الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
[2] من قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} الآية:29 إلى آخر السورة.
تاريخ النشر: ٣٠ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 5112
مرات الإستماع: 13479

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله.

قال الحافظ -رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار أنهم يقال لهم يوم القيامة: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ۝ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [سورة المرسلات:29، 30] يعني: لهَب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [سورة المرسلات:31] أي: ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو في نفسه، ولا يغني من اللهب يعني: ولا يقيهم حر اللهب.

وقوله تعالى: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [سورة المرسلات:32] أي: يتطاير الشرر من لهبها كالقصر، قال ابن مسعود: كالحصون، وقال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، ومالك عن زيد بن أسلم وغيرهم: يعني أصول الشجر.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول الله لهؤلاء المكذبين وما يلاقونه من الجزاء: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ أي: أنهم كذبوا بالجزاء والحساب والبعث والقيامة، فيقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ انطلقوا إلى هذه النار التي كذبتم بها، انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ أي: له ثلاثة فروع، وذلك أن الدخان إذا قوي واشتد وارتفع فإنه يتفرق في السماء قطعاً، أو يتفرق على أنحاء شتى.

انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ أي: ظل اللهب أو ظل الدخان، ولكنه ليس كالظل الذي يعهدونه في الدنيا، فإنه لا يقيهم الحر، ولا يجدون تحته برداً أو ما يعرف في الظل المعهود.

لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [سورة المرسلات:31] لا يظلهم ولا يخفف عنهم من حرارة النار.

ثم قال عن هذه النار التي وصف هذا الدخان المتصاعد منها: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [سورة المرسلات:32] الشرر معروف هو ما يتطاير من النار من القطع الصغار والكبار، كله يقال له: شرر، ووصف الله هذا الشرر بأنه كالقصر، والقصر إذا أطلق عند العرب فإن معناه الأشهر المتبادر هو البناء الذي يكون من الحجارة، فما يبنيه الناس من القصور من الدور من الحجر يقال له القصر، وتأتي هذه اللفظة في كلام العرب لمعانٍ أُخَر، ومن ذلك أنها تطلق على حبال السفن، وهي حبال غليظة جداً، وإذا جمع بعضها إلى بعض صارت كأوساط الرجال، ولكن هذا المعنى أقل شهرة من المعنى الأول.

وهناك معنى ثالث يتصل بالنار وما توقد فيه، وهو أنه يطلق على الحطب الذي يكون على ذراع ويكون على أكثر من ذلك كثلاثة أذرع توقد به النار، يقال له: القصر، كما جاء ذلك كله عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، أعني في تقدير القصر، قال: كنا نعد الحطب للشتاء -يعني يوقد به على قدر ذراع- نسميه القصر، يعني: يجمعون الحطب في الشتاء، وفي بعض الروايات أكثر من هذا التقدير، أطول؛ ولهذا قال بعض السلف: كأصول الأشجار، أصول الأشجار لربما تبلغ ثلاثة أذرع، ولربما تبلغ أكثر من ذلك.

فالمقصود أن الشرارة الواحدة ضخمة، ليست كالشرارة المعهودة في الدنيا بقدر رأس الأصبع أو أقل من ذلك، هذا شررها.

كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [سورة المرسلات:33] أي: كالإبل السود، قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك، واختاره ابن جرير.

كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ الجِمالة يعني الجمال، وفي القراءة الأخرى المتواترة: "جِمالات"، والجمالات جمع للجمال، جمال وجمالات، كأنه جمالات صفر يعني: أن هذا الشرر أسود اللون يضرب إلى الصفرة، وذلك من صفة الجِمال المعروفة، وقد ذكرت هذا في أول هذه الدروس عند مناسبةٍ جاء الاستشهاد بها وهي قوله  -تبارك وتعالى: إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء وذلك في الكلام على أصول التفسير.

فالمقصود أن الصفرة في البقر إذن لا تقال للسواد، لاسيما إذا قُيدت بالفقوع ووصفت بذلك، بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا [سورة البقرة:69]، وأما الجِمال فإن الصفرة تطلق فيها ويراد بها السواد:

تلك خيلِي منهُ وتلك ركابِي هنّ صفرٌ أولادُها كالزبيبِ

والزبيب لونه غامق، كما يقال: بين السواد والصفرة، السواد الذي يضرب إلى الصفرة يقال له: أصفر في كلام العرب، وليس المقصود به الأصفر الذي تعارف الناس على إطلاقه اليوم، وهو ما ترون في هذه اللوحة أصفر، وإنما المقصود هنا السواد، والنار جاء في حديث حسنه بعض أهل العلم: أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة[1]، إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ بشرر كبير أسود اللون يضرب إلى الصفرة، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ كالإبل السود، هذا معناه، الشرارة الواحدة كالجمل إما باللون كالجمل الأسود، وإما باللون والحجم كقدر الذراع، وإما كالقصر سوداء.

وعن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: جِمَالَتٌ صُفْرٌ يعني: حبال السفن.

وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قال: كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك، فنرفعه للشتاء، فنسميه القصر، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:34] .

يعني وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بما ذكر من صفة النار، فكل واحدة ترجع لما قبلها.

ثم قال تعالى: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [سورة المرسلات:35] أي: لا يتكلمون.

وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [سورة المرسلات:36] أي: لا يقدرون على الكلام، ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا.

يقول: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، كما قال عنهم الله في ذلك اليوم: فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [سورة طه:108]، والهمس نطق، وكذلك يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ۝ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:107، 108]، وهذا كلام منهم، وكذلك أخبر أنهم يقولون: يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ [سورة الصافات:20]، ويقولون: يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [سورة يس:52].

فالحاصل أن الله أخبر عن جملة مما يقولونه مفرقاً في كتابه ، وذلك لا ينافي بعضه بعضاً، وإنما المقصود أن هذا اليوم يوم طويل، فتارة لا يستطيعون النطق فيه، لا يمكّنون من ذلك، في بعض أوقاته -في بعض أحايينه- لا يتمكنون من النطق: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ هذه ساعة لا ينطقون فيها؛ لأن العرب إذا أضافت اليوم إلى فعل يفعل فإنها تعني بذلك الساعة والوقت المحدد، تقول: هذا يوم مجيء زيد، أي: ساعة مجيء زيد إلى هذا المكان، وتقول: هذا يوم قلت لك فيه كذا وكذا، أي هذه ساعة قولي لك كذا وكذا، هذا يوم مكافأتك، يعني هذه ساعة مكافأتك.

هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي: هذا الوقت الذي لا ينطقون فيه، وهم ينطقون في أوقات أخرى بما ذكر: فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا وأشباه ذلك، فهو يوم طويل في بعض أحايينه لا ينطقون، وفي بعضها يتكلمون همساً، يغشاهم الذل، وفي بعض الأحايين يتكلمون يقولون: يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا، وما أشبه هذا، فهذا وجه الجمع بين هذه الآيات.

بل قد قامت عليهم الحجة ووقع القولُ عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، وعَرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ، ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:37].

كلام ابن كثير الآنف هو جواب عن سؤال يتبادر إلى ذهن السامع كيف قال هنا: لا يَنْطِقُونَ وفي مواضع أخرى أثبت بعض قولهم؟.

وقوله تعالى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ ۝ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [سورة المرسلات:38، 39]، وهذه مخاطبة من الخالق لعباده يقول لهم: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ يعني: أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد، يُسمِعُهم الداعي ويَنفُذهُم البصرُ.

ويَنفُذهم البصرُ، يعني: أن البصر ينفذهم أي أنه يراهم جميعاً على كثرتهم، جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ أي: الأمم المتقدمة التي تطاول الزمان على ذهابها واضمحلالها.

وقوله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ تهديد شديد ووعيد أكيد، أي: إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي، وتَنجوا من حكمي فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك، كما قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ [سورة الرحمن:33]، وقد قال تعالى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا [سورة هود:57]، وفي الحديث: يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني[2].

فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ يدخل فيه جميع الأقوال التي ذكرها السلف في معنى الآية، والله تعالى أعلم، بمعنى: إن كان لكم ملجأ أو قوة أو حيلة للتخلص من هذا المأزق فافعلوا، ليس لكم خلاص ألبته، ليس لكم مخرج ولا طريق تستطيعون فيه التخلص مما أنتم فيه، فهو محيط بكم، واقع بكم لا محالة، لا تستطيعون النجاة والخلاص.

ولهذا يقول الله عما يكون في ذلك اليوم وعن حال هؤلاء الكافرين يقول: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [سورة المدثر:48]، ويقول: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48]، فذَكَرَ الأمور الثلاثة منفية وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً بمعنى: لا يستطيع أن يغني عنه شيئاً، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ لا يقبل منها شفاعة، لا يقبل من الواسطة هذا أن يشفع فيه فيتخلص، ولا عدل يعني الفداء، وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ لا يتمكن أحد من أخذهم وإنجائهم بالقوة، فكل هذه الأمور منفية، لا أحد يغني عنه لا بقليل ولا بكثير، ولا تنفع فيه الواسطة، ولا يقبل فيه الفداء ولا يستطيع أحد أن ينتزعه ويخلصه بالنصرة والقوة، كل هذه الأمور منتفية، فيُخذل الإنسان تماماً، لا يجد له ناصراً، بل أقرب الناس إليه يتمنى أن يفتدي به من العذاب.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ۝ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ [سورة المرسلات:41، 42] يقول تعالى مخبراً عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات وترك المحرمات إنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون، أي: بخلاف ما أولائك الأشقياء فيه من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن.

وقوله تعالى: وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي: ومن سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة المرسلات:43] أي: يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم.

ثم قال تعالى مخبرًا خبرًا مستأنفًا: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [سورة المرسلات:44] أي: هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:44].

يقول الله : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ [سورة المرسلات:41]، وابن كثير -رحمه الله- أشار إلى معنى التقوى هنا، قال: الذين عبدوه بأداء الواجبات وترك المحرمات، وهذا فيه جماع حقيقة التقوى، وما ذكر إنما هو عائد إلى هذا المعنى، أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر وترك ما نهى، وما إلى ذلك مما قيل في هذا المعنى، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ، انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ۝ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [سورة المرسلات:30، 31]

وهنا في ظلال واسعة فارهة، الشجرة يسير الراكب تحت ظلها مائة عام لا يقطعها، وعيون فهم في غاية الري، وفواكه مما يشتهون، وهذا يدل على كمال النعيم، إذ إن طعام الجنة لا يقتصر على الأمور الضرورية التي يسد بها الرمق أو يقام بها الأود، وإنما هو نعيم واسع يحصل فيه ألوان التفكه: وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ الأكل والشراب الهنيء الذي لا تكدير ولا تنغيص معه، بمعنى: أنه يكون سائغاً في حال أكله ليس كأكل أهل النار وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [سورة المزمل:13]، يقف في حلوقهم، والشراب الحميم الذي يقطع الأمعاء: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [سورة محمد:15]، وإنما هذا شراب هنيء وطعام هنيء يسوغ بآكله فلا يجد فيه أذى ولا كدراً في حال تعاطيه.

الإنسان قد يأكل ويتأذى أو يتقزز من بعض ما يلابس الطعام، ويحاول التخلص من بعض ما خالطه مما تنفر منه نفسه وطبعه كما هو مشاهد في أكل الدنيا، يُبعد هذا ويقطع هذا ويتخلص من هذا، وإذا نظر إلى بعضه لربما حصل له بعض التنغيص، أما طعام الجنة فهو هنيء ليس فيه هذا، وكذلك لا تنغيص بعده، بحيث لا يحصل بعده من الآلام أو مغص البطن أو ما أشبه ذلك، كل ذلك لا يحصل بطعام الجنة، وقد وصف الله نعيم الجنة بأنه كريم أيضاً، وذلك ليس فيه تعب في حصول الإنسان عليه كما هو في الدنيا إذا أراد أن يحصل على شيء، تحتاج إلى زرع ثم سقي ثم حصد ثم تنقية ثم طحن ثم عجن ثم خبز ثم إذا أكله لربما يسوغ في فمه، وإذا أكله بعد ذلك يجد أثره، هذا كله ليس في الجنة، فهو لا مشقة في تحصيله، قطوفها دانية، ولا تنغيص في تعاطيه، يسوغه في الفم وفي الحلق، ولا تنغيص بعده لا حساً ولا معنى، هنيء.

يحدثني أحد الأشخاص عن حياته القديمة -الرجل الآن في التسعين- وكيف بدأ يعمل، يقول: لم يكن لنا طعام إلا الحليب في الصباح، يقول: كنا نجلس عادة تجتمع الأسرة البنات والأبناء والأب، يقول: فنشرب هذا الحليب مجتمعين، ثم ينطلق كل إنسان بشأنه، يقول: ففي صبيحة يوم وأنا أشرب فإذا بأبي يقول: يا فلان إلى متى وأنا أنفق عليك كما أنفق على الواحدة من أخواتك، فيقول: فتوقف الشراب وصار يخرج من طرفيْ فمي، -هذا عنده كرامة وعزة نفس وأنفة، قال: فصار يخرج من هنا، يقول: فقمت وقبلت رأسه وقلت: أطلب منك أن تسامحني، يقول: فسافرت بعدها، أظنه قال: أربعين سنة، يسافر يطلب الرزق ويبحث ويعمل، ما رأوه، وليس عندهم وسائل اتصال.

فالمقصود أن التنغيص الذي يحصل في الإنسان بسبب منة لا شك أن هذا يكون في غاية الإذلال، فيأكل الإنسان كأنه يتجرع الحصى، فنعيم الجنة ليس فيه شيء من ذلك، هذا من التنغيص المعنوي، يحصل للإنسان فيه أذية ومنة.

وقوله تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [سورة المرسلات:46] خطاب للمكذبين بيوم الدين، وأمَرَهم أمر تهديد ووعيد...

وأمرهم، أي: يقول لهم: كلوا وتمتعوا، الأمر يأتي لمعانٍ متعددة: للإيجاب، وللندب، وللوعيد والتهديد، وللإباحة، وغير ذلك من المعاني الكثيرة التي يذكرها الأصوليون وأهل اللغة، فهنا يقال لهم: كلوا وتمتعوا، فهذا أمر استحباب أو أمر إباحة، وإلا فهذا أمر وعيد، كقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49] هذا أمر فيه الإهانة والتبكيت.

وأمَرَهم أمر تهديد ووعيد، فقال تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا.

الآن تحول الخطاب للمجرمين بعدما وصف عذابهم ونعيم أهل الجنة، يعني قل لهؤلاء المكذبين: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا، عما قليل ستتحولون مما أنتم فيه من هذه الحياة إلى هذا العذاب الذي وصف، فيقول لهم: كلوا وتمتعوا في دنياكم هذه فسوف تتحولون إلى نار تلظى، فهو يتوعدهم في هذا، مثل ما تقول للإنسان الذي تتوعده: افعل ما بدا لك الآن وستجد غبّه بعد ذلك، قل ما شئت وستلقى جزاءك، هذا كله للوعيد، وليس للإباحة.

فقال تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا [سورة المرسلات:46] أي: مدة قليلة قريبة قصيرة، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي: ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:47] كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:24]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [سورة يونس:69، 70].

وقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [سورة المرسلات:48] أي: إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه.

هنا وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا بعض السلف يقول: هذا في الآخرة حيث لا يستطيعون الركوع، وذلك مستبعد، ليس هذا هو المقصود، وإنما السياق يدل على أن هذا في الدنيا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا ليس المقصود هو وصف ما يقع لهم في الآخرة حيث يكشف الله عن ساقه فيسجد أهل الإيمان، ويبقى غيرهم لا يتمكنون من هذا السجود، ليس هنا وصف الآخرة، وإنما يذكر ما أوجب لهم دخول النار، وما أوجب لهم هذا الوعيد، ما أوجب لهم هذا الشقاء، يقول: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ، كقوله: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [سورة المدثر:43]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواوَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أي: أنهم لا يصلون، فهذا هو المشهور أن ذلك في الدنيا، وهو الذي عليه كبار المفسرين، ومنهم كبيرهم ابن جرير الطبري -رحمه الله، وهو الذي يدل عليه السياق.

يقول: إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا، من أين أخذ "مع الجماعة"؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ليس في الآية ما يدل على هذا، لا يوجد ما يدل صراحة على أن الأمر به مع الجماعة؛ لأن قوله: ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أي: في جملتهم، وإن لم يكن ذلك في حال واحدة خلف إمام واحد، مع أنه كثيراً ما يستدل العلماء بمثل هذه الآية على وجوب صلاة الجماعة: ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ، ولكن هذا ليس بمستبعد، مع أن ظاهره أن هذا الركوع أو هذه الصلاة المأمور بها أي: في جملتهم، والدليل على هذا أن الله قال:ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ فهل هذا أمر لها بصلاة الجماعة؟

الجواب: لا، وإنما أمرها أن تكون مصلية في جملة المصلين.

ثم قال تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [سورة المرسلات:50] أي: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به؟! كقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [سورة الجاثية:6].

يعني الآن في هذا القرآن في هذه السورة التي ختمت بهذه الآية: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ ذكر الله فيها ما رأيتم، أقسم هذه الأقسام المتتالية على البعث، وهو العظيم الأعظم، وهو أصدق من يقول، فأقسم بالمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات، هذه خمسة أقسام على أن ما نوعد به واقع، ثم ذكر ما يجري في ذلك اليوم من الأهوال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ۝ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ۝ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [سورة المرسلات:8-10]، ثم ذكر إهلاك الأمم المتقدمة وما توعد به المكذبين بعدهم، ثم ذكر الله بعد ذلك قدرته وما حصل من مظاهر ذلك من خلق هذا الإنسان في هذه الأطوار من نطفة مهينة ضعيفة، ثم نقله من طور إلى طور حتى خرج إلى هذه الحياة، وذكر إنزال المطر من السماء، وخلق الجبال، وما أشبه ذلك من هذه الأمور، ثم ذكر بعد ذلك عذاب أهل النار، ونعيم أهل الجنة بهذا التفصيل، يقول الله بعده: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ  هؤلاء إذا لم يؤمنوا بهذا ولم يخافوا من هذا الوعيد ولم يكن ذلك زاجراً لهم وواعظاً لهم، فهؤلاء لا تنفعهم المواعظ، هذا هو المقصود.

ولو أن قلوب الناس كانت حية كما ينبغي وذهب عنها الصدأ والران الذي غلفها -فما عادت تتأثر كثيراً بالقرآن- فإنها لا تتمالك عند سماعه، ولا حتى في حال التسميع حينما يسمع الإنسان لغيره، لو كان قلبه حياً، ولكن أعظم طريق لتحصيل هذا يكون بأمرين اثنين، هناك تفاصيل داخلة تحته كثيرة، لكن أعظم ذلك يكون بأمرين اثنين:

الأمر الأول: فهم معانيه، يقول ابن جرير: عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه كيف يلتذ بقراءته؟!، هذا التفسير المختصر، انظر حينما تسمع الآيات بعده هل تسمعها كما كنت تسمعها من قبل؟ أبداً، تعيش معها، فكيف لو كان بتفصيل، وذكر المعاني، والاستنباطات المنطوية تحتها.

ولذلك تجد أن الأعاجم لا يفقهون شيئاً مما في هذا القرآن أبداً، إنما يقرءونه للبركة، يقرأ آيات الوعيد ويقرأ آيات الوعد ولا يحرك ذلك فيه ساكناً؛ ولذلك تجد عندهم المضحكات المبكيات، الأسماء، أيّ اسم في القرآن يسمون به أبناءهم، شخص في كوسوفا اسمه خنزير، مسلم، كيف سميتموه بهذا الاسم؟ لا يجوز هذا، قالوا: هذا موجود في القرآن.

أحد الإخوان اسمه زيتون، ما هذا الاسم؟ يفتحون المصحف ينظرون الموجود، نَظر فوجد وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [سورة التين:1] قال: إن كان بنتاً فهي تين وإن كان ولداً فهو زيتون، تين وزيتون، وما أدري ما هو الفرق بينهما من حيث التذكير والتأنيث حتى تكون البنت "تين" والولد "زيتون"، وآخر اسمه جهنم.

وقل مثل ذلك في الأسماء العجيبة الغريبة: جَاهَدَ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا [سورة العنكبوت:6] أقول له: أنت مجاهد، يقول: لا جاهَدَ، اسمه جاهد، فعل ماضٍ مبني على الفتح، فكنا في حفل كما يقال: بناء كلية، فجاءوا بقارئ والمحافظ تبرع بأرض عشرة هكتارات -جزاه الله خيراً، فإذا القارئ يقرأ -اختاروا هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3] فجلست أضرب أخماساً بأسداس هل يقصدنا أو يقصد المحافظ، وأنا أعرفهم معرفة جيدة وأثق بهم تماماً، أستبعد أن يقصدونا في مثل هذا المجمع، فلما ركبنا في السيارة والقارئ معنا والأخ المشرف على الكلية معنا، قلت: هذه الآيات التي قرأتموها من اختارها؟

قال الأخ الداعية المشرف: أنا الذي اخترتها، قلت: من تقصدون بها؟

قال: كيف من نقصد بها؟

قلت له: من هو المعنِيُّ، الرسالة لمن لنا أو للمحافظ؟ فتعجب ووقف شعره وقال: أنتم هكذا تفكرون؟ قلت: نعم، اختيار هذه الآيات لابد له من معنى مناسب، فتعجب، وقال: أبداً، نحن لا نفكر في هذا أبداً، إنما نختار آيات أيًّا كانت يُفتتح بها، قرآن يُقرأ لا أحد يخطر له شيء من معانيه، فهؤلاء كيف ينتفعون بالقرآن؟

وهذا الذي أريد بهذه الأمة من قبل أعدائها أنهم يقرءون ولا يفهمون؛ ولهذا الله قال عن بني إسرائيل على أحد التفسيرين: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [سورة البقرة:78] يعني: إلا قراءة.

 تمنَّى كتابَ اللهِ أولَ ليلِهِ  

يعني: قرأ القرآن في أول ليله، يعني: عثمان .

فالحاصل: أن هؤلاء ذمهم الله أنهم لا يعرفون معاني القرآن، معاني كتابهم، لا يعلمون الكتاب إلا أماني، يعني: إلا قراءة على أحد التفسيرين، فأعداء الله أرادوا أن يحولوا بين هذه الأمة وبين كتابها، تقرأ لكن لا تفهم شيئاً من معانيه، لو كانوا يفهمون شيئاً من معانيه ويعيشونه لتحولوا إلى شيء آخر، وبعث فيهم الحياة، لكنه يُقرأ في المناسبات ويذاع من إذاعة إسرائيل، وليس هناك أي مشكلة، لكن التفسير هو المشكلة.

أن يعيش الناس حياتهم مع القرآن، هذه هي المشكلة، وإلا لو نظرت إلى أشد الأمور التي يستنكفون منها في هذا العصر ويأبونها، ويحاربونها غاية المحاربة تجد أنها تمثل أكثر من ثلث القرآن، آيات واضحة وصريحة قوية لا حيلة لهم فيها، لكنْ كثير من الناس لا يفقهون معانيه، وإلا فإن أعداء الله مشكلتهم مع نفس القرآن ليست مع شيء آخر، القرآن نفسه.

الآيات التي تقول: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [سورة التوبة:28] مهما قلبتها –نجس، فهذه مهما حاول المتحذلقون والكذابون والمفترون على الله أن يقولوا غير ذلك فهي واضحة صريحة ما تحتمل معنى آخر، أول سورة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:6-7] مباشرة اليهود والنصارى، في أول كل ركعة تقرأ.

وقل مثل ذلك في آيات القرآن: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا [سورة التوبة:39]، وغيرها من الآيات الكثيرة في القرآن، فماذا يقولون عنها؟

المشكلة أن المسلمين يقرءون ولا يفهمون معانيها، فالأمر الأول هو فهم المعنى، فهذا من أعظم ما يجعل الإنسان يعيش مع القرآن، وإذا سمع يلتذ بسماعه ويتأثر غاية التأثر.

والقضية الثانية: هي أن يجلو الصدأ عن قلبه، القلب تمر عليه حالات يكون في غاية الشفافية، وأنفع ما يكون وأحسن ما يكون للقلب في هذا هو الخلوة، الخلوة وترك الفضول في مخالطة الناس، فضول النظر، وفضول الأكل، وفضول النوم، وفضول الضحك التي تقسّي قلبه، جربوا هذا في رمضان، اذهب واخلُ بربك اعتكف في العشر الأواخر، واجلس في مكان لا يعرفه أحد في الحرم.

أما هؤلاء الذين يعتكفون ويجلسون يتجمعون حلقاً حلقاً، يتحدثون ويضحكون ويثرثرون، فهؤلاء لا يحصل لهم شيء من معاني الاعتكاف إطلاقاً، هو انقطاع عن الطعام والشراب، الصوم هو انقطاع عن الناس بالاعتكاف، فهذا ليس باعتكاف، وإنما يبقى الإنسان منفرداً، لا يخالط ويقضي وقته معهم.

فهؤلاء يجدون من المتعة الزائفة واللذة في المعاشرة والمحادثة أعظم مما يجدونه في بيوتهم –رحلة، هذا الواقع عند كثير من الناس في اعتكافهم، يجلسون عشرين وثلاثين مع بعض يثرثرون إلى الفجر، بين أكل وشرب وحديث، ليس هذا الاعتكاف.

لكن الاعتكاف أن تجلس في مكان لا يعرفه أحد، ولا يراك فيه أحد، وإذا جلست ستجد أثر هذا، قد لا تجده في اليوم الأول والثاني والثالث والرابع لكن بعد ذلك القلب يعود، ويذهب عنه كل ما علق به من أدران وأقذار وقسوة وغير ذلك، فلا تحتمل سماع القرآن أصلاً، حتى لو كنت تمشي في الطريق خارجاً من الحرم وتسمع القارئ يقرأ لا تتمالك، لا تستطيع سماعه لا من الإذاعة ولا من أحد، هذا القلب كان مع فهم معانيه، لكن إذا وجد الفهم مع القسوة لا يحصل المقصود، وإذا وجدت الرقة مع عدم فهم المعاني فقد يتأثر الإنسان بعض التأثر لكنه قليل، والتفاصيل التي تذكر تحت هذا كثيرة، لكن هذا هو أعظم ما يمكن أن يجعل الإنسان يتأثر بالقرآن وينتفع به، هما ركنا التأثر.

رمضان يصوم الإنسان عشرين يوماً ويعيش مع القرآن، اختمها باعتكاف وانقطاع عن الناس وسترى أثر هذا القرآن، فقط افهم معانيه؛ ولذلك أقترح أن يكون لكل واحد ورد من التفسير في رمضان، من تفسير مختصر، كل سنة تختم تفسيراً مع القراءة، لو قرأت مثلاً كل ليلة تفسير جزء من كتاب مختصر مثل التفسير الميسر، أو زبدة التفسير، أو تفسير ابن سعدي، وأشباه هذا من الكتب، كل يوم تقرأ جزءاً قبل أن تسمعه في قراءة الإمام، وانظر أثر ذلك، كل سنة تقرأ تفسيراً، اجعل لك ورداً ثابتاً دائماً بهذه الطريقة.

  1. رواه الترمذي، كتاب صفة جهنم عن رسول الله ﷺ، برقم (2591)، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم (2583)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (1305).
  2. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).

مواد ذات صلة