- المقصود بأخلاق الكبار
- إذا ركن الإنسان إلى أصل مادته؛ جذبته إلى أسفل
- من أخلاق الكبار: الإمام أحمد بن حنبل
- من أخلاق الكبار: شيخ الإسلام
- من أخلاق الكبار: الإمام الشافعي
- من أخلاق الكبار: ابن هبيرة
- من أخلاق الكبار: أم المؤمنين صفية
- من أخلاق الكبار: عبد الله بن مسعود
- من أخلاق الكبار: زين العابدين
- من أخلاق الكبار: عمر بن عبد العزيز
- من أخلاق الكبار: الإمام مالك
- من أخلاق الكبار: ابن هبيرة
- من أخلاق الكبار: الأحنف بن قيس
- كيف تتصرف حينما يتصرف أحد المدعوين نحوك بتقصير، أو بكلمة، أو بفعل لا يليق؟
- أخلاق النبي ﷺ مع الأطفال
- من أخلاق الكبار: القاسم بن محمد
- أخلاق النبي ﷺ مع أهله
- من أخلاق الكبار: ابن عون
- من أخلاق الكبار: أم حبيبة
- ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتقم
- تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا
- من أخلاق الكبار: جبير بن مطعم
أيها الإخوة: حديثنا معكم في هذه الليلة عن أخلاق الكبار، وإنما نعني بالكبار أصحاب النفوس الكبيرة، الذين يحلقون عالياً، ويترفعون عن الدنايا، وسفساف الأمور، فتعلوا هممهم عن الدوران في الوحل، والحضيض، ويسمون عالياً، فلا يدور الواحد منهم حول نفسه، ترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويعجبه المدح، ويسوؤه الذم، يقاطع هذا لأنه ذمه، ويحب هذا لأنه مدحه، ويعادي هذا لأنه جرحه، يدور مع نفسه حيث دارت، يرضى من أجلها، ويسخط من أجلها، يحب لها، ويغضب لها، فهذا صاحب نفس دنية، رضي بأن يكون مع نفسه في الهاوية، وحرم نفسه جنة قبل جنة الآخرة، وهي انشراح الصدر، والأنس، والسعادة التي تحصل بالترفع، والعلو عن الدنايا، وسفساف الأمور؛ هؤلاء هم الكبار الذين سنتحدث عنهم، هم أصحاب النفوس الكبيرة، ولا أعني بالكبار هم من تقدم بهم السن، وطال بهم العمر، ولا أعني بهم من تبوؤوا المناصب العالية، وحصلوا الرتب الرفيعة، إنما أتحدث عن أصحاب نفوس كبرى، وصدور واسعة، لا يلتفتون إلى أنفسهم، ولا يقفون عندها، وإنما تعنيهم المصالح الكبرى للإسلام، فهؤلاء حري بنا أن نتحدث عن أخلاقهم، وأوصافهم، وأن نشيع هذا الحديث، وهذا الموضوع أطرحه لشدة الحاجة إليه، فنحن بحاجة إلى مذاكرته؛ لأننا كثيراً ما نغفل عن هذه المعاني، فكم من خِطبة قد فسخت، وكم من أسرة قد شتت، وكم من محبة تحولت إلى عداوة، وكم من شراكة في عمل دنيوي، أو في عمل دعوي قد تشتت، وتشرذمة، وكم من علاقات قد تقطعت أواصرها بسبب تدني النفوس، والوقوف عند حظ النفس، فيرضى الإنسان لأجلها، ويغضب لأجلها، يكون الإنسان منتصراً لنفسه على أي حال كان، ولا يقبل من أحد أن يصدر منه تجاهه خلل، ولا تقصير، ولا نقص؛ وإن حصل شيء من ذلك فلا عفو، ولا مسامحة، ولا تذكر لصنائع المعروف القديمة؛ وأواصر المحبة، والروابط التي جمعت بين هؤلاء المتحابين ينسى ذلك جميعاً، وينقلب رأساً على عقب مبغضاً شانئاً لهذا الإنسان الذي تصور أنه تنقصه، وأنه قصر في حق من حقوقه، فلماذا هذا التدني؟ لماذا يجعل الإنسان نفسه بهذه المثابة؟
أقول - أيها الإخوة -: هو الركون إلى أصل خلقته، ومادته الأولى التي خلق منها، وهي الطين، فالإنسان خلق من عنصرين اثنين: قبضة من الطين، ونفخة من الروح، فإذا ركن الإنسان إلى أصل مادته، وهي الطين فإنها تجذبه، وتشده إلى أسفل، فتتدنى أخلاقه، وتسوء، ويصدر منه ما لا يليق، وما يخجل العاقل منه إذا تبصره، وتذكره، وإذا كسر الإنسان هذه الآصار، والقيود، والأغلال حلق عالياً، وارتفع، وتسامى بأخلاقه فتجاوز نفسه، وجعلها خلف ظهره، فلم يعد ذلك الإنسان الذي ترضيه الكلمة، وتسخطه الكلمة، يتجاوز هذه المرحلة، ثم بعد ذلك يتعامل مع الآخرين بصدر واسع، وبنفس كبيرة، فيتحمل منهم الصدمات، والكدمات، والأخطاء، والعيوب؛ ويتحمل منهم كل ما صدر تجاهه من تقصير في حقه الخاص، ولا يصلح لمن أراد أن يحصل المراتب العالية إلا هذه الأخلاق، وهذا الأمر حينما نتحدث عنه لا نوجه الحديث إلى قوم آخرين إنما أوجه الحديث إلى نفسي أولاً، وأوجهه إليكم ثانياً، فلا يظنن أحد أن الخطاب بهذا الموضوع يراد به غيره، بل أحضر قلبك، وفكِّر في حالك، وكن ممن يسمع لينتفع، وليغيِّر، فجدد حياتك، ونقِّ أخلاقك، وقوِّم سلوكك، وارجع إلى أهلك من هذه الليلة بوجه جديد، وارجع إلى أصحابك، وقومك بوجه جديد، وبنفس أخرى تتجاوز هذه الحظوظ الشخصية النفسانية التي تجعلك صغيراً.
هذا الموضوع يخاطب به العلماء، ويخاطب به طلاب العلم، ويخاطب به الدعاة إلى الله ويخاطب به أصحاب الولايات من الملوك، والرؤساء، والأمراء، وكل من له ولاية صغرت، أم كبرت، ويخاطب به الآباء، والأمهات، ويخاطب به المربون، والمعلمون، وعامة الناس، يخاطب به كل طالب من طلاب الكمال، لا أحد يرضى بحال من الأحوال أن يوصف بدناءة النفس، و صغر الهمة، وانحطاطها، يعيش في عطن ضيق، ونفس صغيرة، لو وجهت هذه الأوصاف لإنسان لغضب منك، وما احتمل ذلك، وأباه كل الإباء، وهذا يعني أن الجميع يتفقون على استحسان هذه الصفة، وهو الشأن في الحديث عن قضايا الأخلاق، فهو حديث جميل، شيق، تعشقه النفوس، وتنجذب إليه، ولو كانت دعوة الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - منصبة على الأخلاق فحسب دون القضايا الأخرى الكبرى وهي قضايا التوحيد، والشرك لهتف الناس جميعاً يؤيدونهم، ويتبعونهم لأنه حديث يوافق عليه الجميع، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - يقول: "لو دعوت الناس إلى الأخلاق الحسنة، وترك القبائح كالزنا، والسرقة لوافقني على ذلك الجميع" فهو حديث يوافق عليه الموالف، والمخالف، وكل الناس يستحسنون ذلك، ويعشقون سماعه، ولكن التطبيق شيء آخر، التطبيق هو المحك الذي تتبدى فيه معادن الناس، وتنجلي فيه النفوس، وتظهر حقائقها، فليست العبرة بأن يستحسن الإنسان سماع خلق حسن، إنما العبرة بالعمل، والتطبيق.
ليست الأحلام في حال الرضا | إنما الأحلام في حال الغضب |
فليست الأخلاق الفاضلة أن توزع ابتساماتك في حال الرضا مع أصحابك، وجلسائك؛ إنما الأخلاق الصحيحة الحقيقة هي أن تسموا بنفسك في جميع الظروف، والأحوال، وتترفع عن الدنايا، وسفساف الأمور، وهذه هي الأخلاق التي ينبغي أن يكون الإنسان عليها، وقد وصف الله نفسه، وسمى نفسه بـ" العَفُـوْ" والعفو صفة من صفاته، وهي صفة عظيمة كريمة تعني التجاوز عن الذنب، والزلة، وعدم المؤاخذة بالجريرة، وترك المعاجلة بالعقوبة، فهو عفو حليم كريم يحب العفو، نسأله - تبارك، وتعالى - أن يتغمدنا جميعاً بعفوه، وكرمه، ولطفه، وحلمه.
أيها الإخوة: ينبغي لكل واحد منا أن يسأل نفسه بعدما عرف توصيف هذه الخلة: هل هو من أصحاب النفوس الكبيرة؟ هل هو متحلٍ حقيقة بهذا الوصف الذي اجتمعنا من أجل الحديث عنه، أم أنه قد قصر في هذا الباب تقصيراً بيناً، فأدى ذلك، وأثر أموراً سيئة، مستهجنة من عداوات، وأحقاد، وتربص بتصفية الحسابات مع هذا، أو ذاك؛ وكثيراً ما يختلط علينا الأمر بين الانتصار للدين، وبين الانتصار للنفس، فأحياناً يخرج الإنسان غاضباً يريد الانتصار، والانتقام، ويريد الإيقاع بخصومه، ومخالفيه، ويخرج بوجه مكفهر، وهو بذلك قد تلبس، وتدثر بدثار يقول فيه إنه ينتصر للدين، والعقيدة، والإيمان، ويفعل ذلك غيرة على شرائع الإسلام، فيلتبس الأمر عليه بين الانتصار لنفسه، وبين الانتصار لدين الله - تبارك، وتعالى - كما يلتبس كثيراً علينا أمر العزة، وأن المؤمن عزيز فالعزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين، كثيراً ما تلتبس هذه العزة عزة النفس مع الانتقام، والرغبة في الاقتصاص ممن جنى علينا بعض الجنايات، فلربما صدر منا ما لا يليق تحت مظلة "عزة المؤمن" وأنه لا يقبل الضيم، ولا يرضى بالذل، وأنه ليس من الهوان في شيء، فينتصر لنفسه، ولربما بالغ في الانتصار تحت مسمى "عزة المؤمن" وَالَّذِينَ إِذَاا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى: 39] وما علم أن جميع الآيات القرآنية تذكر فضل العفو، والصفح، والمسامحة، والإغضاء وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] ولكن من يطيق ذلك وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] ويأتيه الشيطان يحركه لينتصر لنفسه زاعماً أن ترك هذا الانتصار من العجز، والخور، وأن الناس يعيرونه بالضعف، ويلمزونه بالنقص وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36] فهذه الآيات خاطبنا الله بها من أجل تقويم هذا السلوك، وتصحيح المفاهيم، وما هو الواجب المتعين على الإنسان؟ وما هو الفضل؟ وكيف يرتقي الإنسان بنفسه؟ وكيف يغلق على الشيطان مسالكه فلا يفسد عليه ما يرنو إليه من إصلاح القلب، والعمل؟
إمام أهل السنة، والجماعة أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - : هذا الإمام أحمد - رحمه الله - لما وقعت فتنة القول بخلق القرآن حبس، وجرجر، وضرب، واضطهد، يضرب وسط نهار رمضان في الحر، وهو صائم حتى يفقد وعيه، ثم بعد ذلك ينقل إلى موضعه في السجن، وآثار الدماء قد لطخت ثيابه، وهو الإمام أحمد إمام أهل السنة، والجماعة - رضي الله تعالى عنه، وأرضاه - إمام زمانه، ومع ذلك لم ينتصر لنفسه، ولم يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب لله وكان يقول بعد ذلك: كل من ذكرني ففي حل، ويقول: وقد جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم، وهو الذي ضربه، وجلده - في حل، ورأيت الله يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النــور: 22] وأمر النبي ﷺ أبا بكر بالعفو في قصة مسطح في قصة الإفك، ثم قال: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك، الإمام أحمد بعدما أوذي هذا الأذى لم يفتح ملفات من الأحقاد، وسجلات من العداوة، فلان هو المتسبب، وفلان هو الذي سعى في الموضوع، وفلان خذلني، وفلان قصر في حقي، وفلان لم يسع في خلاصي من أسر هؤلاء، وفلان ما زارني بعد السجن، وفلان صدرت منه بعض الكلمات التي لربما يفهم منها أنه كان مباركاً لهذا العمل راضياً به، لم يفتح شيئاً من هذا إطلاقاً، ولم ينقل لنا التاريخ عن الإمام أحمد - رحمه الله - على طول ترجمته كلمة واحدة تدل على أنه وقف عند نفسه.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أوذي، ورمي بالعظائم، وكفره علماء، وأفتوا السلطان بقتله، وضرب بعضهم على صدره، وقال: دمه في عنقي، دمه حلال، وبقي - رحمه الله - يقاد من سجن إلى سجن في دمشق، وفي القاهرة، وبقي مدداً متطاولة في السجن يخرج منه، ثم يعاد إليه مرة ثانية، قام عليه أهل عصره من شيوخ أهل البدع، والضلال، والأهواء، ومن الحسدة الذين امتلأت قلوبهم غيظاً، وحنقاً على هذا الإمام الذي ملأ الدنيا علماً، ودعوة؛ وكسر أهل الضلال، والبدع بصوارم السنة؛ ولا زالت كتبه شاهدة بذلك، وكان من ألد أعداء شيخ الإسلام الذين يفتون بقتله، وبحل دمه، وبكفره رجل من فقهاء المالكية يقال له " ابن مخلوف" مات ابن مخلوف في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فعلم بذلك تلميذه ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام، فجاء يهرول إلى شيخ الإسلام يبشره بموت أكبر أعدائه، وألد أعدائه، وهو ابن مخلوف، يقول له: أبشر قد مات ابن مخلوف، فماذا صنع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ؟ هل سجد سجدة الشكر، وقال: الحمد الله الذي خلص المسلمين من شره؟ لم يقل ذلك، وما قال كما يقول بعضنا: حصاة ألقيت عن طريق المسلمين، مستريح، ومستراح منه، لم يقل شيئاً من ذلك، بل يقول ابن القيم: فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، وقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به، ودعوا له.
من منا يصنع ذلك أيها الإخوة؟ من منا يذهب إلى أهل خصمه إذا مات، ويعزيهم، ويقول: لا تكون لكم حاجة إلا كنت لكم مكانه، ويواسيهم، من منا يصنع ذلك؟ أصحاب النفوس الكبيرة يصنعون ذلك، يتجاوزون النفس، نعم أفتى بقتلك، وكفرك لكن أنت أكبر من ذلك، تذهب إلى أهله، وتواسيهم، ولو تحلينا بهذه الأخلاق لاستطعنا أن نكسب كثيراً من القلوب، لكننا قد نلعن هؤلاء الذين نختلف معهم سبعين لعنة، ونتعامل مع هؤلاء على قاعدة وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ [التوبة: 84] وهذه الآية قالها الله في المنافقين، فقد نتعامل مع بعض من نختلف معهم من المسلمين بمثل هذا التعامل الصلف الحاد؛ فنكون بهذا أشداء على أهل الإيمان، والله وصف أصحاب نبيه ﷺ بأنهم رحماء بينهم، والله يقول لنبيه ﷺ : وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ [آل عمران: 159] عبد الله بن أبي رأس المنافقين قال في حق رسول الله ﷺ ومن معه من المهاجرين في غزوة المريسيع عند المشلل: ما مثلنا، ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يَأكُلك، يقول هذا في حق رسول الله ﷺ ويقول أيضاً ظاناً أن خزائن السماوات، والأرض بيده: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [المنافقون: 7] يقول أنتم الذين آويتموهم، وأطعمتموهم فلا تنفقوا عليهم من أجل أن يتفرقوا عن بلادكم عن مدينة رسول الله ﷺ ويبحثوا عن بلد آخر تؤويهم، هذا من أصحاب النفوس الصغيرة، ولكن رسول الله ﷺ صاحب نفس كبيرة، فلما مات ذهب إلى قبره، وأعطى ابنه قميصه ﷺ ليكفن به، وقام على قبره يستغفر له حتى نهاه الله عن ذلك، ولما نهاه الله بقوله: إِِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] يقول رسول الله ﷺ : لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر لهم لفعلت[1] أو كما قال - عليه الصلاة، والسلام - هذا في رجل لطالما آذى رسول الله ﷺ وآذى المؤمنين، فهو الذي أفَك الإفك، وسعى به، وتولى كبره، واتهم عرض رسول الله ﷺ بأبشع تهمة، وقال أقبح القول، ومع ذلك يعفو عنه النبي ﷺ ويصلي عليه، ويدفع قميصه لابنه ليكفن به، ثم يقوم على قبره، يستغفر له، والنبي ﷺ يعلم حاله، وهذا لا يفعله إلا أصحاب القلوب الرحيمة، الكبيرة، الواسعة، وليس معنى ذلك تمييع قضية الولاء، والبراء، فهي أصلٌ ثابت كما ذكرت في أول هذا الكلام، لكن ينبغي أن نفرق بين أمرين بين شأن الولاء، والبراء، وبين حظ النفس، فالولاء، والبراء ثابت في القلب، وأما النفس فدعها خلف ظهرك، ولا تنتصر لها، ولا تقف عندها؛ فالكبار لا يليق بهم أن يدوروا حول أنفسهم، حقد مع هذا، ومشكلة نفسية مع هذا، وقضية شخصية مع الثالث، وكما يقال: وقفة نفس مع فلان، وما إلى ذلك من الأمور، فهذا لا يصلح أن يكون داعية، بل هذا يفسد أكثر مما يصلح، يدعو على هذا في ثلث الليل الآخر، ويلعن هذا، ويعلن صراحة بلا مواربة للآخر أنه لا يمكن أن يعفو عنه حتى يقف معه بين يدي حكم عدل، وهو الله - سبحانه، وتعالى - في يوم تشخص فيه الأبصار، هكذا بعضهم يعبر، فمن كان بهذه المثابة فهو لا يصلح للدعوة، بل عليه أن يدعو نفسه، وأن يعالج قلبه، ثم بعد ذلك يسعى في إصلاح الآخرين، لأن هذا إذا اشتغل بدعوتهم لربما أفسد أكثر مما يصلح، يصنع مشكلة مع هذا، وعداوة مع الآخر، فيتفرق المدعوون عنه، وينفضوا، ويبقي وحده.
ولما مرض شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مرض الوفاة، وأين؟ في المستشفى، في القصر، مرض مرض الوفاة في السجن، وقد منع عنه كل شيء حتى الأقلام، والأوراق منعت منه لئلا يؤلف، بتحريض من هؤلاء المبتدعة من شيوخ الضلالة، ومن الحسدة، كأن بعضهم قد تحرك ضميره، فجاء إلى شيخ الإسلام، وأين؟ في السجن الذي لا زال مأسوراً، جاء إليه يعتذر إليه، ويلتمس منه أن يحلله، ما قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - آلآن في الصيف ضيعت اللبن، هلا كان ذلك أولاً؟ هيهات أن أعفو عنك، وأن أصفح، وأن أحللك! ما قال شيئاً من ذلك، بل قال: إني قد أحللتك، وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق، وقال: وإني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي كونه فعل ذلك مقلداً غيره.
أيها الإخوة: من كان بهذه المثابة فقلبه يتقطع من الغل، ولا ينام الليل؛ لأنه يتقطر على هؤلاء الخصوم، ثم هو يموت، ولم يقتص منهم، ولم يأخذ بثأره، ولم يتشف من هؤلاء الأعداء، إنه يموت في السجن، وهم يشمتون به، ويستريحون للخلاص من شخصه، ما قال: الآن أموت كمداً "تعلم شفاء النفس قهر عدوها" كما يقول بعضهم، وإنما قال: قد أحللت الجميع.
بل أكثر من هذا لما وقع للملك الناصر انقلاب، فذهب عليه ملكه؛ وكان الذي قام بهذا الانقلاب ملك يقال له المظفر ركن الدين بيبرس؛ وكان هؤلاء العلماء، والفقهاء، والقضاة، والحسدة الذين لم يفتئوا، ولم يألوا جهداً في الوشاية بشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كانوا قد التفوا حول هذا الملك الجديد، وصاروا حاشية له، وأداروا ظهورهم للأول:
لك العز إن مولاك عز وأن يهن | فأنت إلى بحبوحة الهون صائرُ |
فتركوه، وتوجهوا من جديد إلى هذا الملك الجديد، وصاروا حاشيته، وجلسائه، وندمائه، ثم استطاع الملك الناصر أن يسترد ملكه من جديد، فجاء، وجلس على سرير ملكه، وأحضر هؤلاء القضاة، والعلماء، والفقهاء، وأجلسهم بين يديه، وقد طأطؤوا رؤوسهم، لا يدرون ماذا سيصنع بهم؟ ولا يعرفون كيف سيفتك بهم، وينتقم منهم حينما أعرضوا عنه، والتفوا حول عدوه، وخصمه؟ فهؤلاء ليس لهم وفاء في نظر هذا الملك، وبينما هم كذلك، وقد طأطؤوا رؤوسهم يضربون أخماساً بأسداس، إذ طلع عليهم رجل من بعيد، ولم يميزوه في أول الأمر، فلما اقترب إذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان في السجن، قد أمر الملك بإخراجه من جديد، ودعاه إلى مجلسه، فأسقط في أيديهم، وقالوا: الآن يتم الانتقام بفتوى، ونذبح على الطريقة الإسلامية كما يقال، فقام الملك يمشي إلى شيخ الإسلام توقيراً، وتعظيماً في الظاهر لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ولم يكن من عادته ذلك هو يجرجره من سجن إلى سجن، فقام إليه يمشي مظهراً لتعظيمه، ثم عانقه، وأخذه إلى شرفة، وناحية في القصر، وسارّره، وجلس يتحدث معه سراً فماذا قال له؟ قال له: ماذا تقول في هؤلاء؟ يقول شيخ الإسلام: فعلمت أنه قد حنق عليهم، وأنه أراد أن ينتقم لنفسه - فلاحظ فقه شيخ الإسلام - لا ينتقم لشيخ الإسلام، ولا للدين، وإنما لأن هؤلاء قد تركوه، وأعرضوا عنه يقول: فعلمت أنه قد حنق عليهم، وأراد أن ينتقم لنفسه، فشرعت في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، ولا قيام لملكك إلا بهم، فهم قضاة البلد، وفقهائه، فأخرج لي أوراق، وقراطيس من جيبه فيها فتاوى بخطوطهم يقول: انظر ماذا قالوا فيك؟ كفروه، وأفتوا بقتله، وهذه محفوظة بملفات، آن الأوان لإخراجها لفضحهم لينتقم لنفسه، المظنون لو كان الإنسان صاحب نفس صغيرة أن تأخذه العزة بالإثم، ويستطيع بكل سهولة أن يتدثر بدثار السنة، والدفاع عن العقيدة: أن هؤلاء مبتدعة، فنخلص منهم البلاد، والعباد، فماذا قال شيخ الإسلام: قال أما أنا فهم في حل من جهتي قد عفوت عنهم، يقول: فسكَنت ما عنده - أي هدأه - ثم بدأ شيخ الإسلام بعد ذلك يبث علمه في المساجد، وفي الحلق، والمجالس، وكثر أتباعه، وناصروه، ومؤيدوه، وبدأ أولئك الذين كانوا يتحركون في الكيد له، ويطعمون في النيل منه؛ يتلطفون به ليعتذروا إليه من سابقتهم، فماذا كان يقول؟ ما كان يقف مع كل واحد، ويقول: هيهات، أو يحقق معه لماذا قلت، وما الذي حملك على ذلك؟ لا، كان يقطع ذلك جميعاً، ويقول: قد جعلت الكل في حل مما جرى.
ما قسم الناس إلى فسطاطين: فسطاط الأولياء الذين نصروه، وكانوا معه في وقت الشدة، وفسطاط الأعداء الذين يستحقون كل ذم، وويلة، ما قسم الناس، ولا امتحنهم هذا الامتحان، كان يقول: ليطو هذا البساط، وكتب رسالة إلى أصحابه، وإخوانه في دمشق يذكرهم بهذا المعنى، يقول: أول ما أبدأ به ما يتعلق بي، فتعلمون أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا باطناً، ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة الإجلال، والمحبة، والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخل الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد، فمعفو عنه مغفورٌ له، والثالث فالله يغفر لنا، وله، ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب، والإخوة؛ فإني لا أسامح من آذاهم في هذا الباب، ثم يقول: وتعلمون أيضاً أن ما يجري من نوع تغليظ، أو تخشين على بعض الأصحاب، والإخوة، فليس ذلك غضاضة، ولا نقصاً في حق صاحبه، ولا حصل بسبب ذلك تغير منا، ولا بعض، بل هو بعدما عمل به من التغليظ، والتخشين أرفع قدراً، وأنبه ذكراً، وأحب، وأعظم، وإنما هذه الأمور إنما هي من مصالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم ببعض، فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، ولكن ذلك يوجب من النظافة، والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين - ثم يذكرهم بالتعاون على البر، والتقوى، ويذكرهم أيضاً بأن هؤلاء الذي غابوا عنه، ولم يحضروا، ولم يسلموا عليه، ولم يهنئوه على الخروج من الحبس أن هؤلاء لا يلحقهم لوم، ولا عتب، وأن لهم من المنزلة، والمكانة أضعاف أضعاف ما كان قبل ذلك، ويقول لهم مثل هذه القضايا يقع فيها من الاجتهاد فمن كان مجتهداً في طلب الصواب فهو مأجور، والله يغفر له خطأه، ويقول: في مثل هذه المحن يحصل أشياء من نزغات الشيطان، فينبغي أن نترفع عن هذه الأشياء، وهذه أمور قد كثر فيها الكذب، والمقالات المتنوعة، ويوصيهم، ويذكرهم بقصة الإفك لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النــور: 11] وقد أظهر الله الحق، وبيَّنه فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه عليِّ، أو ظلمه، وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا، وظلموا فهم في حل من جهتي، وأما في حق الله فالله يتولى الجميع؛ إن شاء غفر لهم، وإن شاء عاقبهم، ولو كان أحد يشكر على سوء صنيعه لشكرت هؤلاء على سوء صنيعهم معي.
من منا يفعل هذا، من منا يتعامل مع الخصوم بهذه الطريقة، ولذلك كان ابن مخلوف، وهو عدوه المالكي الذي ذكرته آنفاً يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية ما تركنا شيئاً في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا، وبهذا نستطيع أن نكسب قلوب الناس، ونكسب قلوب الأعداء فضلاً عن الأصحاب، والأصدقاء، وحينما يكون حول العالم، أو طالب العلم، أو الداعية مجموعة من طلابه، وتلامذته فيتعامل معه بطريقة تـنهبط فيها نفسه، ويتعلق بحظوظه النفسية الخاصة، فإن هؤلاء لا يمكن أن يستطيعوا أن يصبروا على الاستمرار، والدوام معه، ولا يمكن أن ينتجوا عملاً تنتفع به الأمة، لأن هؤلاء سرعان ما ينفرط العقد، ويتفرقون، ويتحولون إلى أعداء يكاشرونه بالعداوة.
ولم يقتصر إيذاء أهل البدع لشيخ الإسلام على ذلك بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - انفرد به بعض أهل البدع في ناحية من نواحي القاهرة، وضربوه، وشتموه، فتسامع الناس بذلك فخرج كثير من الأمراء، والقادة، والجنود، والعامة، والوجهاء يبحثون عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فوجدوه في مسجد على البحر، وتجمعوا عنده، وتتابع آخرون صاروا يتلاحقون، ويتسامعون، فاجتمعوا عنده، وقالوا له: يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا، ما قال لهم: نعم.. أنتم الذين تعرفون قدر علمائكم، ولا خير في أمة لا تعرف قدر علمائها، هؤلاء أهل بدع، وضلالات، أحرقوهم، وأريحوا الناس منهم، ما قال هذا الكلام لأن القضية تتعلق بشخصه هو، فماذا قال؟ قال لهم: لأي شيء، قالوا: لأجلك، قال لهم: هذا ما يحق، قالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك - يعني لا نخرب الأحياء بكاملها، بل نذهب إلى بيوتهم، فنقتلهم، ونخرب دورهم، فإنهم شوشوا على الناس - ولاحظ الملحظ الآخر الذي جاءوا من أجله - في البداية الانتصار لشيخ الإسلام، فرفض، ثم أعادوا الكرة بثوب آخر، أنهم أثاروا فتنة، وشوشوا على الناس، فقال: هذا ما يحل، فقالوا: فهذا الذي فعلوه لك هل يحل؟ هذا شيء لا نصبر عليه، ولابد أن نذهب إليهم، ونقاتلهم على ما فعلوا، فكان ينهاهم، ويزجرهم عن ذلك، فلما أكثروا عليه، قال: إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني، ولم تستفتوني، فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كيف شاء، فقالوا له: هذا الذي فعلوا بك هل هو حلال؟ قال: هذا الذي فعلوه قد يكونوا مثابين عليه، مأجورين فيه، قالوا: فتكون أنت على الباطل، وهم على الحق، كيف تقول إنهم يأجرون على ذلك؟ فقال: ما الأمر كما تزعمون، فإنهم قد يكونوا مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر، أناس يضربونه، ويشتمونه، ويؤذونه ببدنه، وهم من أهل الضلالات، والأهواء، والبدع، ويقول: إنهم قد يؤجرون، فأين نحن من مثل هؤلاء؟ بل خرج عليه رجل من هؤلاء المبتدعة، متفقه فانفرد بشيخ الإسلام في محلة، وناحية لم يكن هناك أحد، فأساء الأدب إلى شيخ الإسلام، وأسمعه ما يكره، وشتمه، فعلم الناس بذلك، وبدؤوا يأتون لشيخ الإسلام، يريدون الانتصار له، فسمع ذلك الرجل، فبدأ يتلطف، ويرسل الوسائط، يظن أن شيخ الإسلام سينتصر لنفسه، فكان شيخ الإسلام يرد بعبارة مختصرة يقول: أنا ما أنتصر لنفسي، يعني دعوا هذا الرجل يطمئن، ويرتاح، وينام قرير العين، فإني لا أنتصر لنفسي، وهؤلاء قوم يختلف معهم شيخ الإسلام في مسائل تتعلق بالعقيدة، والمنهج كما يقال، أما الخلاف في المسائل الفرعية فهذا يكون الحكم فيه كما سبق: سعة الصدر، وهو أحرى بذلك، وأولى لأن الخلاف في المسائل العلمية الاجتهادية الفرعية أمر سائغ، ولا يلحق المخالف فيه تضليل، ولا تبديع، ولا ينسب إلى هوى إذا كان يقصد الحق، والناس طالما اختلفوا في مسائل الاجتهاد، ولكن أصحاب النفوس الصغيرة لربما احتدم النقاش معه، فصار يلقاك بوجه آخر، وابتسامة مائلة، من شق واحد، يضمر لك ضغينة، ويحمل عليك في نفسه؛ لأنه قد اختلف معك في مسألة من مسائل الفروع.
- أخرجه الترمذي في التفسير باب سورة التوبة (5/ 279 رقم 3097)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، والنسائي في كتاب الجنائز باب الصلاة على المنافقين (4/ 67 رقم 1966)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (1/ 23 رقم 227)، وفي السلسلة الصحيحة (3/ 123 رقم 1131).
وهذا الإمام الحافظ محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله تعالى -: يقول عنه يونس الصدفي: ناظرته يوماً، وهو يصفه بقوله ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة.
وخذ هذا المثال الآخر العجيب العالم الوزير ابن هبيرة - رحمه الله - نال العلم، والفقه، والوزارة معاً، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه إذ ذكر مسألة من مفردات الإمام أحمد - يعني أن الإمام أحمد تفرد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة - فقام فقيه من فقهاء المالكية يقال له أبو محمد الأشيري، فقال: بل قال بهذا الإمام مالك، فقال ابن هبيرة - رحمه الله -: "هذه الكتب" وأحضرها، وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد، فقال أبو محمد الأشيري: بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس، فقالوا: بل هي من مفردات الإمام أحمد، قال: بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة، وقال: أبهيمة أنت؟ أما تسمع هؤلاء العلماء يصرحون بأنها من مفردات الإمام أحمد، والكتب شاهدة بذلك، ثم أنت تصر على قولك، فتفرق المجلس، فهب أنك في هذا المجلس، هب أنك أحد الطرفين في مكان ابن هبيرة، أو في مكان الأشيري، ما هو في مجلس علماء، لو كنت أنت، وهذا الإنسان، وليس معكما ثالث، وقال لك: أبهيمة أنت هل ستلقاه بعدها؟ هل ستأتي إلى مجلسه، وتحضر معه؟ ثم لو قال لك ذلك أمام الآخرين، هل تنام تلك الليلة؟ هل تفكر بالرجوع إليه؟ فلما انعقد المجلس في اليوم الثاني جاء الفقيه المالكي، وحضر كأن شيئاً لم يكن، وجاء ابن هبيرة، وجاء العلماء، فأراد القارئ على عادته أن يقرأ، ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له: قف، فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وحملني ذلك على أن قلت له ما قلت، فليقل لي كما قلت له، فلست بخير منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فكيف كان أثر هذه الكلمات؟ وهي بالمجَّان لا نخسر عليها شيئاً، تجاوز بس هذه النفس، وتغلب عليها ضج المجلس بالبكاء، وتأثروا جداً من هذه الأخلاق العالية الرفيعة، وارتفعت الأصوات بالدعاء، والثناء؛ وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر، ويقول: أنا المذنب، أنا الأولى بالاعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول: القصاص القصاص، فتوفق أحد العلماء، وقال: يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير له: حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد، فقال هذا الفقيه: نعمك علي كثيرة فأي حكم بقي لي، فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتيات عليك، فقال: عليّ بقيت دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة: يعطى مئة دينار لإبراء ذمته، وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة: عفا الله عنك، وعني، وغفر الله لك، ولي، فهل نحن كذلك؟ إذا كنا في مجلس، وحصلت قضية مثل هذه كيف ستكون نتائجها؟ عداوة إلى يوم الدين، وقلب يتقطع، ونفس حرقاء حشراء على هذا الإنسان - نسأل الله العافية - كلمات لم يخسر فيها شيئاًـ بل ازداد رفعة، نحن نتحدث عنها بعد قرون، وبعد مئات السنين، ولو أنه بقي مع نفسه، فكيف سيكون حال هذه الصلة، والعلاقة.
ترفعوا أيها الإخوة، وارتفعوا إلى أعلى، وحلقوا، النفس يجذبها الطين، فتجردوا من الأهواء، والحظوظ النفسانية، هذا في مسائل العلم، أما في أمور المعاش، والعلاقات الاجتماعية، والتجارية، وغير ذلك مما يعايشه الإنسان صباح مساء، ولابد أن يجد فيه ما يجد من تقصير في حقه، ومظلمة، وإساءة، وكلمة لربما لا يتحملها كثير من الناس، فكيف يصنع؟ اسأل نفسك أنت، ولا تبحث في ذهنك، وتذهب إلى إنسان آخر، اسأل نفسك ما موقفك حينما يبلغك أن فلاناً من الناس يتكلم في حقك، ويقع في عرضك، كيف تصنع؟ هل تعزم على عداوته، ومقاطعته؟ الشافعي رحمه الله يوصينا بوصية في هذا المقام يقول إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره بالعداوة، لا تحكم مباشرة، وتتخذ هذا الإجراء فتقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، فالثقة حاصلة متيقنة، وهذا شك عارض، فلا يذهب اليقين بالشك، ولكن القه، وقابله، وقل له: بلغني عنك كذا، وكذا، واحذر أن تسمي له المُبَلِّغ، فإن أنكر ذلك، فقل: أنت أصدق، وأبر، وإذا قال: لا أنا ما قلت، فلا تحصره في زاوية ضيقة كما يفعل بعض الناس، وقل له: أنت أصدق، وأبر عندي، ولا تنقر، ولا تحقق، وتجاوز ذلك، يقول: وإن اعترف بذلك فقال: نعم أنا قلت، فقبل أن توجه إليه سؤالاً آخر يقول: إن رأيت له في ذلك وجهاً لعذر - يعني أنت قدَّرت له عذراً - فاقبل منه، وإن لم تر له عذر، فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ ماذا أردت بهذا الكلام الذي قلته في هذا المجلس؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر له لذلك وجهاً من العذر، وضاق عليك المسلك فحينئذٍ أثبتها عليه سيئة، زلة، ثم ماذا؟ خطأ، ثم أنت بعد ذلك بالخيار، إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم لقول الله : وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] فإن نازعتك نفسك بالمكافأة ففكر فيما سبق له لديك من الإحسان، فعُدَّها، ثم ابدر له إحساناً لهذه السيئة، ولا تبخسن باقي إحسانه الثالت بهذه السيئة فإن ذلك الظلم بعينه.
لعل القائل هو الإمام الشافعي يوصي بذلك يونس الصدفي: يا يونس، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب، ومفارقته سهل.
والمشكلة أيها الإخوة أحياناً أن الإنسان يحمل الكلام على أسوأ المحامل، والطرف الآخر لم يعلم بذلك، وهو خالي القلب تماماً، ولم يخطر له على بال هذه الظنون الأخرى التي ذهب بها فلان؛ ولربما تقطع ذاك غيظاً، وحنقاً، ولم يبت تلك الليلة، والآخر لم يفكر في شيء من ذلك لا في قليل، ولا في كثير، نيته سالمة صحيحة لم يقصد الإساءة، والناس يتفاوتون في هذا، فمنهم من قد يحمل الإحسان - نسأل الله العافية - إلى إساءة، والكلمة الطيبة إلى جرح، ومنهم من يحمل الكلام الموهم، والمحتمل إلى المحامل السيئة، ومنهم من يحمل الكلام الرديء على أحسن المحامل، والله قد فاوت بين الخلق، فكما، وزع بينهم الأرزاق، وزع بينهم الأخلاق، وقد صدق رجاء بن حيوة - رحمه الله - حينما قال: "مَنْ لمْ يؤاخِ إلا مَنْ لا عَيْبَ فِيهِ قَلَّ صَدِيقُهُ، ومن لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه" والإنسان ظلوم جهول، ولابد أن تصدر منه أخطاء، وتقصير، فإذا كان ينقر معك على كل قضية، وكل كلمة، وكل تصرف، فهذا لاشك أنه أمر صعب جداً.
أيها الأخ الكريم، سل نفسك ما موقفك ممن، وشا بك، وشاية سيئة سعى فيك، وأراد الإيقاع بك، والإساءة إليك ما موقفك منه هذه صفية أم المؤمنين لها جارية ذهبت إلى عمر متبرعة بوشاية، وفرية صفية بنت حيي كانت من اليهود، وأسلمت، وتزوجها النبي ﷺ وهي من أمهات المؤمنين، ففي خلافة عمر ذهبت جارية لها إلى عمر تتبرع بوشاية تقول إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، هذه تهمة، وهذه التهمة تعني ما خلاصته أنها لا زالت تحتفظ بلوثة يهودية السبت هو يوم اليهود عيد اليهود فمعنى ذلك أنها تعظمه بلوثة، ورواسب بقيت في نفسها تحب السبت، وتصل اليهود فعمر لم يعجل عليها، ولم يقبل هذه الوشاية على أنها حقيقة ثابتة استدعى صفية، وسألها عن ذلك، فقالت أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية ما حملك على ما صنعتي؟ لماذا فعلت ذلك؟ ما تفرغت بعد ذلك للجارية، وأرادت أن تصفي الحساب معها، قالت ما حملك على ذلك؟ قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة، انتهى كل شيء انتهت المشكلة.
وسل نفسك لو أنك رجعت إلى بيتك، ووجدت أن البيت قد كسر، وأن المتاع قد سرق، أو وضعت يدك في جيبك، فوجدت أن ما تحتفظ به من نقود، وأوراق، ووثائق قد نشلت، وسرقت، أو خرجت إلى سيارتك، فإذا هي قد كسرت، وأخذ ما بها، ونثر زجاجها على قارعة الطريق، ماذا تصنع؟ هل تدعو على هذا الفاعل السارق المجرم، بأن يشل الله يده، ورجله، ويأخذ بصره، وسمعه، ويجمد الدم في عروقه، وأن يجعله يتمنى الموت، ثم لا يجده، هكذا نفعل أحياناً، أما ابن مسعود، ومن كان على شاكلته من أصحاب النفوس الكبيرة فلم يكن يصنع ذلك، خرج من بيته، ووضع النقود في طية من طيات عمامته، وجلس عند بائع فاشترى منه طعاماً، ثم قال بيده هكذا: فوجد أن النقود قد سرقت، فقال ابن مسعود: لقد جلست، وإنها لمعي استغرب، وفوجئ فتجمع مجموعة من الناس كالعادة لمناصرته، والتفاعل معه، وإبداء المشاعر، والأحاسيس التي يوافقونه، أو التي يواسونه بهذا المصاب الذي وقع له، فجعلوا يدعون على هذا السارق، اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، اللهم افعل به كذا، وجلس كل واحد منهم يدعو، أما ابن مسعود فقال: "اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة، فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب، فاجعله آخر ذنوبه" فليس فيها لا اقطع يده، ولا رجله، ولا شل أركانه، ولا خذ بصره، وسمعه، ولا اجعله يتمنى الموت، ولا يجده، ولا تجميد الدم في العروق، ولا شيء من ذلك إطلاقاً، دعا له بهذه الدعوات الطيبة، دعا له، ولم يدع عليه، فما موقفك لو أنك دخلت، أو خرجت فصادفك إنسان لم يحفظ لك حقاً، ولم يراع لك حرمة، فوجه إليك سهماً من لسانه فشتمك، وأسمعك ما تكره ماذا تصنع؟ ترد عليه بالمثل فتنتقم، ويتحول إلى عدو، إن أصحاب النفوس الكبيرة في هذا الموقف يتذكرون قول الله : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34] فهذا شعارهم.
زين العابدين علي بن الحسين - رحمه الله تعالى -: ريحانة العابدين، زين العابدين علي بن الحسين - رحمه الله - من أكابر التابعين، كان في مجلسه، وعنده أصحابه من العلماء، والأشراف، والوجهاء، وجميع طبقات المجتمع في مجلس حافل؛ لأنه رجل عالم، وهو أبو الفقراء، يصدع للناس في نوائبهم، فكان جالساً، وكان بينه، وبين بن عم له، وهو حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب شيء مما يكون بين الناس، فلم يتمالك حسن بن حسن نفسه، وخرج عن طوره، وجاء يبحث عن زين العابدين، فوجده جالساً مع أصحابه في المسجد، فجاء إليه، وما ترك شيئاً إلا قاله في حقه من الشتم، وقبيح القول، وعلي بن الحسين ساكت لا يرد بشيء، فلما تشفى منه انصرف، ثم ذهب علي بن الحسين بعد أن أكمل مجلسه إلى بيته، فلما كان الليل ذهب زين العابدين إلى بيت حسن بن حسن، وفي مثل هذه المواقف المتوقع أنه يخفي تحت ثيابه ما يؤدبه به، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، بل جاء إلى بيته، وطرق عليه الباب، فلما خرج حسن بن حسن قال له: يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم، وتركه، فهشمت هذه الكلمات العداوة المستحكمة في نفس حسن بن حسن، ولم يتمالك مشاعره، فتحولت مشاعر العداوة، والبغض، والكراهية، والغضب إلى مشاعر أخرى معاكسة، فجعل يتبعه، ويجري خلفه، والتزمه من خلفه، وجعل يبكي حتى رثي له، ثم قال: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه، فقال له علي بن الحسين: وأنت في حل مما قلت لي.
في ليلتها لم يذهب ليتكلم، ويبحث عن فرص الانتقام، فهل تفعل ذلك إن جاءك إنسان، وشتمك، وكنت في مجلس مناسبة، أو في صالة أفراح فتسلط عليك إنسان، وأسمعك قبيح القول، فما موقفك من هذا الإنسان، إن كنت من أصحاب النفوس الكبيرة فستتجاوز النفس، ولهذا كان بعضهم يقول لمن يشتمه، ويبالغ في شتمه: يا هذا لا تفرط في شتمنا، وأبق للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -: لو أن إنساناً اعتدى عليك مباشرة بالضرب، أو الجرح، أو حاول قتلك، أو دس لك السم، أو غير ذلك، فكيف تصنع معه؟
عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - خامس الخلفاء الراشدين مرض مرض الوفاة، وسأل مجاهداً قال: ما يقول الناس في مرضي؟ قال: يقولون مسحور، قال: لا، ثم دعا غلاماً قال: ويحك ما حملك على أن سقيتني السم، يريد أن يبين له السبب؟ فقال: ألف دينار أعطيتها، وأن أعتق، فقال: هاتها فأخذها، ووضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب فأنت حر، لا يراك أحد.
هذا سم الخليفة، ويعرف أنه هو الذي فعل هذا، واعترف فماذا صنع به؟ قال له: اذهب فأنت حر.
والإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -: ضرب، وجلد حتى تخلعت يداه، وكان يصلي مسبل اليدين لما يجد من الألم، فلما جاء المنصور، الخليفة العباسي، وحج، وجاء إلى المدينة أراد أن يتجمل عندد الإمام مالك، فطلب من الإمام مالك أن يقتص ممن حبسه، وضربه، وهو جعفر بن سليمان، فماذا قال الإمام مالك؟ هل قال: فرصة لا يمكن أن تضيع؟ لا، بل قال: معاذ الله، ما قال هذا واحد من الظلمة نقتص منه، ونؤدبه، لا، بل قال: معاذ الله الكبير لا ينتقم لنفسه، ولهذا ما انتقم النبي ﷺ لنفسه قط.
وخذ مثالاً آخر: دخل رجل يسأل، فغضب ابن هبيرة، وقال للحاجب: أما قلت لك: أعط هذا عشرين ديناراً، ووقراً من الطعام، وقل له: لا تحضر عندي، فقال: قد أعطيناه، فقال: عد، وأعطه، وقل له: لا تحضر، فلما انصرف الرجل، قال ابن هبيرة لأصحابه: هل عجبتم من هذا الجواب، والرد الذي رددت به، قالوا: نعم، قال: هذا الرجل الذي رأيتم قبل قليل كان شحنة في القرى - يعني أنه من الحاشرين، يرسل ليحضر أناس في قضية في جناية في تحقيق، فيأخذ رؤساء القبائل، ويأخذ وجهاء البلد، أو القرية، ويحضرهم للسلطان، فكان شحنة في القرى - فقتل قتيل في ناحية البلد التي فيها ابن هبيرة، فجاء هذا الرجل، فأخذ مشايخ القرى، وأخذ ابن هبيرة مع الجماعة، وابن هبيرة على قدمه، والرجل على فرس، فجعل يؤذي ابن هبيرة، ويمشيه مع الفرس، ثم ربطه، وأخذ من كل، واحد من هؤلاء قدراً من المال، وسرحهم - والمسألة فوضى - ثم جاء لابن هبيرة، وقال: هات ما معك، قال: ما معي شيء، يقول: فانتهرني، وضربني مقارع على رأسي، يقول: ولم أنقم عليه شيئاً من ذلك، لكني كنت أستأذن أن أصلي الفرض فأبى أن يأذن لي، فأنا أنقم عليه لأنه رفض أن يسمح لي بالصلاة - صلاة الفريضة - حيث أدركتني في الطريق، يقول: وبعد ذلك جاء به ابن هبيرة، وولاه على بعض العمل في إصلاح معايش الأمراء - يعني أملاكهم الخاصة - يديرها، فما انتقم منه، ولم يقل: هذه الفرصة ذهبية.. لا، بل أعطاه، وأكرمه، وما انتصر لنفسه منه.
واشترك ابن هبيرة هذا صاحب القلب الكبير قديماً قبل الوزارة مع رجل أعجمي في زراعة فوقع بينهما شيء، فقام هذا الأعجمي، وضرب ابن هبيرة ضرباً مبرحاً، فلما ولي الوزارة استدعاه، وتوقع هذا الأعجمي التأديب، والتعزير، والانتقام، بل والقتل، فلما جيء به؛ أعطاه، ووهب له، وولاه ولاية، يقول عنه تلميذه ابن الجوزي - رحمه الله -: كان يملي علينا كتاب الإفصاح، فجاء رجلان أحدهما قد أسر الرجل الآخر، يقوده معه يقول: هذا قتل أخي، فأقدني منه، أريد أن أقتص!! فقال: ابن هبيرة أقتلته، قال: نعم، جرى بيني، وبينه مشادة فاقتلته، فقال الخصم: سلمه لي، فقد أقر بالقتل، قال ابن هبيرة: أطلقوه، ولا تقتلوه، قالوا: كيف ذلك، وقد قتل أخانا؟ قال: فبعه لي!! فاشتراه منهم بأضعاف الدية بستمائة دينار، وسلم الذهب لهم، فلما ذهبوا قال له: اجلس، فجلس عنده، وأعطاه خمسين ديناراً، ثم ذهب، فتعجب ابن الجوزي، ومن معه، وقالوا: كيف تصنع مع هذا؟ رجل قتل إنسان، ادفعه إليهم يقتلونه، فلماذا تبالغ في رفع الدية؟ وتعوضهم هذا التعويض، ثم تعطيه؟ فقال: هل تعلمون أني لا أنظر بعيني اليمنى منذ أربعين سنة؟ قالوا: لا، قال: هذا الرجل مر بي قبل أربعين سنة، ومعه سلة فاكهة، فقال: احملها، وكان معي كتاب في الفقه، فقلت: ليس هذا بعملي ابحث عن حمال، يقول: فغضب، ولطمني، وضربني، وقلع عيني، ومضى، ولم أره إلا هذه الساعة" فلاحظ الآن: هذا الرجل قاتل، يقتص منه؛ والحمد لله، فإنك لن تقتص أنت منه، ولن تقتله، ولن تنتقم لنفسك بل دعهم يقتصون، يداك أوكتا، وفوك نفخ، جنيت على نفسك، والحمد لله الذي أوقعك بسوء عملك، لا بل فداه، وأعطاه، وأكرمه، فمن منا يفعل ذلك، يقول: " أردت أن أقابل إساءته بالإحسان ".
لو صادفت سباباً شتاماً في مكان في مدرستك، أو في عملك في السوق؛ فقال لك كما قال رجل للأحنف بن قيس: لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً!! فماذا قال الأحنف بن قيس؟ قال: لكنك إذا قلت عشراً لن تسمع واحدة
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم | إن الجواب لباب الشـر مفتـاحُ |
فالعفو عن جـاهل أو أحمق أدب | وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ |
إن الأسود لتخشى وهـي صامتة | والكلب يحثى ويرمى وهو نبـاحُ. |
وأنت أيها الداعية: كيف تتصرف حينما يتصرف أحد المدعوين نحوك بتقصير، أو بكلمة، أو بفعل لا يليق؟ أتعاديه، وتجانبه، وتجفوه، أتأمر أصحابك أن يقاطعوه، ويهجوه، ويهجروه، أتتخذ منه موقفاً: هو في سبيله، وأنت في سبيلك من أجل نفسك، إن هذا لا يليق أيها الإخوة.
أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود قال: " كأني أنظر إلى النبي ﷺ يحكي نبياً من الأنبياء - صلوات الله، وسلامه عليهم - ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"[1] ولو ضربك أحد من المدعوين فأدماك ماذا تقول عنه؟ تدعو عليه، تلعنه، تضربه، لكن انظر إلى قول هذا النبي: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
أنت أيها المسؤول، أيها المدير في المدرسة، أو في الشركة؛ إذا جاءك أحد المراجعين، وتكلم بنفس مشحونة، وبلغة مستعلية، يتكلم معك كأنك أجير عنده، فكيف تصنع؟
جاء رجل إلى النبي ﷺ فجذب ردائه حتى أثر في رقبته يقول: "أعطني فإنك لا تعطيني من مال أبيك، ولا أمك" وهذه لو قالها لأحد غير النبي ﷺ لسبقه رأسه قبل أن يكمل هذه الأحرف، فماذا صنع النبي ﷺ ؛ هل عاداه، واتخذ منه موقفاً؟ لا.. أبداً بل أعطاه، وأعطاه، وأعطاه حتى رضي، وهذه أخلاق الأنبياء.
نحن - أيها الإخوة - في هذا المسجد، يا معاشر المصلين: لو أن أحد الأطفال الموجودين الآن وقف على هذه الطاولة، وجلس يتبول - أعزكم الله - أو جاء رجل كبير، وذهب إلى ناحية المسجد الآن، وجلس يتبول، ماذا سنصنع به؟
إنه لن يدري هو في يد من - نسأل الله العافية - هذا يضربه، وهذا يلعنه، والذي لا يستطيع الوصول إليه يتابع له السب، والشتم؛ ويرشقه بقبيح القول، جاء رجل إلى المسجد، والنبي ﷺ مع أصحابه، وعمد إلى ناحية من نواحي المسجد، وشج يبول، وما وجد مكاناً إلا المسجد، فنهره الصحابة، فنهاهم النبي ﷺ فقال: لا تزرموه - أي لا تقطعوا عليه البول لئلا يتضرر - ثم دعا بذنوب من ماء، فصب عليه، ثم علمه، وقال: هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من أذى الناس[2] لقد انتهت المشكلة، وما أصابه ضرب، ولا داسوه بالأقدام، ولا سحبوه برجله، وأخرجوه من المسجد، ولا حبسوه، ولا فعلوا له شيء آخر، إنما قيل له لا يصلح فيها شيء من أذى الناس فمثل هذا الإنسان يملك قلبه بهذا يقول: "بأبي هو، وأمي، والله ما قهرني، ولا نهرني، وما رأيت معلماً مثله" فهل نحن كذلك مع الطلاب، ومع المدعوين؟ ومع المصلين؟
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب أم حسبت أن أصحاب الكهف، والرقيم (3/ 1282 رقم 3290)، وفي كتاب استتابة المرتدين باب إذا عرض الذمي بسب النبي ﷺ ولم يصرح (6/ 2539 رقم 6530)، ومسلم في كتاب الجهاد، والسير باب غزوة أحد (3/ 1417 رقم 1792).
- أصله في البخاري بدون زيادة: إن هذه المساجد في كتاب الأدب باب الرفق في الأمر كله (5/ 2242)، وفي باب قول النبي ﷺ: يسروا، ولا تعسروا (رقم 5777 رقم 5679)، وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب، وجوب غسل البول، وغيره (1/ 236 رقم 285) بالزيادة المذكورة.
تخيل لو أن الإمام في مسجده تأخر في السجود، ثم رفعتم رؤوسكم فرأيتم أطفال الإمام فوق ظهره يلعبون، ماذا ستقولون للإمام؟ وماذا ستقولون لهؤلاء الأطفال؟ بعدما تُسمِعُوا هذا الإمام ما يكره؛ تذهبون زرافات، ووحداناً إلى الأوقاف ليفصلوا هذا الإمام، ويؤدبوه، يأتي بأطفاله، ويلعبوا فوق ظهره، وهو يصلي في المحراب في الروضة، ما وجدوا شيئاً يلعبون به، ويلتهون إلا هذا، ولقد تأخر النبي ﷺ في السجود، فرفع بعضهم رأسه، فوجد الحسن، أو الحسين على ظهره ﷺ فلما فرغ النبي ﷺ من صلاته بيَّن لهم سبب التأخر، وقال: إن ابني قد ارتحلني - أي جعلني راحلة - فكان الولد يلعب فوق ظهر النبي ﷺ فكرهت أن أعجله - كره أن يستعجل على هذا الولد - ونحن مباشرة إذا رأينا طفلاً تحرك حركة بسيطة قلنا: "جنبوا صبيانكم، ومجانينكم المساجد" وهو حديث لا يصح فلا أصل له، وبدا الأب لهذا الطفل وجهه يحمر، ويصفر، وقد تكون عنده ظروف، وقد يكون في حالة يرثى له،ا فيحتاج إلى مواساة، وقد تكون أمهم في حالٍ من المرض، فخرج بهم، قد يكون هذه الأم تعيش مشكلة أزمة نفسية، فخرج بهؤلاء الأطفال عنها، ثم نحن نصنع به ذلك!!
ورد أن النبي ﷺ كان ذات يوم يخطب على المنبر، فنزل من المنبر لما خرج الحسن، أو الحسين إلى المسجد، وكان يقوم، ويقع، ويخب في ثوب أحمر، فنزل النبي ﷺ وقطع الخطبة، وضمه إليه، وحمله، وذهب به إلى المنبر، وقال: صدق الله، إنما أموالكم، وأولادكم فتنة، لما رأيت ابني هذا يقوم، ويقع لم أحتمل حتى احتملته[1] أو كما قال - عليه الصلاة، والسلام - ولو فعلها الإمام، والخطيب يوم الجمعة، وأخذ ولد ابنته، وحمله بهذه الطريقة فماذا كنا فاعلين؟!
ولقد ثبت أن النبي ﷺ كان يصلي، ويحمل أمامة بنت بنت النبي ﷺ إذا قام حملها، وإذا سجد، أو ركع وضعها على الأرض، وهكذا طوال الصلاة، ولو فعله الإمام، ماذا نصنع به يا إخوة؟ هذه أخلاق يتربى عليها الجيل، ويتربى عليها الصغار، يعيشون في كنف هؤلاء بنفوس أبية عالية، يجدون من يحتضنهم، أما أن نكفهر في وجوه إخواننا، وأن نعاملهم معاملة فظة بصلافة فهذا لا يكون من أصحاب النفوس الكبيرة.
- أخرجه الترمذي في كتاب المناقب باب مناقب الحسن، والحسين (5/ 658 رقم 3774)، والنسائي في كتاب صلاة العيدين باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة (3/ 192 رقم 1585)، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الجمعة باب كلام الإمام في الخطبة (3/ 218 رقم 5610)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 224 رقم 2969).
إذا وجدت إنسان تعاملت معه، وابتليت به في شراكة، أو في معاملة، وأراد أن يدخلك في مهاترات فهل تنزل معه؟ كان مالك - رحمه الله - يصف القاسم بن محمد من علماء التابعين يقول: قد يكون بينه، وبين رجل من الناس مداراة في الشيء، فيقول القاسم: "هذا الذي تريد أن تخاصمني فيه هو لك، فإن كان حقاً فهو لك، فخذه، ولا تحمدني فيه، وإن كان لي فأنت لي منه في حل، وهو لك" اتركني لكي لا أنزل معك، ولا أهبط بأخلاقي، وتقع المهاترات على أشياء تافهة.
النبي ﷺ قالت له عائشة - رضي الله عنها - أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟! كلمة كبيرة، فماذا فعل النبي ﷺ فماذا فعل النبي ﷺ؟ ما زاد أيها الإخوان على أن تبسم، لو قالت لك زوجتك: أنت تعتبر نفسك رجل صاحب مروءة؟ ماذا ستصنع بها؟ أظن أن لحمها سيختلط بثيابها، لا أظنها تسلم نفسها، وتخرج حية في ذلك الموقف.
النبي ﷺ عنده أصحابه، فأرسلت له إحدى زوجاته - وكانت تجيد صنع الطعام - قصعة فيها طعام، فتحركت غيرة الأخرى - وقد جاء تسمية هؤلاء الزوجات رضي الله تعالى عنهن في بعض الروايات - وأصل الحديث في الصحيح، وقد جاء براويات متعددة عند النسائي، وغيره، وهي صحيحة - فأرسلت إليها - وفي بعض الروايات أنها ضربت يد النبي ﷺ فسقطت القصعة، وانكسرت، وانتثر الطعام، وفي بعض الروايات أنها أرسلت جاريتها، فأخذت القصعة، ورمت بها في الأرض غيرة أمام الضيوف، وفي بعض الروايات أنها جاءت متوشحة، وأخذت القصعة، ورمت بها في الأرض فانكسرت، فماذا صنع النبي ﷺ ؟ أمر الجارية أن تأتي من هذه التي كسرت القصعة أن تأتي منها بقصعة جديدة؛ فوضع فيها الطعام، وقال: قصعة بقصعة، وطعام بطعام[1] وانتهت المشكلة، ما قال: سودت وجهي أمام الضيوف، وأحرجتني، وهذه الأمثلة التي قصدت إيرادها أيها الإخوة عن رسول الله ﷺ ولو جئت بها عن أحد آخر لربما قال قائل كلاماً لا يليق، لما غلب على نفوسنا من المشاحة في هذه الأمور، وبعض الرواسب من الأخلاق السيئة، والعلو الزائد على المرأة، ومعاملتها أحياناً معاملةً بشيء من الأنفة منها، قصعة بقصعة، وطعام بطعام، وانتهت المشكلة، وما رجع إليها، وما ضربها، وما طلقها، وما هجرها، انتهت المشكلة على هذا الأساس.
وأنت أيتها المرأة إذا صدرت من الزوج كلمة هل تحسبينها له في ملف، وسجل، ثم لا تنسين هذه الإساءة، والخطأ؟ وإذا كان لكِ خادمة، أو أنت أيها الرجل كان لك سائق خادم، فأخطأ في حقك، وقصر، فلو كسرت الخادمة إناءً كيف تصنعين بها؟ هذا النبي ﷺ كما في حديث ابن عمر جاءه رجل فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه فصمت، فلما كان الثالثة قال: اعف عنه في كل يوم سبعين مرة[2] الحديث أخرجه أبو داود، وإسناده صحيح كما قال الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - كم نعفو عن الخادمة في اليوم الواحد، أو في السنة؟ كم نعفو عن السائق في السنة، ولو جاءك السائق، وقد صدم في السيارة، ووجهه يتقلب خوفاً منك، ماذا تصنع به؟ ضرب، ومجازاة، ثم يدفع هذا الفقير من رواتبه - وما هذه الرواتب - قيمة هذه الجناية.
- أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام باب فيما يكسر له الشيء ما يحكم له من مال الكاسر (3/ 640 رقم 1359)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (1/ 736 رقم 7358).
- أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في حق المملوك (2/ 763 رقم 5164)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 880 رقم 488).
وهذا ابن عون - رحمه الله تعالى - كان من العلماء، وكان له ناقة جيدة تعجبه يحج عليها، ويغزو عليها، فأرسل عليها خادماً رقيقاً له يستقي الماء، وكان في الخادم شيء من الرعونة، والصلافة، فجعل يضربها على وجهها حتى سالت عينها على خدها، فلما رآها الناس قالوا: الآن تظهر أخلاق ابن عون، الآن يتضح معدنه، فلما جيء بالناقة، ومعها الخادم تسيل عينها على خدها، قال له: سبحان الله أفلا غير الوجه - هلا ضربتها في غير الوجه - بارك الله فيك، اخرج عني، اشهدوا أنه حر.
والمرأة المسلمة إن كان لها ضرائر، وكان للرجل زوجات أخر، فهل تعيش في أحقاد، وعداوات، وضغائن، ولا تنام الليل؟ تبيت مفكرة في كل كلمة قيلت لها، هذه أم المؤمنين أم حبيبة - رضي الله عنها - عند موتها دعت عائشة، وقالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي، ولك ما كان من ذلك، فقالت عائشة: غفر الله لك ذلك كله، وحللك من ذلك، فقالت: سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت مثل ذلك.
وبعد أيها الإخوة: فهل نتحلى بهذه الأخلاق أخلاق الكبار؟ لا أقول أخلاق كبار السن، بل أخلاق كبار النفوس، هل نحن كذلك؟ الأمر كما قيل:
ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا، فلماذا لا نغير من أنفسنا، ونحن نستحسن هذه الأوصاف، والأخلاق؟ لماذا لا نعزم من هذه اللحظة أن نرجع لأهلنا بوجه جديد، هل نسمع نحن لمجرد السماع، والفكاهة، والتسلية - معاذ الله - أضف إلى ذلك ما يحصل بسبب هذه الخلة من الآثار الحميدة من اجتماع الكلمة، وتأليف القلوب فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] وإذا كان النبي ﷺ وهو أكمل الخلق ينفضون من حوله لو كان صلفاً على أصحابه، وأمر الله بالعفو، والإحسان، والصفح، أضف إلى ذلك ما يحصل لك من الثواب، وأنت ترجو ما عند الله والله يقول: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40] ويقول: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] ثم ذكر أوصافهم إلى أن قال: أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 136] ومن أوصافهم أنهم يكظمون الغيظ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] والله يقول: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَة لا يأتل: لا يحلف، ويمتنع أولو الفضل منكم، وهم أصحاب المراتب العالية، والسعة، وهم أصحاب الغنى، والمال أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النــور: 22] قالها الله في أبي بكر لما اتهمت ابنته في عرضها، ومنْ المُتَّهَم؟ ومَنْ المُتَّهِمْ؟ رئيس المنافقين، وتابعه على ذلك بعض المسلمين، والجزاء أيها الإخوة من جنس العمل.
أخرج الشيخان في خبر ذلك التاجر الذي كان يداين الناس فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه، فإذا عفوت عن الناس، وتجاوزت عن زلاتهم، وأخطائهم فالله يتجاوز عنك، بالإضافة إلى ذلك كسر العداوة التي في النفوس، وسد أبواب الشيطان ادْفَعْ بِالَّتِي هِيََ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] يقول ابن عباس عن معنى الآية: الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوه عصمهم الله وخضع لهم عدوهم، وأضف إلى ذلك ما يحصل لك أنت من النعيم، والسعادة، وانشراح الصدر، والأنس، وإن الغل على اسمه يتعذب الإنسان به قبل غيره، وقد يكون الإنسان الآخر لا يدري عنك، وأنت تعيش في أغلالك، وأحقادك ترهقك، وتثقلك، وتقعدك عن العمل، وعن طاعة الله والأنس بعبادته، والسرور بمناجاته، فأقول: لذة العفو - كما قال بعضهم - أعذب من لذة التشفي، وأقبح فعال المقتدر الانتقام، فهذا خلق حسن من الأخلاق الإسلامية الطيبة، وهو دليل على سعة الصدر، وحسن الظن بالناس، والترفع عن الدنايا، والسفاسف.
أسأل الله أن ينفعني، وإياكم بما سمعنا، وإن يجعلنا، وإياكم هداةً مهتدين، وأن يلهمنا، وإياكم رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.
أنت أيها الزوج كيف تتصرف حينما تتعذر العشرة بينك، وبين امرأتك؟ بعض الأزواج يضيق عليها، ويشدد الخناق، بل بعضهم - ولا أبالغ أيها الإخوة - قد يفصل الكهرباء من البيت ليضطر هذه المرأة بألوان من التضييق، والأذى لتطلب الطلاق هي، وتفتدي منه، وتدفع له ما خسر كما يزعم، تدفع له المهر، والتكاليف التي دفعها في زواجه، وقد استمتع بها، ولربما أكل شبابها، فأين المروءات؟ حينما يقف الإنسان، ولا رغبة له في المرأة يقف، وكأنما يجلس على الجمر لكراهيته لها، والبقاء معها من أجل أن تطلب هي الطلاق؛ وقد تعذرت العشرة، وحينما يقع ذلك كيف تتصرف؟
هذا جبير بن مطعم تزوج امرأة فسمى لها صداقاً، وطلقها قبل الدخول، ثم تلا هذه الآية: إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة: 237] فقال: أنا أحق بالعفو، فسلم إليها الصداق كاملاً مع أنها تستحق نصف الصداق، ولو أن هذه الزوجة تصرفت معك تصرفاً لا يليق، فهل ينبثق ذلك عن أحقاد؟ هل ترميها بالثلاث كما يفعل بعضهم؟ هل تضربها، وهل تعذبها؟ هل تهجرها هجراً ملياً؟ بعض النساء يقلن: يهجرني من سنوات، وبعضهن تقول: أصبت بالصرع المتكرر من كثرة ما يضربني على رأسي، وبعضهن تقول: يدخل بشتم، ويخرج بشتم من غير سبب، نقول: تجنبي الأمور التي تثيره، تقول: هو يأتي ثائراً أصلاً، لم أترك شيئاً إلا صنعته معه، ويغضب على أتفه الأسباب، ولربما في مناسبات لا يليق فيها هذا الصنيع كليلة العيد، وصبيحة يوم العيد، وبعض النساء تتصل تسأل تقول: طلقني بالثلاث في صبيحة العيد؛ لأني كنت أوقظه ليأكل ما أعددت له من طعام، ثم يخرج إلى المسجد، فرماني بالثلاث، وقام إلي، ونثر الطعام في المطبخ، وضربني ضرباً مبرحاً، وشتمني، وشتم أهلي صبيحة يوم العيد - فنسأل الله العافية - وماذا صنعت؟ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.