يقول تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به، فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ أي: ما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، كقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ[سورة الأنعام:110] الآية، وقوله: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ أي: كما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ويختم على قلوبهم حتى يروا العذاب الأليم.
التفسير الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا ظاهر، وهو أحد المعاني التي تحتملها الآية، ولا شك أنه المراد في بعض المواضع في القرآن، بمعنى أن قوله - تبارك وتعالى -: فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - جعل الباء للسببية، لماذا لم يؤمنوا؟ بسبب تكذيبهم المتقدم، فالتكذيب المتقدم صار سبباً لطمس القلوب، وجاء بآيات في هذا المعنى، كما قال الله : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ [سورة الأنعام:110]، فيكون التكذيب المتقدم سبباً لصرف الإنسان عن الحق، والطبع على قلبه، فلا ينتفع بما يسمع، بينما ابن جرير - رحمه الله - لم يفسرها بهذا المعنى وإنما فسرها بمعنى آخر، فعند ابن جرير فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ بما كذبوا به كَذَّبُواْ مَن الذين كذبوا عند ابن جرير؟ الذين كذبوا هم الأمم المتقدمة، يعني يقول: ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ من بعد نوح فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ بما كذب به مَن قبلهم، يعني أن الكفر يتكرر ويتجدد في كل أمة، كلما جاء أمةً رسولٌ كذبوه، فأولئك الأمم كذبوا برسالة نبيهم، وقالوا: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [سورة الذاريات:52]، وكذبوا بما يدعوهم إليه من وحدانية الله ، فيقول هؤلاء الذين أرسلوا بعد نوح إلى أممهم: بقيت تلك الأمم على الكفر، ولم يؤمنوا، فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به من قبلهم، وهذا فيه بعد، والله تعالى أعلم، والآية تحتمل معنى ثالثاً: وهو أن هؤلاء لم يؤمنوا بما كذبوا به مِن قبل أن تأتيهم الرسل؛ لأنهم كانوا أمة واحدة على الإيمان فاختلفوا فتفرقوا فبعث الله النبيين، فهؤلاء الذين جاءهم الأنبياء كما قال الله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [سورة البقرة:213]، جاءوهم يدعونهم إلى الله ، إلى توحيده وعبادته، فلما جاءوهم لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل، بماذا كانوا يكذبون قبل بعث نبيهم؟ كانوا يكذبون بالبعث مثلاً، كانوا يعبدون مع الله غيره، ينكرون التوحيد، فلما جاء الرسل ما حصل لهم الإيمان بهذه الأمور التي كذبوا بها، فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ فهذا معنى أقرب من المعنى الذي ذكره ابن جرير - رحمه الله -، فصارت المعاني التي تحتملها الآية ثلاثة.
المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير توجد في الآية قرينةٌ تشهد له وهي قوله: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ يعني: باعتبار أن "الباء" سببية فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ بسبب تكذيبهم مِن قَبْلُ بمعنى أن الله طبع على قلوبهم بسبب ذلك، ولهذا قال: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ والله أعلم.