الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس أورد المصنف -رحمه الله-:
خالد بن عمر العدوي -رحمه الله، وهو من كبار التابعين، قال:خطبنا عتبة بن غزوان وهو من أصحاب النبي ﷺ الذين هاجروا إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا فما بعدها.
خطبنا عتبة بن غزوان، وكان أميرًا على البصرة، والبصرة معروفة وهي من الأمصار التي بناها عمر بن الخطاب وكان ذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة، وسكنها الناس في السنة الثامنة عشرة، وهي البلدة التي لم يعبد فيها صنم، فهي بلد إسلامي أسسه المسلمون.
يقول: "فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصُرْم، وولت حَذاء".
قوله: "آذنت بصُرْم" يعني: بانقطاع وفناء، وصَرْم الشيء بمعنى قطعه، صرَمَ الثمر، صرَمَ النخل يعني: جذ ما فيها من ثمر، والمعني: أنه قد أَعلمتْ أو قرب انقطاعها، وذهابها وزوالها وتحولها، وفناؤها.
"وولت حَذاء": يعني: سريعة، قد أزف ذهابها وانقضاؤها، ويقال: للقطاة حذاء؛ لأن ذنبها قصير، أو لأن ذيلها قصير.
الدنيا سريعة الانقضاء، وقد آذنت بالذهاب والزوال والانقشاع، وذلك أن النبي ﷺ قال:بعثت أنا والساعة كهاتين[1] وجمع بين السبابة والوسطى.
ولم يبق منها شيء إلا صبابة يتصابّها الناس، يعني: مثل البقية التي تبقى في الإناء يتصابها الناس بمعنى أنهم يحاولون استخراج ما فيها من المائع، فنحن في آخر الزمان، والله المستعان.
يقول: "ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها"، وهذه العبارة تدل على أن ذلك لا يخرج إلا بشيء من التكلف، القربة إذا كانت مليئة بمجرد ما يمال رأسها أو يحرك تصب، وأما إذا لم يكن فيها إلا بقية قليلة جدًّا من المائع، من الزيت، أو من السمن، أو من العسل، أو غير ذلك فإنه يحتاج إلى عمل زائد من أجل أن يستخرج ما بقي فيها من هذا.
يقول: "ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذُكر لنا أن الحجر..."[2].
هذه قضية مسلمة كلنا نعرف أننا سننتقل، أمّا الموت فنحن نشاهده كل يوم يُنقل أناس منا، ولو فكر الإنسان خلال السنوات العشر الماضية مِن جيرانه ومعارفه وأصحابه وأحبابه، لو جلس دقائق يفكر مَن الذين ماتوا ممن يعرفهم فإنه سيجد عددًا من الناس كان يؤاكلهم ويجالسهم، أو يجاورونه، أو نحو ذلك وماتوا وهم من الشباب والشيب، فالموت لا يفرّق إذا جاء الأجل، من جاء أجله ذهب، فهذه قضية نشاهدها، والدور سيأتي علينا لا محالة، المسألة مسألة وقت، كلنا قد حكم عليه بالزوال والفناء والعدم، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، نحن جميعًا محكوم علينا بالإعدام، لكن متى؟ هذه قضية لا نعلمها، وهذا من لطف الله ، وإلا لو أن الإنسان أُعلم بأجله لما لذ له عيش، وما طاب له مقام، ولا تهنّأ بنوم، ولا شراب، ولا طعام، لو قيل له: إنك ستموت في الوقت الفلاني، الساعة الفلانية، الدقيقة الفلانية، لبقي يحسب هذه الأيام والدقائق وينتظر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، كل يوم، كل ساعة تمضي قرُبَ الأجل، لكن الله أخفى ذلك، وتجد الإنسان بينما هو سادر يضحك ويتحدث، والأجل قريب ما بينه وبينه إلا يوم أو أيام أو ساعات أو سنيّات، لكننا لا نفكر.
يقول: "فانتقلوا بخير ما بحضرتكم".
ما معنى بخير ما بحضرتكم؟ أي: بخير ما حضركم، ما الذي حضرنا؟ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] ما الذي يحضرنا منها؟ ما الذي بأيدينا من هذه الدنيا؟ الأموال، العرض، الشيء الذي تنجذب إليه النفوس وتقبل عليه انتقلوا بخيره، إذا لم تنتقل به إلى آخرتك، معناه أنك وفرته في دنياك وكنزته وحفظته، ثم تموت ولا تنتفع به، أو أنك تأكل ذلك في الدنيا ولو أنك تأجلته في الآخرة لكانت الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فهذه تجارة رابحة، مؤكدة موثقة مع الله ، والناس يتهافتون على تجاراتٍ الأرباح فيها مظنونة، والخسائر فادحة، ونسب الأرباح قليلة، بل يتهافت كثير منهم على الربا نسبة اثنين ونصف بالمائة ونحو ذلك، وتلحقهم لعنة الله ، ويصبرون عليها -نسأل الله العافية- على اثنين ونصف بالمائة فـ"انتقلوا بخير ما بحضرتكم" ينظر الإنسان ما أفضل ما عنده ينتقل به لآخرته، من أجل أن يبرد مضاجعه، انتقل به هناك تلقه وافرًا، لا تجعله في هذه الدنيا الشهباء الشاحبة التي تزول وتتحول، ويتحول فيها كل شيء.
"انتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذُكر لنا.."، هنا بالبناء للمجهول من الذي ذَكر للصحابة؟ النبي ﷺ ولهذا فإن هذا له حكم الرفع، "ذُكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم -أي من حرفها الأعلى تقول: شفير البئر، يعني: طرفه أو الحافة كما نسميها-فيهوي فيها سبعين عامًا، لا يدرك لها قعرًا".
وقد تكلمتُ على مثل هذا المعنى في مناسبة سابقة في هذا الكتاب، في أن الحجر يلقى في النار لمّا سمع النبي ﷺ صوتًا فقال: "هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا..."[3]، وتكلمت على هذه القضية في الكلام على سرعة الحجر، فكم يقطع الحجر؟ وكم سرعته؟ ثم بعد ذلك نستطيع أن نعرف مسافة تقريبية لقعر النار، يعني: الإنسان الآن لو أنه صعد على أعلى قمة أو عمارة فإذا نظر من النافذة إلى الأرض لربما يدور رأسه، ويرى الأشياء صغيرة جدًّا، مع أنه لو سقط فهي ثوانٍ حتى يصل إلى الأرض، بينما في النار سبعون سنة حتى يصل إلى قعرها.
لو ركب الإنسان الطائرة وارتفع أحد عشر ألف متر -ما هو قدم، كم يحتاج حتى يصل إلى الأرض إذا سقط؟ لا يأخذ دقيقتين، أليس كذلك؟ بل أقل من هذا، سبعون عامًا، سرعة سقوط الحجر، طبعًا هذه المسألة كما ذكرت سابقًا الحجر بحسب الارتفاع تكون سرعته، يعني: لما أرمي حجرًا أو أرمي شيئًا يعني: الآن من هنا لما أرميه من القرب غير لما أرميه من بعد، لما أرميه من بعد يكون أسرع، هذا يعرفه أهل الفيزياء والحسابات هذه، وكذلك أيضًا ما ثقل هذا الجسم؟ أنا لما أرمي هذا الجهاز الآن الجوال غير لما أرمي علبة المناديل الفارغة ما فيها إلا ورقة واحدة، لاحظ سرعة هذه، ولاحظ سرعة الجوال، فحسب الثقل، ثم أيضًا حسب الجهة المقاومة، النار تتلظى، تتلهب، فإذا ألقي فيها الحجر، هل سيكون بنفس الاندفاع لما يكون في الهواء، أو أنه يكون أبطأ؟ فهذه الحسابات هي حسابات لن تكون دقيقة بطبيعة الحال، حتى لو عرفنا سرعة الحجر، وتحتاج أنك تنظر إلى حجر ساقط مسافة تصل إلى سبعين سنة أو إلى قريب من سبعين سنة حتى ترى سرعة الحجر من تلك المسافة، فهذه أمور لا يدركها العقل، لا يصل إليها، ما يمكن أن تتصور ارتفاعًا بهذا الحجم إلى سبعين سنة وهو يسقط، هذا شيء هائل.
يقول: "فيهوي فيها سبعين عامًا لا يدرك لها قعرًا" ما حجم النار؟ النبي ﷺ أخبر أن الشمس والقمر تكوران وتلقيان في النار، معناه أن النار أكبر من الكرة الأرضية بكثير، وأكبر من القمر، والشمس أهل الفلك يقولون: إنها أكبر من الأرض بملايين المرات، وتلقى في النار هي والقمر، والظاهر أن إلقاءها لا يؤثر في النار؛ لأن النار تقول: هل من مزيد؟، هل من مزيد؟ فكأنها كرة ألقيت فيها، إذن ما حجم هذه النار؟ وقودها الناس والحجارة، قال: "لا يدرك لها قعرًا، والله لتُملأنّ، أفعجبتم؟".
قال: "ولقد ذُكر لنا" أي ذكر لنا النبي ﷺ: "أن ما بين مصراعين" المصراع يعني: ما بين ناحيتي الباب، يعني: ما بين عضادتيه، الآن هذا باب له مصراعان ما بين الأخشاب أو التي تركب فيها الحدائد التي ينغلق منها الباب وينفتح، وهنا أراد أن يجمع بين الخوف والرجاء، كما هي الطريقة التي مشى عليها القرآن، يجمع بين الخوف والرجاء، فلما ذكر النار وقعر النار، قال: "ولقد ذُكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عامًا" لها ثمانية أبواب، عرض الباب الواحد فقط مسيرة أربعين عامًا، نحن ما نعرف بابًا مساحته أربعون مترًا، ممكن البيت كله ما تجيء مساحته أربعين مترًا، فهذا أربعون عامًا، ولو حسبناها على طريقة الراكب في ذلك الزمان، الراكب على الجمل يقطع في يومين قاصدين يقطع ثمانين كيلو تقريبًا، يعني: باليوم يقطع أربعين كيلو الراكب العادي على بعير، فلو حسبتها في اليوم يقطع أربعين كيلو، احسب أربعين سنة تقريبًا، كم عرض باب الجنة الباب الواحد؟، وذَكرَ العرض، ما ذكر الطول، وإذا ذُكر العرض وهو بالعادة أقل من الطول فما بالك بالطول؟، ولهذا العرب تذكر العرض، والله لما ذكر الجنة قال: عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، ما قال: طولها، فإذا كان عرض الجنة مثل عرض السماء والأرض فما طولها إذن؟ شيء هائل، أين السموات والأرض؟، ومن يستطيع أن يقدرها؟ لا نستطيع، فطولها أكثر.
يقول: "وليأتين عليها يوم وهو كظيظٌ من الزحام" هذا الباب الذي ما بين مصراعيه مسيرة أربعين عامًا، ثمانية أبواب، وكل باب مزدحم من الداخلين للجنة، زحمة، كظيظ، فالدفعة الواحدة التي تُفوَّج من باب الجنة كل دفعة مع ثمانية أبواب كم يكون عددهم؟، لو قدرتهم كم يحتل الإنسان من المساحة، وعملت إحصائية تقريبية، كم الفوج الواحد الذي يدخل في أبواب الجنة دفعة واحدة؟ ملايين، الدفعة الواحدة، وهو كظيظ من الزحام.
أسأل الله أن يعيذنا وإياكم من النار، وأن يدخلنا الجنة، وأن يحشرنا تحت لواء محمد ﷺ، ويسقينا شربة من حوضه لا نظمأ بعدها أبدًا، وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: بعثت أنا والساعة كهاتين (8/ 105)، رقم: (6504)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة (4/ 2269)، رقم: (2951).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2278)، برقم: (2967).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين (4/ 2184)، رقم: (2844).