السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ۝ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة يونس:88-89].
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى على فرعون وملئه لما أبوا قبول الحق، واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلماً وعلواً وتكبراً وعتواً، قال موسى : رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً أي: من أثاث الدنيا ومتاعها، وَأَمْوَالاً أي: جزيلة كثيرة، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ بفتح الياء، أي أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم، استدراجاً منك لهم، كقوله تعالى: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وقرأ آخرون ليُضلوا بضم الياء، أي ليفتتن بما أعطيته من شئت من خلقك، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ قال ابن عباس - ا - ومجاهد: أي أهلِكها. وقال الضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس: جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت.
وقوله: وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ قال ابن عباس - ا -: أي اطبع عليها فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ وهذه الدعوة كانت من موسى غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه، الذين تبيّن له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء، كما دعا نوح فقال: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:26-27] ولهذا استجاب الله تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي أمّن عليها أخوه هارون فقال تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا أي: قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون، وقال تعالى: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا الآية، أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري، قال ابن جريج عن ابن عباس - ا -: فَاسْتَقِيمَا فامضيا لأمري، وهي الاستقامة.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة يونس:88] الدعاء في هذه الآية توجه به موسى إلى ربه – تبارك وتعالى - ثم قال الله - تبارك وتعالى - بعدها: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [سورة يونس:89]، وهنا قد يرد إشكال وهو أن أول الآية كان الدعاء من موسى على سبيل الإفراد، ثم كانت إجابة الله بالتثنية، وما ذكره الحافظ ابن كثير هو جواب على هذا الإشكال، فقال - رحمه الله -: "ولهذا استجاب الله تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي أمّن عليها أخوه هارون فقال تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا".
وقوله – تبارك وتعالى -: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً  الزينة: كل ما يتزين به مما هو زائد على الأصل من زينة الأثاث والثياب والمراكب والسلاح، والقصور، وغير ذلك.
قوله: رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ [سورة يونس:88] قرأ الكوفيون بالضم لِيُضِلُّواْ، وقرأ الباقون بالفتح لِيَضِلُّواْ، فيستعينون بالزينة والأموال على الإضلال فيكون عندهم من أسباب القوة والتمكين ما لا يكون عند غيرهم ممن هو فاقد لهذه الأشياء، ثم يحصل بسبب ذلك ما يحصل من افتنان الكثيرين الذين لا يرون ولا يعرفون إلاَّ المباهج والمظاهر الدنيوية.

والناس أكثرهم فأهل مظاهر تبدوا لهم ليسوا بأهل معان
فهم القصور وبالقشور قوامهم واللب حظ خلاصة الإنسان

واللام في قوله: لِيَضِلُّواْ هي لام الصيرورة ولام العاقبة، كقوله – تبارك وتعالى -: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [سورة القصص:8]، ويكون المعنى: أن هذه الأموال التي أعطاهم الله إياها نتج عنها في آخر الأمر الضلال والإضلال، وهذا الذي قاله سيبويه والخليل بن أحمد.
وقال بعض أهل العلم: إنها لام كي، بمعنى أنها للتعليل، أي: آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً لكي يَضلوا عن سبيلك، فأعطاهم الله ذلك استدراجاً لهم، كما قال الله : أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55-56] يعني أننا نستدرجهم من أجل أن يموتوا على كفرهم وضلالهم.
قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ [سورة يونس:88] الطمس هو إهلاك الأموال، وبعضهم فسر الطمس بإذهاب الصورة، كقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47]، وهذا قول الضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس: "جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت" يعني الدينار المنقوش من ذهب تحول وصار حجراً، وهذا القول يحتاج إلى دليل.
قال : وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة يونس:88]، أي: اربط على قلوبهم فلا يصل إليها الهدى ولا الموعظة والتذكير، وهنا يرد إشكال، وهو أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بعثوا لهداية الناس فكيف دعا موسى على قومه بأن يربط على قلوبهم فلا يدخل إليها الهدى؟
والجواب عند بعض أهل العلم أن الله أعلم موسى أن هؤلاء لن يؤمنوا، فدعا عليهم بأن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم، كما أعلم نوحاً بعدم إمكانية إيمان قومه، فقال: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة هود:36]، فدعا عليهم نوح فقال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ۝ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:26-27].
وهذا الجواب قد لا يخلو من مراجعة وإشكال، وهو أنه إذا كان الله أخبر موسى بأن قومه لن يؤمنوا، فلماذا دعا عليهم بأن يربط على قلوبهم؟.
وقوله: فَلاَ يُؤْمِنُواْ بعض أهل العلم كالمبرِّد والزجَّاج يرى أن هذه الآية تعود إلى قوله: لِيُضِلُّواْ، أي: آتيتهم أموالهم ليضلوا، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
وقال الكسائي والفراء: قوله: فَلاَ يُؤْمِنُواْ دعاء عليهم بعدم الإيمان.
وقال بعضهم: إن قوله: فَلاَ يُؤْمِنُواْ جواب الأمر في قوله: اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ [سورة يونس:88]، يعني: يكون كأنه نتيجة لهذا الطمس، وهذا قول له وجه ظاهر، اطمس على الأموال واشدد على القلوب فلا يؤمنوا، يعني من الربط على القلوب الختم عليها والطبع عليها بحيث لا يحصل لهم الإيمان حتى يروا العذاب، اشدد عليها واطبع عليها طبعاً لا يحصل لهم معه الإيمان إلا برؤية العذاب، وهذه الآية تحتمل هذه الأوجه جميعاً، والله تعالى أعلم.
وهذه الآية يستفاد منها جواز الدعاء على الكافرين وأعداء الله وقد دعا بعض الأنبياء على أقوامهم.
قوله - تبارك وتعالى -: فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ قال ابن كثير – رحمه الله -: "أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما"، ونقل عن ابن عباس: فَاسْتَقِيمَا، أي: "فامضيا لأمري وهي الاستقامة".
وقال بعض السلف: فَاسْتَقِيمَا أي: اثبتا على دعوة فرعون إلى دين الحق.