الأحد 11 / ذو الحجة / 1446 - 08 / يونيو 2025
وَقِيلَ يَٰٓأَرْضُ ٱبْلَعِى مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِىَ ٱلْأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِىِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة هود:44].

يخبر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، وَغِيضَ الْمَاءُ أي: شرع في النقص، وَقُضِيَ الأَمْرُ أي: فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم ديّار، وَاسْتَوَتْ: واستوت السفينة بمن فيها، عَلَى الْجُودِيِّ، قال مجاهد: "وهو جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغرق، وتطاولت، وتواضع هو لله فلم يغرق، وأرست عليه سفينة نوح ".

وقال قتادة: "استوت عليه شهراً حتى نزلوا منها".

قال قتادة: "قد أبقى الله سفينة نوح على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت، وصارت رماداً".

وقوله: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: هلاكاً، وخساراً لهم، وبعداً من رحمة الله، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ بدأ بالأرض؛ لأن الماء والنبع بدأ منها كما قال الله : فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ [سورة المؤمنون:27]، فكان ابتداء الطوفان من الأرض، ربما يقال هذا - والله أعلم -، والتعبير بالبلع يدل على أنه لم يكن تنشيف الأرض بالطريقة المعهودة التي يحصل بها ذهاب الماء بالتبخر، وما يغيض في الأرض منها، وإنما كان ذلك سريعاً بطريقة غير معهودة ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي تقول: أقلع المطر إذا أمسك يعني: أمسكي عن المطر، وَغِيضَ الْمَاءُ قال: "شرع في النقص"، وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ يقول مجاهد عن الجودي: "إنه جبل في الجزيرة"، والمقصود بالجزيرة التي بين الشام والعراق وليست جزيرة العرب، ويقول: "تشامخت الجبال يومئذ من الغرق، وتطاولت، وتواضع هو لله فلم يغرق"، وهذا الكلام ليس عليه دليل، والله ذكر هذا بعد قوله: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فبعد أن غيض الماء، وأوقفت السماء إمطارها، والأرض بلعت ماءها؛ استوت على الجودي، فهذا ليس فيه ما يدل على أنه لم يغرق، وقول قتادة بأنها استوت عليه شهراً حتى نزلوا لا دليل عليه، وإنما هو مأخوذ عن بني إسرائيل، والروايات عنهم في هذا كثيرة، بعضهم يوصل ذلك إلى سنة في تفاصيل لا دليل عليها، ويقول: "وقد أبقى الله سفينة نوح على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية؛ حتى رآها أوائل هذه الأمة" وهذا لا دليل عليه، ولا يعرف عن أحد برواية ثابتة من أوائل هذه الأمة أنه رآها، وإذا كان الله أبقاها هذه القرون المتطاولة جداً فأين تذهب من أوائل هذه الأمة إلى عهد قتادة؟ لو صح عن قتادة - رحمه الله -، فقتادة من التابعين يقول: "وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت، وصارت رماداً"، ويوجد من يُعنَى بالآثار، ويُعرض عن البحث عن الحقائق عن هذه السفينة، وينقبون، ويبحثون عن جبل الجودي أين هو، وهل يوجد بقايا من هذه السفينة أو لا؟ والعبرة العظيمة من إغراق أهل الأرض من أجل الكفر بالله هذا تجدهم بمنأى عنه، فالله أخبرنا أنها استوت على الجودي، بعضهم يقول: هو جبل معيّن، وبعضهم يقول: هو كل جبل يعني أن كل جبل يقال له: الجودي، فليس ذلك يختص بجبل معيّن اسمه الجودي، كل جبل يقال له: الجودي، وأما قضية السفينة وبقايا السفينة فهذا لا فائدة فيه، ولا يدل على أنها بقيت نفس السفينة، أو بقاياها، أخذاً من قوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [سورة القمر:15] أي: القصة والعبرة جعلها الله آية، وهذه السفن التي نشاهدها تذكّر بهذا الأمر الذي امتن الله به على عباده المؤمنين حيث حملهم على الفلك، فالشاهد أنه ليس فيه ما يدل على أنها بقيت، وقوله: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون هذا من كلام الله ، ويحتمل أن يكون من كلام نوح - فالله تعالى أعلم -، لكن هذه الآية من الآيات التي جمعت صنوف البلاغة، هذه آية بالغة في الفصاحة، والبلاغة؛ مبلغاً عظيماً؛ ولذلك فإن العلماء الذين يُعنَون بالإعجاز القرآني البلاغي اللغوي يطيلون في الحديث عن هذه الآية.