السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌۢ بَعْضَ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌۢ بِهِۦ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا۟ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُۥ مَلَكٌ ۚ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ۝ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة هود:12-14].

يقول تعالى مسلياً لرسوله ﷺ عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول ﷺ كما أخبر تعالى عنهم في قوله: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ۝ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا [سورة الفرقان:7-8]، فأمر الله - تعالى - رسوله - صلوات الله تعالى وسلامه عليه -، وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدرُه، ولا يصدنّه ذلك، ولا يثنينَّه عن دعائهم إلى الله آناء الليل، وأطراف النهار كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [سورة الحجر:97] الآية، وقال هاهنا: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ [سورة هود:12] أي: لقولهم ذلك، فإنما أنت نذير، ولك أسوة بإخوانك من الرسل قبلك فإنهم كُذبوا، وأوذوا، فصبروا حتى أتاهم نصر الله ".

قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [سورة هود:12] ضائق اسم فاعل، وهو يدل على أن هذا الضيق عارض، وحادث، وقد فرق بعض أهل العلم بين التعبير باسم الفاعل، وبين التعبير بالصفة المشبَّهة مثل ضيّق،  فالصفة المشبَّهة تدل على اللزوم، واسم الفاعل يدل على العروض، والحدوث، فهذا الضيق الذي يحصل للنبي ﷺ هو ضيق عارض بسبب التكذيب، تكذيب قومه، فيضيق صدره بسبب ذلك، وهذا يختلف عن قوله - تبارك وتعالى -: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125]، فلكون الضيق ملازماً للإنسان البعيد عن الله - تبارك وتعالى -، ولا يفارقه عبر عنه بـضَيِّقًا، وأما الضيق العارض فعبر عنه بـضَائِق، وهذا من سعة اللغة العربية، ودقتها، وأفانينها، فتجد اللفظة الواحدة يعبر بها مع اختلاف يسير في الحروف، وتدل على معانٍ دقيقة في كل استعمال.

وتأمل قول الله - تبارك وتعالى -: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورة الحج:2] فهناك فرق بين مرضعة ومرضع، فالمرضعة هي التي تقوم عملياً بالإرضاع، وتباشر إرضاع طفلها، والمرضع هي من كانت صفتها الإرضاع، فلم يقل الله : تذهل كل مرضع؛ لأن المرأة قد تذهل عن ولدها لأمر ما كأن تكون بعيدة عنه، ولا تذهل عن ولدها وهي تقوم بإرضاعه إلا لأمر عظيم؛ لأن أعظم حالات مشاعر الأمومة عند المرأة - وتفيض من جميع جسدها، وقلبها يمتلئ بذلك - في حال الإرضاع.

ومعنى قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ أي: هل أنت تارك بعض ما يوحى إليك، وضائق به صدرك؛ مخافة أن يقولوا كذا وكذا؟.

قوله - تبارك وتعالى -: أَن يَقُولُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أي: كراهة أن يقولوا، أو مخافة أن يقولوا، ولَوْلا للتحضيض بمعنى هلا.

"ثم بيَّن تعالى إعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور مثله، ولا بسورة من مثله؛ لأن كلام الرب - تعالى - لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء - تعالى، وتقدّس، وتنزه؛ لا إله إلا هو، ولا رب سواه -".

قوله - تبارك وتعالى -: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ "أم" بمعنى بل والهمزة، والمعنى بل أيقولون افتراه؟ هذا هو التحدي الأوسط فيما يتصل بالقرآن، فقد  تحداهم الله - تبارك وتعالى - أن يأتوا بكتاب مثل القرآن فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.

"ثم قال تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ [سورة هود:14] فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن هذا الكلام منزل من عند الله، متضمن علمه، وأمره، ونهيه، وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة هود:14]".

قوله: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ [سورة هود:14] الضمير في قوله: يَسْتَجِيبُواْ يرجع إلى الكفار، وقوله لَكُمْ يحتمل أن يكون المراد بذلك النبي ﷺ وجاء بصيغة الجمع على سبيل التفخيم، والتعظيم له ﷺ لأن الكلام كان مع النبي ﷺ في قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [سورة هود:12]، والعرب قد تخاطب الواحد خطاب الجماعة، ويحتمل أن يكون المقصود هو النبي ﷺ ومن معه من أهل الإيمان؛ لأنهم تبع للنبي ﷺ.

ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله: يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ للكفار، والضمير في قوله: يَسْتَجِيبُواْ يرجع إلى الاسم الموصول في قوله: وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ [سورة هود:13] أي: هؤلاء الذين تدعونهم ليأتوكم بمثل هذا القرآن، ويعينوكم عليه أيها الكفار؛ إن لم يستجيبوا لكم فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ [سورة هود:14] أي: أن نزوله متلبس بعلم الله، وهذا الذي قاله ابن جرير، ولعل الأقرب - والله أعلم - أن الخطاب للنبي ﷺ، ولأهل الإيمان.