"وقوله: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ تنكرهم، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً وذلك أن الملائكة لا هِمَّة لهم إلى الطعام، ولا يشتهونه، ولا يأكلونه؛ فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به، فارغين عنه بالكلية، فعند ذلك نكرهم، وأوجس منهم خيفة.
قال السدي: "لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صور رجال شبان، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم أجلّهم فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ [سورة الذاريات:26] فذبحه، ثم شواه في الرَّضْف، وأتاهم به، فقعد معهم، فلما قربه إليهم قال: أَلَا تَأْكُلُونَ [سورة الذاريات:27] قالوا: "يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن، قال: فإن لهذا ثمناً، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلاً".
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ [سورة هود:70] يقول: فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم، وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت سارة أنه قد أكرمهم، وقامت هي تخدمهم؛ ضحكت، وقالت: عجباً لأضيافنا هؤلاء نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا.
وقوله تعالى إخباراً عن الملائكة: قَالُوا لا تَخَفْ أي: قالوا: لا تخف منا إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم، فضحكت سارة استبشاراً بهلاكهم؛ لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم، فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس".
ضحكت سارة استبشاراً بهلاكهم؛ لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم، وهذا السبب غير السبب الأول الذي هو التعجب من عدم أكلهم للطعام، وقال بعض أهل العلم: ضحكت، أي: حاضت وعمرها قد جاوز التسعين، وقالت: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72]، وفي آية أخرى: عَجُوزٌ عَقِيمٌ [سورة الذاريات:29] فجمعت بين العقم، وكبر السن، وهذا القول - وإن كان معروفاً في كلام العرب - إلا أنه ليس الظاهر المتبادر عند الإطلاق، ومن المعلوم أن ألفاظ القرآن ومعانيه تحمل على الظاهر المتبادر، ولا يجوز حملها على معنىً آخر خفيٍّ، أو قليل في الاستعمال؛ إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ولا يوجد دليل.
وقال بعضهم: إنها ضحكت فرحاً بالبشرى، وهذا القول يحتاج من قائله أن يقول: في الآية تقديم وتأخير، ويكون المعنى: وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت فرحاً، وهذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الكلام الترتيب، وقال بعضهم: إنها ضحكت لما رأت ما به من الخوف، وهذا أبعد ما يكون، ولا يليق بالمرأة أن تضحك من زوجها لمثل هذه الحال؛ بل ستكون أشد خوفاً منه، والذي يظهر - والله أعلم - أن ضَحِكها كان فرحاً واستبشاراً بهلاك قوم لوط.
يدعي اليهود أن الذبيح هو إسحاق ، وهذا قال به بعض أهل العلم من أهل السنة، وهو غير صحيح، والذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم أن الذبيح هو إسماعيل ﷺ، وهذه الآية تدل على هذا، فكيف يُبشَّر بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ثم يؤمر بعد ذلك بذبحه وهو صغير، فأين الولد الذي سيكون من عقبه؟ وقد قال النبي ﷺ: أنا ابن الذبيحين[1]، ومعلوم أن النبي ﷺ هو من نسل إسماعيل ، وقد جاء في كتب اليهود ما هو صريح في أن الذبيح هو إسماعيل ﷺ.
- رواه الحاكم في المستدرك (2 / 609)، برقم (4048)، وقال الألباني: لا أصل له، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (4 / 172).