قول الكفار لنبيهم - عليه الصلاة والسلام -: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ لا يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يأتهم ببينة، فإن هؤلاء يكابرون غاية المكابرة، ومن أهل العلم من فهم من هذا أن هوداً ﷺ كانت معجزته هي أنه تحداهم وقال لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، والواقع أن الله - تبارك وتعالى - أعطى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الآيات، والبينات؛ ما آمن على مثله البشر، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ، وإن لم تذكر هذه الآية أو البينة في خبره وقصته التي قصها الله علينا، وإن زعم قومه أنه لم يأتهم ببينة فلا عبرة بقولهم؛ لأنهم أهل مكابرة، وما ذكر أن آية هود ﷺ هي التحدي ليس بصحيح، ويمكن أن يكون هذا من جملة دلائل نبوته ﷺ، ومعلوم أن آيات الأنبياء على نوعين:
النوع الأول: المعجز: كالقرآن، وانشقاق القمر، وناقة صالح - عليه الصلاة والسلام - والآيات التسع التي أعطاها الله لموسى ﷺ.
النوع الثاني: ليس بمعجز مما يعرف به صدقه مثل الأشياء التي سأل عنها هرقل أبا سفيان.
وقوله - تبارك وتعالى -: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أي: تحت قهره، وسلطانه، آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا باعتبار أن الأخذ بالناصية يدل على القهر.
ومن أهل العلم من قال: آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أي: أنه مالكها، فالملك كله بيده - تبارك وتعالى - مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا فهم عبيده، وتحت ملكه، وقهره، وسلطانه.
قوله: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: الحاكم العدل الذي لا يجور في حكمه، فإنه على صراط مستقيم في تصرفه، وقضائه، وقدره، وتدبيره، وعطائه، ومنعه، وأمره، ونهيه، وعقابه، وثوابه، وجزائه، وشرعه، وأسمائه، وصفاته، وكل ما يتعلق به فإن ذلك جميعاً يجري على أكمل الوجوه، وهو مطابق لكمال ذاته، وصفاته ، ولا يوجد شيء من هذا يخرج عن هذا المعنى لكونه على صراط مستقيم، وهذا هو المعنى الصحيح في هذه الآية، وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله -.
وقال بعض أهل العلم في قوله: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: أن جميع الخلق يرجعون إليه، وأن مصيرهم إليه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فطريقهم إليه لا يفوتونه كما قال الله - تبارك وتعالى -: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر:14].