الخميس 26 / صفر / 1447 - 21 / أغسطس 2025
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْـًٔا وَلَٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ۝ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ۝ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ۝ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة يونس:41-44].
يقول تعالى لنبيه ﷺ: وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ۝ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [سورة الكافرون:1 - 2] إلى آخرها، وقال إبراهيم الخليل  وأتباعُه لقومهم المشركين: إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [سورة الممتحنة:4] الآية.
وقوله: وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي: يسمعون كلامك الحسن، والقرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان، وفي هذا كفاية عظيمة، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم، فإنك لا تقدر على إسماع الأصم - وهو الأطرش -، فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله.
وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أي: ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن والخلق العظيم، والدلالة الواضحة على نبوتك لأولى البصائر والنهى، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار، وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا [سورة الفرقان:41] الآية، ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحداً شيئاً وإن كان قد هدى به من هدى، وبصّر به من العمى وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً وأضل به عن الإيمان آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته وعدله، ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، وفي الحديث عن أبي ذر عن النبيﷺ فيما يرويه عن ربه : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا إلى أن قال في آخره: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه[1]. رواه مسلم بطوله.

قوله - تبارك وتعالى -: وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ جاء بفعل الاستماع بصيغة الجمع يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وفي الموضع الآخر في النظر قال: وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ بالإفراد، فالفعل يستمعون روعي فيه معنى مَن، فإن مَّن اسم موصول، وهو من صيغ العموم، فهو وإن كان في ظاهره الإفراد إلا أنه بمعنى الجمع، وأتى الفعل ينظر بالإفراد في قوله: وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ، روعي فيه أيضاً لفظ مَن، وهذا كثير في القرآن، تارة يراعى المعنى، وتارة يراعى اللفظ، مثل هاتين الآيتين، وأتى بالجمع في يستمعون، والإفراد في ينظر، باعتبار أن السمع أشمل، وأن الذين يستمعون أكثر من الذين يشاهدون؛ لأن الذين يشاهدون قد يحيطون به ومَن وراءهم لا يرى، أما السمع فإن الإنسان يسمع ما لا يبصر، والله أعلم.

  1. رواه الإمام مسلم برقم (2577)، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم.