الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
عبادة السلف
تاريخ النشر: ٢٥ / شعبان / ١٤٢٤
التحميل: 36156
مرات الإستماع: 49873

لماذا التحدث عن عبادة السلف؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بابك، اللهم تتابعَ برُّك، واتصل خيرك، وعظم رفقك، وتناهى إحسانك، وصدق وعدك، وبر قسمك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، ولم تُسأل حاجة إلا قضيتَها، وتكفلت بقضائها، فاختم ذلك كله بالرضا، والمغفرة، إنك أهل ذلك، والقادر عليه، وبعد:

لماذا التحدث عن عبادة السلف؟

لعل من المناسب أن نتحدث عن عبادة السلف - رضي الله عنهم، وأرضاهم - في مثل هذه الأيام، وذلك لثلاثة أسباب:

الأول: ما نحتاج إليه لشحذ الهمم من أجل التقَوِّي على طاعة الله - تبارك، وتعالى - وانطلاق النفوس من آثارها، والتخلي عن الركون إلى الدعة، والكسل، والخمول الذي يقعدنا، ويثبطنا عن طاعة الله فنحن في هذه الأيام نستقبل شهر رمضان، ولعل من توفيق الله أن وفقنا لأن نتحدث قبل دخوله بوصايا نتذاكر بها أذكّر بها نفسي أولاً، وأذكر بها إخواني ثانياً، فنحن جميعاً بحاجة إلى التذكير.

من الخطأ أن يدخل الشهر، ونحن في غمرة الغفلة، ومن الخطأ أن يكون دخول هذا الشهر دخولاً عادياً، يمر علينا من غير تفكير، ومن غير إعداد خطة لمزيد من التقرب إلى الله - تبارك، وتعالى - واغتنام الأوقات في هذه المناسبة، فهذا تقصير ليس بعده تقصير، والإنسان يحتاج إلى أن يقف مع نفسه لينظر كيف يستقبل هذا الشهر، وبأي شيء تتصرم عليه ساعته، وأيامه؟ فهو كما تعلمون بمجرد ما يدخل فإنه عما قليل تنقضي أوقاته، ثم ينتصف، وبعد ذلك يتلاشى في عملية مكررة لربما يتأسى بعضنا بعد فواتها في كل مرة، ولكن هل فكرت في تصحيح حالك كيف تستقبل هذا الشهر الكريم؟

ولقد أخبرني بعض الإخوة من المعلمين أنهم سألوا تلامذتهم في المرحلة الابتدائية كيف تستقبلون هذا الشهر؟ فقال بعضهم: إن أبي قد أصلح الدِّش، وقال الآخر: رمضان شهر ممتع لكثرة البرامج الجذابة فيه، وقال الآخر: هو شهر ليس كالشهور؛ لأننا نسهر في الليل، وننام في النهار، فلم يجب واحد منهم بشيء آخر مما يتعلق بالإعداد للعمل الصالح، كان هؤلاء التلاميذ يصورون حالهم، ويصورون بيئتهم

وينشأ ناشئُ الفتيانِ فينا على ما كان عوَّده أبوه

وهكذا للأسف يُستقبل هذا الشهر، وإذا أردت مصداق ذلك فسرح طرفك يمنة، ويسرة في الأسواق بجميع أنواعها: أسواق المطعومات، وأسواق الأواني، وأسواق الأثاث، وأسواق الآلات، وجميع السلع، وأنا لا أفهم أمرين اثنين:

أولهما: ما علاقة هذا الشهر بالفكاهة، واللهو، والعبث، والغفلة الضاربة؟ ما علاقة هذا الشهر بهذه الأمور؟ هل هو شهر برامج، وفوازير؟ ما علاقة البرامج، والفوازير، والقنوات الفضائية العابثة بهذا الشهر الكريم؟ وما هو وجه الارتباط بين هذا، وهذا؟ فهذا شهر القرآن، والصيام، والعبادة، فما شأن أهل الغفلة؟

والأمر الآخر الذي لا أعرف له جواباً هو: ما علاقة هذا الشهر بكثرة الأكل، والتجول في الأسواق، واللهو، ونصب الخيام قبل دخوله بليلة، أو بليلتين لتُقضى فيها الساعات الطوال من ساعات ليله في عبث، وغفلة يترفع عنها من عرف ما ينتظره من الموت، والدار الآخرة؟.

لو تأملنا في حالنا لرأينا أننا نأكل في هذا الشهر أكثر مما نأكل في غيره، ورأينا أن المرأة المسلمة تقضي من ساعات يومها، وليلها في المطبخ أكثر مما تقضي في سائر الشهور مع أنه شهر الصوم، ولرأينا أن تجولنا في الأسواق، والزيارات، ومشاهدة القنوات، وألوان العبث يكون في هذا الشهر مضاعفاً عن غيره إن لم يكن قد بلغ أضعافاً مضاعفة، وهو شيء عجيب، يعجب منه العاقل غاية العجب، فهل خلت بيوت المسلمين من الأطعمة حتى يكدسوا الأطعمة في هذا الشهر الكريم؟ هل خلت بيوتهم من الأثاث، والرياش، والزينة حتى يتجولوا في الأسواق - لا سيما في عشره الأخير - من أجل أن ينظروا في السلع المعروضة من هذا الأثاث، أو ذاك رجالاً، ونساءً، شباباً، وشيباً؟ ما الذي دهى الناس؟ ما هذه الغفلة؟

هذا شهر بكاء، وقراءة للقرآن، وجدّ، واجتهاد في الطاعة، شهر حبس للنفس، وفطام عن كل شهواتها التي حرمها الله وعن شهواتها المباحة في نهاره، فلماذا قلبت القضية، وانعكست الآية، وصار بالنسبة لكثير من المسلمين شهر لهو، وعبث، وخيبة؟؟ فهذا جانب مما دعاني للحديث عن هذا الموضوع.

وجانب آخر: أننا نعاني من جفاف في التعبد، فلقد قصرنا في هذا الجانب كثيراً، فنحتاج إلى وقفة تذكرنا علّنا نرجع إلى حالٍ سوية نشمر فيها عن ساعد الجد في طاعة المالك المعبود - سبحانه، وتعالى -.

وأمر ثالث: وهو ما نمر به في هذه الأوقات من الفتن، والمشكلات التي تمر على الأمة، وهو أمر يسترعي الانتباه، ويجعل الإنسان يتلفت هنا، وهناك يتطلع إلى الأخبار، ولربما غلب ذلك عليه فصار شغله الشاغل هو تتبع هذه الأمور، فأورثه ذلك غفلة عن عبادة الله ولهذا جاء في حديث معقل بن يسار عن النبي ﷺ أنه قال: العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ[1] أي في أيام الفتن، فلماذا كانت العبادة في الهرْج، والفتنة عظيمة؟

لأن النفوس تكون في حالة من التفلت، والانشغال، فيحتاج العبد إلى تثبيت للنفس على طاعة ربه - تبارك، وتعالى - وإلى تبصر، وتذكر، فيكون عابداً لله - تبارك، وتعالى - مع غفلة الكثيرين عن هذه المطالب.

إذا كان حالنا، أو حال كثير منا من الغفلة بهذه المثابة في شهر رمضان، فما هي حالنا في غيره؟ وكيف عبادتنا في هذه الأيام؟ كم يصوم منا الواحد في السنة؟ وكم يصلي من ساعات الليل؟ وكم مرة يختم القرآن في الشهر؟ وما مقدار الأذكار التي نحافظ عليها؟ إلى غير ذلك من ألوان العبوديات بالقلب، واللسان، والجوارح.. ما هي حالنا مع هذه الأمور؟ 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة - باب: فضل العبادة في الهرج (2948) (ج 4 / ص2268).
سلفنا الصالح  قد شغلوا أوقاتهم بالعبادة

إن سلفنا الصالح قد شغلوا أوقاتهم بالعبادة، ولم يكن لديهم فراغ، وكانوا يكرهون أن يروا الرجل في فراغ ليس في شغل من أشغال الدنيا، ولا في عمل من عمل الآخرة، فهو ليس عنده شيء يتقرب به إلى الله أو يتقوت به في هذه الحياة الدنيا.

هذا أبو مسلم الخولاني - رحمه الله - ألقي في النار فما احترق؛ يقول عن نفسه: لو قيل لي: إن جهنم تسعر ما استطعت أن أزيد في عملي، وهذا صفوان بن سليم لو قيل له: إن القيامة غداً ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة.

وكذا منصور بن المعتمر - رحمه الله - لو قيل له: إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل، فقد كان يصلي من طلوع الشمس إلى أن يصلي العصر، ثم يجلس يسبح في مصلاه إلى المغرب.

وهذا عبد الرحمن بن أبي أنعم البجلي لو قيل له: إن ملك الموت قد توجه إليك ما كان عنده زيادة في العمل، وهذا ابن أبي ذئب قرين الإمام مالك - رحمه الله - من علماء المدينة، كان يصلي ليله أجمع، ويجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد.

وهكذا حماد بن سلمة - رحمه الله - لو قيل له: إنك تموت غداً ما قدر على أن يزيد شيئاً على عمله، يقول الذهبي - رحمه الله - معلقاً على ذلك:"كانت أوقاته معمورة بالتعبد، والأوراد".

إن أوقاتهم مشغولة بالعبادات حتى إن سليمان التيمي - رحمه الله - وهو من كبار أئمة التابعين، ومن عُبَّادهم يصفه حماد بن سلمة - رحمه الله - فيقول: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً، أو مشيعاً لجنازة، أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يُحسن يعصي الله .

وقد تعتذر - أيها الأخ المسلم - بكثرة الأشغال، والصوارف؛ وهو وهم كبير نعيش فيه، ويسيطر على حياتنا، ويشغلنا عن معالي الأمور الحقيقية. 

 
نحن نعيش في وهم

نحن نعيش في وهم، هو الشغل، فنحن مشغولون دائماً في جري متواصل، إذا نظرنا إلى حالنا مع صلة الأرحام نجد أننا نقصر كثيراً بسبب الشغل، نقول: إننا مشغولون، مع أن القضية لا تكلفنا شيئاً، ولو أن الإنسان وضع في جيبه بطاقة كتب فيها أسماء الأقربين من ذوي الرحم، فإذا جلس في لحظة انتظار في مستشفى، أو في مدرسة بين المحاضرات فأخرج هذه البطاقة، واتصل على عمه، وعلى ابن عمه، وعلى خاله، وعلى ابن خاله فماذا يكلفه ذلك؟

لو اتصل الواحد منا مرة في الأسبوع فكم سيكون لهذه الاتصالات من أثر كبير، ولكن للأسف كم يمضي علينا من الأوقات الحقيقية، ونحن نتوهم أننا مشغولون حتى عن الاتصال، ولربما تمر الشهور، بل السنون، والرجل لم يصل أهله، أو قراباته بحجة أنه مشغول، فما هذه الأشغال؟

لربما كان عنده برنامج في نشاط مسجد يدرس فيه خمسة من الطلاب، أو عشرة، ولربما كان عنده شيء يشبه هذا من الأشغال التي لا تستوعب يومه، ولو جلس العاقل مع نفسه ليحسب اليوم الذي تبلغ ساعاته أربعاً، وعشرين ساعة، ما هي الأشغال الحقيقية؟ وكم تستغرق هذه الأشغال من هذه الساعات؟ أربع ساعات، أو خمس ساعات؟ ولربما سألت الشاب: لماذا لا تصل قرابتك؟ ولماذا لا تقرأ القرآن؟ ولماذا لم تفعل كذا؟

قال: أنا مشغول، أحضر دورة علمية، أو لربما قال: أنا ملتزم بحلقة فيها حفظ، فكم تستغرق عليك هذه الدورة العلمية؟ وكم تستغرق عليك هذه البرامج في الحفظ؟ لنقل أنه في حفظ القرآن، أو في حفظ غيره كم تستغرق؟ ساعتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، فماذا فعلت في العشرين ساعة الباقية؟ أين ذهبت؟ هل ذهبت للدراسة؟! كم تستغرق منك الدراسة حقيقة؟ كم تقرأ، وكم تراجع؟ وأين ذهب باقي اليوم؟ أين باقي الساعات؟؟!.

إنه وهم كبير جعلك تشعر أن الأربع، والعشرين ساعة مستغرقة مستوعبة بهذه الأشغال، بينما لو نظرت حقيقة لوجدت أنك تضيِّع كثيراً، وتفرط كثيراً في عامة ساعات يومك، وليلتك. 

 
ألم النبي ﷺ يكن مشغولاً؟

هذا النبي ﷺ ألم يكن مشغولاً؟ ألم يكن هو الزوج، والمدبر لشئون الأمة، والمربي، والقائد، والمرتب للجيوش؟ ألم يكن رسول الله ﷺ هو الرجل الأول في المجتمع المدني؟ 

بلى كان كذلك - عليه الصلاة، والسلام - فكيف كانت عبادته؟

هذا عوف بن مالك الأشجعي يصف صلاة رسول الله ﷺ حتى قال: "فاستفتح البقرة فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوَّذ، ثم ركع فمكث راكعاً قدر قيامه، ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة، ثم سجد بقدر ركوعه يقول في سجوده: سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة، ثم قرأ آل عمران، ثم قرأ سورة ففعل مثل ذلك"[1] هذه الصلاة الطويلة كم تستغرق من ساعات؟

وهذه عائشة كما أخرج مسلم في صحيحه تصف صلاة رسول الله ﷺ تقول: "كان رسول الله ﷺ يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء - وهي التي يدعو الناسُ العَتَمَة - إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة"[2].

وتقول: إن النبي ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت له مرة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟[3].

هذا رسول الله ﷺ غفر له ما تقدم من ذنبه، ومع ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فما شأن أهل الذنوب، والمقصرين الذين ينتهكون ما حرم الله ويتركون بعض ما أمر الله به؟!

تقول عائشة - رضي الله عنها - أيضاً في وصف عبادته ﷺ إذا دخلت العشر الأخيرة من رمضان فتقول: "كان النبي ﷺ إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"[4].

ونحن كيف نقضي العشر؟ نقضيها في شراء مستلزمات العيد، والتشاغل بالأسواق - والله المستعان -!.

إذا كان العيد يمر بنا، وقد غفر الله لنا فهذا أمرٌ لا شك أنه يجلب السعادة، ويستحق الفرح، وأن تلبس له الجديد، لكن إذا كانت الثانية بأن انقضى رمضان في غفلة، ولهو، وعدم قبول، ثم جاء العيد فاشتغلت بشراء الجديد، وأنت تلقى الناس بوجه رد الله على صاحبه العمل، فأي فرح في هذا العيد، وأي مسرة؟ وما يغني عنا الجديد حينما تكون أعمالنا بهذه المثابة حيث لم تقبل، ولم يغفر لنا حيث أدركنا رمضان؟

وهذا زيد بن خالد الجهني يصف صلاة رسول الله ﷺ في ليله حيث قال: "لأرمقن صلاة رسول الله ﷺ الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طـويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة"[5].

 ويقول ابن مسعود واصفاً حاله مع رسول الله ﷺ كما في الحديث المخرج في الصحيحين": صليت مع رسول الله ﷺ فأطال حتى هممت بأمر سوء، قال: قيل: وما هممتَ به؟ قال: هممت أن أجلس، وأدعه"[6].

وابن مسعود هو صاحب القرآن الذي أخذ عن رسول الله ﷺ ومن فيه مباشرة سبعين سورة، وكان على قدر كبير من العبادة، والعلم بالله ومع ذلك لم يستطع أن يواصل مع رسول الله ﷺ إلا على وجه من التكلف، والتعب، والمعاناة.

وهذا حذيفة صلى مع رسول الله ﷺ يقول: "صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه"[7].

فهذا رسول الله ﷺ وهو القائم بجميع أعباء الأمة، وكلها مناطة به، بأبي، وأمي هو - عليه الصلاة، والسلام -. 

  1.  أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة - باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (873) (ج 1 / ص 293)، والنسائي في كتاب: الصلاة – باب: الدعاء في السجود (1132) (ج 2 / ص 223)، وأحمد (24026) (ج 6 / ص 24)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (776).
  2.  أخرجه البخاري مختصراً في كتاب: الدعوات – باب: الضجع على الشق الأيمن (5951) (ج 5 / ص 2325)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي ﷺ في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة (736) (ج 5 / ص 508)، وهذا لفظ مسلم.
  3.  أخرجه البخاري في كتاب: التفسير – باب: قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [الفتح:2] (4557) (ج 4 / ص 1830)، ومسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم – باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820) (ج 4 / ص 2172).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب: صلاة التراويح – باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان (1920) (ج 2 / ص 711)، ومسلم في كتاب: الاعتكاف – باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (1174) (ج 2 / ص 832).
  5.  أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه (765) (ج 1 / ص 531).
  6.  أخرجه البخاري في أبواب التهجد - باب: طول القيام في صلاة الليل (1084) (ج 1 / ص 381)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (773) (ج 1 / ص 537).
  7. أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: استحباب تطويل القيام في صلاة الليل (772) (ج 1 / ص 536).
ألم يكن الخلفاء الراشدون مشغولون؟

وأما خلفاؤه الراشدون، ومن جاء بعدهم من الخلفاء فكذلك أيضاً كانت عبادتهم، ولم تكن أعباء الخلافة تشغلهم عن التقرب إلى الله - تبارك، وتعالى -.

فهذا عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصـلاة الصلاة. 

وهذا عثمان بن عفان لما اجتمع عليه أؤلئك، وأرادوا قتله قالت امرأته: إن تقتلوه فإنه كان يحيي الليل كله في ركعة يجمع فيها القرآن، ولهذا قال حسان يمدح عثمان

ضَحَّوْا بأشمطَ عنوانُ السجودِ به يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقرآنا
 

يقول عبد الرحمن بن عثمان: قلت ليلة: لأغلبن على مقام إبراهيم - أي يريد أن يصلي الليل خلف المقام - يقول: فبكرت، وسبقت إليه، فقمت أصلي، فإذا برجل يضع يده على ظهري، فإذا هو عثمان بن عفان في أيام خلافته كأنه ينحيه قليلاً، يقول: فتنحيت عنه، فقام فافتتح القرآن حتى فرغ منه، ثم ركع، وجلس، وتشهد، وسلم في ركعة واحدة لم يزد عليها، فلما انصرف قلت: يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة قال: هي وتري، سبحان الله ختم القرآن خلف المقام في ركعة واحدة.

وهذا علي بن أبي طالب مع ما جرى في وقته من الفتن، والمصائب العظام، والحروب بين المسلمين؛ دخل عليه رجل من أصحابه بعد هجعة الليل، وهو قائم يصلي، فقال: يا أمير المؤمنين: صوم بالنهار، وسهر بالليل، وتعب فيما بين ذلك، فلما فرغ علي من صلاته قال: سفر الآخرة طويل يحتاج إلى قطعه بسير الليل.

وهذا ابن الزبير قد امتدت خلافته في المشرق، والمغرب، ولم تستعص عليه إلا الشام، وكان يكابد الحروب مع أهل الشام، وقد حاصر الحجاج الكعبة، وكان ابن الزبير متحصناً بالمسجد الحرام، وكان المنجنيق ربما أصاب ثوبه، وهو كالغصن يصلي لا يتحرك، ولربما مرت حجارة المنجنيق بجوار أذنيه، وهو قائم يصلي لا يتحرك، ولا يفزع، ولا يلتفت؛ لأنه مستغرق في صلاته كأنه غصن شجرة.

وهذا عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - في أيام خلافته تقول زوجته فاطمة: كان إذا صلى العشاء قعد في مسجده، ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه، ثم ينتبه، فلا يزال يدعو رافعاً يديه يبكي حتى تغلبه عينه، يفعل ذلك ليله أجمع، فما هي أشغالنا، وبم نحن مشغولون؟

نحن مشغولون بوهم كبير، وهم يقال له الانشغال، فأين أشغالنا من أشغال هؤلاء الكبار؟ قد يقول بعضنا: نحن مشغولون بالعلم، نحن مشغولون بحفظه، وتطلبه، وتحصيله، أقول: قارن حالك، وحالي معك مع حال هؤلاء السلف من المشتغلين بالعلم، والعبادة، كيف نحن، وكيف كانوا؟

هذا علقمة بن قيس النخعي بات مع عبد الله بن مسعود يقول: فنام أول الليل، ثم قام يصلي حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها، ثم أوقف.

وأما أنس بن مالك فقد كان يصلي حتى تقطُر قدماه دماً من طول القيام، وهذا تميم الداري من علماء الصحابة كان يصلي بالناس في زمن عمر، فكان يقرأ القرآن في ركعة إذا صلى لنفسه، ولربما بقي يردد آية واحدة حتى يصبح، وكان يردد ليلة قول الله :  أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية21] رددها ليلة كاملة.

وهذا سعيد بن جبير الذي قال فيه الإمام أحمد: قتله الحجاج، وليس على وجه الأرض أحد إلا هو محتاج إلى علمه، إنه عالم كبير بكتاب الله وفقيه في الدين، قام يصلي ليلة في جوف الكعبة فقرأ القرآن في ركعة واحدة، وهذا مسروق الأجدع كان يصلي حتى تتورم قدماه، حتى إن امرأته كانت تبكي مما ترى من تعبه، ومعاناته.

وأما عروة بن الزبير، وهو من فقهاء المدينة فكان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف في النهار، ثم يقوم به في الليل، لقد كان يقرأ بمعدل نصف القرآن في يومه، وليلته، وما تركه إلا ليلة واحدة حينما قطعت رجله في سفرته المعروفة حينما ذهب إلى الشام.

وهذا عبد الرحمن بن مهدي كان ورده كل ليلة طوال السنة نصف القرآن، وهذا طلق بن حبيب كان إذا افتتح سورة البقرة في الصلاة لا يركع حتى يبلغ العنكبوت - أي أكثر من نصف القرآن - وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي.

وهذا منصور بن المعتمر يقول بعض جيرانه: هذا صبي صغير، أو صبية كانوا يرون منصور بن المعتمر يصلي على سطحه يظنونه في الليل خشبة، أو عموداً من طول قيامه، فلما مات فُقِدَ، فقال هذا الصبي، أو الصبية لأبيه: أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟ قال يا بنية: ذاك منصور كان يقوم الليل.

وهذا عبد الرحمن بن مهدي كان ورده في كل ليلة نصف القرآن، وهذا وكيع بن الجراح كان لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر.

وهذا شعبة بن الحجاج جبلٌ في حفظ السنة ما ركع قط إلا ظن الناظر إليه أنه نسي من طول الركوع، ولا قعد بين السجدتين إلا ظن الناظر إليه أنه نسي، ويقول بعض من رأى قيامه: كان يقوم يصلي حتى تتورم أقدامه.

وهذا سفيان الثوري يقول بعض من شاهده أمام الكعبة يصلي: رأيته ساجداً فطفت سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه، طاف سبعة أسابيع أي أنه طاف سبعة أطواف في كل طواف سبعة أشواط، ولا زال سفيان الثوري على حاله في السجود!

ولما قدم إلى اليمن قدم على عبد الرزاق الصنعاني، يقول عبد الرزاق: فأتيته بسَكْباج - وهو اللحم الذي طهي بالخل - وبزبيب من زبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق، أعْلِف الحمار، وكُدَّه، ثم قام يصلي حتى الصباح!.

فعلينا أن نتذكر هذه الكلمة حينما نجلس على ألوان الموائد، والأطعمة، والتي أصبحنا لا نعرف أسماءها، وأصبحت تجلب إلينا ألوان المطعومات من مشارق الأرض، ومغاربها نتقلب في هذه النعم، والله يقول: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] فهل تذكرت هذا حينما تجلس أمام المائدة، وأنت لا تعرف أسماء الكثير مما وضع عليها؟ هل قدمت في مقابل ذلك شكراً بجوارحك لله والله يقول: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:13]؟ هل صليت تلك الليلة؟ هل صمت اليوم الثاني، أم أننا في أحسن أحوالنا نحمد الله بلساننا فقط مع غفلة كبيرة في قلوبنا، وفي، واقعنا؟.

سفيان الثوري - رحمه الله - جلس مع أصحابه مرة، فصار يسألهم رجـلاً رجلاً عن عملهم بالليل ماذا تعملون؟ فأخبروه جميعاً، ثم سكت، فقالوا له: يا أبا عبد الله أخبرناك، فأخبرنا كيف تصنع؟ فقال: لها عندي أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها، فإذا استيقظت فلا أقيلها والله، أي أنه ينام نومة فإذا استيقظ فلا يقيل نفسه، ولا يرجع إلى فراشه مرة ثانية.

وأما الإمام أحمد إمام أهل السنة، والجماعة فكان - كما وصفه ابنه عبد الله - لا يفتر من الصلاة بين العشاءين، فيصلي بين المغرب، والعشاء، ويصلي بعد العشاء في ورده من صلاة الليل، وكان ساعة يصلي العشاء الآخرة ينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يصلي، ويدعو، ورآه المروثي مرة يقوم لورده قريباً من نصف الليل حتى يقارب السحر، قال: ورأيته يركع فيما بين المغرب، والعشاء، وكان يقرأ في كل يوم سبع القرآن، وقد يقول بعضنا: قد رقت عظامي، ووهنت، وبلغت من الكبر عتياً، فأقول: حتى مع الشيخوخة، وتقدم العمر بالإنسان لم يكونوا يفرطون في طاعة الله - تبارك، وتعالى -.

الأحنف بن قيس بلغ سناً كبيرة، وضعف، وشاب فكان يصوم، وكان أهله، ومن حوله يقولون: إنك ضعيف، والصوم يضعفك!! فكان يقول: إني أُعده لسفر طويل، وكان عامة صلاة الأحنف بالليل، وكان يضع أصبعه على المصباح، ثم يقول: حس، ويقول: ما حملك يا أحنف على أن صنعت في يوم كذا كذا، وكذا؟.

ونحن إذا أراد الواحد منا أن يصوم قال له الأب، أو الأم: إنك ضعيف، والصوم يضعفك، فلا يزالون به حتى يترك ما أراد من التقرب إلى الله مع أن صوم يوم في سبيل الله يباعد بين، وجهك، وبين النار سبعين خريفاً، وهذا مصداقاً لقول الله - تبارك، وتعالى -:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فهي عداوة كما قال ابن القيم - رحمه الله -: الجالب لها الشفقة، والمحبة؛ إذا أراد الإنسان أن يصوم قالوا: الصوم يتعبك شفقة عليه، فيترك الصوم، وإذا أراد أن يصلي الليل قالوا: هذا سهر يعقبه عناء، وعندك عمل، أو دراسة فيقعدونه، وإذا أراد أن يحج، أو يعتمر إن كان صغيراً قالوا: أمامك عمر طويل، وإذا كان كبيراً يقولون: أنت ضعيف، وإن كان قد حج، أو اعتمر يقولون: قد حججت، واعتمرت، وهكذا يقعدونه عن طاعة الله، ويثبطونه عنها، فلا يحصّل المراتب العالية عند الله فيفعلون به فعل عدوه الذي يقعده عن معالي الأمور، لكن فعلهم إنما كان الجالب له هو الشفقة، والمحبة.

إن صور التعبد التي ذكرناها عن السلف ليست فقط في حال الإقامة بل حتى في الأسفار، ونحن لربما نسافر فيعجز الواحد منا عن أن يوتر بركعة واحدة.

وهذا ابن عباس صحبه ابن أبي مليكة من مكة إلى المدينة فكان يصلي ركعتين على الراحلة، فإذا نزل قام شطر الليل، ويرتل القرآن حرفاً حرفاً، ويكثر في ذلك من النشيج، والنحيب، وكان بعضهم يقسم الليل على ثلاثة أقسام: قسم لمذاكرة العلم، وقسم ينام فيه، وقسم للصلاة، وكان عمرو بن دينار، وأبو عبيد القاسم بن سلام، والإمام الشافعي، وأبو هريرة، وجماعة من سلف هذه الأمة يفعلون ذلك.

وبعضهم كان يقسم الليل أثلاثاً لكن بطريقة أخرى، فكانوا يقسمونه على أهل الدار يقوم هذا، وينام الآخرون، ثم ينام هذا، ويقوم الآخر، ثم ينام هذا، ويقوم الثالث، وكان الحسن بن صالح مع أخيه، ومع أمه قد قسموا الليل أثلاثاً، فلما ماتت أمه قسموه على نصفين يصلي الحسن بن صالح شطراً، ويصلي أخوه الشطر الآخر، فلما مات عليٌّ كره الحسن بن صالح - رحمه الله - أن يقطع عادته من إحياء بيتهم بصلاة الليل فكان يصلي الليل جميعاً يقوم بورده، ويصلي الوقت الذي كان يصلي فيه أخوه، وأمه.

كم نسمع من مثل هذه الآثار، والأخبار لكن هل تؤثر فينا؟ هل تُغير من واقعنا شيئاً؟

إن السلف الصالح - رحمهم الله - كانت تؤثر فيهم الكلمة، وابن عمر - رضي الله تعالى عنه - لما شاهد رسول الله ﷺ إذا صلى الغداة يقعد لأصحابه، ثم يسألهم عن رؤيا رأوها فيخبرونه، ثم يؤوّل لهم ذلك، يقول: فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله ﷺ وكان شاباً أعزبَ ينام في المسجد، يقول: فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني الذئب، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال: فلقيهما ملَك فقال لي: لم تُرَعْ، يقول: فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله ﷺ فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل يقول سالم بن عبد الله بن عمر : "فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً[1]

إنها كلمة واحدة سمعها: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، حتى كان يصلي، ثم إذا قارب الفجر يقول لمولاه نافع: أسْحَرْنا؟ أي أدخلنا في السحر؟ فيقول: لا، فيعاود الصلاة، ثم يقول ذلك ثانية، وثالثة، ويقعد يستغفر، ويدعو حتى يصبح، وكان له محراب يقوم فيه، ويصلي - رضي الله عنه -.

هكذا كانت ليالهم، فلم تكن الليالي مشغولة أمام غرف المحادثات بجميع أنواعها في الإنترنت، ولم تكن لياليهم مشغولة أما الفوازير، والمسلسلات، والتمثيليات، والشقراوات اللاتي يستعرضن الفتنة أمام الصغير، والكبير، ولم تكن لياليهم تُقضى في القيل، والقال، ولعب الورق، والغيبة، والنميمة، والتجول في الأسواق. 

  1.  أخرجه البخاري في أبواب التهجد – باب: فضل قيام الليل (1070) (ج 1 / ص 378)، ومسلم في كتاب: فضائل الصحابة باب: من فضائل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (2479) (ج 4 / ص 1927).
حال السلف الصالح مع القرآن

هكذا كانت لياليهم معمورة بالصلاة، وأما قراءة القرآن فشأنهم عجب في رمضان، وفي غير رمضان، فقد كان الأسود النخعي يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب، والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ، وأما قتادة السدوسي فكان يختم في كل سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاءت العشر ختم في كل ليلة، وأما الشافعي فكان يختم في رمضان في كل شهر ستين ختمة، وفي غير رمضان في كل شهر ثلاثين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة، وأما البخاري صاحب الصحيح فكان يختم في النهار في كل يوم ختمة، ويصلي التراويح، ويقوم بعد التراويح بنفسه يختم في كل ثلاث في الصلاة بختمة؛ هؤلاء علماء، وهكذا كان ختمهم، وأما سعيد بن جبير فكان يختم في كل ليلتين، وعروة بن الزبير قد مضى خبره حيث كان يقرأ في المصحف نظراً ربعَ القرآن، ويقوم به في الليل في سائر أيام السنة، ولربما فات الواحد منهم، ورده فظل يبكي يومه حسرة على ما فاته من هذا الورد؛ وكما فعل كرز بن وبرة دخل عليه بعض أصحابه، وهو يبكي فقالوا له: ما يبكيك؟ قال: إن بابي لمغلق، وإن ستري لمسبل، مُنعت حزبي أن أقرأه البارحة، وما هو إلا من ذنب أحدثته، فليت شعري ماذا يقول الذي ليس له ورد أصلاً؟ والذي لا يوتر أصلاً ماذا يقول؟

قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "من واظب على ترك الوتر فهو رجل سوء، ترد شهادته، وتسقط عدالته" وهذا الإمام مالك إمام دار الهجرة، وعالم كبير، لم يشغله التلاميذ عن صلاة الليل، وقراءة القرآن، وقد سئلت أخته: ماذا كان شغله في البيت؟ فقالت: المصحف، والتلاوة، ليس في رمضان فقط، بل سائر أيام السنة. 

 
حال السلف الصالح مع رمضان

وأما صلاة التراويح إذا صلوا جماعة فقد صور لنا ذلك أبو الدرداء يقول: "لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة، فإذا أصبحت قال بعضهم: لقد خففت بنا الليلة".

وكان أبو رجاء العطاردي يختم بهم في رمضان في كل عشرة أيام ختمة، يعني أنه في الشهر يختم بهم في التراويح ثلاث ختمات، ونحن في الشهر لربما يخاف الإمام أن يزيد عن نصف وجه في الركعة الواحدة، وإذا سلم يترقب عله يزجر من هذا، أو ذاك؛ لأنه لربما قد أطال عليهم في هذه القراءة التي هي نصف صفحة.

أما الصلاة المكتوبة التي نحضرها في أطراف الصفوف، ولربما كان غاية همِّ الواحد منا أن يدرك التشهد، أو أن يدرك ركعة، ولربما فرح الواحد إذا كان يصلي الفجر قبل طلوع الشمس إذ إن كثيراً من المسلمين لا يصلون الفجر إلا بعد طلوع الشمس حينما يذهب إلى عمله!

أخبرني بعض الإخوة الذين سألوا تلامذتهم في المرحلة الابتدائية: كم عدد الصلوات في اليوم، والليلة؟ فأجاب بعضهم: ثلاث! فلما سئل لماذا؟ قال: لأني أذهب مع أبي في المغرب، والعشاء، والعصر، وبعضهم قال: أربع، وذكر الصلوات الأربع ما عدا الفجر، فهو لم ير والده يصلي الفجر قط.

ومن العجائب، والغرائب في رمضان أن الإمام إذا كان قد اعتاد أن يقرأ سورة السجدة، وسورة الدهر يوم الجمعة، وصلى بعض من لا عهد له بصلاة الفجر لربما قامت قيامتهم من هذا التطويل، مع أنه يقرأ طوال السنة بهاتين السورتين في فجر يوم الجمعة.

 
حال السلف الصالح مع الصلاة المكتوبة

كيف كانت محافظة السلف الصالح على الصلاة المكتوبة؟

لما طعن عمر بن الخطاب وأغمي عليه دخل المسور بن مخرمة - رحمه الله - وسأل عنه!! فقالوا: كما ترى، فقال: أيقظوه للصلاة، فكانوا يحركونه، ويكلمونه فلا يرد عليهم لكثرة ما نزف من الدماء، فماذا قال له المسور بن مخرمة؟ قال له: يا أمير المؤمنين، الصلاة، ففزع عمر، وأفاق، وقال:    هاالله إذن، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى، وإنَّ جرحه ليَثْعَب دماً، فلم يستطيعوا أن يوقظوه، وأن ينبهوه إلا بالصلاة لشدة حرصه عليها.

وهذا عدي بن حاتم يقول: ما جاء وقت صلاة قط إلا، وقد أخذت لها أهبتها، وما جاءت إلا وأنا إليها بالأشواق، وكان يقول: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء، أي ما دخل وقت الصلاة إلا وهو متوضئ، وما أقيمت إلا وهو مشتاق إليها، وقد تأهب لها، وهو بالمسجد.

وهذا سعيد بن المسيب - رحمه الله - كان يقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وبعض المؤذنين لربما يؤذن، ثم يخرج ليستنفع، أو يقضي بعض أشغاله - بزعمه - ثم يرجع؛ لأنه يستثقل هذا الوقت أن يقضيه في المسجد، ولربما الواحد منا إذا غلط في يوم فدخل المسجد، وهو يظن أنه قد أذَّن، ثم فوجئ أنه لم يؤذن أكلته الحسرة، والندامة على هذا الخطأ، وبدأ يفكر كيف يستدرك هذه الغلطة هل يخرج أم لا؟ إلى هذا الحد صار حالنا للأسف!.

يقول ابن المسيب: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، فكم مرة أذَّن المؤذن، وأنت في المسجد في عمرك جميعاً؟

وكان سعيد بن المسيب يقول أيضاً: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة - أي أنه كان يصلي في الصف الأول - فهل مرَّ علينا يومٌ واحد، ونحن ندرك التكبيرة الأولى مع الإمام في الفروض الخمسة؟ وهل حاولنا أن نربي أنفسنا على ذلك؟

كم يؤذن المؤذن، وتقام الصلاة، والواحد منا يتشاغل بإصلاح شيء تافه في داره؛ لربما يصلح لعبة، وملهاة للصبي، والمؤذن يؤذن، والناس يصلون، ثم تنقضي الصلاة، وهو لا زال في هذا الشغل العابث، ولا حول، ولا قوة إلا بالله.

هذا عامر بن عبد الله بن الزبير سمع المؤذن يؤذن لصلاة المغرب، وهو في مرض الموت فقال: خذوا بيدي، فقالوا: إنك عليل، فقال: أسمع داعي الله فلا أجيب؟! فأخذوا بيده فدخل مع الإمام لصلاة المغرب فركع الركعة الأولى، ثم سقط فمات، نعم مات، وهو يصلي!!.

واليوم لربما يصيب الإنسانَ الشيءُ اليسير فيترك الصلاة في المسجد أسبوعين، أو أكثر، كأن تُجرى له عملية بسيطة مثل سحب المياه الزرقاء، أو البيضاء من عينه، فلربما جلس أسبوعين لا يصلي مع الجماعة في المسجد، فأي زهد في الطاعة أصابنا؟

هكذا كانت حال السلف، فما هي حالنا؟! هكذا كانت عبادتهم، فهل كان ذلك حاملاً لهم على السآمة من الطاعة؟ هل كانوا يصلون بضجر؟ ويقومون الليل بتكاسل، وتثاقل، وإذا جنَّ الظلام بدأت تنتابهم الهموم لما ينتظرهم من القيام؟ هل كانوا كذلك؟

أبداً، بل كانوا يحبون العبادة غاية المحبة، فهذا الفضيل بن عياض يصور هذا المعنى فيقول: إذا غربت الشمس فرحت بالظلام؛ لخلوتي بربي.

وهذا أبو سليمان الداراني يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللذات في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.

وهذا محمد بن المنكدر يقول: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث، ما هي؟ أهي مشاهدة القنوات أم مجالس الغيبة، والنميمة، والاستراحات، وقضاء الليل فيها بلا طائل؟

لا، بل هي كما يقول ابن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان - يعني الَّذين يذكرونه بالله - والصلاة في الجماعة.

ويقول مسروق: ما بقي شيء يُرغب فيه إلا أن نعفر، وجوهنا في التراب، وما آسى على شيء - يعني ما أتأسف على شيء - إلا السجود لله تعالى.

وكان الواحد منهم عند موته يبكي ليس أسفاً على هذا الحطام الدنيوي الذي سيفارقه، وإنما يبكي أسفاً، وحزناً على فراق صلاة الليل، وصيام النهار.

احتُضِر عامر بن عبد القيس فبكى فقيل له: أتجزع من الموت؟ فقال: وما لي لا أبكي، ومن أحق بذلك مني؟ والله ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على دنياكم رغبة فيها، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، يعني الصيام، والهاجرة هي العطش في شدة الحر في منتصف النهار، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومعلوم أن ليل الشتاء طويل، فهو كان يتأسف على فراق هذه الأمور، ويحزن، ويبكي عند موته.

ولما احتضر عبد الرحمن بن الأسود النخعي بكى كذلك فلما سئل؟ قال: أسفاً على الصلاة، والصوم، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات، بل كان ثابت البناني - رحمه الله - يدعو ربه، ويقول: اللهم إن كنت أعطيت أحداً الصلاة في قبره فأعطني الصلاة في قبري!!.

ما كانوا يتضجرون من الصلاة، ولا يتثاقلون عنها؛ لأنهم روضوا أنفسهم على ذلك؛ وجاهدوها في أول الأمر حتى استقامت لهم، ولهذا يقول ثابت البناني نفسه: كابدت الصلاة عشرين سنة - أي بالمجاهدة - وتنعمت بها عشرين سنة.

وكان محمد بن المنكدر من أئمة التابعين، كان يقول واصفاً حاله بالليل: "إني لأدخل في الليل فيُهْوِلُني فينقضي فأصبح حين أصبح، وما قضيت منه إربي" أي لا أشبع إذا دخل الليل حيث أبدأ بالصلاة فيتقطع الليل - يتصرم، ويمضي - ولم تشبع نهمته من الصلاة، كأنه مرَّ بلحظات، واللحظات السعيدة جداً عند الإنسان تمضي سريعاً؛ أما ترون يوم العيد كأنه أقصر من غيره من الأيام؟ أما ترون أيام الأحزان كم هي طويلة؟ فاللحظات السارة تكون أسرع في نظر الإنسان، لا يشعر بالوقت، وهو يمضي؛ فإذا جلس الإنسان في مجلس يأنس فيه انقضى عليه الزمان، وهو لم يشعر به، فهذا يدخل في الليل يصلي يقول: فينقضي انقضاءً سريعاً، ولم يشبع من هذه الصلاة.

 
حال السلف مع الحج

حج السلف عجب، فبعضهم حج أربعين حجة كسعيد بن المسيب، وكان ابن عباس على عبادته، وتشميره في طاعة الله يقول: "ما ندمت على شيء فاتني في شبابي إلا أني لم أحج ماشياً".

ولقد حج الحسن بن علي خمساً، وعشرين حجة ماشياً؛ وإن النجائب لتقاد معه، وأما طاوس بن كيسان فقد حج أيضاً أربعين حجة، وحج عطاء أكثر من سبعين حجة.

وكان ابن وهب قد قسم دهره أثلاثاً، فجعل ثلثاً في الرباط في سبيل الله في الجهاد، وجعل الثلث الآخر في تعليم الناس العلم، وجعل الثلث الثالث في الحج، وكان قد حج ستاً، وثلاثين حجة.

وأما مكي بن إبراهيم الحنظلي فقد حج خمسين حجة، وحج أيوب السختياني - رحمه الله - أربعين حجة، وحج سفيان بن عيينة ثمانين حجة، يقول: شهدت ثمانين موقفاً - يعني عرفة - والواحد منا إذا حج حجة، أو حجتين تكاثر ذلك، وتكاثر مَن حوله ذلك منه، وربما يردد عبارات نسمعها لتثبيط أنفسنا، وتثبيط غيرنا عن هذه العبادة، وهذا عيسى بن يونس غزا خمساً، وأربعين غزوة، وحج خمساً، وأربعين حجة، وهذا عمارة بن زادان حج سبعاً، وخمسين حجة، وحج أبو عمرو العدني سبعاً، وسبعين حجة، فكم حجة حججتها أنت؟ 

 
حال السلف الصالح مع الخوف

ومع هذا العمل الكثير الذي عمله السلف هل ترهلوا؟ هل دلّوا على الله بعملهم، ورأوا أنهم قدموا الكثير، وأن الجنة ضمان من الله لهم، وجلسوا على بابها يحكمون فلان فاجر، وفلان مبتدع، وفلان زنديق، وفلان ضال... هل فعلوا ذلك؟

الجواب: لا، لأنهم كانوا في غاية الخوف من الله - تبارك، وتعالى - فكان الواحد إذا تبع الجنازة بكى، حتى إن ثابت البناني يصور حالهم عند الجنائز يقول: "كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعاً باكياً - يغطي، وجهه يبكي - أو متقنعاً متفكراً" وكان الأعمش يقول: "إنْ كنا لنشهد الجنازة فلا ندري مَن نعزي مِن حزْن القوم".

واليوم تجد من الناس من يدخن في المقبرة، والبعض ربما يتحدث عن العقارات، ويقول بعض الطرائف، والنكت، ولا يرى الموت واعظاً.

وكان يحيى بن أبي كثير إذا حضر جنازة لم يتعشَّ تلك الليلة؛ ولا يقدر أحد أن يكلمه لما فيه من الحزن، بل كان سفيان الثوري - رحمه الله - إذا ذكر الموت لم يُنتفع به أياماً، وكان إذا ذُكر عنده الموت يكون في غاية الوجل؛ وإذا سئل عن شيء يقول: لا أدري لا أدري.

ولما أراد عبد الله بن رواحة الخروج إلى مؤتة من أرض الشام، وجاءه أصحابه يودعونه فبكى فقيل له: ما يبكيك..الخوف، والجزع؟

قال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة لكم، ولكني سمعت رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] فقد علمت أني وارد النار، ولا أدري كيف الصدور بعد الورود؛ فلاحظْ - أخي الكريم - هذا الرجل من أصحاب رسول الله ﷺ وهو أحد القادة الثلاثة حيث خرج غازياً في سبيل الله، وعقد لهم هذا اللواءَ أشرفُ من وطِئ على الأرض رسول الله ﷺ ومع ذلك يبكي يقول: لا أدري إذا وردت النار هل أخرج منها، أو لا أخرج، يقول ذلك، وهو في موقف عظيم، في خروج للغزو في سبيل الله !!.

وكان ابن عمر إذا قرأ قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] يبكي، ويغلبه البكاء، وكان لربما شرب ماءً بارداً فبكى، واشتد بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت آية في كتاب الله :  وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئاً كما يشتهون الماء البارد، وقد ذكر الله قولهم: أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [الأعراف:50] فلاحظ كيف كانوا يتفطنون إلى معانٍ لا نتفطن لها نحن!!

وكان إذا قرأ آيتين من سورة البقرة بكى وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهٌُ [البقرة:284] ويقول: إن هذا الإحصاء شديد، وكان في وجنتي ابن عباس موضع كالشراك البالي فيه خطان أسودان من كثرة البكاء.

وبكى عبد الله بن رواحة ليلة فبكت امرأته معه، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك بكيتَ فبكيتُ، فقال: إني أنبئت أني وارد - يعني النار - ولم أنبأ أني صادر.

ويقول بعض من رأى الحسن البصري - رحمه الله -: ما رأيت أحداً أطول حزناً منه، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة، وكان الحسن يقول: "إن المؤمن يصبح حزيناً، ويمسي حزيناً، ولا يسعه غير ذلك؛ لأنه بين مخافتين، بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك".

ويقول إبراهيم التيمي - رحمه الله -: "ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن أهل الجنة قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف ألا يكون من أهل الجنة؛ لأنهم قالوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26].

ويقول الحسن:" يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيامة بين يدي الله تعالى مشهده أن يطول حزنه".

بل كان بعضهم إذا وجد من قلبه قسوة لا يحتاج أن يتكلف دواءً، وإنما يقول:" كنت أنظر إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أنه وجه ثكلى؛ من كثرة البكاء، والحزن.

فهم لم يكونوا سادرين في لهوهم، وغيهم، وغفلتهم، ولم يكن الواحد منهم يضحك ملء فيه، ويعيش في فكاهة دائمة.

وكان علي بن الحسين زين العابدين إذا قام إلى الصلاة ارتعد، وإذا توضأ اصفر لونه، فسئل عن هذا، فقال: أتدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟!

لقد كان السلف الصالح بهذه المثابة من الخوف مع كثرة عبادتهم؛ ومع ذلك كانوا في غاية الإخلاص، وإخفاء العمل، والخوف ألا يقبل الله منهم في شائبة شابت هذه الأعمال.

وكان أبو وائل شقيق بن سلمة - رحمه الله - إذا صلى في بيته نشج نشيجاً لو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله؛ وما كان يتكلم، أو إذا صلى بالناس فيتعمد التباكي أمام الناس، فهذا أمر لا يسوغ، بل ينبغي للإنسان أن يخفي بكاءه، ويخفي عبرته، ولقد كان سفيان الثوري - رحمه الله - إذا غلبه البكاء في مجلس وضع المنديل على وجهه، أو على أنفه، وقال: ما أشد الزكام، ثم يقوم؛ لئلا يراه الناس، وهو يبكي، ولذلك يقول أيوب السختياني: "ما صدق عبد ربه إلا سره أن لا يُشْعَر بمكانه". 

حال السلف الصالح مع التواضع

ولقد كانوا في غاية التواضع، فهذا يونس بن عبيد يقول: "إني لأعد مائة خصلة من خصال البر ما فيَّ منها خصلة واحدة" ما هذه العبادة؟ وما هذا الإخلاص؟ مع ما عرف عنه من التشمير، والاجتهاد فإنه يقول: ما فيَّ من المائة خصلة واحدة منها.

 
حال السلف الصالح مع المجاهدة

أقول: إذا عرفت هذا الكلام، وهذه الحال التي كانوا عليها؛ فهناك أمور ينبغي التبصر بها، منها: أن هذه المرتبة لا يوصل إليها إلا بعد المجاهدة المتواصلة العظيمة كما مر من قول محمد بن المنكدر: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت" أربعين سنة، وهو يقوِّم نفسه، ويجاهدها على طاعة الله وقول ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة، واستمتعت بها عشرين سنة، فالمجاهدة أمر لابد منه.

 
الناس طاقات، وقدرات

وأمر آخر: إذ لا شك أن الناس طاقات، وقدرات، فمنهم من يُفتح عليه في صلاة الليل، وقراءة القرآن؛ ومنهم من يفتح عليه في الصيام، ومنهم من يفتح عليه في غير ذلك، فهذا عبد الله العمري لما كتب للإمام مالك يعاتبه على التشاغل بالعلم، ويقول: عليك بالعبادة، والصلاة، وكثرة النوافل، وكثرة قراءة القرآن، رغم أن شغل الإمام مالك في بيته كان كما ذكرت أخته: المصحف، وقراءة القرآن؛ فكتب إليه الإمام مالك رداً بديعاً يقول: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة، ولم يفتح بالصوم، وآخر فتح له بالجهاد، فنشر العلم من أعظم أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، وبِرّ".

إن المشكلة هي فيمن لم يُفتح له في هذا، ولا في ذاك، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس، وهناك حد أدنى من الصيام، ومن قراءة القرآن، وقد يكون العبد مشمراً في باب من الأبواب لكنه محافظ على الحد الأدنى في بقية الأبواب؛ أما الجفاف التام، والإعراض الكلي عن قراءة القرآن مثل أن تمر السنة، ولا يختم فهذه رزية ليس بعدها رزية، أو أن ينام ملء جفنيه، وحتى الوتر لا يوتر بركعة فهذا أمر في غاية الصعوبة، أو أن لا يعرف الصيام إلا في شهر رمضان فهذا أمر لا يليق، فالقدرات متفاوتة.

عبد الله بن مسعود أنكر عليه أصحابه قلة الصيام؛ وقد كان ابن مسعود يصوم الإثنين، والخميس، والأيام البيض، فقالوا له: صومك قليل، فأقرهم على أن هذا فعل قليل، لكنه اعتذر بعذر فقال: إني أخاف أن يضعفني عن القراءة، والقراءة أحب إلي من الصيام، فلاحظ ما هو البديل له ؟ يقول: القراءة أحب إليَّ من الصيام، وفي رواية: إني أختار الصلاة على الصوم، فإذا صمت ضعفت عن الصلاة.

وجاء من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي ﷺ دخل عليها، وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالوا: امرأة تصلي فلا تنام، فقال ﷺ:  عليكم من العمل ما تطيقونه، فوالله لا يمل الله حتى تملوا[1].

كان أحب الدِّين إليه ﷺ ما دام عليه صاحبه، وهذه لفتة أخرى، وهي: أن الإنسان يتحمل من العمل ما يطيق؛ لأن من مقاصد الشارع بتعبدنا بهذه الشريعة كما قال الشاطبي - رحمه الله -: هو الدوام على العبادة، أن نتكلف من العمل شيئاً لا يوصلنا إلى حد السآمة، والضجر، والانقطاع، وهذا الذي يحصل دائماً، حيث يتحمس الإنسان فيصلي إحدى عشرة ركعة - ليلاً طويلاً - ولا عهد له بالقيام، وبعد أن يصلي ليلة، أو ليلتين ينقطع عن الصلاة، بل ينام حتى عن الوتر، ولربما نام عن صلاة الفجر، فينبغي للإنسان أن يتحمل من العمل قدراً يطيقه، ويستمر على ذلك؛ ثم يتدرج بعده، أما التكلف الذي يفضي إلى حد حمل النفس على ما لا تطيق فهذا أمر لا ينبغي، ولذلك جاء من حديث أنس أن النبي ﷺ دخل فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب تصلي، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي ﷺ: لا، حلوه، ليصلِّ أحدُكم نشاطَه فإذا فتر فليقعد[2].  

  1.  أخرجه البخاري في أبواب التهجد، باب: ما يكره من التشديد في العبادة (1100) (ج 1 / ص 386)، ومسلم -واللفظ له- في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد (785) (ج 1 / ص 542).
  2.  أخرجه البخاري في أبواب التهجد – باب: ما يكره من التشديد في العبادة (1099) (ج 1 / ص 386)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد (784) (ج 1 / ص 541).
اغتنام أوقات الإقبال لاسيما في شهر رمضان

وأمر آخر أوجه به نفسي، وأوجه به إخواني، وهو أن النفس لها حالات من الإقبال، والإدبار، فيغتنم الإنسان أوقات الإقبال لاسيما في شهر رمضان، فالنفوس تكون مقبلة على الطاعة، فيتلطف الإنسان بها، وإن شهراً كاملاً يصومه الناس، ويقومون ليله لهو كافٍ غاية الكفاية في ترويض النفس على ما تحب؛ فلو أن الإنسان تفطن لهذا المعنى، وجعل لنفسه برنامجاً متدرجاً بعد رمضان؛ لأن رمضان فرصة عظمى لتغيير ما في نفوسنا، وأحوالنا، فإنه ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة[1] وفي رواية: فتحت أبواب الرحمة[2] فإذا فتحت أبواب الجنة، وأبواب الرحمة تهيأت النفوس للطاعة.

قال - عليه الصلاة، والسلام -:  وغلقت أبواب النار[3] وهذا داعٍ لانكفاف الناس عما لا يليق، يقول: وصفدت الشياطين[4] وفي رواية: وتغل فيه مردة الشياطين[5]: أي تصفد الشياطين التي تؤز الناس إلى معصية الله فيستريح العباد؛ ويعملون بطاعة الله من غير مزعجات من الوساوس، والأفكار، والدواعي المشغلة مما يلقيه الشيطان في قلوبهم.

ومع الصوم تعظم الفرصة للطاعة، والانكفاف عن المعصية، لأن البطن إذا جاع شبعت الجوارح؛ إذ يذبل الإنسان، ويكون في حالٍ لا يفكر فيها بمعصية الله هذا إذا راعينا المقصود من الصيام.

ثم إن البيئة التي تحيط بك تعينك على الطاعة، فالناس جميعاً في صيام، ويصلون التراويح، ويقرؤون القرآن في المساجد، ولو جلس الإنسان لوحده في المسجد يقرأ القرآن لربما يستثقل ذلك، فإذا رأى المسجد قد امتلأ فإن ذلك يكون داعياً لنشاطه في القعود، وقراءة القرآن، هذا بالإضافة إلى المقصود الأعظم من شرع الله الصيام، وذلك أن تحفظ الجوارح، والنبي ﷺ يقول: من لم يدعْ قول الزور، والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه، وشرابه[6].

ويقول - عليه الصلاة، والسلام - كما عند الطبراني: من لم يدع الخَنا، والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه، وشرابه[7]ويقول: الصيام جُنّة[8] وفي رواية: الصوم جُنّة من النار[9].

يقول - عليه الصلاة، والسلام -:  وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم[10].

وكان - عليه الصلاة، والسلام - يقول: ليس الصيام من الأكل، والشرب، إنما الصيام من اللغو، والرفث، فإن سابّك أحد، أو جهل عليك فلتقل: إني صائم، إني صائم[11].

ويقول أيضاً ﷺ:  رُبّ صائم حظه من صيامه الجوع، والعطش، ورُبّ قائم حظه من قيامه السهر[12].

فينبغي للإنسان أن يتلطف بنفسه، وأن يجعل له خطة يسير عليها، فإن كنت ممن لا يعرف الوتر فحافظ على الوتر بعد رمضان سنة كاملة توتر بثلاث، ثم السنة التي بعدها بخمس، ثم السنة التي بعدها بسبع، ثم السنة التي بعدها بتسع، وهكذا بعد سنوات قليلة تبلغ بإذن الله مناك إن أراد الله لك البقاء 

ولتتقدمْ في السنة مرة واحدة، فإن الإمام أحمد - رحمه الله - يقول بعضُ مَن صحبه: صحبته خمساً، وعشرين سنة فما دخلت عليه في يوم إلا وهو في زيادة عن اليوم الذي قبله؛ وابن القيم يقول: "من استوى يوماه فهو مغبون، ومن لم يكن إلى زيادة فهو حتماً إلى نقصان" فإذا كان العبد لا يعرف الصوم إلا في رمضان فليصم هذه السنة الستة من شوال، وعرفة، وعاشوراء، ثم في السنة التي بعدها يصوم الأيام البيض، والسنة التي بعدها يصوم يوماً في الأسبوع سواء كان يوم الإثنين، أو الخميس، والسنة التي بعدها يصوم كل إثنين، وخميس، والسنة التي بعدها يصوم من شعبان، والمحرم يوماً، ويفطر يوماً؛ والسنة التي بعدها يصوم عامة شعبان، وجميع المحرم، وسيجد أن ذلك أمرً يسير ميسور - بإذن الله والنفس على ما تعودت.

وهكذا الصلوات المكتوبة، وهكذا في النوافل فإذا كنت لا تحافظ على الصلاة فحافظْ عليها، وإذا كنت لا تأتِ إلا متأخراً فاجتهد أن تأتي في تكبيرة الإحرام سنة كاملة، وصارع النفس على ذلك، ثم السنة التي بعدها اجتهد أن لا يؤذن المؤذن إلا وأنت في المسجد؛ وإذا كنت لا تصلي السُّنة الراتبة فصلِّها، واجتهد في ذلك، وروض نفسك على هذا سنة كاملة، وفي قراءة القرآن إن كنت لا تختم في السنة اختم في هذا الشهر ختمة، أو ختمتين؛ ثم اختم بعد رمضان في كل أربعين ليلة ختمة؛ ثم في السنة التي بعدها في كل خمس، وثلاثين، ثم السنة التي بعدها في شهر، ثم التي بعدها في خمس، وعشرين، ثم تجد نفسك بعد عشر سنوات قد بلغت ما تريد - بإذن الله  - أما أن يبقى الإنسان على حاله كما كان قبل عشر سنوات فهذا أمر لا يليق. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق – باب: صفة إبليس وجنوده (3103) (ج 3 / ص 1194)، ومسلم في كتاب: الصيام – باب: فضل شهر رمضان (1079) (ج 2 / ص 758).
  2.  صحيح مسلم - كتاب: الصيام – باب: فضل شهر رمضان (1079) (ج 2 / ص 758).
  3.  صحيح البخاري - كتاب: بدء الخلق – باب: صفة إبليس وجنوده (3103) (ج 3 / ص 1194)، وصحيح مسلم - كتاب: الصيام – باب: فضل شهر رمضان (1079) (ج 2 / ص 758).
  4.  المصدر السابق.
  5.  سنن النسائي – كتاب: الصيام باب: ذكر الاختلاف على مَعْمرٍ فيه (2106) (ج 4 / ص 129)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: "صحيح لغيره"، انظر الحديث رقم (999).
  6.  أخرجه البخاري في كتاب: الصوم - باب: من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1804) (ج 2 / ص 673).
  7.  أخرجه الطبراني في الأوسط (3622) (ج 4 / ص 65)، وفي الصغير (472) (ج 1 / ص 286)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ( 1080).
  8.  أخرجه البخاري في كتاب: الصوم – باب: هل يقول إني صائم إذا شُتم (1805) (ج 2 / ص 673)، ومسلم في كتاب: الصيام – باب: فضل الصيام (1151) (ج 2 / ص 806).
  9.  أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم -  باب: ما جاء في فضل الصوم (764) (ج 3 / ص 136)، والنسائي في كتاب: الصيام - ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم برقم (2231) (ج 4/ ص 167)، وابن ماجه في كتاب: الصيام – باب: ما جاء في فضل الصيام (1639) (ج 1 /ص 525)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3879).
  10.  أخرجه البخاري بهذا اللفظ في كتاب: الصوم – باب: هل يقول: إني صائم إذا شُتم (1805) (ج 2/ ص 673)،  وأخرجه مسلم بلفظ: (إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)، انظر: صحيح مسلم – كتاب الصيام – باب: حفظ اللسان للصائم (1151) (ج 2 / ص 806).
  11.  أخرجه ابن خزيمة (1996) (ج 3 / ص 242)، وابن حبان (3479) (ج 8 / ص 255)، والحاكم (1570) (ج1 / ص 595)، والبيهقي (8096) (ج 4 / ص 270)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5376).
  12. أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد (8843) (ج 2 / ص 373)، وابن خزيمة (1997) (ج 3 / ص 242)، وابن حبان (3481) (ج 8 / ص 257)، والحاكم (1571) (ج 1 / ص 596)، والطبراني في الكبير (13413) (ج 12 / ص 382)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3490)، وأصله في سنن ابن ماجه بلفظ: (رب صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)، انظر: سنن ابن ماجه في كتاب الصيام – باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم (1690) (ج 1 / ص 539) وصحيح الجامع للألباني برقم (3488).
ختم السلف للقرآن في ليلة

وأما ما يتعلق بقراءة السلف للقرآن كله في كل ليلة، أو ليلتين فربما يسأل عنها البعض، فأقول: لم يفهموا التحريم من حديث رسول الله ﷺ: لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث[1] وإنما فهموا أن ذلك يتعلق بالفقه؛ فكان لهم ورد يتفقهون به، وكان لهم ورد للقراءة، والتعبد فهكذا فهموا، ومع هذا لا أقول: اقرءوا القرآن في ليلة، ولا في ليلتين، ولا في ثلاث، بل اقرءوا القرآن في كل شهر، فلا يكون شغلكم في الوقوف على بعض الأمثلة، والشغب عليها فتضيع عليكم الفائدة، وقد استبعدتُ أشياء كثيرة من أحوال السلف مما تنبو عنها الأسماع، ولا يدركه كثير من السامعين.

هذه وصايا، وتوجيهات أوجهها لنفسي لأني أحوج إليها؛ وأذاكر بها إخواني، وأسأل الله أن ينفعنا، وإياكم بما نسمع، وأن يجعلنا، وإياكم هداةً مهتدين، وأسأله أن يبارك لنا، ولكم، وأن يغفر لنا، ولكم أجمعين، وأن يجعل هذا حجة لنا لا حجة علينا؛ وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته؛ وأن يصلح قلوبنا، وأعمالنا، وصلى الله، وسلم، وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1.  أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة – باب: في كم يقرأ القرآن؟ (1390) (ج 1 / ص 442)، والترمذي في كتاب: القراءات – باب: ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف (2949) (ج 5 / ص 198)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها – باب: في كم يستحب بختم القرآن؟ (1347)، وأحمد (6535) (ج 2 / ص 164)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2201).

مواد ذات صلة