الأحد 03 / محرّم / 1447 - 29 / يونيو 2025
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ وَٱلْعَصْرِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: تفسير سورة العصر، وهي مكية.

ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب، وذلك بعدما بُعث رسول الله ﷺ وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أُنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، ففكر مسيلمة هُنيهة ثم قال: وقد أُنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبْر يا وبْر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفْر نقْر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب.

وقد رأيت أبا بكر الخرائطي أسند في كتابه المعروف بـ"مساوئ الأخلاق" في الجزء الثاني منه شيئًا من هذا أو قريبا منه.

والوبْر: دويبة تشبه الهر، أعظم شيء فيه أذناه وصدره، وباقيه دميم، فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن، فلم يرجْ ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان.

وروى الطبراني عن عبد الله بن حفص قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله ﷺ إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر.

وقال الشافعي - رحمه الله -: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.

فهذه السورة سورة العصر كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: مكية، وهذا على قول الجمهور، وجاء عن بعض السلف كقتادة ومقاتل أنها مدنية.

والموضوع الذي تتحدث عنه هذه السورة هو: موضوع واحد، وذلك ما ذكره الله - تبارك وتعالى - من وصف الخسارة لبني الإنسان إلا من استثنى الله - تبارك وتعالى - من أصحاب تلك الأوصاف: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.

وهذا الأثر المروي عن عبد الله بن عمرو مروي عنه وهو كان في مكة، وهو مما يدل على أنها نازلة في مكة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر، وقال مالك عن زيد بن أسلم: هو العشيّ، والمشهور الأول.

يقول ابن كثير: "العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم"، يعني: أنه ظرف، والمقصود به: الدهر على هذا القول، أن العصر هو: الدهر، يعني: الزمان، ولا يقيد ذلك بالوقت المعروف، وبعضهم يقول: إن العصر هو: السَّنة، والسنة أيضاً يقال لها: الدهر، لكن الإقسام بالعصر باعتبار أنه الزمان، كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، إذا أردنا أن نربط بينه وبين المقسم عليه، أي: من وجه الارتباط بين المقسم به والمقسم عليه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، وقد تكلمنا في مناسبات سابقة عن التغابن في تفسير سورة التغابن أيضاً من أن الله - تبارك وتعالى - أعطى كل واحد رأس مال، وهي: هذه الأنفاس، وأمره أن يتّجر بها حتى يلقى ربه - تبارك وتعالى -، فاشتغل بعض الناس بما ينفعهم ويرفعهم، وبادروا بالأعمال الصالحات، ثم قدموا على الله - تبارك وتعالى - بأعظم التجارات، فدخلوا الجنة، واشتغل قوم بما يضرهم، فسخروا أعمارهم وأوقاتهم وأموالهم فيما يسخط الله - تبارك وتعالى -، فدخلوا النار، وأهل الجنة يتوارثون منازل أهل النار في الجنة، وأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة في النار، فذلك من أعظم التغابن.

يقول ابن كثير: "العصر هو: الزمان الذي تقع فيه حركات بني آدم"، فإذا قلنا: إنه الدهر فيمكن أن يقال لما يقع فيه من العبر والعظات، وتعاقب الليل والنهار، والظلام والضياء، مما يدل على قدرة الله - تبارك وتعالى -، وكذلك أيضاً هذا الزمان الذي يعمل فيه العاملون، ويتقرب فيه المتقربون، ويفرط فيه المفرطون، ويضيع فيه المضيعون، قال النبي ﷺ: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ[1]، بهذا الاعتبار، وبعضهم جعل ذلك بمعنى أخص وهو: الوقت المعروف، كما قال هنا: العشي، نقله عن زيد بن أسلم، وقال به غيره أيضاً، كقتادة والحسن، والعشي يعني: الوقت الذي نعرفه، يكون من بعد دخول وقت العصر إلى غروب الشمس، هذا الوقت يقال له: العشي، كما أن العشي يقال لما هو أوسع من هذا، من بعد الزوال إلى غروب الشمس؛ لذلك يقال للصلاتين - صلاة الظهر والعصر -: صلاتي العشي، وابن جرير - رحمه الله - حمله على الجميع، وهذا محمل حسن، باعتبار أن العصر يصدق على هذا وهذا، يصدق على الزمان أي: الدهر، ويصدق أيضاً على الوقت المعروف، ولا شك أنه وقت شريف عظيم، ومما يدل على عظمته وشرفه ومنزلته ما جاء في تعظيمه في قوله - تبارك وتعالى - مثلاً عن صلاة العصر: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238]، وهي: صلاة العصر، وكذلك أيضاً في قوله - تبارك وتعالى -: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ [المائدة: 106]، الراجح كما سبق في تفسير الآية: أنها صلاة العصر؛ لما في اليمين والقسم بعد العصر من عظمة ومنزلة، وكذلك أيضًا يدل عليه الحديث في الرجل الذي حلف على يمين بعد العصر وهو كاذب، أي: يمين فاجرة على سلعة[2]، فالشاهد: أن العصر ليس كغيره، يعني: هذا الوقت، فهو داخل في القسم، والله تعالى أعلم.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة، رقم: (6412).
  2. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، رقم: (7446)، بلفظ: عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك.