة فإنه لا يُبسمل، لكن ما هو التعليل؟

اختلفوا فيه، فذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك كما جاء عن ابن عباس - ا - عن عثمان لما سأله عن هذا أنه قال: بأن النبي ﷺ لم يُبين لهم في شأنها شيئاً، وأن قصتها - يعني براءة - مع الأنفال براءة تُشبه الأنفال فقرنوا بينهما، ولم يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم[155]، وهذا ذهب إليه الطحاوي[156] وصححه ابن العربي[157]، لكن هذه الرواية لا تصح، هذه الرواية ضعيفة أن النبي ﷺ توفي، ولم يُبين لهم ذلك.

التوجيه الآخر: أن ذلك جرياً على عادة العرب، وقد نزل العرب على معهودهم في الخطاب، فكان العرب إذا كان بينهم، وبين قوم عهد فإذا أرادوا نبذ العهود إلى هؤلاء المُعاهدين كتبوا لهم كتاباً، ولم يكتبوا لهم فيه بسم الله الرحمن الرحيم، فلما نزلت براءة بنبذ العهود إلى هؤلاء عهود هؤلاء المشركين، وأن النبي ﷺ بعث بها علياً بن أبي طالب كما هو معلوم في الحجة التي كانت في السنة التاسعة، فقرأها عليهم في الموسم، ولم يُبسمل جرياً على عادتهم.

وبعضهم يقول: باعتبار أن البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، وهذا منقول عن بعض السلف، وبعض أصحاب معاني القرآن.

وبعضهم يقول: هذا باعتبار أن البسملة رحمة، وبراءة سُخط، وهذا يُشبه الذي قبله.

وبعضهم يقول: باعتبار أن ذلك من قبيل الإعظام للبسملة من خطاب المشركين.

وبعضهم يقول: هذا يرجع إلى اختلافهم في براءة، والأنفال، هل هما سورتان أو سورة واحدة؟ فتُركت بينهما فُرجة لقول من قال أنهما سورتان، وتُركت البسملة لقول من قال إنهما سورة واحدة، وهذا فيه بُعد - والله أعلم -.

يقول القُرطبي - رحمه الله -: والصحيح أن التسمية لم تكتب؛ لأن جبريل لم ينزل بها مع هذه السورة، وكفى، ولو نزلت مع هذا السورة لحُفظت مع ما حُفظ، ونُقلت إلينا، فدل ذلك على أنها لم تنزل[158].

ما هو التعليل؟ يحتمل بعض هذه الأقوال التي ذُكرت، والعلم عند الله - تبارك، وتعالى - أما القول بأن النبي ﷺ لم يُبين لهم كما يروى عن ابن عباس - ا - فهذا لا يصح.

وأما القول بأن الصحابة اختلفوا هل الأنفال، وبراءة سورة واحدة، أو سورتان فإن الصحابة إنما روي عنهم هل براءة سورة مستقلة، أو هي من سورة الأنفال، ولهذا فصلوا بينهما لكن لا على أن ذلك لشك في نزول البسملة مع هذه السورة هل نزلت أو لا، هذا الذي بين دفتي المصحف كله كلام الله - تبارك، وتعالى - كما أُنزل لم ينقص منه شيء، وأداه الصحابة كما تلقوه عن رسول الله ﷺ، والله أعلم بتعليل ذلك.

"الثانية: إذا ابتدأت أول سورة بسملت إلا براءة، وسنذكر علة سقوطها من براءة في موضعه، وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مُخير بين البسملة، وتركها عند أبي عمرو الداني، وتُترك البسملة عند غيره، وإذا أتممت سورة، وابتدأت أخرى فاختلف القُراء في البسملة، وتركها".

هذا مضى الكلام على بعضه: "إذا ابتدأت أول سورة بسملت إلا براءة"، فهذا بلا إشكال، "وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مُخير بين البسملة، وتركها عند أبي عمرو الداني، وتُترك البسملة عند غيره"، يعني: إذا قرأت من وسط السورة مثلاً، وسيأتي الكلام على ذلك، نعم تفضل الثالثة.

"الثالثة لا يُبسمل في الصلاة عند مالك، ويُبسمل عند الشافعي جهراً في الجهر، وسراً في السر، وعند أبي حنيفة سراً في الجهر، والسر، فحُجة مالك من وجهين: أحدهما: أنها ليست عنده آية في الفاتحة حسب ما ذكرنا، والآخر ما ورد في الحديث الصحيح عن أنس أنه قال: صليت خلف رسول الله ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة، ولا في آخرها، وحجة الشافعي من، وجهين أحدهما: أن البسملة عنده آية من الفاتحة، والآخر ما ورد في الحديث من قراءتها حسب ما ذكرنا".

ذكرت آنفاً أنه ليس هناك ملازمة بين كونها من الفاتحة مثلاً، والجهر بها، لكن فيما يتعلق بقراءتها في الصلاة، فإن أهل العلم قد اختلفوا في ذلك:

فمنهم من ذهب إلى وجوب قراءتها في الصلاة، باعتبار أنها آية من الفاتحة، وهكذا قول من قال بأنها آية من كل سورة سوى براءة، يقال: لا يُسقط آية من السورة، لكن بالنسبة للقرآن فيما عدا الفاتحة، فإن الله أمر بقراءة ما تيسر، فإن صلاته لا تبطل إذا كان قد قرأ بعد البسملة باعتبار أنها آية من السورة في أولها، لكن في الفاتحة باعتبار أنها رُكن فذلك يجب بهذا الاعتبار.

وهذا منقول عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم، ومروي عن ابن عباس، وابن عمر، وجمع من التابعين كالزهري، ومجاهد[159]، وكذلك عن جماعة من الفقهاء كإسحاق بن راهويه[160]، وأيضاً أبي عُبيد القاسم بن سلام[161]، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي[162]، ورواية عن الإمام أحمد[163].

هذا باعتبار أنها آية من الفاتحة، فتجب قراءتها عندهم كما تجب قراءة بقية آيات الفاتحة، وكذلك يُشرع الجهر بها عندهم كما يجهر ببقية آيات الفاتحة.

القول الثاني: أن قراءتها في الصلاة مستحبة مع الفاتحة، ومع كل سورة سوى براءة، هذا قول الجمهور كأبي حنيفة[164]، وهي الرواية المشهورة عن أحمد[165]، وقول أكثر أهل الحديث[166] باعتبار أنها آية مستقلة كما سبق يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: فهي ليست من السورة لا من الفاتحة، ولا غير الفاتحة، فلا تجب قراءتها بهذا الاعتبار، ولكن تُستحب مع الفاتحة، ومع كل سورة سوى براءة؛ لكونها أُثبتت في المصاحف، ومع الفاتحة، ومع بقية السور سوى براءة.

وكذلك ما جاء في حديث أنس، وعائشة، وأبي هريرة أن النبي ﷺ، وخلفاءه الراشدين ما كانوا يجهرون بها، فلو كانت القراءة قراءة البسملة واجبة، وجوب الفاتحة لجهروا بها كما يجهرون ببقية آيات الفاتحة، كما يقوله بعض أهل العلم، مع أن هذا كما ذكرت ليس بلازم.

القول الثالث: أنه لا تُشرع قراءتها في الصلاة المكتوبة لا سراً، ولا جهراً، قلنا هذا المنقول عن مالك - رحمه الله -[167]، لكنه قال في قيام الليل تُقرأ، ونُقل عنه أن ذلك أيضاً في النفل، وكذلك في خارج الصلاة.

بل نُقل القول بعدم مشروعية قراءتها - أيضاً - عن الأوزاعي[168]، ومبنى هذا القول على أن البسملة ليست آية من القرآن، لا في أول الفاتحة، ولا في أوائل السور، وليست بآية مستقلة.

وعرفنا من قبل ما احتج به هؤلاء، والجواب عن ذلك، ويحتجون أيضاً بأن النبي ﷺ وخلفاءه الراشدين كانوا يستفتحون القراءة، والصلاة بالحمد لله رب العالمين، وحديث أبي هريرة: قسمت الصلاة بيني، وبين عبدي نصفين، فليس من ذلك البسملة، لكن هذا ليس فيه نفي قراءة البسملة، وإنما غاية ما هنالك الجهر بها، فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم كما في بعض روايات حديث أنس، وفي بعضها فكانوا يُسرون بسم الله الرحمن الرحيم.

وهكذا سائر الروايات التي بهذا المعنى، وقد ذكر ابن حُزيمة - رحمه الله - بعد أن أخرج روايات حديث أنس، والتي في بعضها التصريح بأن النبي ﷺ، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا يجهرون بها.

قال: "هذا الخبر يُصرح بخلاف ما توهم من لم يتبحر في العلم، وادعى أن أنس بن مالك أراد بقوله: كان النبي ﷺ، وأبو بكر، وعمر يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وبقوله: لم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أنهم لم يكونوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم جهراً، ولا سراً، وهذا الخبر يُصرح أنه أرد أنهم كانوا يُسرون به، ولا يجهرون به عند أنس"[169].

وكذلك ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن الاحتجاج بحديث أنس على تركها غير صحيح، وإنما غاية ما هنالك أنه يدل على عدم الجهر، ويُراجع كلامه في هذا، وأن أبا هريرة قال: أرأيت سكوتك بين التكبير، والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول كذا، وكذا[170]، إلى آخره.

وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث عمران، وأُبي، وغيرهما: أنه كان يسكت قبل القراءة، وفيها أنه كان يستعيذ كما يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - يقول: "وإذا كان له سكوت فلم يمكن أنساً أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت .... إلى آخر ما ذكر[171].

كما اختلفوا أيضاً فيما إذا جهر الإمام، ولم يسكت هل يُبسمل المأموم، يعني: في الجهرية إذا لم يُمهله الإمام، أو لا يُبسمل باعتبار أنه مُطالب بقراءة الفاتحة، فمنهم من قال: لا يُبسمل، الذين قالوا إنه لا يقرأ أصلاً لا الفاتحة، ولا غير الفاتحة، قالوا: لا يُبسمل، ولا يقرأ، بل يُنصت.

والذين قالوا يجب عليه قراءة الفاتحة، قالوا: يستعيذ بأنه مأمور بهذا، ثم يُبسمل، ويقرأ الفاتحة؛ وذلك لأنها لا تسقط عنه، وأن قراءة الإمام لا تُجزيه عن الفاتحة، وخلافهم في هذا معروف.

أما في غير الصلاة فقد نُقل الإجماع على مشروعية التسمية، وأنها مُستحبة بعد الاستعاذة سوى براءة، فإنه لا يُبسمل كما سبق، لكن في أوائل السور في غيرها فإنه يُبسمل لا يدع البسملة استحباباً على قول عامة أهل العلم، باعتبار أنها آية من القرآن نزلت مع كل سورة سوى سورة براءة، يعني: للفصل بين السور.

لكن الذين يقولون بأنها من السورة فإنهم يقولون إذا قرأ فإنه لا يدع البسملة باعتبار أنها آية منها، والقُراء أيضاً يختلفون في قراءتها في حال الوصل بين السور، وقد قرأ ابن كثير، وقالون، وعاصم، والكسائي بالفصل بالتسمية بين السور سوى الأنفال، وبراءة.

ورُوي عن بعض القُراء ترك ذلك في الوصل كما جاء عن حمزة، وجاء عن ورش الفصل، وعدم الفصل.

واختلف عن الباقين - أيضاً - وهم خلف، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب، ونافع، يعني: بين الفصل بالبسملة، والوصل في السورتين، أو السكت بينهما، يعني: إذا وصل بين السور السورة، والسورة التي بعدها، هل يُسقط البسملة، أو لا يُسقطها؟ هذا جاء في بعض القراءة، فلا يُنكر - والله تعالى أعلم -.

والقراءة سُنة متبعة، فإذا قرأ على بعض هذه القراءات، وأسقط البسملة فلا إشكال، وبعض الناس لربما يكسل في الأذكار التي تقال بعد الصلاة مثلاً في قراءة المعوذات، وقل هو الله أحد، فتجد أن بعض هؤلاء يسألون عن البسملة، كأنما يستطيلون ذلك، فيقولون: هل لنا أن نُسقطها؟ فيقال: إذا قرأتم بقراءة البسملة ليست فيها آية من السورة، فلكم أن تسقطوا ذلك، ولاسيما مع الوصل، وله أن يُسقطها على كل حال، وله أن يقف على آخر السورة، ثم يُبسمل، ثم يصل البسملة بأول السورة الأخرى، وله أن يصل آخر السورة بالبسملة، ويصل البسملة بأول السورة الأخرى، وكذلك أيضاً له أن يقف على نهاية السورة، ثم يُبسمل، ويقف، ثم يقرأ السورة التي بعدها، فهذا وقف تام.

هل يقرأ البسملة في أوساط السور، أو يكتفي بالاستعاذة؟

يعني: إذا أراد أن يقرأ من وسط السورة هو مأمور بالاستعاذة هل شرع له البسملة، أو لا؟ أكثر أهل العلم يقولون: لا تُشرع، وإنما تكون في أول السور فيستعيذ فقط، وبعض أهل العلم يقول: يُبسمل، ويستعيذ قبل البسملة، وبعضهم يقول: يُبسمل فقط، ولا يستعيذ، والواقع أنه مأمور بالاستعاذة مطلقاً، أما البسملة فهي في أوائل السور، وليست في وسطها، لكن من أهل العلم من قال أنه يُبسمل في وسط السورة، والذي عليه عامة أهل العلم أنه يترك البسملة.

الجهر، والإسرار بالبسملة في الصلاة، وخارجها:

أما مسألة الجهر، والإسرار بها في الصلاة، وخارج الصلاة، ففي خارج الصلاة فإن أكثر القُراء على الجهر بها[172] هذا بطبيعة الحال إذا قرأ جهراً، وجاء عن بعضهم الإخفاء للبسملة هذا مروي عن حمزة، ونافع[173] مع أنه روي عنهما الجهر بها، وأخذ بعض أهل الأداء بالتسمية جهراً لجميع القراء، وأخذ أيضاً بعض أهل الأداء لهم الإخفاء.

وأما في الصلاة: فأهل العلم قد اختلفوا في هذا، فمنهم من قال إنه يُسن الجهر بها في الصلاة الجهرية، والإسرار في الصلاة السرية، وهذا يروى عن بعض الصحابة كعمر، وعلي، وعبد الله بن الزبير، وابن عمر، وأبي هريرة، ومعاوية، وشداد بن أوس[174] - رضي الله عن الجميع -.

وعن جمع من التابعين كسعيد بن جُبير، والزهري[175]، ومجاهد، وعطاء، وطاووس، وعكرمة، وأبي قلابة، وعلي بن الحسين، وابن المسيب، وسالم، ومحمد بن كعب القُرظي، وكذلك هو مروي عن ابن سيرين، وابن المنكدر، ونافع مولى ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وغير هؤلاء كثير[176].

وهو المشهور من مذهب الشافعي[177] كما هو معلوم، وهذا أيضاً ذُكر على أنه رواية للإمام أحمد[178]، ولكن قال ابن قدامة: "لا تختلف الرواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون"[179].

وعلى كل حال، مضى في الكلام على أدلة القائلين بوجوب قراءة البسملة في الصلاة، فهم يذكرون هذا في الكلام على الجهر بها باعتبار أن الصحابة كتبوها في المصاحف، مع أنهم جردوا المصاحف من غير القرآن، فقالوا: تقرأ كما يقرأ القرآن؛ فإذا قرأ جهراً جهر بها، والواقع أن ذلك ليس بلازم، وأن المعول عليه هو هدي النبي ﷺ في القراءة، فما كان النبي ﷺ يجهر بالبسملة.

وكذلك ما جاء عن نُعيم بن المُجمر لما قال: صليت وراء أبي هريرة وذكر فيه: أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وأنه قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ وعرفنا الجواب عن هذا، وذلك أن هذه الرواية، أو هذا الحديث فيه ضعف من جهة الإسناد. 

وكذلك أيضاً قالوا: هذا قد يكون استنباطاً من أبي هريرة وذكر مجموع الصلاة، وليس يعني بالضرورة الجهر، أو أنه جهر بها من أجل التعليم أن النبي ﷺ كان يقرأها، فيقول: أشبهكم صلاة برسول الله ﷺ فيُعملهم مشروعية القراءة.

كذلك ما جاء من حديث أنس أن معاوية لما قِدم المدينة صلى بهم فلم يجهر بالبسملة، قالوا: فأنكر عليه المهاجرون، والأنصار، فأعاد بهم الصلاة، وجهر بهم[180].

فهذا باطل لا يصح بحال من الأحوال، لا يثبت عن معاوية  وممن ضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - من ستة أوجه، وقال: بأنه باطل[181].

وتكلم الزيلعي عليه، وبين أنه لا يصح بحال[182].

كذلك يحتجون بما جاء عن أنس : أنه سُأل عن قراءة النبي ﷺ؟ فقال: كانت مداً يمد بسم الله إلى آخره، كما سبق.

وكذلك حديث أُم سلمة في تقطيع قراءته ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى آخر الحديث الذي سبق.

قلنا: بأن هذا ليس بالضرورة أنها منها، من الفاتحة، وكذلك ليس هناك ملازمة في موضوع الجهر.

ويحتجون بأن النبي ﷺ كما جاء في حديث أنس : أنه كان يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم فهذا تكلم عليه أهل العلم في صحته.

وكذلك أيضاً قالوا: هذا يُعارض به ما ثبت في الصحيحين، وغيرهما عن أنس : من أن النبي ﷺ، والخلفاء الراشدين لم يكونوا يجهروا بها فهذه الأحاديث التي يحتجون بها، إما ضعيف، أو موضوع أو مما لا حُجة لهم فيه كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم.

وقد قال الدراقطني - رحمه الله -: "كل ما روي عن النبي - صلى الله عليه، وآله، وسلم - في الجهر فليس بصحيح، وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف".

قال ابن الجوزي بعد ما نقل كلام الدارقطني: "ثم إن بعد ذلك نحمل أحاديثهم على أحد أمرين: إما أن يكون جهر بها للتعليم، كما روي أنه كان يصلي بهم الظهر، فيُسمعهم النبي ﷺ الآية، والآيتين بعد الفاتحة أحياناً"[183].

وقال ابن قدامة: "بأن سائر أخبار الجهر ضعيفة، وأن رواتها هم رواة الإخفاء، وأن إسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف، فدل على ضعف رواية الجهر"[184].

هذا المعنى ذكره جماعة من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية[185]، والحافظ ابن القيم - رحمه الله -[186]، فقد قرر أن صحيح تلك الأحاديث غير صريح، وأن صريحها غير صحيح.

- وعلى كل حال - المسألة مبسوطة معروفة في كتب أهل العلم من كتب الفقه، وشروح الحديث، وتناولها بعض المفسرين، وصنف بعضهم في ذلك مصنفات.

القول الآخر: أنه يُسن الإسرار بالبسملة في الصلاة مطلقاً، وهذا قول الجمهور من المحدثين، والفقهاء، وغيرهم فهذا الثابت الصحيح عن النبي ﷺ، وعن الخلفاء الراشدين[187]، وعن جمع من الصحابة كأنس[188]، وعائشة[189]، وهو المروي عن ابن عباس[190]، وبه قال ابن مسعود، وابن الزبير، وعمار بن ياسر، وعروة بن الزبير، وجمع من التابعين كابن سيرين، وإبراهيم النخعي[191]، والحسن، وقتادة[192]، وغير هؤلاء كثير، جماعة ممن روي عنهم الجهر الواقع أن المروي عنهم أيضاً الإسرار سواء من الصحابة، أو من التابعين.

وهذا قول أبي حنيفة، وأصحابه[193]، وأحمد[194]، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه[195] وهو قول أبي عُبيد[196]، وأيضاً جماعة من أصحاب الشافعي[197]، وغيرهم.

ويحتجون بأدلة صحيحة، ثابتة، صريحة كحديث أنس  السابق أنهم لم يكونوا يجهروا لا النبي ﷺ ولا الخلفاء الراشدين.

وكذلك جاء في ألفاظه: كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين[198].

وكذلك: صليت خلف النبي ﷺ وأبي بكر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا في آخرها[199].

وفي بعض ألفاظه: صليت مع رسول الله ﷺ وأبي بكر، وعمر، وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم [200].

وجاء في الألفاظ: صلى بنا رسول الله ﷺ فلم يُسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر، وعمر فلم نسمعها منهما[201].

وفي بعض الألفاظ: صليت خلف رسول الله ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان فلم أسمع أحد منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم[202].

هذه الألفاظ إذا جمعتها كلها تدل على، وتؤكد على أنهم ما كانوا يجهرون بها، وتُراجع هذه الألفاظ، فهذا بعض منها، بل قال الدارمي - رحمه الله - في السنن: "باب كراهية الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم"[203]، وهذا التبويب الذي تجدونه عند الدارمي، وتجدونه عند ابن خُزيمة، وابن حبان هو فقه في تراجم تلك الأبواب، فيحسُن تتبعه، ومراجعته لطالب العلم.

وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "أما حديث أنس في نفي الجهر حديث صحيح بأنه صريح لا يحتمل التأويل"[204].

فقوله هنا: بأنه صلى خلف النبي ﷺ وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا في آخرها فلا يجزم بمثل هذا إلا مع العلم بهذا، لا يكون مجرد استنباط، أو ظن.

وهكذا جاء في حديث عائشة - ا -: كان رسول الله ﷺ يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد هذا يدل على عدم الجهر.

كذلك حديث أبي هريرة : كان النبي ﷺ إذا نهض إلى الركعة الثانية استفتح القراءة، ولم يسكت - كما سبق -.

وحديث أبي هريرة أنه قال: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني، وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين فما ذكر البسملة، قال ابن قدامة: "وهذا يدل على أنه لم يذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولم يجهر بها"[205] 

وعلى كل حال، هذه الأدلة التي سبقت يحتجون بها أيضاً على ترك الجهر، ويقول شيخ الإسلام: "بأن النبي ﷺ لم يثبت عنه أنه كان يجهر بها، والأحاديث الصريحة بالجهر كلها ضعيفة، أو موضوعة"[206] إلى آخر ما ذكر.

القول الثالث: أن المصلي مُخير بين الجهر، والإسرار، وهذا جاء عن بعض الفقهاء كإسحاق بن راهويه[207] وجماعة كابن أبي ليلى[208] والحكم بن عُتيبة[209]، واختاره ابن حزم[210].

فهؤلاء كأنهم أرادوا الجمع بين الأدلة التي ذُكر فيها الجهر، والأدلة التي ذُكر فيها الإسرار، مع أن أدلة الجهر محمولة على التعليم، لا أنه يواظب على ذلك.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - نقل الإجماع على صحة صلاة من جهر بالبسملة، ومن أسر بها[211].

لكن الكلام في المشروع، ما هو المشروع؟ مع أنه قد يجهر بها أحياناً للمصلحة بلا إشكال، وأن الحاجة إذا كانت داعية إلى الجهر، أو الإسرار من أجل تأليف القلوب عند من يرى الجهر مثلاً، فيترك الجهر عند قوم لا يرونه، أو العكس.

وغاية ما هنالك أن ترك الجهر لا تبطل به الصلاة حتى عند القائلين بأن البسملة آية من الفاتحة، وهنا أيضاً يمكن أن يُضاف إلى ذلك كما أن البسملة تُقرأ في أول الفاتحة، وفي أوائل السور عدا براءة، كذلك أيضا تُشرع في ابتداء الكتب، والرسائل، والخُطب، ونحو ذلك فالقرآن ابُتدئ بالبسملة.

وكذلك أيضاً كتب النبي ﷺ لما كتب إلى هرقل مثلاً: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله ﷺ إلى هِرقل عظيم الروم[212].

وكذلك كتاب سُليمان لملكة سبأ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30]، وتُشرع في مواضع أخرى عند الوضوء، والدخول إلى المسجد، والخروج منه، وعند الركوب، والذبح، والصيد، وعند الأكل، والجماع، والخروج من المنزل، والصباح، والمساء، والنوم، وعند دخول الخلاء، كل هذا جاء في أحاديث صحيحة، معروفة.

"الرابعة: كانوا يكتبون باسمك اللهم حتى نزلت، وفي نسخة خطية حتى نزل: بِاسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا [هود: 41]، فكتبوا باسم الله، حتى نزلت: أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ [الإسراء: 110]، فكتبوا باسم الله الرحمن، حتى نزل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30]، فكتبوها، وحذفت الألف في باسم الله لكثرة الاستعمال، وفي نسخة خطية، وحُذفت الألف من باسم الله".

هذا التدرج الذي ذكره يحتاج إلى دليل، وإذا قيل: بأنها آية من السورة، فمعنى ذلك أنها كانت تنزل مع السور هكذا بهذا اللفظ: "بسم الله الرحمن الرحيم" لأول وهلة من أول الأمر، وعلى القول بأنها آية مستقلة للفصل بين السور فتكون نازلة من أول ما نزل من القرآن للفصل بين السور، وأن هذا التدريج لم يدل عليه دليل، إنما لفظ البسملة هو هكذا "بسم الله الرحمن الرحيم".

وهذا على كل حال هو المشروع فيما يتصل بالقراءة عند جميع القُراء، وباتفاق أهل العلم، فلا يصح أن يقرأ، أو يقول عند القراءة: باسمك اللهم أقرأ، ولا يقول عند الذبح أيضاً باسمك اللهم أذبح، وإنما يقول بسم الله، ولا يقول باسمك اللهم مثلاً، أو نحو ذلك.

يقول: "كانوا يكتبون، يقول: فكتبوها، وحُذفت الألف في باسم الله؛ لكثرة الاستعمال"، حُذفت الألف لفظاً، وخطاً، قالوا هكذا تخفيفاً لكثرة الاستعمال، ولا تُحذف إلا مع لفظ الجلالة بسم الله، لكن لو قال باسم الرحمن فإنها لا تُحذف اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1]، بإثبات الألف، وإذا أُضيف اسم إلى لفظ الجلالة فإنها تُحذف؛ لكثرة الاستعمال.

وبعضهم يقول: ليوافق الخط اللفظ، وبعضهم يقول: لا حذف أصلاً؛ وذلك لأن الأصل سِم سِمُ، أو سُمُ بدون واو سُمُ بكسر السين، أو ضمها، فلما دخلت الباب سُكنت السين تخفيفاً؛ لأنه وقع بعد الكسرة كسرة، أو ضمة، فالله تعالى أعلم، لكن المشهور هو أن ذلك كان للتخفيف.

وقد ذكر الخليل بن أحمد - رحمه الله - أنها حُذفت الألف في بسم الله؛ لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير مُمكن، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف، فسقطت في الخط، وإنما لم تسقط في اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1]؛ لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في بسم الله، يمكن حذف الباء من اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، مع بقاء المعنى صحيحاً، وهذا ظاهر لو تأملته، فإنك لو قلت: اقرأ اسم ربك؛ صح المعنى، أما لو حذفت الباء من باسم؛ لم يصح المعنى، سم ربك فهذا هو الفرق عند الخليل بن أحمد[213].

"الخامسة: الباء من بسم الله متعلقة باسم محذوف عند البصريين، والتقدير ابتداء كائن بسم الله، فموضعها رفع، وعند الكوفيين تتعلق بفعل تقديره أبدأ، أو أتلوا فموضعها نصب، وينبغي أن يُقدر متأخراً لوجهين: أحدهما: إفادة الحصر، والاختصاص، والآخر: تقديم اسم الله اعتناء كما قدم في بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا [هود: 41]".

الجار، والمجرور (بسم الله) في محل نصب متعلقان بفعل محذوف، هذا الفعل المحذوف قدره الكوفيون متقدماً، يعني: هم اختلفوا هل المُقدر اسم، أو فعل، وهل هو مُقدم، أو مؤخر، وهل هو عام، أو خاص، هذا محور كلام أهل العلم، أولاً: هل هو اسم، أو فعل؟ ثانياً: هل هو مقدم، أو مؤخر؟ ثالثاً: هل هو عام، أو خاص؟

فالكوفيون قالوا: بأنه فعل المقدر فعل محذوف، وهو متقدم مثل: أبتدئ، وأبتدئ هذا عام، أو خاص؟ عام يصح للذبح، والقراءة، والأكل، والنوم، ونحو ذلك، أبتدئ بسم الله، ومثل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1].

وبعضهم قدره فعلاً متأخراً بسم الله أبتدئ، هذا إذا قلنا بأنه عام، وعلى القول بأنه خاص يقول: اقرأ بسم الله، تقديره فعل خاص ،يعني اقرأ، وإذا كان البسملة في الأكل أو للأكل؛ فإنه يقول: آكل بسم الله، أذبح بسم الله، وإذا كان متأخراً باسم الله أذبح، بسم الله آكل، بسم الله أركب، بسم الله اقرأ، وهكذا.

وبعضهم يقولون: إنه متعلق باسم محذوف وقع خبراً على تقدير البصريين، وأكثر النحويين يقولون: إنه متقدم ابتدائي كائن بسم الله، أو مستقر بسم الله، أو ابتدائي بسم الله.

وبعضهم يُقدره متأخراً وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا [هود: 41]، لاحظ هنا متأخر مَجْرَاهَا ، وهو أيضًا المقدر هنا اسم، فهذا يحتج به من يقول بأنه اسم، وأنه مؤخر، وأنه خاص مَجْرَاهَا فهنا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا  يدل على هذا عند من قدّره اسمًا متأخرًا خاصًا مع أن بعضهم يقدره عامًا، بسم الله ابتدائي يقولون: ليصلح ذلك لكل شيء. والذين يقدرونه خاصًا يقولون: ليكون أعلق بالمراد. وكما يدل عليه الآية: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وكذلك أيضًا يحتج من يقول: بأنه فعل، وأنه متأخر، وأنه خاص. يقولون: لأن الأصل في العمل هو الأفعال، وليس الأسماء. فهي تعمل بدون شروط، أما الأسماء فما يعمل منها كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة إنما يعمل بشروط، قالوا: تقدير ذلك أنه فعل أولى من تقديره بالاسم؛ لأن الأصل الأفعال في العمل. وهل يكون متأخرًا أو متقدمًا؟ قالوا: يكون متأخرًا. لماذا؟ قالوا: تيمنًا، وتبركًا بالبداءة بـ (بسم الله)، وأن هذا هو المقصود فلا يذكر شيء قبله. يقول: أذبح، أقرأ بسم الله. وأيضًا لإفادة الحصر فإن تقديم الجار، والمجرور يفيد الحصر، بسم الله يعني لا باسم غيره أذبح، بسم الله يعني لا باسم غيره أقرأ، فهذا يفيد الحصر، تقديم ما حقه التأخير كما في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، يعني لا أقرأ إلا بسم الله، ولا أذبح إلا بسم الله، وهكذا. قالوا: ويكون خاصًا لا يكون عامًا؛ لأنه أدل على المقصود، وأبين للمراد. يكون فعلًا، ومتأخرًا، وخاصًا، فعند القراءة يكون التقدير: بسم الله أقرأ. عند الوضوء: بسم الله أتوضأ. عند الذبح: بسم الله أذبح. والآية التي سبقت تدل على هذا  بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا ، لكنه لم يذكر الفعل، ولكن احتجوا به على التخصيص، وقالوا: إن قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  [العلق: 1].

وكذلك قول النبي ﷺ: من لم يذبح فليذبح بسم الله[214]، كل هذا يحتجون به على التخصيص، أنه في كل موضع يُذكر ما يناسبه، وعلى كل حال الأمر في ذلك يسير.

"السادسة: الاسم مشتق من السمو عند البصريين، فلامه واو محذوفة، وعند الكوفيين مشتق من السِمة، وهي العلامة، ففاءه محذوفة، ودليل البصريين التصغير، والتكبير؛ لأنهما يردان الكلمات إلى أصولها[215]، وقول الكوفيين أظهر في المعنى؛ لأن الاسم علامة على المُسمى".

يقول: الاسم مشتق من السمو عند البصريين. بسم الله الباء هذه للاستعانة، والاسم بعضهم يقول: إنه مأخوذ من الوسم، وهو العلامة؛ لأن الاسم علامة على من وضع له. هذا قول الكوفيين، وطائفة من النحاة. القول الآخر قول البصريين، وأكثر النحاة: أنه مأخوذ من السمو، وهو العلو، والارتفاع باعتبار أن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل: لأن الاسم علا بقوته على الفعل، والحرف؛ لأنه الأصل. فالذين يقولون بأن الاسم علامة على من وضع له، الآن إذا نظرت إلى تصريف الاسم، نظرت إلى جمعه مثلًا فإن ذلك قد يؤيد قول البصريين بأنه من السمو، وهو العلو، والارتفاع، وهو يُجمع على أسماء، وأسامي، ويصغر على سُمي، ولو كان من السمة لكان أصله وسم، ويجمع على أوسام، ويصغر على وسيم؛ لأن الجمع، والتصغير كما ذكر ابن جزي يردان الأسماء، أو يردان الأشياء إلى أصولها. وأولئك نظروا إلى أن الاسم يرفع المسمى فيكون فيه معنى العلو، والارتفاع، يميزه عن غيره فيكون فيه معنى، فالذين قالوا من السمة العلامة باعتبار أنه يميزه عن غيره قالوا من السمو؛ لأنه يرتفع به المسمى.

على كل حال، الأمر في ذلك يسير، فـ (اسم) هذا مفرد أضيف إلى لفظ الجلالة بسم الله، وهو معرفة يعني اسم هنا نكرة أضيف إلى لفظ الجلالة، وهو أعرف المعارف فهذه الإضافة تكسبه العموم، فيعم جميع أسماء الله - تبارك، وتعالى - الحسنى، كأنك تقول: أبدأ مستعينًا بكل اسم لله. الباء للاستعانة مستعينًا بكل اسم لله - تبارك، وتعالى -. أذبح مستعينًا بكل اسم لله - تبارك، وتعالى -. آكل مستعينًا بكل اسم لله - تبارك، وتعالى -. اسم مفرد مضاف إلى معرفة، وهذه الإضافة تكسبه العموم - والله أعلم -.

"السابعة: قولك: الله، اسم مرتجل جامد، والألف، واللام فيه لازمة لا للتعريف، وقيل: إنه مشتق من التأله، وهو التعبد، وقيل: من الولهان، وهي الحيرة لتحير العقول في شأنه، وقيل: أصله إله من غير ألف، ولام، ثم حُذفت الهمزة من أوله على غير قياس، ثم أُدخلت الألف، واللام عليه، وقيل: أصله الإله بالألف، واللام، ثم حُذفت الهمزة، ونُقلت حركتها إلى اللام كما تُنقل في الأرض، وشبهه، فاجتمع لامان فأُدغمت إحداهما في الأخرى، وفُخم للتعظيم إلا إذا كان قبله كسرة".

هذا الاسم الكريم (الله) يقول: اسم مرتجل جامد. جامد يعني غير مشتق، والأرجح أن جميع الأسماء الحسنى مشتقة، والأسماء الحسنى لا شك أنها أبلغ من الجامدة؛ وذلك أنها إذا كانت مشتقة فهي متضمنة لأوصاف، فالله - تبارك، وتعالى - هذا الاسم الكريم هو أعرف المعارف كما قال سيبويه - رحمه الله - وهو أصل أسمائه الحسنى، وهو دال عليها، وعلى جميع الصفات، وقد ذكرنا في بعض المناسبات قول من قال: بأنه هو الاسم الأعظم. ومما احتجوا به أن جميع الأسماء تعود إليه لفظًا، ومعنى، أما لفظًا باعتبار أنها تُعطف عليه، وأما معنى فإن الإله المألوه هو الذي يكون ربًا، وخالقًا، ورازقًا محيًا غنيًا سمعيًا، وبصيرًا عليمًا ... إلخ، ولا بد فهو متضمن لأوصاف الكمال، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه هو الاسم الأعظم، وهو قول قوي لعله أقوى الأقوال في ذلك، وقد مضى الكلام على هذا في مقدمات الأسماء الحسنى.

وعلى كل حال، فهل هذا الاسم مشتق، أو غير مشتق هذه مسألة خلافية عند أهل السنة، ولا يترتب عليها شيء مما يتصل بالبدعة، فبعضهم يقول: إنه مرتجل غير مشتق.

يعني جامد، وأن الألف، واللام لازمة له لا لتعريف، ولا لغيره، يعني لا تفيد التعريف، وهذا قال به الخليل، وسيبويه، وهؤلاء من أهل السنة كما هو معروف، وهذا قول أكثر الأصوليين، والفقهاء، وقال به من أصحاب معاني القرآن الزجاج[216].

والقول الآخر: أنه مشتق.

واختلفوا في اشتقاقه، فبعضهم يقول: من أله إذا عبد، فهو مصدر في موضع المفعول أله الرجل يأله إلاهة إذا تعبد، وتأله. وبعضهم يقول غير ذلك، في كلام لأهل العلم كثير في هذا في مادة الاشتقاق، لكن المهم أن نعرف أنه مشتق، ومعنى هذا الاسم الكريم (الله): أي المألوه، والمعبود الذي تعبده الخلائق، وتتأله له محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وتفزع إليه في النوائب، والحوائج، وما إلى ذلك، وهذا يتضمن صفة الإلهية، وهي أوسع الصفات.

"الثامنة الرحمن الرحيم، صفتان من الرحِم، ومعناهما: الإحسان فهي صفة فعل، وقيل: إرادة الإحسان فهي صفة ذات".

قوله: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: صفتان من الرحم، ومعناهما؛ الإحسان فهي صفة فعل. هذا تأويل واضح الرحمة يؤولها الأشاعرة، ومن وافقهم من المتكلمين بأنها إرادة الإحسان، فهذا تفسير لها ببعض لوازمها، والصحيح أن الرحمة صفة ثابتة لله ليست بمعنى إرادة الإحسان، ويرد على هؤلاء كما هو معلوم بأن هؤلاء فروا من إثبات الصفة، صفة الرحمة باعتبار أنه وقع في أذهانهم مشابهة المخلوقين باعتبار أن الرحمة انعطاف، ورقة في القلب، قالوا: هذا لا يليق بالله قاسوه على المخلوقين، فرحمة الله غير رحمة المخلوق، فقالوا: هي إرادة الإحسان. فنقول لهم: المخلوق له إرادة، فشبهتموه أيضًا بالمخلوق بهذا الاعتبار. فسيقولون: إرادة الله تختلف عن إرادة المخلوق.

فنقول لهم: فرحمة الله تختلف عن رحمة المخلوق. قولوا في الرحمة مثل ما قلتم في الإرادة.

يقول: "ومعناها الإحسان فهي صفة فعل، وقيل: إرادة الإحسان، فهي صفة ذات". نقول: لا هذا، ولا هذا، وإنما الرحمة ثابتة لله على ما يليق بجلاله، وعظمته. وذكر الفرق بعده في التاسعة بين الرحمن، والرحيم.

"التاسعة: الفرق بين الرحمن الرحيم، وفي النُسخة الخطية الرحمن، والرحيم، على ما روي عن رسول الله ﷺ: أن الرحمن في الدنيا، والرحيم في الآخرة، وقيل: الرحمن عام في رحمته المؤمنين، والكافرين، والرحيم خاص بالمؤمنين؛ لقوله: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]، فالرحمن أعم، وأبلغ، وقيل الرحيم أبلغ لوقوعه بعده على طريقة الارتقاء إلى الأعلى".

هنا هذا الحديث الذي ذكره أن الرحمن في الدنيا، والرحيم في الآخرة، ذكر المحقق في التعليق عليه بأن ابن الجوزي ذكره في الموضوعات[217]، وقال ابن كثير: هذا غريب جدًا[218] وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله ﷺ وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات.

"العاشرة: إنما قدم الرحمن لوجهين: اختصاصه بالله، وجريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات".

الرحمن الرحيم اسمان ثابتان لله - تبارك، وتعالى - مشتقان من الرحمة، ويدل على هذا حديث عبد الرحمن ابن عوف قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها اسمًا من اسمي، من وصلها،وصلته، ومن قطعها بتته[219].

فالرحمن الرحيم مشتقان من الرحمة، دالان على صفة الرحمة - أيضًا - والرحم مشتقة من اسمه الرحمن، فالرحمن على وزن فعلان، والرحيم على وزن فعيل، وكل منهما صفة مشبهة، ومن صيغ المبالغة، لكن أيهما أبلغ؟ العلماء - رحمهم الله - ذكروا أن الرحمن أبلغ من الرحيم، مع أن الرحيم أيضًا صيغة مبالغة؛ وذلك باعتبار أن الرحمن قالوا: هذا الوزن فعلان يدل على الامتلاء، كما يقال: شبعان، غضبان. شبعان يدل على الامتلاء، وغضبان قد امتلأ - أيضًا - غضبًا، قالوا: ولهذا قُدم على الرحيم. وكذلك أيضًا ما ذكره ابن جرير - رحمه الله - بأن الرحمن معدول به عن نظائره، يعني يقال: رحم، فهو رحيم، سمع، فهو سميع. ونحو ذلك، هنا قال: رحم فهو رحمان. فعُدل به عن نظائره يعني ما قيل على وزن فعيل رحيم، قال: فالمعدول به عن نظائره يكون ذلك أبلغ في الوصف. فاعتبروا أن الرحمن أبلغ من الرحيم، وأيضًا الرحمن من الأسماء المختصة بالله لا يسمى به أحد من المخلوقين، الله، وكذلك الرحمن، وما عُرف أحد أنه تسمى بالرحمن إلا ما ذُكر عن الكذاب مسيلمة رحمان اليمامة، ما اجترأ أحد عليه لا في جاهلية، ولا في إسلام، ولقد سمعت أن بعض الجهلة في هذا العصر في بعض النواحي، والبوادي أنه لربما سُمي بـ رحمان، وهذا منكر، لا يجوز، ويجب تغييره، فالمقصود أن هذين الاسمين يدلان على صفة الرحمة.

والله يقول: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [الأنعام: 147]، وقال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156]، وقال: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12].

والأدلة على ثبوت هذا كثيرة، لكن إذا اجتمع الرحمن، والرحيم فما الفرق بينهما؟ مثل ما في البسملة هنا، وكذلك في الفاتحة، فهنا يفترق المعنى فبعض أهل العلم - وكأن هذا من أقرب الأقوال - واختيار الحافظ ابن القيم: بأن الرحمن يدل على الصفة أو على الرحمة الذاتية لله يعني يدل على ما يرجع إلى الله من هذه الصفة، والرحيم يدل على ما يتعدى منها إلى المخلوقين، تأمل قوله - تبارك، وتعالى -: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ [الأنعام: 133]: فهذا ما يعود على الله - تبارك، وتعالى - الرحمة الذاتية القائمة به - تبارك، وتعالى - وقال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [الأنعام: 147] وأن الرحيم يدل على إثبات صفة الرحمة الفعلية لله والصفات منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو فعلي، ومنها ما يكون ذاتيًا، فعليًا. فهذه تدل على الرحمة المتعلقة بالمرحوم، فالله - تبارك، وتعالى - فاعل الرحمة، وهو موصلها إلى من شاء من خلقه، يعذب من يشاء، ويرحم من يشاء إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ [الإسراء: 54]، فالأول للوصف، والثاني للفعل، الأول يدل على أن الرحمة صفة، والثاني يدل على أنه يرحم خلقه بهذه الرحمة، لكن إذا جاء كل واحد منهما منفردًا فذلك يدل على صفة الرحمة بإطلاق: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110]  وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]، فهذا يدل على إثبات صفة الرحمة باعتبارها صفة ذاتية، وباعتبارها أيضًا صفة فعلية لله - تبارك، وتعالى - والعلماء - رحمهم الله - ذكروا فروقات أخرى بين الرحمن، والرحيم، هذا كأنه هو الأقرب - والله أعلم - يعني بعضهم يقول: الرحيم هذه الرحمة الخاصة بالمؤمنين، والرحمن هي الرحمة العامة. لكن هذا يُشكل عليه بعض ما جاء في آيات من كتاب الله - تبارك، وتعالى - يعني هم يحتجون بقوله مثلًا: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا قد الجار، والمجرور فيدل على الاختصاص، لكن الله أيضًا يقول: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 143]، عموم الناس، فهذا قد يكون فيه شيء من الإشكال - والله أعلم - لكن الرحمن يختص بالله، والرحيم يمكن أن يسمى به المخلوق أو يوصف به، والرحمن أبلغ من الرحيم كما عرفنا - والله تعالى أعلم -.

  1.  انظر: النشر في القراءات العشر (1/243)..
  2.  المبسوط للسرخسي (1/13).
  3.  أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصلاة، باب التعوذ بعد الافتتاح، رقم: (2358).
  4.  مصنف ابن أبي شيبة (1/214)، رقم: (2457).
  5. انظر: فتح القدير، لابن الهمام (1/291)..
  6.  انظر: الأم (1/ 107)، أحكام القرآن،  للشافعي (1/62).
  7.  المغني (1/343).
  8.  الإقناع في القراءات السبع (ص: 50).
  9.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/86)، رقم: (2591).
  10.  إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ط عالم الفوائد (1/162).
  11.  المجموع شرح المهذب (3/323).
  12.  المغني لابن قدامة (1/343).
  13.  النشر في القراءات العشر (1/249).
  14.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، رقم: (399).
  15.  أخرجه ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب الاستعاذة في الصلاة، رقم: (808)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/325)، رقم: (749).
  16.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/82)، رقم: (2572).
  17.  إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/95)
  18.  انظر: الإقناع في القراءات السبع  (1/150)، والمبسوط، (1/13).
  19.  النشر في القراءات العشر  (1/ 10).
  20.  المجموع شرح المهذب (3/325)، تفسير الرازي (1/68).
  21.  تفسير الرازي (1/68).
  22.  المغني لابن قدامة (1/343).
  23.  أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، رقم: (466).
  24.  تفسير ابن كثير (1/110)
  25.  المصدر السابق.
  26.  تفسير الرازي (20/269)، المجموع شرح المهذب (3/325).
  27.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/86)، رقم: (2590).
  28.  المصدر السابق (2/87)، رقم: (2593).
  29.  تفسير ابن كثير (1/111)، تفسير القرطبي (1/88).
  30.  تفسير القرطبي (1/88).
  31.  استغربه ابن العربي في أحكام القرآن لابن العربي (3/ 159).
  32.  انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع، (1/9).
  33.  النشر في القراءات العشر (1/ 254)
  34.  المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/58).
  35.  انظر: الإقناع في القراءات السبع، (1/152).
  36.  النشر في القراءات العشر (1/252).
  37.  انظر: مجموع الفتاوى (22/405).
  38.  السنن الكبرى للبيهقي (2/55).
  39.  المحلى بالآثار (2/280).
  40.  انظر: المبسوط، (1/13).
  41.  المغني لابن قدامة (1/343).
  42.  تفسير ابن كثير (1/113)
  43.  انظر: النشر (1/254).
  44.  مجموع الفتاوى (22/405).
  45.  المجموع شرح المهذب (3/324).
  46.  المصدر السابق.
  47.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، رقم: (399).
  48. ) مجموع الفتاوى (22/405).
  49.  المسائل الفقهية من كتاب الروايتين، والوجهين (1/116).
  50.  مجموع الفتاوى (22/341).
  51.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/83)، رقم: (2574).
  52.  المحلى بالآثار (2/278).
  53.  المجموع شرح المهذب (3/325).
  54.  انظر: المبسوط (1/13).
  55.  المغني لابن قدامة (1/343).
  56.  انظر: المجموع شرح المهذب (3/325، 326).
  57.  تفسير الطبري  (14/357)
  58.  تفسير ابن عطية - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/58).
  59.  الإفصاح (1/125).
  60.  انظر: المجموع شرح المهذب (3/325).
  61.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/83)، رقم: (2576).
  62.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/86)، رقم: (2587).
  63.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/85)، رقم: (2586).
  64.  انظر: المجموع شرح المهذب (3/326).
  65.  أحكام القرآن للجصاص (3/191).
  66.  فتح القدير للكمال ابن الهمام (1/290).
  67.  المجموع شرح المهذب (3/322).
  68.  المسائل الفقهية (3/ 115 - 116).
  69.  المجموع  شرح المهذب (3/ 324).
  70.  المغني لابن قدامة (1/382).
  71. ) أخرجه مسلم،  كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام، والقراءة، رقم: (599).
  72.  زاد المعاد في هدي خير العباد (1/234).
  73.  تفسير القرطبي (1/86).
  74.  التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 81).
  75.  المسائل الفقهية (3/115 - 116).
  76.  المحلى بالآثار (2/278).
  77.  المدونة (1/162).
  78.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس، وجنوده، رقم: (3276)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من، وجدها، رقم: (134).
  79.  أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، رقم: (2203).
  80.  أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التأذين، رقم: (608)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب فضل الأذان، وهرب الشيطان عند سماعه، رقم: (389).
  81.  أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم: (6115)، ومسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب، رقم: (2610)، واللفظ للبخاري.
  82.  أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها، ولا يذكرها، رقم: (7044)، ومسلم، كتاب الرؤيا، رقم: (2261).
  83.  أخرجه مسلم، كتاب الرؤيا، رقم: (2262).
  84.  أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، رقم: (466).
  85.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، رقم: (3303).
  86.  أخرجه أبو داود، أبواب النوم، باب ما جاء في الديك، والبهائم، رقم: (5103).
  87.  أخرجه مسلم، كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وغيره، رقم: (2708).
  88.  أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء، رقم: (142)، ومسلم، كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، رقم: (375).
  89.  أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب استحباب، وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، رقم: (2202).
  90.  انظر: تفسير ابن كثير (1/114).
  91.  مقاييس اللغة (3/183)
  92.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي، رقم: (510).
  93.  أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى ، رقم: (2366).
  94.  تفسير ابن كثير (1/114).
  95.  أخرجه أبو داود، أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، رقم: (5067)، والترمذي،  أبواب الدعوات، رقم: (3392).
  96.  أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح، رقم: (2118).
  97.  أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة العشاء، والصبح في جماعة، رقم: (657).
  98.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها،  باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، رقم: (780).
  99.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس، وجنوده، رقم: (3275).
  100.  أخرجه البخاري،  كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، رقم: (5009)، ومسلم،  باب فضل الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، رقم:  (808).
  101.  أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب التطوع في البيت، رقم: (1187)، ومسلم، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، رقم: (777).
  102.  أخرجه الترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، رقم: (2875).
  103.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، رقم: (395).
  104.  القوانين الفقهية (ص: 44)، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/10)، المعونة على مذهب عالم المدينة (ص: 217).
  105.  البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ومنحة الخالق، وتكملة الطوري (1/331).
  106.  التمهيد لما في الموطأ من المعاني، والأسانيد (19/ 208). 
  107.  المغني لابن قدامة (1/347).
  108.  انظر: مجموع الفتاوى (22/78).
  109. انظر: كلمة الحق،  أحمد محمد شاكر، ص(124). 
  110.  تفسير البغوي (1/51)
  111.  انظر: الاستذكار (2/173)، مجموع الفتاوى (22/441)
  112.  تفسير القرطبي (1/ 94).
  113.  المجموع شرح المهذب (3/333)
  114.  زاد المسير في علم التفسير (1/ 14)
  115.  الاستذكار (2/176).
  116.  أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن، ص: (114 - 115).
  117.  أخرجه أبو داود، كتاب الحروف، والقراءات، رقم: (4001)، والترمذي، باب في فاتحة الكتاب رقم: (2927).
  118.  أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب مد القراءة، رقم: (5046).
  119.  أخرجه النسائي، كتاب الافتتاح، قراءة بسم الله الرحمن الرحيم [الفاتحة: 1]، رقم: (905).
  120.  أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، والجهر بها، واختلاف الروايات في ذلك، (2/86)، رقم: (1190)، البيهقي في السنن الكبرى، باب الدليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية تامة من الفاتحة، (2/67)، رقم: (2390).
  121.  نصب الراية (1/344).
  122.  تفسير النسفي - مدارك التنزيل، وحقائق التأويل (1/26).
  123.  تفسير ابن كثير (1/116).
  124.  المجموع شرح المهذب (3/333).
  125. المسائل الفقهية من كتاب الروايتين، والوجهين (1/118)
  126.  البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ومنحة الخالق، وتكملة الطوري (1/330).
  127.  تفسير البغوي (1/51).
  128.  تفسير ابن كثير (1/ 116).
  129.  الاستذكار (1/456).
  130.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة، رقم: (400).
  131.  أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من جهر بها، رقم: (788).
  132. المغني لابن قدامة (1/347)، مجموع الفتاوى (22/353).
  133.  مجموع الفتاوى (22/353).
  134.  المبسوط للسرخسي (1/16).
  135.  المحلى بالآثار (2/283).
  136. تفسير الطبري (1/109، 147).
  137.  صحيح ابن خزيمة (1/249) .
  138.  المغني لابن قدامة (1/ 347).
  139.  مجموع الفتاوى (22/276).
  140.  أخرجه الترمذي، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل سورة الملك، رقم: (2891)، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب ثواب القرآن، رقم: (3786)، والنسائي في السنن الكبرى، رقم: (11548).
  141.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، رقم: (395).
  142.  الاستذكار (1/ 453) .
  143.  انظر: مجموع الفتاوى (22/277 - 278). .
  144.  أخرجه البخاري، بدء الوحي،  كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ رقم: (3)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم: (160).
  145.  مجموع الفتاوى (22/277)
  146.  مجموع الفتاوى (22/349).
  147.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، (1/299).
  148.  أخرجه أبو داود، أبواب تفريع استفتاح الصلاة، باب من لم ير الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، رقم: (783).
  149.  أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام، والقراءة، رقم: (599).
  150.  مجموع الفتاوى (22/435).
  151.  المصدر السابق (22/ 439).
  152.  مراقي السعود (97).
  153.  الإقناع في القراءات السبع (1/158)، النشر في القراءات العشر (1/259)
  154.  الإقناع في القراءات السبع (1/ 158 - 162)، النشر في القراءات العشر (1/259 - 260). 
  155.  أخرجه أبو داود، أبواب تفريع استفتاح الصلاة، باب من جهر بها، رقم: (786)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة التوبة، رقم: (3086).
  156.  مشكل الآثار (2/155).
  157.  أحكام القرآن (2/891 - 892).
  158.  تفسير القرطبي (8/63).
  159. الاستذكار (2/181).
  160. المصدر السابق (2/176).
  161. تفسير القرطبي (1/96).
  162.  المجموع شرح المهذب (3/332).
  163.  انظر: مجموع الفتاوى (22/353).
  164.  تبيين الحقائق للزيلعي مع حاشية  الشلبي (1/112)، وينظر: اختلاف الأئمة العلماء لابن هبيرة (1/109).
  165. مطالب أولي النهى (1/504)، والمغني، لابن قدامة (1/345).
  166. انظر: مجموع الفتاوى (22/436).
  167.  النوادر، والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (1/172)، التلقين في الفقه المالكي (1/44)، اختلاف أقوال مالك، وأصحابه (ص: 104).
  168.  مجموع الفتاوى (22/ 407).
  169.  صحيح ابن خزيمة (1/249).
  170.  أخرجه مسلم، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام، والقراءة، رقم: (598)
  171.  انظر: مجموع الفتاوى (22/413 - 415).
  172.  النشر في القراءات العشر (1/265).
  173.  الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/11 - 12).
  174.  انظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/69 - 73).
  175.  السنن الكبرى للبيهقي (2/73).
  176.  انظر: تفسير ابن كثير (1/117).
  177.  الأم للشافعي (1/130)، المجموع شرح المهذب (3/333)
  178.  مجموع الفتاوى (22/442).
  179. المغني لابن قدامة (1/345)
  180.  مسند الشافعي (ص: 37).
  181.  انظر: مجموع الفتاوى (22/430 - 432).
  182.  انظر: نصب الراية (1/ 353).
  183.  التحقيق في مسائل الخلاف، لابن الجوزي (1/ 357).
  184.  المغني لابن قدامة (1/346).
  185. انظر: مجموع الفتاوى (22/ 415).
  186.  انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/200).
  187.  أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في ترك الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم [الفاتحة: 1]، رقم: (244). عن الخلفاء الثلاثة، وأخرجه عن علي عبد الرزاق في مصنفه (2/88)، رقم: (2601).
  188.  صحيح البخاري (1/149)، رقم: (743)، وصحيح مسلم (1/299).
  189.  صحيح مسلم، رقم: (498).
  190. مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/89)، رقم: (2605).
  191. مصنف ابن أبي شيبة (1/359 - 361).
  192.  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/89)، رقم: (2604).
  193.  الاختيار لتعليل المختار (1/50)، المبسوط للسرخسي (1/15).
  194.  شرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/550)، المبدع في شرح المقنع (1/384)، شرح منتهى الإرادات (1/188).
  195.  سنن الترمذي (2/12)، رقم: (244).
  196.  تفسير القرطبي (1/96).
  197.  انظر: مجموع الفتاوى (22/442).
  198.  أخرجه البخاري، باب ما يقول بعد التكبير، رقم: (743)
  199.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (1/299).
  200.  أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، رقم: (399).
  201.  أخرجه النسائي، كتاب الافتتاح، ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، رقم: (906).
  202.  أخرجه النسائي، كتاب الافتتاح، ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، رقم: (907).
  203.  سنن الدارمي (ص: 319).
  204.  انظر: مجموع الفتاوى (22/410).
  205. المغني لابن قدامة (1/346).
  206. انظر: مجموع الفتاوى (22/422).
  207.  القطع، والائتناف، للنحاس، (1/106).
  208. أحكام القرآن للجصاص (1/16).
  209. القطع، والائتناف، للنحاس، (1/106).
  210.  انظر: المحلى بالآثار (2/ 284).
  211.  تفسير ابن كثير (1/118).
  212.  أخرجه البخاري، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ رقم: (7).
  213.  انظر: تفسير الرازي (1/103).
  214.  أخرجه البخاري، أبواب العيدين، باب كلام الإمام، والناس في خطبة العيد، وإذا سئل الإمام عن شيء، وهو يخطب، رقم: (985)، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم: (1960).
  215.  وفي نسخة: لأنهما يردّان الكلمات إلى أصولها، فقول العرب: أسماء، وسمي دليل على أن الفاء هي السين، وأن اللام حرف علية، وقول الكوفيين ... إلخ.
  216.  انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (ص: 25)، تفسير القرطبي (1/ 102)
  217.  الموضوعات لابن الجوزي (1/204).
  218.  تفسير ابن كثير  (1/119). 
  219.  أخرجه داود، كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، رقم: (1694).