- في شهر رمضان ثلاث فرص للمغفرة
- لماذا الصوم؟
- ما هي حقيقة الصيام؟
- ما هي حالنا، وواقعنا في رمضان؟
- هل أعددت خطة لاستقبال الشهر؟
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فنحمد الله - تبارك، وتعالى - الذي بلغنا، وإياكم شهر الصيام، كما نشكره، ونكبره - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - على ما هدانا، وحبانا، وأولانا، ووفقنا في هذا الشهر الكريم وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة: 185] هدى هداية الإرشاد، والتعليم في هذا الشهر الكريم لأحكام الصيام، وما يتصل بذلك، وهدى هداية التوفيق لمن شاء من عباده فوفقهم للاستجابة، وللصيام، وللقيام، ولتحقيق ما أمر به، وشرعه في هذا الشهر الكريم.
فهذه خمس وقفات ينبغي أن تكون ذكرى لنا جميعاً في بداية شهرنا هذا، وهي تذكرة لي، ولإخواني، أسأل الله - تبارك، وتعالى - أن ينفع بها، وأن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
الوقفة الأولى: التذكير بأن في هذا الشهر الكريم ثلاث فرص للمغفرة ينبغي أن يستحضرها المؤمن، وهو يستقبل هذا الشهر.
- من قام رمضان إيماناً، واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه[1].
- من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه[2].
- من قام ليلة القدر إيماناً، واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه[3].
فهذه ثلاث فرص لا يصح بحال من الأحوال أن يفوتها المؤمن، فإنه إن فاتته واحدة أدرك الثانية، فإن فاتته الثانية أدرك الثالثة، ومن ضيع الثلاث فهو مضيع بحق.
ولهذا لما قال جبريل : رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له، قُل: آمين فقال النبي ﷺ : آمين[4].
فينبغي على المؤمن أن يضع ذلك هدفاً، أن يسعى لتحصيل هذه المغفرة من أجل أن يسعد، وينعم، ويفوز، فإن المؤمنين يفرحون في نهاية هذا الشهر، واليوم الذي يعقبه يكون يوم عيد، وهذا الفرح، وذلك العيد إنما هو بطاعة الله - تبارك، وتعالى - إنه فرح على التوفيق، والهداية، وهذا الإفضال من الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - فيُظهر الناس البهجة، ويلبسون أحسن الثياب، إظهاراً لهذا السرور، والغبطة على ما وفق الرب وهدى.
وليس العيد للتفريط، وليس العيد للتضييع، وإنما هو فرحٌ بطاعة الله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] فهذه ينبغي أن نستحضرها، ومن ثَمّ يجعل الإنسان أوقات سفره، وأشغاله بحيث لا تكون مزاحمةً لهذه الصلاة، ولا قاطعةً لها مع أن المسافر يكتب له ما كان عليه من العمل، وهكذا المريض، ولكن إن كان عن ذلك مندوحة بحيث يستطيع الإنسان أن يلازم هذه الصلاة - صلاة الليل، قيام الليل - فإنه لا يفرط بها بحال من الأحوال ليتحقق فيه: من قام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه احرص على هذا، اجعل السفر قبله، أو بعده، وهكذا باقي الصوارف، والشواغل.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، برقم (37) وبرقم (2009)، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (759).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان، برقم (38)، وبرقم (1901)، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (760).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، برقم (1901)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (760).
- أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم (646)، والبزار في مسنده، برقم (6252)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1888)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: "حسن صحيح"، برقم (503).
الوقفة الثانية: لماذا الصوم؟ هل مقصود الشارع - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - أن يجوع الإنسان؟! أن يترك طعامه، وشرابه فحسب؟! أن يغير المألوف من غير علة؟!.
النبي ﷺ كما في الصحيحين يقول: من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وإذا أردنا أن نعرف لماذا نصوم فلنتأمل ألفاظ هذا الحديث، ومن رواياته إيماناً إيماناً بماذا؟.
إيماناً أي: اعتقاداً بحق فرضيته - فرضية الصوم - وأن يصومه مصدقاً بوعد الثواب عليه، بوعد الله - تبارك، وتعالى - وَعَدَ بالثواب، والأجر، فهو يؤمن بأن الله فرض ذلك، وأنه من شرائع الدين، فيذعن، وينقاد قلبه لذلك، وهو مؤمن أيضاً بأن الله يجزي على هذا العمل - الصوم - ويوفي الصائمين أجرهم إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به[1] فهذا كله داخل في قوله: إيماناً فلا يكون ذلك من باب الموافقة للناس، أو العادة، رأى أهل البيت يصومون فوافقهم، لا، وإنما يكون ذلك إيماناً، وقد قرأت في بعض المقابلات قبل سنوات مقابلات مع شباب نصارى في بعض البلاد العربية يصومون، فسُئلوا عن هذا؟
فقالوا: رمضان فيه تغيير فالمسلمون من جيراننا، وأهل حينا يصومون، ثم هناك الموائد على الإفطار، وذكروا صنوفاً من الأطعمة، والمشروبات، فهم يتمتعون بالجلوس على تلك الموائد، فيكون ذلك بالنسبة إليهم لوناً من التغيير للمألوف، وليس ذلك الصيام قد صدر من إيمانٍ بأن الله شرعه، وفرضه، أو أنهم يؤمنون بأن الله يجزي على هذا العمل إيماناً، واحتساباً.
وأما الاحتساب فهو أن يطلب الأجر من الله وأن يحتسب الثواب، وذلك بأن يصومه عن معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه.
هذا حاصل عبارات أهل العلم في تفسير هذه الجملة في هذا الحديث الشريف واحتساباً وإذا أردنا أن نعرض واقعنا على هذه الجملة نجد أن بعضنا قد يخالفها، فهو لا يحتسب في هذا الصيام، يستثقل، فإذا أعلن دخول الشهر تثاقل ذلك، وظهر منه ما يدل على تبرمه، وتسخطه، وإذا أعلن عن إكمال العدة في آخر الشهر فهو أيضاً يستثقل ذلك، ويتبرم، فمثل هذا الله - تبارك، وتعالى - غني عنه، وعن عمله، فينبغي على الإنسان أن يتقي ربه، وأن يعلم أن الله - تبارك، وتعالى - يعلم السر، وأخفى، لا يخفى عليه شيء فإذا ظهرت مثل هذه الكلمات فقد تأتي على عمله، ولا يكون له من صيامه إلا الجوع، والعطش، إنسان يستثقل العبادة، ويتكلم بلسانه، ويُظهر ذلك أمام الآخرين يتأفف من الصيام، ومن اقتراب شهر الصوم، ويتذمر، ويضيق صدره بسبب ذلك، فهذا ليس ممن يصدق عليه قوله: واحتساباً ولو كان عنده من الإيمان ما يكفي، ويفي فإنه لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا السلوك، وأن يتفوه بمثل هذه الكلمات، ولكن إذا ضعف اليقين بوعد الله أو بشرعه فإن الإنسان يتبرم، ويستثقل الطاعة، والعبادة، وشرائع الإسلام.
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم، برقم (1904)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151).
الوقفة الثالثة: ما هي حقيقة الصيام؟ النبي ﷺ يقول: الصيام جُنة، وحصن حصين من النار[1] الصيام جُنة، كجُنةِ أحدكم من القتال[2] جُنة أي تُرس، ووقاية كجُنةِ أحدكم من القتال كالترس الذي يتقي به الإنسان النبال، وطعن الرماح، وضرب السيوف، فلا يصل إلى جسده منها شيء، فهكذا الصيام، جُنة، وحصن حصين من النار.
فهذه الجملة في كلام المصطفى ﷺ يتبعها أمور في مضامينها، فإن الأسباب التي توصل إلى النار يكون الصوم جُنةً منها أيضاً، كما يدل عليه روايات الحديث الأخرى، ولا منافاة، ومن ثَمّ جاء في بعض الروايات: الصيام جُنة ما لم يخرقها[3] لو كان مع أحدنا ترسٌ مخرق مشقق فإنه لا يقيه، ولا يحصل مطلوبه، ومقصوده من حمله، هنا: الصيام جُنة ما لم يخرقها يخرقها بماذا؟
جاء في بعض رواياته الصحيحة: ما لم يخرقها بالغيبة[4] فدل ذلك على أن هذا الصوم يكون حرزاً لصاحبه ما لم يُخرق، فإذا خُرق بالغيبة فإن هذا الصوم يكون ناقصاً لا تحصل منه مقاصده، وآثاره التي أراد الشارع أن تحصل، وتتحقق.
فالمراد أن هذا الصوم سترة من النار، ومن الأسباب التي توصل إلى النار، وما هي الأسباب التي توصل إلى النار؟
الآثام؛ لما فيه من الإمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فمن كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساتراً له من النار، ومن ثَمّ كان الصوم جُنة.
ومن ذلك قول النبي ﷺ : فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يسخط، فإن سابه أحدٌ، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم[5].
والرفث يدخل فيه الكلام البذيء، الكلام الفاحش، ويدخل فيه الجماع، ومقدمات الجماع في لغة العرب، وإن كانت المباشرة، والقبلة للصائم تجوز إذا أمن من مواقعة الجماع، ويدخل في الرفث الكلام في شيء من ذلك - يعني الجماع - مع النساء، وذلك في قوله - تبارك، وتعالى - عن الحج: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] ففي الحج يدخل فيه الجماع، ومقدمات الجماع، والحديث عن الجماع بحضرة النساء.
أما فيما يتصل بالصوم فإنه يدخل فيه الكلام الفاحش، والبذيء، والجماع، كل ذلك داخلٌ فيه، وهكذا التشاتم، والتلاعن، ويدخل فيه الباطل، واللغو، والزور بجميع صوره، وأنواعه، وأشكاله سواء كان ذلك من المقاولة بالكلام، أو كان ذلك من حضور مجالسه - مجالس الباطل، والزور - أو كان ذلك من معافسته، وملابسته بأي لون كان، ومن ثَمّ فإن النبي ﷺ قد جاء عنه في بعض روايات هذا الحديث: الصيام جُنة فلا يرفث، ولا يجهل[6] وفي رواية: فلا يرفث، ولا يجادل[7].
إذن لا يرفث، ولا يجهل، ولا يجادل، ولا يسخط، كل ذلك ممتنع فيه، ومعنى: لا يجهل أي: لا يفعل شيئًا من أعمال أهل الجهل، وقد ذكر تحته العلماء الصياح - رفع الأصوات - إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 19] والسفه، ويدخل فيه أيضاً الاعتداء على الناس، وأذية الناس بأي لونٍ كان، كما يدل عليه بعض الروايات فيما سيأتي.
العدوان على الناس، أذية المسلمين، والأذية اليوم صار لها أبواب سهلة مشرعة، يقارفها الإنسان بأيسر الأسباب، وهو في بيته، هذه الكتابات التي أصبحت في متناول الجميع يكتب في هذا، ويتكلم في هذا عبر وسائل الاتصال، والإعلام الجديدة، يكتب ما يشاء، يلمز هذا، ويطعن في هذا، ويقع في عرض هذا، ويشكك في نزاهة هذا، وينتقص هذا، المهم أن يتحدث، وأن يكتب، وأن يقول: أنا موجود، فإذا كان لا يملك من المقومات، والفضائل، والعلم الصحيح الذي يجعل الناس يتوجهون إلى كلامه، ومقاله، وكتابته فإنه يستدعي ذلك منهم بألوان الفجور، والقبيح من القول من غير خوف من الله - تبارك، وتعالى - ولا حياء من الناس، لاسيما إذا كان ذلك بأسماء مجهولة، ولكن الله - تبارك، وتعالى - يعلم ذلك مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18].
وأما السخط فيدخل فيه الخصام، والصياح، وكثير من الناس ينفرط صبره، وتتغير أخلاقه مع الصوم؛ لأنه قد فطم من بعض مألوفاته، وشهواته، ولذاته، فإذا كلمه أحد أو وقع له شيء مما لا يروق له فإنه لا يتورع من إطلاق لسانه، ورفع صوته، والمخاصمة، فيتكلم بكلام لا يليق بحال من الأحوال أن يصدر من الصائم، ولا من غير الصائم، ولكنك تعجب حينما ترى ذلك هنا، أو هناك حينما تراه يصدر من الصائمين.
ليست الأحلامُ في حال الرضا | إنما الأحلامُ في حال الغضب[8]. |
ليس الإنسان الحليم هو الذي حُققت له مطالبه، وعامله الناس بأحسن الوجوه، وأكملها فعند ذلك يبدي لهم بشاشةً، وتبسماً، إنما الأحلام الحقيقية هي في حال الغضب، والاستفزاز، فانظر إلى حال بعضنا حينما يشعر أن بعض حقه قد انتقص، أو أن الطائرة تأخرت، أو غير ذلك من الأسباب، فترى من الحماقات، والتصرفات، والجهالات ما يذكرك بقول النبي ﷺ هنا: من لم يدع قول الزور، والجهل، والعمل به فليس لله حاجةٌ بأن يدع طعامه، وشرابه.
من لم يدع قول الزور يدخل في الباطل في جميع صوره من الكذب، والغيبة، ولمز الناس، والكلام في أعراضهم، والتكلم بلا علم، والقول على الله بلا علم، ونشر الفاحشة في الذين آمنوا، كل ذلك داخل في قوله: من لم يدع قول الزور، والجهل.
والجهل: بالعدوان على الناس، والعمل به: والعمل بالزور، والعمل بالجهل، وانظر إلى صنوف المزاولات، والتصرفات في أيامنا هذه مما يدخل في الجهل، والزور، والعمل بهما.
فهذا الزور قد يكون عبر مسلسل تشوه فيه الحقائق، والرموز الكبار العظيمة، فتعرض بطريقة ممسوخة، وغالباً ما يكون من يعرضها قومٌ لا خلاق لهم، عُرفوا بألوان الفجور، والبعد عن الفضائل، ثم يأتي الواحد منهم يحاول أن يحاكي كذباً، وزوراً، وتصنعاً تمجه القلوب، والفطر السليمة أن يحاكي أولئك القامات الكبار، فهذا من الزور.
ويدخل في الزور، والعمل به حضور مشاهد، ومجالس الزور، هذه كما قال الله - تبارك، وتعالى - : وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان: 72] فيدخل فيه جميع مجالس الباطل، فعجباً لمن يصوم، ثم يفطر على الزور، ومجالس الزور، وأقبح من ذلك ما عوَّدنا بعض أهل الزور، والجهل من برامج هابطة يعدونها لشهر الصيام، والقرآن، يستهزئون بها بأهل الإيمان، وبشرائع الإسلام، وينقضون ذلك، في كل عام يروجون زوراً جديداً.
فمثل هذا لا يجوز لأحد أن يشهده، فيكون مشاركاً لهؤلاء في باطلهم من لم يدع قول الزور، والجهل، والعمل به فليس لله حاجةٌ بأن يدع طعامه، وشرابه.
وفي حديث أنس : من لم يدع الخنا، والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه، وشرابه[9].
الكذب بكلمة يقولها، يخاطب صاحبه، فيكذب، أو كان يكتب ذلك، وينشره، ويذيعه، فينتشر في الآفاق.
ويدخل في هذا الكذب ما ينشره بعضنا من أمور لا نتحقق منها فيبادر إلى نشر ذلك، ولو قيل له: أثبِتْ هذا لا يستطيع، هل شهدت ذلك؟ هل عندك فيه برهان؟ فإنه لا يستطيع أن يثبته بحال من الأحوال، إنما هي رسالة وصلت إليه فبادر إلى نشرها، وهذا كله داخل في الكذب، وهو مشارك فيه، وفي إشاعته في المجتمع.
من لم يدع الخنا، والكذب ويدخل في الخنا أيضاً، والزور تلك المشاهد التي تهدم الفضيلة في نفوس مشاهديها في مواقع الرذيلة عبر الشبكة، فهذا داخل فيه، وهكذا النساء الكاسيات العاريات في القنوات، وفي غير القنوات حيث أصبحت وسائل ذلك كثيرة كما تعرفون من لم يدع الخنا، والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه، وشرابه.
وهذا يدل على أنه لا يراد من الصوم مجرد الجوع، والعطش، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود ما وراء ذلك من المعاني، والتزكية، والتهذيب لهذه النفوس، وكسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة، فيحصل للإنسان شيءٌ من الترويض، والإقبال على ربه - تبارك، وتعالى - والاستجابة لأمره، ولأمر رسوله - عليه الصلاة، والسلام -.
المقصود: أنه يدخل في الحديث ألوان الكذب في البيع، والشراء، أو الخصومات، أو في المجالس، أو الكذب لاستدرار العطف أحياناً من قبل بعض السُّؤَّال الذين يسألون الناس، ويتكففونهم، فقد يذكرون أموراً لا حقيقة لها، ويدخل في ذلك الإشاعات الكاذبة، وفي الحديث: ليس الصيام من الأكل، والشرب، إنما الصيام من اللغو، والرفث، فإن سابّك أحد، أو جهل عليك فقل: إني صائم، إني صائم.
أو جهل عليك الجهل بمعنى العدوان إن سابّك أحدٌ، أو جهل عليك قد ينفرط صبر الإنسان - كما سبق - فيرد بالمثل، ولكن كما قلت:
ليست الأحلامُ في حال الرضا | إنما الأحلامُ في حال الغضب |
إذا جاء الاستفزاز فهنا تظهر التقوى، والتربية، والأخلاق، فيقول: إني صائم، إني صائم وفي الحديث: رُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع[10] يعني: لا أجر له، ولا أثر لهذا الصوم في التربية، والتزكية ورُب قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر - نسأل الله العافية - لماذا لم يكن من قيامه إلا السهر؟ إما أنه يرائي، وإما أنه لا حضور لقلبه في صلاته كلها من أولها إلى آخرها، والإنسان ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، وانتبه أنك بحاجة إلى حضور القلب في هذه الصلاة، وإن من أعظم دواعي حضور القلب أن يتخفف الإنسان من الطعام، والشراب، فإن التخمة، وكثرة الأكل من أعظم الصوارف التي تصرفنا عن التدبر، والتعقل في صلاتنا، وقراءتنا، وعباداتنا كلها، نحن نسمع قراءة الإمام من أولها إلى آخرها، ولكن قلوبنا قد تكون منصرفةً من أول القراءة إلى آخرها بحيث لو سُئل الإنسان ماذا قرأ الإمام في هذه الصلاة؟ فإنه لا يدري، ماذا قرأ في صلاة العشاء؟ لا يدري؛ لأن القلب معطل، المقصود: أن هذه العبادة فيها امتحان لهذه النفس، هذه العبادة، هذا الصيام، هذا الشهر هو ترويض لهذه الشهوات الجسمانية، تروض به النفوس الجامحة، ويحصل به فطام عن شهوات البطن، والفرج، وليس ذلك فحسب، بل واللسان كما دلت عليه الأحاديث الأخرى، وذلك آكد من الطعام، والشراب، ولهذا قال النبي ﷺ هنا: رُب صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع.
وقال في الحديث الذي قبله: ليس الصيام من الأكل، والشرب، إنما الصيام من اللغو، والرفث فدل على أن الصوم مطلوب أيضاً في هذه الأمور، فهناك فطام للنفوس من شهوة البطن، والفرج، وشهوة اللسان، والأذن، والعين، وما نقص من ذلك فهو نقص من حقيقة الصيام، فينبغي علينا أن نتعاهد هذا الصوم، وأن ننظر هل حققنا ذلك على الوجه الصحيح، أو أن الإمساك صار فقط عن الطعام، والشراب، والجماع، إذ إن الصوم ليس بإمساكٍ عن بعض الشهوات، ثم هو انفلات في باقي الشهوات، واللذات، ليس الصيام بإمساك عن الطعام، والشراب في النهار، ثم ينهمك الإنسان في جميع شهواته في الليل، ليس الصيام أن تجوع البطون، وأن تكون الأكباد ظامئةً في النهار، وتكون الأعضاء في حال من الفتور تنقبض معها الأسارير، ويظهر معها من سوء الخلق، وبذاءة اللسان ما يظهر، ليس هذا هو مقصود الشارع، وإنما لا يتحقق مطلوب الشارع إلا بفطام النفوس عن جميع الشهوات التي قد وزعت على الجوارح، فالأذن لها شهوات في الاستماع، والعين لها شهوات للنظر إلى ما حرم الله - تبارك، وتعالى - واللسان له شهوات جامحة، فالغيبة قد تكون في بعض الأحيان ألذ على بعض الناس من الطعام، والشراب.
وهكذا أيضاً فإن شهوات اللسان قد تربو على شهوات الجوارح، فيحتاج الإنسان إلى مجاهدة كبيرة، ولا يقتصر في صبره، ومجاهدته على ترك الطعام، والشراب فحسب، ومن هنا يكون الصوم مدرسةً في المجاهدة، وترويض النفوس، وتزكيتها.
فينبغي أن نحدد الهدف في بداية هذا الشهر، هذا الصوم هل نريد منه القدر المجزئ فحسب؟ فإن ذلك يحصل بترك المفطرات من الطعام، والشراب، والجماع، وما إلى ذلك من ألوان المفطرات، فهذا الصوم المجزئ الذي لا يطالب صاحبه بالقضاء، وأما الصوم الذي يكون تربية تتحقق فيه مقاصد الشارع فإنه فوق ذلك بمراحل، فحدد الهدف منذ البداية ماذا تريد من هذا الشهر؟ هل تريد صوماً مجزئاً؟ فهذا أمر ميسور حتى البهيمة يمكن أن لا تُعطى الطعام، والشراب إلا من بعد المغرب إلى آخر الليل، ثم في النهار يُمنع عنها الطعام، والشراب، لكن هل حصل لها التهذيب، والتزكية فتتحول إلى شيء آخر؟
لا، ولذلك نحتاج إلى أن نتعقل، وأن نعرف ما نأتي، وما نذر، فلنحدد هدفنا منذ البداية، ولا زلنا في أول الشهر، فصوم هذا الشهر مدرسة عملية تربى فيها النفوس على أمور من الإيمان، والتقوى، والأخلاق، والفضائل من السخاء، والبذل، والشعور بالآخرين، وتربية الأمانة في نفس الإنسان، ومراقبة الله وحده دون ما سواه، والإقبال على سائر الطاعات، وما يصحب ذلك من الاشتغال بالقرآن، وتدبره، فيجتمع للإنسان من ألوان الهدايات، والأنوار ما يحصل به الزكاء، والكمالات، وهذا من فضل الله ونعمه على عباده أن يسر لهم هذا الشهر في كل عام، فالنفوس يحصل لها شيء من الشرود، والغفلة مع معافسة الشهوات، ومطالب الحياة بأنواعها، ثم بعد ذلك يأتي هذا الشهر ليصقلها، وليعيدها إلى جادتها، وطريقها الصحيح، فتستقيم على أمر الله - تبارك، وتعالى - وتحصل لها الذكرى، وتحصل لها اليقظة، ويكون للإنسان من الفكر، وحياة القلب ما يحمله على طاعة مولاه، والكف عن كل ما لا يليق، ولذلك نجد في قلوبنا في هذا الشهر من الرغبة في الخير ما لا نجده في غيره، وهذا لا يستطيع أحد أن يدفعه عن نفسه، كل أهل الإيمان يجدون ذلك لكن على تفاوت، فمن البداية فلنكثِّر هذه المعاني، ولنملأ النفوس بالإيمان، ومعاني الإيمان؛ لتحصل لنا هذه التقوى.
فهذا الشهر مستشفى يجد فيه كل مريض دواءه، فهذا يستشفي به من مرض البخل، والشح، وهذا يستشفي به من مرض البِطنة، وهذا يستشفي به من مرض الغفلة، وهذا يستشفي به من مرض قسوة القلب، وصلابته، وصدئه؛ ولهذا كان هذا الشهر متنقلاً تارة في الشتاء، وتارة في الصيف، وتارة في وقت الاعتدال؛ ليحصل الترويض لهذه النفوس بجميع هذه المواسم، والفصول، فإن من النفوس ما لا يحصل لها الترويض إلا بهذا، ومنها ما لا يحصل لها الترويض إلا بذاك، فكان دائراً لا يتفق مع أهواء الناس، وشهواتهم، ومطلوبات نفوسهم، فتارة في الشتاء، وتارة في الصيف، وتارة في غيرهما، وهكذا.
فهذا الصوم إذا كان على الطريق التي شرعها الله وأرادها فإنه يحرر نفوسنا من أسر العادات التي تأسرنا أسراً، فلا يستطيع الإنسان الفكاك، والخلاص منها، فهذا يعتقنا من ذلك فيكون العبد حرًّا لربه، ومولاه، لا تؤسر نفسه، ولا تنقاد، ولا يكون له نوع عبودية لغير ربه، وفاطره، وخالقه، هذه العبودية قد تكون للبطن، وقد تكون للفرج، وقد تكون للسان، وقد تكون للمال، وقد تكون لغير ذلك.
ولهذا قال الله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم: 59] ما قال: وعافسوا الشهوات، إنما قال: "اتبعوا" فهذه الشهوات تكون معبودة لصاحبها أحياناً يتبعها، وينقاد لها، ويقدمها على محابِّ الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - فبهذا الصوم نتحرر من رق الشهوات، وأسر العادات فتحصل بذلك الحرية الحقيقية التي ينبغي أن يطلبها الجميع، وهي الحرية من أسر الشيطان، وأسر الشهوات بجميع صورها، وأشكالها؛ لتكون العبودية لله وحده دون ما سواه.
وهكذا أمور كثيرة تجمعها التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، ولهذا ينبغي علينا أن نراعي هذا من أول شهرنا هل هذا الصوم، وهذه الحال في مثل هذه الأيام تربي التقوى في نفوسنا، أو لا؟ فإن كان ذلك لا يحصل، ولا يتحقق في حالنا التي نحن عليها الآن فينبغي أن نراجع، وأن نعيد النظر من أجل أن نصوم صوماً على الوجه الذي يرضيه عنا - تبارك، وتعالى -.
هذا معنى كبير يحتاج الإنسان أن يراجعه، وأن يتأمله، وأن ينظر فيه مع نفسه في خاصته.
والله - تبارك، وتعالى - يقول: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة: 14] الإنسان أعلم بنفسه، وواقعه، وخلجات نفسه، وأعماله، ومزاولاته.
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (9225)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (3881).
- أخرجه النسائي، كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، برقم (2230)، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل الصيام، برقم (1639)، وأحمد في المسند، برقم (16278)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن صحابيه لم يخرج له سوى مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3879).
- أخرجه النسائي، كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، برقم (2233)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (6438).
- - قالها الدارمي -رحمه الله- مفسراً لرواية: الصوم جنة مالم يخرقها فقال: قال أبو محمد: "يعني بالغيبة" انظر سنن الدارمي، برقم (1773)، وعزاها الحافظ ابن حجر للدارمي -رحمهما الله- فقال: "زاد الدارمي بالغيبة"، فتح الباري لابن حجر (4/ 104)، وليس كما قال، وإنما قالها مفسراً كما تقدم.
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم، برقم (1904)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم، برقم (1894)، ومسلم، كتاب الصيام، باب حفظ اللسان للصائم، برقم (1151).
- عزاها الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 104)، لسعيد بن منصور.
- انظر: ربيع الأبرار (2/225)، والدر الفريد وبيت القصيد (9/58)، وتفسير ابن رجب الحنبلي (2/235).
- أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (3622)، وقال عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلا عبد المجيد، تفرد به عبد الله بن عمر الخطابي، ولا يُروى عن أنس إلا بهذا الإسناد" والصغير، برقم (472)، وعبد الرزاق في المصنف، برقم (7455).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، برقم (1690)، والنسائي في الكبرى، برقم (3236)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3488).
الوقفة الرابعة: بعد هذا الإيضاح الذي يُستقى من مشكاة النبوة في بيان حقيقة الصوم الذي أراده الله - تبارك، وتعالى - أقول: ما هي حالنا، وواقعنا في رمضان؟
للأسف رمضان موسم كبير، ولكن موسم لماذا؟ إذا نظرنا بنظرة عابرة لو جاء أحد من مجتمع آخر، ونظر إلى واقع المسلمين في رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] هذا شهر الصيام، والقيام، والقرآن فقط، والإحسان، والبذل، والجود، وأنواع المعروف، والبر، والتقوى، هذا شهر التقوى، ما هو واقعنا في رمضان؟ هو موسم تزدهر فيه، وتزدان الأسواق بجميع أنواعها حتى قطع غيار السيارات، موسم في كل شيء، تكثر الأطعمة، والدعايات للأطعمة، والعروض، والتخفيضات المزعومة في الطعام، والشراب، والأثاث، واللباس، والآنية، وغير ذلك.
فهل هذا هو المقصود؟ وما علاقة هذا بالصوم؟ إني لأعجب حينما أرى في لوحة كبيرة دعائية في أرجاء البلاد من طولها إلى عرضها صورة مائدة، وتربط هذه المائدة برمضان! ما علاقة رمضان بالدعاية للموائد، والأطعمة؟!.
هذا شهر الصوم مقتضى ما شُرع له الصوم أن تكون الأسواق بحال من الضمور، والكساد، فيقل مرتادوها؛ لأنهم يتقللون من الطعام، والشراب، ويشتغلون بالصيام، والقيام، وقراءة القرآن، فليس لديهم أوقات يذهبون بها إلى الأسواق، فلا يصح أن تنعكس القضية، ويتحول رمضان إلى موسم للتسوق، وتكديس الأطعمة، وكأن البيوت خاوية من الطعام، والشراب، عكس مقصود الشارع تماماً، تجويع البطون؛ من أجل أن تشبع الجوارح فلا تمتد إلى الحرام تعكس القضية، ويتحول إلى شهر الموائد إلى شهر التخمة، هذا لا يمكن أن يتحقق معه مقصود الشارع، وأما البرامج الرمضانية، والقنوات - وما أدراك ما البرامج، والقنوات - فحدث، ولا حرج، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - مع طول التأمل، والتعجب من حال هؤلاء، وشأن هؤلاء في رمضان أن الشياطين المردة لما صُفدت، وكلت المهمة إلى هؤلاء المردة من الإنس، فقاموا بالمهمة على أتم الوجوه، وأكملها، فصاروا يعدون البرامج الرمضانية الهابطة التي تصادر معاني التقوى، والفضيلة، والإيمان في نفوس المجتمع، في نفوس الناس، في نفوس المسلمين، فيستعدون قبل رمضان بمدة طويلة، وينفقون الأموال الطائلة من أجل إشغال الناس، وصرف الناس عما قصده الشارع، وأراده لهم، برامج رمضانية، وللأسف صار كثير من الخيرين، ولست أنتقد ذلك، ولكن اضطروا لهذا اضطرارًا لنقل الناس من شر الشرين إلى أدناه، فيرتكبون أخف، وأدنى الضررين؛ ليصرفوا الكثيرين عن هؤلاء الشياطين، أو عن أن يتحولوا إلى بعض الممارسات، والأفعال التي يزاولها الشياطين، ولربما أقاموا لهم الملاعب في رمضان، وأناروها، واستعدوا لذلك؛ ليشغلوا هؤلاء عما هو شر من هذا؛ لأن هؤلاء لا ينتقل كثير منهم إلى البر، والمعروف، والطاعة، والاشتغال بكلام الله وما ينفع، فيشغلونهم بهذا اللهو المباح في ليالي هذا الشهر الكريم الذي أنزل فيه القرآن.
وعمد آخرون إلى أشياء أخرى من المسابقات، والفوازير، ووضعوا على ذلك ألوان الجوائز؛ من أجل أن يشغلوا هؤلاء الناس عن أولئك الشياطين المردة الذين يتخطفونهم.
ولكن الموفق من عرف حقيقة الصوم، وأقبل على القرآن، وما ينفعه، ويرفعه عند الله - تبارك، وتعالى - لو نظرنا إلى حالنا في هذا الشهر الكريم فإن بعضنا قد لا يزداد في هذا الشهر من العبادة، والطاعة فلا ترى من بعضنا مزيداً من الإقبال على المساجد، والتبكير إلى الصلوات مثلاً، أو قراءة القرآن، ولربما ازداد النوم في هذا الشهر الكريم، وازداد السهر في لياليه على أمور لا طائل تحتها، وازدادت الغفلة، واللهو بجميع صنوفها، وأشكالها، هذه حال الكثيرين منا في رمضان، وقارن هذا مع حال السلف .
كان عثمان بن عفان يختم القرآن كل يوم مرة[1] وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث في الصلاة، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر في الصلاة، فكانوا يقرءون في خارج الصلاة أكثر من ذلك.
فهذا الشافعي - رحمه الله - كان له في رمضان ستون ختمة[2] يقرؤها في غير الصلاة.
وكان الأسود النخعي يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان[3].
وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة[4].
النبي ﷺ أخبر أنه لا يفقه القرآن من قرأ في أقل من ثلاث[5] ليس الكلام هنا أن الدعوة موجهة إلى قراءة القرآن في كل ليلة، إنما كان هؤلاء السلف يرون أن قول النبي ﷺ ليس على سبيل المنع الأكيد، والتحريم، فكانوا يشمرون في رمضان ليكثروا، فيرون أنها حالة استثنائية، موسم للتكثر من القراءة، وطلب الأجور، والحسنات.
كان الإمام محمد بن شهاب الزهري إذا دخل رمضان قال: "فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام"[6] وابن شهاب الزهري أول من جمع الحديث[7] توفى سنة مائة، وأربع، وعشرين للهجرة, كان يفر من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
ونحن نقبل على ماذا؟ ربما يتردد الإنسان حينما يقول: اقرأ، اجعل لك ورداً من القرآن، واقرأ في التفسير من أجل أن تتعقل المعاني، فيقع في نفس الإنسان أحياناً بعض الحرج، يقول: هذا التفسير يكون شاغلاً لهم عن قراءة القرآن، فهلا كان قبل رمضان، لكن إذا نظرنا إلى واقعنا كم نقرأ من القرآن؟ اليوم، والليلة يبلغ أربعًا، وعشرين ساعة، فكم يقرأ الإنسان؟ هؤلاء الذين يسألون دائماً هل أراجع الحفظ، أو أحفظ، أو أقرأ، أو أتدبر، أو أسرع؟
نقول لهم: وردك من القرآن كم يبلغ؟ ثلاث ساعات، أربع ساعات، ساعة، خمس ساعات، فأين يذهب الباقي؟ أين العشرون ساعة؟
الحديث الآن الإشكال، والمفاضلة هل أتدبر، أو أسرع في القراءة؟ هل أراجع الحفظ، أو أحفظ الجديد، أو أتلو؟ فالباقي أين يذهب؟ هذا السؤال يمكن أن يرد من إنسان قد استغرق ساعات اليوم، والليلة في التلاوة، فيرد منه مثل هذا السؤال، أما إذا كانت القسمة ثلاثية، أو رباعية، أو خماسية، أو سداسية، وهناك أشياء أخرى نوم طويل، وأكل كثير، وزيارات، وما أشبه ذلك، فنقول هنا: فالتفسير، والحفظ، والمراجعة مع التلاوة مع ورد من التدبر، يمكن أن تقرأ قراءة مترسلة ختمة في الشهر للتدبر، ويمكن أن تقرأ في كل ثلاثة أيام ختمة تلاوة بأوقات، وساعات طويلة في اليوم، والليلة.
وبعض أهل العلم كانت له ختمة بكل جمعة، وختمة في كل شهر، وختمة في كل سنة، يقول: ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد[8] فهذه ألوان من التدبر، فيمكن أن نقرأ ختمة بعد ختمة، وتكون لنا ختمة واحدة في التدبر في سائر الشهر.
سفيان الثوري - رحمه الله - كان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات، وأقبل على قراءة القرآن[9] ترك جميع العبادات، وهنا تأتي المفاضلات بعض الناس يقول: أنا أشتغل بالعلم، والفقه، هذا جيد لكن من وفق لقراءة القرآن فهذا أجود، فالناس في هذه الدنيا مراتب، وهم في درجات، وكذلك هم درجات عند الله، فمن استغرق أوقاته في القرآن، ومع القرآن، وفي تدبره فهذا أكمل، وأفضل، ويأتي بعد ذلك من اشتغل بالعلوم المقاصدية من الحديث، والتوحيد، والفقه، والتفسير، ويأتي بعد ذلك، ودونه من اشتغل بعلوم الآلة كالأصول، وعلوم الحديث، والنحو، وما شابه ذلك.
ويأتي بعد ذلك من اشتغل بعلوم نافعةٍ أخرى، وقل مثل ذلك فيمن يكتب، أو يتصفح في الإنترنت، ويقرأ في الواردات، والشاردات، والمنتديات، وما إلى ذلك.
هذا دون أولئك، ولكنه خير ممن يتصفح المواقع الإباحية، أو مواقع الإلحاد، والزندقة، والتشكيك.
والذي يشتغل بالأمور المباحة خير من ذلك الذي ذهب يتجول في الأسواق، ويتتبع عورات المسلمين، فكما أن الجنة على مراتب، والنار على دركات فكذلك أعمال الناس في هذه الحياة الدنيا، فينبغي على العبد أن ينظر في درجته، ومرتبته فإن الجزاء من جنس العمل.
في هذا الشهر وقت طويل، وفسحة للعبادة، والتشمير، فيه سبعمائة، وعشرون ساعة، والساعة يمكن أن يقرأ بها ثلاثة أجزاء من القرآن قراءة معتدلة، فذلك يكافئ ألفين، ومائة، وستين جزءاً من القرآن، والقرآن كما هو معلوم ثلاثون جزءًا.
فذلك اثنتان، وسبعون ختمة، يعني ما تسعه ساعات، وأيام هذا الشهر بكاملها.
فلو قرأ الإنسان في نصف ساعات اليوم، فيكون له بذلك ست، وثلاثون ختمة.
لو قرأ فقط في ثلث ساعات اليوم - في ثماني ساعات - يكون له أربع، وعشرون ختمة.
ولو قرأ في ربع ساعات اليوم فإنه يكون له بذلك ثماني عشرة ختمة.
فحدد من البداية ماذا تريد أن تكون آخر الشهر، ولا تترك الأمور هكذا مبهمة، فتكون النتائج غير مرضية في النهاية، حدد ماذا تريد.
هذه أرقام حسابية، اجعل لك حدًّا لا تنقص عنه.
وهكذا في هذا الشهر في العشر الأواخر منه ليلة القدر، وبعض أهل العلم يقول: إن ليلة القدر دائرة في هذا الشهر، وفي لياليه من أول الشهر إلى آخره[10] وهذا القول، وإن كان مرجوحاً فقد قال به بعض الأئمة.
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3] والشهر ثلاثون يوماً فذلك يبلغ ثلاثين ألف يوم، فإذا قسمناها على أيام السنة ثلاثمائة، وأربعة، وخمسين يوماً في السنة فإن ذلك يعني أن ليلة القدر تكافئ، وتعادل أربعاً، وثمانين سنة، وزيادة.
وهي ليلة واحدة!.
فلو صام الإنسان خمسين رمضان في العمر فهذا يعني إذا أدرك ليلة القدر يعني أربعة آلاف، ومائتين، وسبع، وثلاثين سنة، وكسوراً، هذا من أدرك خمسين رمضان.وقد قال بعض أهل العلم: لمّا كانت أعمار هذه الأمة قصيرة عوضها الله بليلة القدر.
- انظر: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/ 485)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (24/ 167).
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 134)، وتاريخ دمشق، لابن عساكر (51/ 393).
- حلية الأولياء (2/ 103).
- المصدر السابق (2/ 339).
- أخرجه أبو داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب تحزيب القرآن، برقم (1394)، والدارمي في سننه، برقم (1534)، وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط الشيخين" في صحيح أبي داود، برقم (1260).
- لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171).
- انظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/ 94)، وشرح علل الترمذي (1/ 342).
- انظر: إحياء علوم الدين (1/ 282).
- لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171).
- انظر: التمهيد لابن عبد البر (23/ 64)، وشرح النووي على مسلم (8/ 57)، وفتح الباري لابن حجر (4/ 263)، ونخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (11/ 216)، وفتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 542).
الوقفة الخامسة: هل أعددت خطة لاستقبال الشهر؟
ينبغي علينا أن نعزم، أن يكون رمضان هذا العام متميزاً في عباداتنا، في صومنا، طبيعة الصوم كما سبق، حقيقة الصوم في استغلال الأوقات، أن نجعل لنا ورداً لا ينقص، قراءة القرآن، هذه الصلاة التي نصليها هي صلاة قصيرة كما ترون يمكن للإنسان أن يشفع بركعة، ثم يصلي من الليل ما شاء.
وهكذا الصدقات، يحرص الإنسان عليها، ولا يسوِّف، يكثر من الصدقة، من البر، من المعروف، يتقلل من الطعام، والشراب، يتقلل، ويتخفف من الأشغال، والصوارف.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يستعد قبل رمضان، فيشتري كل ما يحتاج إليه من أجل أن لا يحتاج إلى السوق، والاشتغال بمطالبه، وحاجاته، وهكذا.
فأسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يتقبل منا، ومنكم الصيام، والقيام، وأن ينصر دينه، ويعز كلمته.
اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم في سوريا، وفي كل أرض، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم اشفِ مرضاهم، وداوِ جرحاهم، وفك أسراهم، وارحم موتاهم.
اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم مجري السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.